العددان ١٨-١٩ خريف ٢٠١٧ / شتاء ٢٠١٨

من مذكرات جارالله عمر ٥/٥

أحداث ١٣ يناير ١٩٨٦ المأساويّة

النسخة الورقية

تعود جذور أزمة كانون الثاني / يناير ١٩٨٦ إلى الأحداث والصّراعات السّابقة التي كانت تخلّف ضحايا ويتولّد عنها منتصرون ومهزومون ولا تعالج في الانشقاقات والصراعات بعودة ديموقراطية لذلك ترتّبت عليها مخالفات نفسيّة واجتماعيّة وحزبيّة كبيرة.

نموّ الاستقطاب

عندما خرج عبد الفتاح إسماعيل من السّلطة انقسمت المجموعة الحاكمة بين قطبين رئيسيَن: الأمين العامّ ورئيس مجلس الرئاسة علي ناصر محمّد من ناحية، ونائبه علي أحمد ناصر عنتر من ناحية أخرى. ويعود الخلاف برأيي إلى نقطتين رئيستين. الأولى: كيفيّة إدارة الصلاحيّات والسلطة، بالإضافة إلى حالةٍ من انعدام الثّقة بين الطّرفين. وفي مجرى النّزاع نُحّي علي عنتر بصفته وزيراً للدّفاع لكنّه ظلّ مؤثّراً في الجيش والأمن. والنّقطة الثّانية: تمثّلت في الاختلاف الإيديولوجيّ حيث تكوّن تيّارٌ يساريّ داخل الحزب يعارض سياسة الانفتاح الداخليّة والخارجيّة التي كان يمارسها الرئيس علي ناصر محمّد على اعتبار أنّ هذه السياسة قد أدّتْ إلى فتْح المجال أمام عودة البرجوازيّة وأثّرت في الطّهارة الثوريّة لمناضلي الحزب.

إلى جانب هذين السّببين أسبابٌ فرعيّةٌ، منها خوف كلّ طرفٍ من الآخر، ومن أنّ تَوسّع نفوذ الواحد سوف يكون بالضّرورة على حساب الآخر. ويُضاف إلى هذا ضغط المتطلّبات الحياتيّة على النّاس وعدم تحقيق الطّموحات والإصلاحات الاشتراكيّة واليساريّة الموعودة. ولعب الحصار الخارجيّ دوره، إلى جانب التّبايُن في السياسة تجاه الشمال، هل تكون سياسةً تثويريّة أم سياسةَ تصالُحٍ أم تهادن؟ وهل يتعيّن على الحزب الاشتراكيّ اليمنيّ أن يقف إلى جانب فرع الحزب في الشمال والجبهة أم لا؟

تطوّرت الأزمة تدريجيّاً وأخذ كلّ طرفٍ يعمل على توسيع نفوذه في الحزب والجيش ويسعى إلى تقليص نفوذ الطرف الآخر. في البدء كانت الأزمة محصورةً في عدد ضيّق من الافراد، ثمّ أخذت تخرج إلى العلن وانتشرتْ في الصحافة الخارجيّة. هنا اتّسع نطاق التدخّل من الخارج سواءٌ من البلاد العربية أو من الكتلة السّوفياتيّة أو الأحزاب الشيوعيّة. وبعض المتدخّلين كان يحاول حلّ الأزمة فيما بعضه الآخر ينحاز إلى هذا الطرف أو ذاك. بسبب غياب تقاليد ديمقراطيّة داخل الحزب لحلّ الخلافات بوسائل سلميّة، وغياب التعدّدية الحزبيّة بدأ كلّ طرفٍ يفكّر بكسب ولاء الجيش والقوّات المسلّحة، وانتقل الصراع إلى داخل الجيش والأمن. طبعاً نحن في المكتب السياسيّ لحزب الوحدة الشعبيّة (حوشي)، تَوزّع معظمنا في المراحل الأولى على الطّرفين ولكنّني وقفْت على حياد مع بعض الإخوان في المرحلة الأولى. لم نساند أيّ طرفٍ وكنّا نحاول حلّ الأزمة سلميّاً. ومن بين الحياديّين جارالله عمر، الأمين العامّ لـ«حوشي»، ويحيى الشامي وأحمد علي السلامي، عضوان في المكتب السّياسي. أمّا بقيّة الإخوة فقد توزّعوا بين الكتلتين المتنازعتيْن. وكان في قيادة الجنوب شخصٌ محايدٌ كنّا ننسّق معه هو صالح مصلح قاسم وزير الدّفاع الذي كان مصرّاً على الحياد حفاظاً على وحدة الجيش. لكنّ الهجوم تواصل علينا من الطّرفين فجميع الأطراف غير راضين عن موقفنا إذ يصفوننا بالمتردّدين والجبناء إلخ.

وكان من الواضح أنّ مَوازين القوى متأرجحة. هناك محافظات تؤيّد علي ناصر ومحافظات أخرى تؤيّد علي عنتر. فعدن في معظمها إلى جانب علي ناصر محمّد وكذلك محافظة أبين. والعديد من قادة الفصائل الحزبيّة السّابقة التي توحّدت مع الحزب الاشتراكيّ اليمنيّ يقفون إلى جانب علي ناصر محمّد. وكانت محافظة شبوة إلى جانب علي ناصر في معظمها. وحضرموت مقسّمة بين الطّرفين حسب انقسام القيادات. فعلي سالم البيض مع علي عنتر وهو صاحب النّفوذ الأوّل في المحافظة لكنّ حيدر أبو بكر العطّاس، وهو أيضاً من حضرموت، قبل أن يعيّن رئيساً للوزراء، كان موقفُه مثل موقف صالح مصلح وموقفنا نحن، موقفاً غير منحاز، لأنّه كان يدرك حجم المخاطر في المراحل الأولى من الصّراع. وكان إلى جانب علي عنتر من حضرموت صالح منصّر السييلي وكان معه قادة حضرميّون. وكان أنصار عبد الفتّاح إسماعيل يراقبون الصّراع بارتياحٍ في البداية، إلى أنْ تغيّر الموقف. اشتغل علي عنتر داخل الجيش، وله نفوذٌ سابق فيه فانحاز معظم قادة الجيش إلى جانبه، خصوصاً سلاح الطّيَران والدّروع. العام ١٩٨٥ اعتمدت جماعة علي عنتر تكتيكاً جديداً هو الاتصال بعبد الفتّاح إسماعيل في المنفى وبأنصاره في الدّاخل. زار علي عنتر عبدَ الفتّاح إثر زيارة له إلى موسكو وطلب منه العودة إلى عدن. ولدى عودة علي عنتر إلى عدن طرح موضوع زيارته علي عبد الفتّاح على المكتب السياسيّ واللجنة المركزيّة مقترِحاً عودة عبد الفتّاح. الأغلبيّة أيّدتْ عودة عبد الفتّاح بمن فيهم نحن الذين كنّا محايدين، لاعتقادنا بأنّ عودته تؤدّي إلى خَلق توازنٍ في البلاد، وهو لديه رغبة في العودة من المنفى. لكن الآن، بعدما حدَث ما حدَث، لو عاد التاريخ إلى الوراء، لما أيّدت عودته. مهما يكن، صوتت الأغلبيّة في اللجنة المركزيّة والمكتب السياسيّ لعودة عبدالفتّاح، حتّى وزير الدّفاع صالح مصلح قاسم غيّر موقفه من عبد الفتّاح وأيّد عودته.

هكذا عاد عبد الفتّاح إلى عدن بضغطٍ من جماعة علي عنتر وبمعارضة غير معلَنة من جانب علي ناصر وجماعته أو مؤيّديه. حينها انحاز صالح مصلح إلى جانب علي عنتر وجماعته. استغربنا موقفه في البداية، لكن بعدما تصالح علي عنتر وعبد الفتاح صار عبد الفتّاح القائد السياسيّ لجماعة علي عنتر ومؤيّديه. وهنا اختلّ الموقف الحزبيّ أو بدأ يختلّ لصالح علي عنتر وعبد الفتّاح وعلي البيض. استمرّ الضّغط علينا نحن المجموعة المحايدة، فوجدنا أنفسنا محسوبين على علي عنتر وعبد الفتّاح، وكلّما مرّ يوم جديد صرنا أقرب منهم. شخصيّاً كنتُ أدرك أنّ النّزاع سيتحوّل إلى حرب داخليّة، وكنّا نحاول تفادي هذا التحوّل بكافة الوسائل ولكنّنا لم نفلح لأنّنا أصبحنا أقليّة. لم يعد ثمّة مكانٌ لطرفٍ ثالث. كانت الأزمة تشتدّ يوماً بعد يوم والعواطف والمخاوف تتأجّج مع تأجّج الأزمة. حينها أدركتُ خطورة انقسام الحزب على وضع المعارضة في الشّمال. وكنّا نخشى أن ينفجر العنف، لذلك اقترحنا على جماعة علي عنتر وعبد الفتّاح أنْ نقفَ إلى جانبهم شريطة ألّا يبادروا باللجوء إلى العنف. تعهّدوا لنا بذلك وقد كسبوا الأغلبيّة في القوّات المسلّحة وفي الحزب.

مساعٍ فاشلة من أجل انقلاب عسكريّ

لكن التّأييد الدوليّ كان لعلي ناصر، ومن ضمنه التأييد السّوفياتي، كما ظلّ محافظاً على تأييده في المجتمع. وقد فشلتْ جميع المحاولات لحلّ المشكلة، لأنّه كما سبق أن قلت، لم يكن هناك تعوّدٌ على الحلول الديمقراطيّة ولم تكن هناك تجربة لتداول السلطة داخل الحزب والمجتمع، بل كان يحصل بالعنف أو بالتّصويت في اللجنة المركزيّة ولا يستشار الشعب ولا القواعد الحزبيّة. كان التّغيير يتمّ عن طريق النّخبة القياديّة وأحياناً عن طريق العنف. ولأنّ كلّ واحدٍ كان يخشى من سيطرة الآخر، عقدوا المؤتمر الثّالث للحزب في تشرين الأوّل / أكتوبر ١٩٨٥ وتمّ ذلك عن طريق الانتخابات الجديدة. ولم يحصل أحدٌ على الأغلبيّة بل ساد توازن قلقٌ. جاء جورج حبش ونايف حواتمه وأحزاب شيوعيّة عربيّة أخرى، وأيضاً السّوفيات بذلوا جهوداً. كان جورج حبش والسّوفيات يحاولون الإصلاح بين الفريقين، أمّا باقي الوسطاء فكانوا يميلون لصالح هذا الفريق أو ذاك، فنايف حواتمه مثلاً كان إلى حدٍّ ما قريباً إلى عنتر وعبد الفتّاح، فيما انحازت أحزاب شيوعيّة عربيّة لعلي ناصر. هنا بدأ التفكير باللّجوء إلى الخيار العسكري. وكان للفريقين قيادات عسكريّة غير معلنة من خارج سيطرة وزير الدّفاع تقود الوحدات العسكريّة لهذا الطّرف أو ذلك بتعليماتٍ مباشرة من علي ناصر أو من علي عنتر. ولم يعد وزير الدفاع قادراً على ضبط الجيش.

بعد المؤتمر العامّ الثالث تزايدت الشّكوك وتداخلت المعلومات عند الطّرفين. وكان كلّ طرفٍ مستعدّاً للأسوأ. ولا أريد هنا أن أنكأ الجراح بعدما أصبحتُ طرفاً في الموضوع مع الآخرين. لم يعُدْ بوسعي أن أكون قاضياً وأحكم على الآخر وأبرّئ الطّرف الذي أنا منه، فإنّنا جميعاً نتحمّل مسؤوليّة ما حدث مع تباينٍ في درجات هذه المسؤوليّة. في أواخر عام ١٩٨٥ سافر علي ناصر محمّد إلى بعض الدّول، ومنها صنعاء وإثيوبيا وبلغاريا وعدد البلدان العربيّة. وكان الرئيس الإثيوبيّ منغستو هيلا مريام قد جاء إلى عدن وحاول التّدخّل في حلّ الخلاف، لكنّه يقف إلى جانب علي ناصر. زار هذه البلدان ومرّ بصنعاء. في ذلك الوقت اتّصل بي أحد الأشخاص من جماعة علي عنتر وعبد الفتّاح، هو الأخ أحمد عباد شريف، عضو اللجنة المركزيّة، من منطقة خولان و«بطل العمل الحزبيّ الاشتراكيّ»، وقال إنّ بعض ضبّاط الجيش، وبعض القيادات الحزبيّة، تقترح عليّ أن أقنع صديقي صالح مصلح، وزير الدّفاع، بإعطاء أوامر للجيش باعتقال علي ناصر محمّد عند عودته من صنعاء في المطار وتغيير الأوضاع بطريقةٍ لا تؤدّي إلى إراقة الدّماء وأنّ هذا سيجنّب البلاد ويلات الحرب. فسألته: هل كان عبد الفتّاح إسماعيل وعلي عنتر يعرفان بهذا الأمر وموافقّين؟ قال إنّهما لا يعرفان، وحده علي شائع وآخرون فقط يعرفون. أبلغتُه بأنّي لا أوافق على هذا النّوع من الوساطات للقيام بهذه المهمّة لأنّي ضدّ الانقلابات العسكريّة، وأنا على ثقة أنّ صالح مصلح وزير الدّفاع سيرفض هذا النوّع من التفكير. وكان أصحاب هذا الرّأي يقولون إنّ الجيش عندما يعتقل علي ناصر عند عودته سيجنّب البلاد الاقتتال. نحن [الشماليون في الجنوب] كنّا طرفين متقابلين ومعظم أصدقائي في الطّرف الثاني. رغم رفضي أنْ أطلب إلى صالح مصلح أنْ يقوم بالانقلاب، فاتحتُ صالح بالأمر وعلمتُ أنّه عرف عنه من آخرين وقد عُرض عليه أن يكون رئيساً للدّولة. وكان ردّ صالح مصلح على العرض على النّحو الآتي: «أنا مسؤول عن القوّات المسلّحة رغم أنّها كانت تقاد من الخارج، أنا مسؤولٌ عن الدفاع عن البلد وأنا لا أؤيّد اعتقال علي ناصر عند عودته لأنّني إذا قمت بانقلاب وأنا وزير دفاع وعضو مكتب سياسيّ فسنعوّد الجيش على الانقلابات العسكريّة. والانقلاب المقبل، بعد هذا الانقلاب، سيقوده رائدٌ في الجيش لا أعلم من هو ولا مع من هو، سيكون ضدّ الحزب بالكامل».

وفي إحدى الليالي اجتمعنا كي نقوم بمصالحة بين علي عنتر وصالح مصلح فسمعتُ صالح مصلح يقول لعلي «أنا لا أصلح كي أكون رئيس دولة، والمنصب الذي وصلتُ إليه أقصى ما أطمح إليه. يجب علينا أنا وأنت أن نفهم الحدود التي نصل إليها لأنّي أدير وزارة الدّفاع بمستشار سوفياتيّ، ورئاسة الدّولة تحتاج إلى عقل ولا أستطيع أن أدْخِل المستشار السّوفياتيّ في دماغي ويعطيني نصائح في كلّ لحظة». وقال صالح مصلح: «الذي سيبدأ القتال، سنكون ضدّه». واقترح على الطّرفين العودة إلى اللّجنة المركزيّة، وأضاف: «انا سأقف مع قرار اللجنة المركزيّة ولو اتُّخذ بفارق صوتٍ واحد».

وصلت متأخراً إلى الاجتماع

عشيّة ١٣ كانون الثاني / يناير ١٩٨٦ دار نقاشٌ داخل المكتب السياسيّ حول توزيع الصلاحيّات والمقاعد في اللّجنة المركزيّة وفي سكرتاريّة اللجنة المركزيّة بين جناح علي ناصر والمؤيّدين لعلي عنتر وعبد الفتاح. طرح جناح علي عنتر إعادة اقتسام دوائر السكرتاريّة والبحث في الدائرة التّنظيميّة التي يتولّاها أبو بكر باذيب القريب من علي ناصر، وهو من العناصر الماركسيّين المؤسّسين للعمل اليساريّ في اليمن، وأخو عبد الله عبد الرزّاق باذيب، مؤسّس أوّل حركة شّيوعيّة في اليمن. دار النّقاش حول انتقال الدائرة التّنظيميّة من أبو بكر إلى عبد الفتّاح إسماعيل، فإذا الخلافُ حولها يصير القشّة التي قصمتْ ظهر البعير. لكنّ الأزمة كانت أوسع والخلاف أعمق، دار حول الصلاحيّات في الدّولة والنّفوذ في الجيش وفي الحزب. كان أنصار علي عنتر وعبد الفتّاح يريدون تعزيز مواقعهم في الحزب استعداداً للصّراع المقبل، فيما جناح علي ناصر يريد الاحتفاظ بالدّائرة الحزبيّة لكي يمنع المزيد من الاختلال المتسارع في موازين القوى لصالح جناح علي عنتر وعبد الفتّاح.

عيّن يوم ١٣ كانون الثّاني / يناير موعداً لحسم قضيّة الدائرة التنظيميّة. كنتُ مصاباً بشيءٍ من الإنفلونزا، وجاءني علي عنتر إلى المنزل ليلاً ليبلغني أنّه سيتمّ التصويت في اجتماع الغد على مصير الدائرة التنظيميّة، وأنّ حيدر العطّاس مسافر وقد انحاز إلى جانبنا، وأنّ لدينا نقصاً في الأصوات ويجب أن نحصل على أغلبيّة، فقلت له إنّي مريض ولا أستطيع الحضور. أصرّ على حضري وأقنعني «بالقوّة، حتى إذا كنتُ على السرير يجب أن تحضر الاجتماع، لأنّه إذا لم نستطِع أن نكسب أغلبيّهً تصوّت لجانب المقترح غداً مش ح يعود الموضوع يعرض من جديد وح تفوّت علينا الفرصة». قبلتُ على مضض حضور الاجتماع يوم ١٣ كانون الثاني / يناير. وكان موعده العاشرة صباحاً. والنّقطة الرئيسة على جدول الأعمال هي الدائرة التنظيميّة. عند السّاعة التاسعة والنّصف كنتُ جاهزاً للتحرّك بسيارتي «البيجو» إلى الاجتماع في منطقة التواهي. وكان يجب أن أصل بسرعة وأعيد السيارة لنقْل الأطفال إلى المدرسة.

وبينما أنا أستعدّ لركوب السّيّارة وصل إليّ اثنان من الكوادر القياديّة في محافظتَي إب والبيضاء، عبد الرّحمن سيلان، وهو كادر قياديّ مثقّف وعضو سكرتاريّة البيضاء، والشّيخ عبد الكريم الجهمي، القياديّ في محافظة إب، الذي سوف يُستشهد لاحقاً. كانا يتابعان بعض مستحقّات أسَر الشهداء في هاتَين المحافظتين ومعهما رسالة يتعيّن عليّ أن أراجعها وأوقّعها، لم أعدْ أذكر الجهة التي ستحال إليها. قالا: يجب أن توقّعها قبل أن تذهب إلى الاجتماع. قلت: اعذروني لديّ اجتماعٌ ويجب أن أحضر في الوقت المحدّد، ويجب أن أعيد السيارة للأولاد لتقلّهم الى المدرسة. غضِبا وقالا: على القيادة أن تستمع للنّاس. خشيتُ من غضبهما فقبلت التّأخير. أرسلْت سيارتي إلى المدرسة والتزما بنقْلي بسيارتهما إلى الاجتماع. بعد إكمال العمل تحرّكنا إلى التواهي، ولم نصل إلّا وقد مضى على الاجتماع عشرون دقيقة. لدى صولنا إلى باب اللّجنة المركزيّة سمعنا من داخل المبنى أصوات رصاص بدت لنا خافتة مثل بنادق الصّيد. وكان العسكر يُغلقون باب مبنى المكتب السياسيّ، فتساءلنا جميعاً ما هذا الذي يجري في الداخل؟ قلت يبدو أنّها بنادق صيد وأنّهم يصطادون الغربان. وكانت هناك حملة للقضاء على هذا الطائر بسبب ما يُلحقه من أذى بالحدائق وصوته المزعج للسكّان. فردّ عليّ الأخَوان الاثنان اللّذان كانا معي أنّ هذا رصاص، وأنّ هذه بنادق وهناك معركة داخل المكتب السياسيّ. فقلت: لندخلْ ونرَ ماذا يحصل، فقالوا: تدخلّ ماذا تفعل؟ تدخل لتموت؟ يجب ألّا تفعل شيئاً، يجب أن تعود من الباب. أمسكوا بي بقوّة ومنعوني من الدّخول إلى قاعة الاجتماعات. وكان باب اللجنة المركزيّة قد أُغلق فعدنا أدراجنا نبحث عن الّذي حصل وأين نذهب. وعند عودتنا من مبنى المكتب السياسيّ إلى التّواهي لاحظْنا حركةً في الجبال المحيطة بالمدينة وبداية إطلاق الرّصاص. وعندما وصلنا إلى خور مكسر لاحظنا أناساً مسلّحين يفتّشون السّيّارات عند المستديرات. لم نخضع للتّفتيش ولم يسألْنا أحدٌ لأنّ السّيّارة التي كنّا نستقلّها كانت عاديّة وغير معروفة، وليستْ تابعة لأيٍّ من الأطراف المتصارعة المعروفة. جلْنا على بيوت أعضاء المكتب السياسيّ. ذهبنا إلى منزل صالح مصلح وزير الدفاع وهو يقع في خور مكسر وسألنا عنه. قالوا لنا إنّه ذهب إلى الاجتماع وحضَرَ تلقائيّاً، وعلي ناصر لم يكن يريده أن يحضر. وقد أكّد عبد الغني عبد القادر فيما بعدُ أنّهم لم يكونوا يفكّرون بقتل صالح مصلح، وهذا ما أكّده أيضاً محمّد علي أحمد المتواجد الآن في بريطانيا، وكان هو الرّجل الذي يعتمد عليه علي ناصر محمّد، لكنّه ما لبث أنْ اختلف معه وقرّر العودة إلى الحزب. بعدما تعاون محمّد علي أحمد مع علي عبد الله صالح بعدكانون الثاني / يناير ١٩٨٦ وقرّر العودة إلى الحزب الاشتراكيّ اليمني، قال: «نار صنعاء ولا جنّة ذمار»، وهو مثل شعبيّ. وأكّد لي محمّد علي أحمد أنّه ذهب إلى صالح مصلح ليلة ١٣ كانون الثاني / يناير وسهر معه حتى الصباح كي يمنعَه من حضور اجتماع المكتب السياسيّ في اليوم التالي.

ثمّ ذهبْنا إلى منزل حسين الهمزة، عضو المكتب السياسيّ، نسأل إذا كان قد حضر الاجتماع أمْ لم يحضر. وجدناه في البيت يقرأ أوراقاً ولم يكن جاهزاً لحضور الاجتماع. وكان لحسين صِلاتٌ بعلي عنتر وعبد الفتّاح وبعض العسكريّين أكثر منّا وسبَقَنا في تحديد الموقف. الله يرحمه أخبرَناه بوجود إطلاق رصاص و«أنّنا لم نعلم بشيء وأنّنا وجدنا مبنى اللجنة المركزيّة مغلقاً، وكان الهاتف غير مقطوع. وهذا واحد من أخطاء المهاجمين، إذ لم يقطعوا الهاتف»، فاتّصل بنائب وزير أمن الدولة ثابت عبده حسين، وهو ضابط شجاع وطيّب، ووجد أنّ هاتفه مقطوع، وكان واضحاً أنّه هوجم وقُتل، واتّصل مرة ثانية بحسّان حسين، نائب قائد الاستطلاع السياسيّ، وهو الآن من المشرّدين في القاهرة، فسأله حسين الهمزة عن الوضع لديهم وعمّا قد حصل. فردّ عليه بأنّه قد حصل انقلاب و«أنّنا محاصَرون في طرف وزارة الدّفاع، وأنّ الطرف الآخر قد استولى على وزارة الدفاع وهناك أناس قتلوا». سأله حسين إن كانوا قد استولوا على كلّ شيء؟ قال «نعم، سيطروا على وزارة الدفاع وغرفة العمليّات وهناك إطلاق نار في اللجنة المركزية»، فوجّه له تعليمات بالانسحاب من هناك، والباقي منهم يتوجّهون إلى خارج عدن إلى حيث الوحدات العسكريّة المؤيّدة للطّرف الآخر، فانسحب حسّان حسين وذهب إلى خارج المحافظة، ولعب دوراً كبيراً فيما بعد. قلت له أنا وحسين الهمزة أن يهرب من عنده، ففعل. هيثم قاسم طاهر الذي صار بعد الأحداث النّائب الأوّل لوزير الدّفاع، كان حينها قائد سلاح المدرّعات. سمع إطلاق النّار في وزارة الدّفاع فهرب من هناك إلى منطقة صلاح الدين حيث قيادة سلاح المدرّعات.

الاختباء، بيان الانقلاب والبيان المضادّ

بعد ذلك خرجْنا من منزل حسين الهمزة وكنّا أربعة، اثنان الآن غائبان فحسين همزة توفّي وعبد الكريم الجهمي استُشهد في صنعاء بعد قيام الوحدة. ذهبنا إلى منزلي في خور مكسر فأخبرتني الزوجة أنّ أحد أصدقاء محمّد سعيد عبد الله (محسن)، الوزير السابق لأمن الدولة، ومحمود عبد الله عشيش، نائب رئيس الوزراء ووزير الدولة لشؤون الوحدة والخبير الاقتصاديّ، الذي قتل في أحداث كانون الثاني / يناير - أخبرتْني أنّهما اتّصلا وقالا لها إنّ إطلاق نارٍ يحصل في اللجنة المركزيّة والمكتب السياسيّ وأنّ على جار الله أن يخرج من المنزل. قالت لي: «رجاءً لا تبق هنا، سيأتون بحثاً عنك». خرجنا من البيت نبحث عن مكانٍ نختبئ فيه. عرض علينا عبد الكريم الجهمي أن نختبئ في بيته في مدينة المنصورة، حيّ نجوى مكّاوي، لأنّه اتّضح لنا أنّ المهاجمين من الطرف الآخر قد سيطروا على المدينة بشكلٍ كامل. لم يبقَ لدينا الآن إلّا أن نبحث عن مكانٍ نختبئ فيه، فذهبنا إلى منزل عبد الكريم وهو شخصٌ غير معروف كثيراً ولديه هاتف.

وصلنا إلى المنزل في مدينة المنصورة حيث يسكن عبد الكريم في الطبقة الثالثة من أحد الأبنية، فوجدنا أنّ مجموعةً من الطّرف الآخر تسكن في الطّبقة أسفله وكانوا ينقلون السّلاح. نحن لم يكن لدينا سلاح سوى مسدّس واحد. اختبأنا عنده في المنزل والقتال قد انتشر في كلّ مكان والمدينة تحت سيطرة الطرف الآخر. وكانت الإذاعة لا تزال تبثّ وهي تحت سيطرة جماعة علي ناصر. وعند الساعة الثّانية عشرة والنّصف من بعد الظهر لاحظنا تحرّك الدّبابات من معسكر صلاح الدّين الذي كان تحت سيطرة هيثم قاسم قائد سلاح الدّروع والذي أرسل الدبابات التي دخلت المدينة من دون مشاة. ولاحظنا أنّ الكمائن كانت موجودة ودمّر الكثير منها قبل أن تصل إلى الهدف الذي كان محدّداً لها: إنقاذ القيادة والسيطرة على الإذاعة.

عند الساعة الثّانية والنّصف تقريباً سمعنا بياناً من الإذاعة يتحدّث عن حصول محاولة انقلاب عسكريّ من قبل جماعة علي عنتر وأنّه قد تمّ إفشال الانقلاب وألقي القبض على قادة المؤامرة الانقلابيّة وحوكموا أمام محكمة سريعةٍ وقد حُكم على أربعةٍ منهم بالإعدام ونُفّذ فيهم الحكم وهم: علي أحمد ناصر عنتر، علي شائع هادي، علي سالم البيض، عبد الفتّاح إسماعيل. سمعنا البيان في لحظة هلعٍ وفزع. لزمنا الصّمت، لم نكلّم بعضنا البعض لمدّة ربع ساعة. وبعد ساعةٍ توقّفت الإذاعة عن الإرسال. وكان السبب واضحاً، إذ إنّ الدبّابات وصلتْ إلى التواهي ودمّرت مبنى الإرسال. عند الثالثة والنّصف أو الرابعة من بعد الظّهر اتّصل بنا محمّد سعيد عبد الله (محسن) إذ تركنا له رقم الهاتف عند زوجته. تبيّن أنّه مختبئٌ في عدن، وأخبرنا أنّ البيان الذي أصدره علي ناصر كاذب وأنّ الأشخاص الذين قيل إنّه قد تمّ إعدامهم لا يزالون أحياء وهم موجودون في المكتب السياسيّ. قلنا له: «تريدون رفع معنويّاتنا والجماعة قد قُتلوا». قال لنا «لا»، خذوا هذا الهاتف واتّصلوا. فاتّصلنا وكان أوّل مَن ردّ على الهاتف من مبنى اللّجنة المركزيّة علي سالم البيض وإلى جانبه عبد الفتّاح، فأخبرَنا أنّهم أحياء ومحاصَرون، لكنّ علي عنتر وصالح مصلح وعلي شائع مصابون إصاباتٍ بسيطة. كذبوا علينا حتّى لا تضعف معنويّاتنا فصدّقنا أنّه إذا كان هناك اثنان ما زالوا أحياء فهذا يعني أنّ الجميع أحياء برغم شكّنا بأنّهم مصابون. وأخبرَنا علي البيض أنّهم الآن محاصرون وقال لنا إنّ علينا نحن من تبقى من أعضاء المكتب السياسيّ أن نتصرّف بوصفنا قيادة وأن ننسّق مع قيادة الجيش.

عند حلول المساء استطعنا الاتّصال بقيادة الجيش، هيثم قاسم ومحمّد هيثم وقاسم عبد الرّبّ، وقد شكّلوا غرفة عمليّاتٍ تولَّوا قيادةً للجيش وهم يقودون القتال. بعد ذلك أقمنا قناة اتّصال مع القادة العسكريّين وعلمنا أنّهم يريدون بعض أعضاء المكتب السياسيّ كي يعطوهم تعليمات سياسيّة. في هذا الوقت كان كلّ شيءٍ قد بات واضحاً لكنّنا كنّا خائفين أن يكشفَنا المقيمون تحتنا في المنزل الّذي كنّا مختبئين فيه. قبل غروب الشمس أخبرنا بن حسينون، وهو قائد عسكريّ محنّك وكان رئيساً لهيئة أركان الجيش ثمّ وزيراً للنّفط، أنّ علي عنتر وعلي شائع وصالح مصلح قد انتهوا، فكلّفنا أنفسنا أن نصدر بياناً إلى الرّأي العامّ نوضح فيه ما قد حصل أنا وحسين الهمزة وعبد الكريم الجهمي وعبد الرحمن سيلان. صغنا البيان واختلفنا عليه. كان رأيي أن نقول إنّ الخلاف حصل بسبب ميول علي ناصر للسيطرة على السلطة بشكلٍ كامل. وكان رأي المرحوم حسين الهمزة أن نقول إنّها مؤامرة إمبرياليّة ورجعيّة. رفضْتُ ذلك لأنّ رأيي أنّ الصراعَ على السلطة هو داخل الحزب. رأى حسين أن نتحدّث عن مؤامرةٍ من أجل تحريض النّاس، فيما رأيت أنا أن يكون البيان واقعيّاً. تشاجرنا وعلَتْ أصواتنا وطلب منّا عبد الكريم أن نهدأ حتى لا يعرف الّذين تحتنا أنّنا هنا فيصعدون إلينا. فرفع صوت المذياع كي لا يسمعوا أصواتنا ولكنّنا اتّخذنا حلّاً وسطاً وأصدرنا البيان، ثمّ تساءلنا حول كيفيّة إذاعة البيان وإيصاله إلى العالم ونحن محاصَرون. اتّصلنا بالدكتور محمّد جرهوم، الّذي عُيّن بعد ذلك وزيراً للإعلام، وهو خرّيج روسيّا. أمليْنا عليه البيان بالهاتف باسم المكتب السياسيّ وكان أوّل بيانٍ يتكلّم عن الحدث. تحرّك محمد جرهوم إلى خارج عدن حيث هناك إذاعةٌ محلّيّة تحت سيطرة جماعة علي عنتر وعبد الفتّاح وكانوا مسيطرين على لحج سيطرة كاملة لأنّ علي عنتر من لحج والجيش أغلبه من هذه المحافظة، وعبد الفتّاح من الشمال ولكنّه كان مؤثّراً في تلك المنطقة.

مسلّحو المناطق في عدن

في إذاعة لجج كان المهندسون الذين ربطوا الإذاعة المحلّيّة بالمقويّات الموجودة في جبل جحاف في الضالع، فأذاعوا البيان من الإذاعة المحلّيّة فالتقطتْه الإذاعة في صنعاء والكويت وبعض دول الخليج. وفي اليوم الثاني، يوم ١٤ كانون الثاني / يناير، كانت إذاعات العالم تذيع الذي حصل، تذيع بيان علي ناصر وبيانَنا. استمرّت المعركة والدبّابات التي دخلت المدينة دُمّر معظمها، وقضي على حوالي سريّتين بقذائف «الأر بي جي» المضادّ للدبّابات. وصلتْ أربع دبّابات إلى التواهي لكنّها لم تتعرّف الى مبنى اللّجنة المركزيّة - وهذا يدلّ على أيّ مدى كان الجيش الجنوبيّ مدرَّباً على صدّ الانقلابات! أخيراً دخلَت الدبّابات مساء يوم ١٣ كانون الثاني / يناير لإنقاذ عبد الفتّاح إسماعيل وعلي سالم البيض وآخرين، حسب رواية الأخ أحمد علي السلامي. لكنّ الدبّابات لم تستطِع أن تُخرج عبد الفتّاح من المنطقة فوقعت دبّابته في كمين وقُضي عليه. أمّا علي البيض فأصيب وذهب إلى المستشفى حيث وزارة الدّفاع. لكنّ الذي حصل يوم ١٤ و١٥ كانون الثاني / يناير هو أنّ القوّات التي جاءت من لحج، كانتْ قوّات عسكريّة ومواطنين، تمكّنوا من الوصول إلى الشيخ عثمان ودار سعيد، ودخلوا بعض أحياء المدينة بعد ثلاثة أيّام. وكانت هناك حربُ مدن وشوارع. كانت هناك جماعات تحتلّ أبنية تحاول جماعات أخرى احتلالها فتدور المعارك. في اليوم الرّابع طلبَتْ منّا قيادة الجيش أن نخرج وننضمّ إليهم في «معسكر المشاريع» الّذي يقع على طرف الشيخ عثمان. وكان خروجنا صعباً، فالمنطقة التي نحن فيها محتلّة من قبل الآخرين فتنكّرنا، ارتدينا ملابس عاديّة وحملْنا أكياساً بأيدينا على أساس أنّنا ذاهبون للتسوّق، فلم يعترضنا أحد. وكانتْ أجسامنا صغيرة. وصلْنا إلى دوّار مصنع الغزل والنّسيج ما بين المنصورة والشيخ عثمان، وكانت هناك دبّابة صغيرة تنتظرنا. لم يصدّق الجنود أنّنا أعضاء المكتب السياسيّ بسبب أشكالنا. شكّوا بنا وكانوا على وشك إطلاق النّار علينا. رفعنا أيدينا وقلنا «ليس معنا سلاح لكْن هذا مسدّس خُذوه». وبعد مناقشات معهم وإعطائهم ما لدينا من سلاح، وكان المسدّس بحوزة حسين الهمزة، أمّا أنا فلم يكن معي سلاح، وافقوا فصعدْنا إلى الدبّابة، ومن باب الصدفة وجدنا فيها قريباً تعرّف إلينا. قال: «أيّوه، هؤلاء معروفون». وانتقلْنا إلى المعسكر على بُعد كيلومترين من المكان الذي كنّا فيه، وهناك تولّينا القيادة السياسيّة. وجدنا ضبّاط الجيش يشكّلون قيادة وشاركناهم في إدارة المعركة وبالذّات الجانب السياسيّ. وكانت مهامّنا متابعة المعركة وإصدار البيانات. لم نقُل إنّ الجماعة قتلت مثلما فعل معنا البيض عندما أخفى علينا في البداية أنّ الجماعة لم تُقتل حتّى لا يَهزم معنويّاتنا، أعلنّا مقتلهم بعدما انتهت المعركة. عادةً ما يجري في الحزب إخفاء مثل هذه الأخبار حتّى لا تضرّ بمعنويّات الجيش. طبعاً الجيش انقسم، البحريّة مع علي ناصر والدبّابات مع علي عنتر.

المهمّ أنّ المعركة استمرّت لعشرة أيّام أو أحد عشر يوماً. وتمكّنت جماعة علي عنتر وعبد الفتّاح من الاستيلاء على المدينة كاملة بعدما قطعوا الطريق على الفريق الآخر. أرسل هيثم الدبّابات وقطعوا عنهم التموين الوارد من محافظة أبين، فاضطرّوا إلى الانسحاب من عدن رغم أنّهم حصلوا على دعم بحريّ. كان طريق لحج مفتوحاً وميزان القوى العسكريّة يميل إلى جانب عنتر. تمكّنوا من احتلال المدينة بعد معارك شوارع استمرّت أسبوعاً أو عشرة أيّام. وقبل أن تنتهي المعركة ظلّ المصدر الوحيد لإذاعة أخبارنا هو إذاعة لحج. ولم نعرف كيف نقوم بتشغيل الإذاعة المركزيّة في عدن، لكنّ أحد المهندسين اتّصل بنا عندما كنّا في مدينة الشعب وقال إنّ الإرسال الحقيقيّ لديكم. لم نكن نعرف ذلك، كنّا نعتقد أنّ المبنى الرئيسيّ هو في التواهي ولم نكن نعرف أين هي الإذاعة. وكُلّفت أنا ومحمّد جرهوم من قبل أعضاء المكتب السياسيّ الموجودين أن نحتلّ مبنى الإرسال. كان معنا ضابط من المدرّعات من قِبل هيثم قاسم وفصيلة من الجنود. قمنا باحتلال المبنى في يوم عشرين أو ٢٢ كانون الثاني / يناير تقريباً، واكتشفنا أنّ أجهزة الإرسال صالحة للبثّ، فكتبنا أنا ومحمّد جرهوم بياناً سياسيّاً مرناً وهادئاً، لأنّ التعاطف الخارجيّ كان مع الطرف الآخر، قلنا فيه إنّ المعركة قد انتهت وإنّ الحزب قد انتصر. طبعاً هكذا يتصرّف المنتصرون. وهذه كانت من أخطائنا. نحن ظننّا أنّ الحزب هو نحن. مع أنّ جميع أوراقنا «تبدّدت» إلّا أنّ البيان موجودٌ في الصحف ويمكن العودة إليه وإلى البيانات التي أصدرناها. في تلك الأثناء احترنا بأيّ شيء نفتتح الإذاعة، فاقترحتُ أنا أن نفتتحها بأغنية اسمها «يا بلادي أحبّك أفديك بروحي ودمي وأولادي» لأحمد قاسم وقد غنّاها بصوتٍ شجيّ.

السيطرة على الإذاعة المركزيّة وإذاعة هذا البيان أثّرتا تأثيراً كبيراً فينا خارجيّاً وداخليّاً، وانسحب الطرف الآخر من أبين ثمّ إلى الشّمال، وبعدها تمكّنا من إخراج بقيّة أعضاء المكتب السياسيّ باستثناء علي سالم البيض الّذي كان يرقد في المستشفى حيث تمّ إخراجهم بواسطة قوارب من البحر، واجتمع المكتب السياسيّ في مبنى وزارة الخارجيّة في مدينة الشّعب وقرّر دعوة اللجنة المركزيّة إلى الانعقاد، لكنْ وجدنا أنّ عدداً من اعضائها قد قتل وهرب البعض الآخر إلى الشّمال وتمّ اعتقال ما تبقى من طرف علي ناصر. أي أنّ النّصاب غير متوافر إذ بالكاد يوجد نصف العدد. وكان عدد أعضاء اللّجنة المركزيّة بحدود ٨٠ عضواً أو أكثر وهم موزّعون في الشمال والجنوب، فتفرّقوا بين علي ناصر والآخرين، وقد اضطررنا إلى أن نُحضِر المعتقلين من أصحاب علي ناصر لكي نكمل النّصاب. بالإضافة إلى هذا كان عبد الفتاح ضائعاً ولم يكن هناك أمين عام للحزب فيما معظم الأعضاء في المكتب السياسيّ غائبون، فتناقشنا حول من يرأس اجتماع اللجنة المركزيّة. اقترح الحضور أن يرأس الاجتماع الأكبر سنّاً في المكتب السياسي. وكان الأكبر سناً بين الحاضرين هو يحيى الشّامي.

اجتمعنا والمدينة عبارة عن أنقاض. وقد اتّخذت اللجنة المركزيّة عدداً من الإجراءات الأوّليّة لإعادة تشكيل الدّولة لأنّ رئيس الدولة خرج، كما واتّخذتْ قرارات فصل بحقّ الجماعة التي تدعم علي ناصر وأصدرتْ بياناً قالتْ فيه إنّ أصحاب علي ناصر الذين لم يشتركوا في القتال هم أصحاب رأي وينبغي ألّا يعاقبوا، وإنّ المدنيّين لا شيء يدينهم. وطبعاً تولّى المكتب السياسيّ القيادة اليوميّة، وأوّل مشكلة واجهناها كانت القتال الّذي كان لا يزال منتشراً في المدينة من قبل المنتصرين لأنّ أصحاب علي ناصر قبل أن ينسحبوا قاموا بقتل بعض الأفراد. وحصل قتالٌ متبادل مؤسف وصار القتل والاقتتال على الهويّة الشخصيّة، فيُقتل من هو من لحج أو من هو في المقابل من أبين وهكذا دواليك. فاضطرّ المكتب السياسيّ أن يتّخذ بعض الإجراءات ومن ضمنها إطلاق إنذار للمقاتلين المنتصرين إذا لم ينضبطوا أنه ستطلق النّار على أيّ شخصٍ يَقتل أو ينهب. وبالفعل تمّ إطلاق النار على بعض المقاتلين من الطرف المنتصر وقتلوا ثلاثة أشخاص أحدُهم يُدعى البيضاني وآخر يُدعى الشعبي، وهما من المنتصرين وكانا يقومان باعتقال أشخاص من الطّرف المهزوم ويقتلونهم.

جاري هو الضّابط المكلّف بقتلي

ومن اللّحظات الصّعبة بالنّسبة إليّ أنّه في منتصف المعركة شاهدنا حريقاً في مخزن الذّخيرة في «جبل الحديد» القريب من منزلي، فاتّصلت بالزّوجة والأولاد في البيت. قالوا إنّهم بخير لكنّ الحريق اخذ ينتشر حول المبنى. فطلبتُ منها أن تخرج من المنزل فرفضَت وقالت إنّها ستحافظ على المكتبة وستحافظ على البيت مهما حصل، وستبقى في البيت. كانت لحظةً صعبة. لكن بعد يومين توقّف الحريق ولم يحصل ما كنّا نتوقّعه. أخبرتني زوجتي أنّ أحد الضبّاط الذي كان جارنا اقتحم المنزل بالسّلاح وبحث عنّي وقام بتفتيش المنزل كاملاً وأنّه كان مكلّفاً بقتلي. كان اسمه محمّد عبد الله. اكتشفتُ فيما بعد أنّ هذا الشّخص قد اعتُقل من قبل قوّات الأمن وأنّه موجود في السّجن. حقّقوا معه واعترف بأنّه كان مكلّفاً بقتلي لكنّه كان شخصاً بسيطاً.

عندما انتهت المعركة كان لديّ هاجس آخر مهمّ وهو زملائي في الطرف الآخر من حزب الوحدة الشعبيّة، فرع الحزب في الشمال، ومن الجبهة الوطنيّة الذين كانوا مع علي ناصر. سمعت أنّ بعضهم قد اعتُقل وربّما قُتل أثناء المعركة أو في نهايتها انتقاماً. وقلتُ لنفسي: إذا قتلوا هؤلاء وأنا كنت معهم في مجموعةٍ واحدة فسأتحمّل المسؤوليّة. لماذا؟ لأنّي مسؤول عن حياتهم وأنا في الطرف المنتصر. وكان من ضمنهم رئيس الجبهة الوطنيّة سلطان أحمد عمر وعضو قيادة الجبهة عبد الحافظ قائد، والاثنان قد توّفيا رحمهما الله، ومجاهد الكهالي وحسن شكري، محمّد عبد ربّه السلامي وهو الآن في «المؤتمر الشعبي العام» وعبد الله صالح عبده، وهو قياديّ متقاعد. زملائي هؤلاء كانوا في الطّرف الآخر ولم يتمكّنوا من الهرب وكانوا معرّضين للخطر. أحدهم «لحقتُه» في آخر لحظة وهو سيحكي القصّة. كذلك الشّيخ محسن أبو نشطان، وهو شيخ من منطقة أرحب، ونصر الشرعني. كانوا موجودين جميعهم في المدينة ومن مؤيّدي علي ناصر. وقد اعتُقل بعضهم. خرجتُ مع عددٍ من الجنود وبحثت عنهم وأخذتهم إلى منزلي وأقفلنا عليهم الباب. أبقيناهم في البيت سرّاً لمدّة شهر حتّى هدأت الأمور. أمّا معظم المقاتلين الذين هم من الجبهة والمتواجدون في عدن فقد انضمّوا إلى جانب الطرف المنتصر، أي إلى علي عنتر وجماعته.

عدتُ إلى العمل في المكتب السياسيّ بعد الحرب. لم تكن هناك شرعيّة. فقط شرعيّة القوّة، وكان يجب تأمين غطاء سياسيّ لعمل القوى عن طريق اللّجنة المركزيّة لأنّ السلطة في اليمن الجنوبيّ كانت بيد اللجنة المركزيّة والمكتب السياسي وهم الذين يشكّلون الدولة فيها. كان يجب أن يتأمّن نصاب قانونيّ في الهيئتين القياديّتين من أجل تشكيل الدولة. وقد ترتّبت أوضاع الدولة ثمّ انتخاب علي سالم البيض أميناً عامّاً للحزب، لأنّه أقدم شخصٍ من الشخصيّات التاريخيّة بعد غياب عبد الفتّاح، ولأنّه كان أثناء المعركة ثابتاً وشجاعاً وهو الذي تصرّف وأجرى الاتصالات وأعطى التعليمات للجيش إلخ.

ألغاز مقتل عبد الفتّاح إسماعيل

هناك من يقول إنّه هو، أي علي البيض، الذي قتل عبد الفتّاح. وهذا غير صحيح، فعبد الفتّاح لم يُعثر له على أيّ أثر وكان تقدير اللجنة التي تمّ تشكيلها أنّه احترق في الدبّابة التي أُحرقت بالبترول بين اللّجنة المركزيّة ووزارة الدّفاع والبحريّة في منطقة التواهي. لكنّ الشائعات التي أطلقت فيما بعد كثرتْ، بأنّه غاب، وهو مات موتاً تراجيديّاً، موتاً مثيراً، موتاً أسطوريّاً وهذا يتّفق مع شخصيّة عبد الفتّاح. والأرجح أنّه قُتل في الدبّابة، كما قالت اللجنة التي حقّقت في الموضوع وقالت إنّه احترق مع الدبابة وبانفجار الذّخائر في المكان المذكور. وقد حقّقت اللجنة مع الضبّاط الذين نقلوه في الدبّابة لأنّهم كانوا قد أصيبوا بقذيفةٍ أصابت البرج وهو كان فيها. أغمي عليهم ثمّ نقلوا إلى المستشفى. وكان عبد الفتّاح في مؤخّرة الدبّابة مع الذّخائر فاحترق معها. وهذا تقدير اللجنة، ولم تظهر أيّ رواية أخرى سوى الشائعات.

بعض زملائي في حزب الوحدة تمكّنوا من الهرب إلى الشمال مع علي ناصر ومنهم الأخ محمد قاسم الثور. بقيت زوجته فأخذناها إلى منزلي. ومن الزملاء الذين قتلوا وتأسّفت عليهم نصر الشرعبي الذي قُتل في منطقة خارج عدن. أتى إليه أشخاصٌ من الطرف المنتصر وأخذوه ليلاً وقتلوه. وأصررنا على المكتب السياسي أن يستنكر هذا العمل، وأن يتّخذ موقفاً ويسمّيه شهيداً. لكنّ عملي مع بعض الزملاء على منع القتل أو الاعتقال والانتقام سبّب لي مشكلة مع المنتصرين، إذ اعتبروني مع بعض الإخوان الآخرين مُوالين لـ«الزّمرة» [أي جماعة علي نصّار]. وقفنا ضدّ الانتقام، أنا ويحيى الشامي وحيدر أبو بكر العطّاس. واستنكر المقاتلون موقفنا هذا. لم يرتاحوا له. لكنّ الجيش الجنوبي كان جيشاً منضبطاً خضع للّجنة المركزيّة والمكتب السياسيّ وللتعليمات التي صدرت له. من اللافت للاهتمام أنّه تمّ تشكيل الحكومة ولم يُطلب الجيشُ للمشاركةَ في القرار ولا هو طلب المشاركة في الحكومة، إلّا منصب وزير الدفاع فقط. وقد تمّت السيطرة على كلّ المناطق باستثناء أبين. كان لا يزال هناك تواجد للرئيس علي ناصر وأنصاره. تحرّكت قوّة من المدرّعات والمشاة إلى أبين على رأسها هيثم قاسم، وقد عُيّن فيما بعد نائباً لوزير الدّفاع وصالح عبيد أحمد وزيراً جديداً للدفاع. فخرجنا [يقصد هو ومجموعات من مقاتلي «حزب الوحدة الشعبيّة» الشمالي] مع هيثم وصالح عبيد إلى أبين. وصلنا إلى نهاية حدود جمهوريّة اليمن الديمقراطية التي هي منطقة مكيراس ولم تحصل أي معركة مع الطرف الآخر. عندما وصلت القوّات إلى أبين لفَتَ انتباهي أنّ الجيش الجنوبيّ المنتصر عندما دخل أبين، محافظة علي ناصر، لم يدخلوا أيّ قرية، لم يدخلوا القرى ولم يعتقلوا المواطنين ولم يأكلوا ويشربوا القهوة أو الشاي عند المواطنين، بعكس ما كان في ذهني عن الجيش في الشمال عندما يدخل مهاجماً أو منتصراً، أو يدخل أي قرية. كان ينهب. الجيش الجنوبي كان مدرّباً على الطريقة الروسيّة. لم ينهبوا وانتهت المعركة بعد يومين وتمّ تأمين مكيراس وعدنا بطائرة الهيليكوبتر إلى عدن.

أختتم هذه القصة بأنّي عندما عدتُ إلى عدن اكتشفت أنّ الشخص الذي كان مكلّفاً باغتيالي موجودٌ في السجن. طلبت من وزير أمن الدولة الشهيد سعيد صالح سالم إطلاق سراحه! فقال لماذا؟ هذا الشخص سنحاكمه لأنّه اعترف بأنّه كان مكلّفاً باغتيالك، فلماذا لا تريد إخراجه من السجن؟ فقلت له إنّه إنسان بسيط وهو ضحيّة ولا يتحمّل المسؤوليّة، نحن السياسيّين نتحمّل المسؤوليّة فيما حصل، كما أنّه جاري بجانب البيت. قال لي سعيد صالح: أنت تريد أن تزايد في هذه القضيّة؟ قلت نعم أنا مزايد وأريد أن نزايد في هذه القضيّة وأن أبالغ في منع إراقة مزيدٍ من الدماء لأنّ الضحايا كثر. قال لي: اكتبْ لي رسالة على مسؤوليّتك، فكتبت له رسالة فأطلق سراحه. خلق هذا ارتياحاً لدى الجيران وزوجتي لم تعارض هذا التصرف الذي قمت به لأنّ المعركة خلّفت ضحايا كثراً.

بعض الذين كانوا عندي في المنزل فُصلوا من عضويّة اللجنة المركزيّة لكن تمّ إخراجهم بعد شهر من منزلي. المهمّ، انتهت المعركة وكانت الدنيا كلّها خراباً. شُكّلت لجنة لإحصاء القتلى والجرحى من القانونيّين ومن الهلال الأحمر ومن الأطبّاء ومن قيادة الجيش ولجان الدفاع الشعبي... فاتّضح أنّ عدد القتلى بحدود خمسة آلاف شخص. لكنّ الدعايات الخارجيّة كانت تبالغ في العدد حيث قالت إنّ عددهم اثنا عشر ألف شخص وهذا غير صحيح. القتلى من الطرفين معظمهم من أعضاء الحزب وكوادره ومن ضبّاط الجيش والأمن (...).

العددان ١٨-١٩ خريف ٢٠١٧ / شتاء ٢٠١٨
أحداث ١٣ يناير ١٩٨٦ المأساويّة

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.