العدد ٣٦ - ٢٠٢٣

العرب في «إكسبو شيكاغو» ١٨٩٣

حضور فلكلوري مؤثر وجمهور مبهور بالاختلاف

كان العرب في عصر الإكسبو الذهبي، من لندن ١٨٥١ مرورًا بباريس ١٨٨٩ وصولًا إلى شيكاغو ١٨٩٣، يعيشون في عصر بالغ القتامة، موزّعين بين مجموعة من الدول التي تسيطر عليهم. لكنّ قوة الثقافة العربية، وحضور الرموز العربية في الوجدان العالمي، حتّما على أي مخطط لمعرض «إكسبو» أن يأخذ بعين الاعتبار وجود العرب في الفعاليات الترفيهة الموازية لمعرضه.

كانت البداية الفعلية في باريس ١٨٨٩، حين شارك حرفيون وفنانون، من سورية العثمانية ومصر ودول المغرب العربي، في الفعاليات الموازية للمعرض، فكانت مشاركتهم هذه عنصرَ الجذب الأبرز للجمهور، إذ كانت الرومانسية الأوروبية لا تزال مأخوذة بعوالم «ألف ليلة وليلة» وصورة بغداد المتخيلة، بجواريها الراقصات وقبابها الغريبة. ولذلك امتازت المشاركات الفنية العربية باستعادة تلك العوالم السحرية، وتقديمها للجمهور الأوروبي المتلهف لسبر غور عوالم الشرق الغامضة، كما ترسمها مخيلته.

أما في شيكاغو ١٨٩٣؛ فقد اختلف الأمر كليًّا، إذ لم تكن الولايات المتحدة الأميركية معنيّة بصور «ألف ليلة وليلة» بقدر عنايتها بتعريف نفسها وتحديد موقعها ودورها الجديد، فظهرت في ذلك المعرض فكرةَ أن الولايات المتحدة هي خلاصة التقدم البشري والإمبريالية القادمة مع عصر الكهرباء. ولذلك أراد المخططون، وهم من نخبة المفكرين والمؤرخين وعلماء الأنثروبولوجيا الأميركيين، أن يحضر العالم القديم بكل تفاصيله وألوانه، العرقية والفلكلورية البصرية والموسيقية، لكي «تـتضح فرادة الولايات المتحدة في مسيرة تطور البشرية».

١- شوارع القاهرة في شيكاغو

اعترافات جورج بنغالو

كان الجناح المصري المسمّى «شارع القاهرة»، أو «الشوارع في القاهرة»، في منطقة الترفيه «ميدواي بليزانس» هو الأكثر جذبًا لرواد المعرض العالمي، وذلك بسبب هندسته التي أتت نسخة طبق الأصل عن شارع قاهري تقليدي تعجّ فيه مختلف وسائل الترفيه التي شملت الرقص الشرقي والغناء ومسرح الشارع وركوب الجمال والحمير وغير ذلك من تفاصيل الحياة المصرية.

وكان صاحبُ الامتياز مصرفيًّا من إزمير يدعى جورج بنغالو (١٨٥١- ١٩٢٣م)، أمّه إنكليزية وأبوه يوناني، ويعمل مديرًا لبنك الأنغلو المصري. وقد كتب بنغالو مقالًا نشره في مجلة «كوزموبوليتان» الأميركية عام ١٨٩٧، مستذكرًا تفاصيل تلك المشاركة بأسلوب محبّب تشوبه نزعة الاعتراف.

بدأت القصة، بحسب رواية بنغالو، في أحد أيام كانون الأول/ ديسمبر الجميلة المشرقة من عام ١٨٩٠، حين سمع للمرة الأولى بخبر المعرض العالمي في شيكاغو. وفور ذلك، خطرت بباله فكرة المشاركة بجناح مصري، وكانت الخطوة الأولى طلب لقاء الخديوي توفيق (١٨٥٢ - ١٨٩٢) الذي سبق أن اجتمع به في مناسبة سابقة. وبعد محادثة استغرقت نصف ساعة خرج بنغالو راضيًا تمامًا، إذ استطاع الحصول على موافقة مبدئية على مشروعه، بشرط تنفيذه على النحو الذي حدّده له صاحب السيادة في البلاد.

لكن الخديوي توفيق، الذي قدم الكثير من التشجيع للمشروع، فارق الحياة إثر وعكة صحية ألمّت به في ٧ كانون الثاني/ يناير عام ١٨٩١، أثناء تواجد بنغالو في الولايات المتحدة، وكان وريثُ العرش الابن الأكبر عباس حلمي الثاني (١٨٧٤ - ١٩٤٤)، الذي كان على وشك الانتهاء من دراسته في «كلية ثيريسينوم» شبه العسكرية في فيينا.

وفي اللقاء الذي جمعه بالخديوي الجديد، تحدث بنغالو عن العالم الجديد وكلّ ما رآه وسمعه حول المعرض الكولومبي المقبل. وقد لاحظ اهتمامَ عباس حلمي الثاني بالأمر على نحو خاص الذي عبّر له عن أسفه لعدم قدرته على زيارة المعرض، كما كان يخطط، بسبب وفاة والده المفاجئة، وطلب منه رؤية المخططات التي أعدّها المهندس النمساوي ماكس هيرز بك (١٨٥٦- ١٩١٩م)، وتمنّى له كل النجاح والتوفيق.

عاد بنغالو في الخامس عشر من أيار/ مايو ١٨٩١، مرة أخرى إلى شيكاغو، لتقديم الأوراق المطلوبة إلى اللجان المعنية. وعلى الرغم من موافقة المسؤولين عن هذه اللجان على المخططات، ووضْع إشارة إلى أن كل شيء سيكون «على مسؤوليته الشخصية»؛ حصل تلكؤ في موضوع منح الامتياز من جانب «لجنة السبل والوسائل»، ربما بسبب ظهور عدد من المتقدمين الآخرين. وبعد انتظار استمر نحو سبعة أشهر، مَنحت اللجنةُ بنغالو في أواخر شهر كانون الأول/ ديسمبر ١٨٩١، وبغالبية الأصوات، الامتيازَ المنشود، متقدمًا على ثلاثة منافسين آخرين. وكان هذا الفوز نتيجة دعم عدد من شخصيات شيكاغو التي اقتنعت بجمالية المشروع، وقدمت النصيحة المناسبة لصاحبه، إذ كان الحصول على الامتياز يحتاج إلى سلسلة من الإجراءات والمتطلبات القانونية، ليس أقلها تأسيس شركة باسم «مصر- شيكاغو: شوارع القاهرة»، برأس مال قدره ٢٢٥ ألف دولار أميركي للعمل نفسه.

كان لا بدّ من الشروع في إقامة المباني، والبدء بالبحث عن المشاركين في فعاليات المعرض، فغادر بنغالو إلى القاهرة في ٢٤ كانون الأول/ ديسمبر ١٨٩١. ومن فوره، استأجر مكاتب لشركته في مكان جذّاب وسط القاهرة، وبدأ بتوزيع نصف مليون إعلان يدوي باللغة العربية في جميع الأحياء الشعبية القاهرية، عن عجائب العالم الجديد وعن معرض شيكاغو، والجناح المصري المقترح. وطاف بصحبة عشرين موظفًا مصريًّا في أنحاء المدينة، وتحدّثوا للناس عن المشروع كما قابلوا تجّار التحف الشرقية وحدثوهم عن المعرض الذي سيقام في العام المقبل، ودعَوهم للمشاركة فيه.

ومن حيث لا يحتسب، ظهرت مجموعة من المعترضين بدأت بالعمل ضد المشروع، ووصل الأمر بها إلى نشر مقال في إحدى الصحف المصرية عن أن الأميركيين يريدون استدراج العرب إلى شيكاغو بغرض قتلهم لأنهم مسلمون. يقول بنغالو إنه على الرغم من سخف هذه الادعاءات، إلا أنها كلفته الوقت والمال والفكر للرد عليها ومواجهة تأثيراتها.

bid36_p124.jpg

معرض شيكاغو، «شارع القاهرة، ميدواي بليزانس».

معرض شيكاغو، «شارع القاهرة، ميدواي بليزانس».

نسخة مطابقة للواقع

كان تصميم الحيّ المصري الذي وضعه المهندس هيرز نسخةً مطابقةً للواقع، ولذلك وضع المشربية كأحد العناصر المعمارية التزيينية التي لا مجال للاستغناء عنها. والمشربية، كما يقول بنغالو في شرحه عنها للجمهور الأميركي: شرفات شبكية برع العرب في صناعتها، ولكن، وتحت تأثيرات دخول مظاهر الحضارة الغربية وأنماط العمارة الأوروبية التي غزت القاهرة، بدأت تتناقص بشكل كبير، ولم تعد هناك إمكانية لرؤيتها بشكل جزئي سوى عند تجار الأثاث ومشاغل الأرابيسك.

ويحمّل بنغالو تجّار الآثار المسؤولية عن اختفاء هذا النمط المعماري الرشيق والجميل والمميز، والذي تم سلبه على مدى ثلاثين عامًا لصالح السياح والفنانين والمتاحف. ويقول ساخرًا من نفسه: «والآن جاء دوري للانضمام إلى صفوف «السلّابين المخربين»، فمشروعي في شيكاغو لا يمكن أن يكون أصيلًا وصحيحًا وذا فائدة حقيقية من دون المشربيات». ويضيف: «ومع أنني أحمرّ خجلًا من ذكر ذلك، إلا أنني ذهبت إلى ذلك العمل بهمّة مخرّب محترف».

ويقول بنغالو: «في كثير من الحالات؛ كان لا بد من الموافقة على دفع مبلغ معّين للبائع، حتى يتمكن من تفصيل نوافذ وأبواب خشبية جديدة بدل المشربية القديمة، وفي حالات أخرى تم شراء المبنى كله للحصول على المشربية، ثم بيعه بعد ذلك». وهكذا، وفي حوالي تسعة أشهر، اشترى وكلاء بنغالو أكثر من خمسة عشر مسكنًا تم تجريدها من كامل خشبها القديم، بالإضافة إلى خمسين مسكنًا أخرى ساهمت بنصيبها من الحجارة المنحوتة والأبواب والنوافذ، وما إلى ذلك. وبحلول نهاية كانون الأول/ ديسمبر ١٨٩٢، اكتمل كل شيء، وكانت جميع هذه المنهوبات معبّأة بعناية في صناديق مرقمة.

وقبل ذلك، تدفّق إلى مكاتبه أناس من مختلف الأوساط والطبقات، حمّارون وجمّالون وبياطرة ونُدُل وسائسو خيل وطهاة وحلاقون ومشعوذون ومصارعون ومهرّجون وقهوجية وموسيقيون وكتبة ومؤذنون، وآخرون كثر من ذوي الحرف المصرية الأصلية التي لم يجد بنغالو لأسمائها ترجمة إلى اللغة الإنكليزية، مثل «صبيان العالمات»، ومؤجّري الخيام، ومقدمي المرطبات.

كان الحمّارون أول من وقّع على الاستمارات، وفي أقل من أسبوع كان لدى بنغالو كتيبة تشمل أكثر من ١٥٠ حمّارًا كان يستطيع أن يختار منهم العدد الذي يريد، وتم شراء أربع خيَم، وعشرين حمارًا، وسبعة جِمال، وكافة مستلزماتها من السروج وغيرها، بالإضافة إلى مستلزمات الأعراس والموالد التي كانت أحد معالم العرض.

الرقص الشرقي

بقي أمام بنغالو تأمين «الراقصات الشهيرات المتخصصات بالرقص الشرقي، والذي تعجز أي ترجمة عن نقل معناه الدقيق»، كما قال حرفيًّا، وأضاف: «سرعان ما أدركت أن الصعوبة الرئيسية تأتي من مديري الملاهي السوريين واليونانيين، الذين لا يريدون أن تخلو ملاهيهم من أفضل راقصاتهم. ولكن أكثر ما أقلقني أن يقوموا، استباقًا لمخططاتي، بتوقيع عقود طويلة الأجل مع الراقصات، وهو ما يمنعني من الحصول على خدماتهن».

لكن بنغالو تأكد في تلك الأثناء أن عقود تلك النجمات ستنتهي بعد شهرين أو ثلاثة، فتنفس الصعداء، إذ لم يكن لديه أدنى شك في أنه إذا استطاع إقناع إحدى الفتيات بتوقيع العقد، فإن الأخريات سيتبعنها من باب الحسد والغيرة فقط. وبناء على تلك الفكرة، اعترف بأنه وضع ضميره جانبًا، ونشر شائعة بين زوار الملاهي بأن الآنسة فريدة مظهر، التي يصفها بالراقصة الرائعة، قد وقَّعت في الحقيقة عقدًا ملزمًا لمعرض شيكاغو، وأن الآنسات فلانة وفلانة قد رفضن من قبل السيد بنغالو كونهن لسن ذوات خبرة كافية في الرقص.

ولم يمض وقت طويل حتى وصلت الشائعات إلى أسماعهن، وبدأت الغيرة تتمكن من أفئدتهن. لكن إنكار فريدة مظهر لمنافساتها فُهم بشكل طبيعي بأنه تأكيد لالتزامها، وإنكارهن أنهن رُفِضن كان موضع استخفاف فريدة التي شعرت بالزهو، أما الأخريات فشعرن بالإهانة وجرْح كبريائهن، وكان هناك الكثير من القيل والقال في ما بينهن. وبعد فترة قصيرة جدًّا وقّعت فريدة مظهر العقد، وكما توقع، تبعتْها منافساتها بالتدريج، واحدة تلو الأخرى ووقّعن العقود.

ويشير بنغالو إلى مأساة وقعت في معرض باريس العالمي عام ١٨٨٩ للعديد من بسطاء المصريين الذين غرّر بهم أثناء مشاركتهم في «رو دو كايرو»، إذ إن المتعهدين لم يعطوهم أجورهم، فتقطعت بهم السبل في مناطق مختلفة من أوروبا. وقد تم تقديم إشعارات إلى الحكومة المصرية تطالب باتخاذ بعض الخطوات لحماية رعاياها البسطاء، وصدر مرسوم من مجلس الوزراء يقضي بعدم السماح لأي مواطن عربي مصري بمغادرة البلاد من دون إذن من السلطات. وأكثر من ذلك، أن أي شركة أو فرد يريد إشراك العرب في معارض أو مهرجانات الدول الأجنبية، ينبغي عليه إيداع ما يكفي من المال في الخزانة المصرية لضمان عودتهم إلى ديارهم.

ووفقًا لهذا القرار تقدم بنغالو بطلب إلى الحكومة المصرية للحصول على إذن لاصطحاب نحو مائتين وخمسين رجلًا وامرأة وطفلًا. وقال إنه بفضل عطف القنصل البريطاني العام في القاهرة اللورد كرومر إيفلين بارنج (١٨٤١-١٩١٧م) تم منحه الإذن، بعد أن تعهد بتقديم وديعة إلى الخزانة المصرية لتغطية نفقات سفر العرب وعودتهم إلى مصر. وقد تمت تسوية هذه الودائع في وقت لاحق بمبلغ قدره خمسون دولارًا لكل شخص.

وبعد بحث عن سفينة مناسبة، اتفق بنغالو مع إحدى شركات الملاحة على تأجير سفينة اسمها «غويلد هول» ترفع العلم البريطاني، مقابل ١٧٥٠٠ دولار أميركي. وكان موعد الإقلاع في التاسع من آذار/ مارس ١٨٩٣ بحمولة زائدة تتكون من القطن والسكر، لتخفيف تكاليف الشحن، في حين سافر المهندس المعماري هيرز عبر إنكلترا، من ميناء ليفربول إلى نيويورك على متن السفينة «أورانيا» من شركة «كونارد لاين» في ١١ شباط/ فبراير ١٨٩٣ لوضع اللمسات الأخيرة على الحي القاهري.

عند افتتاح المعرض، كان جناح شوارع القاهرة جاهزًا يضم ستةً وعشرين من المباني المصرية المتميزة، من أكثر فنون العمارة العربية أصالة، وكان هناك مسرح يتسع لأكثر من ألف وخمسمئة مشاهد، ومقصورات لبيع جميع المنتجات والمصنوعات التقليدية والمشغولات المصرية، وقد تجاوز عدد المحلات التجارية سبعةً وخمسين محلًّا، وعربات الباعة الجوالين أكثر من خمسين عربة.

افتتاح أسطوري

خصصت صحيفة «شيكاغو تريبيون» اليومية في عددها الصادر يوم ٢٨ أيار/ مايو ١٨٩٣ تغطية متميزة لافتتاح جناح «شوارع القاهرة» في اليوم السابق، أي في يوم ٢٧ أيار/ مايو، متأخرًا عن افتتاح المعرض قرابة الشهر. وقالت الصحيفة: «لم يشهد «ميدواي بليزانس» أي حفل بمستوى مراسم افتتاح «شارع القاهرة». في الحقيقة، لا يوجد شيء مماثل لذلك خارج مصر، فقد رتّب السيد جورج بنغالو برنامجًا أكبر بكثير من الذي تم عرضه، ولكنه اضطر لاختصار فكرته الأصلية، بسبب الجسور المنخفضة على شارع «ميدواي بليزانس» التي منع انخفاضها الموكب الاستعراضي الكبير من التجول في مختلف أنحاء المعرض، وهو ما كان يشكل الجزء الرئيس من العرض الافتتاحي».

ومنذ الأيام الأولى لافتتاح الجناح المصري، أثيرت في الصحافة الأميركية مسألة الرقص الشرقي، ومدى انسجامها مع أخلاق وقيم المجتمع الأميركي، وتحولت إلى قضية رأي عام، صاحبها جدل محتدم بين مؤيد ومعارض. وكانت فاتحة الجدل العام حول قضية الرقص الشرقي قد انطلقت مع اجتماع لمجلس مديرات المبنى النسائي بعد ظهر يوم ٣ آب/ أغسطس ١٨٩٣ حيث انقسمت المجتمعات بين معارِضات يطالبن بإغلاق أماكن الرقص في «ميدواي بليزانس»، ومؤيدات لاستمرار هذه العروض. وفي الثالث عشر من الشهر نفسه، نشرت جريدة «اللورد» مقالة مطولة بقلم مراسلها في شيكاغو يدافع فيها عن الرقص الشرقي، ويتهم جميع المعترضين عليه بالجهل، ويزعم أن جميع الحركات التي تؤديها الراقصات لها رموز في معتقدات الشرق القديمة، مستشهدًا برقص سالومي أمام الملك هيرود الكبير، حين سحرت لبه وأمالت إليها قلبه.

وذكرت صحيفة «كوكب أميركا» العربية الصادرة في نيويورك «أن الفئة المتدينة المحافظة في المجتمع الأميركي منعت نساءها من زيارة موضع الرقص، أما الرجال، خصوصًا المنفتحون منهم، فكانوا يسرّون به، فيأتون المرسح أفواجًا، وقد أدى هذا الجدل والتناقض في الآراء إلى زيادة الإقبال على المرسح المصري، فأقبلت جماهير الزائرين على البناء المختص بالراقصات. وقد أدى ذلك إلى اتفاق رجال الدين المسيحي في شيكاغو وغيرها على أن يخطبوا على منابرهم الكنسية مطالبين بمنع الرقص الشرقي، داعين الأهالي وموظفي الحكومة للتحرك من أجل إلغائه تمامًا من معرض الأمة. بعد تزايد الضغوط على مدير الجناح المصري جورج بنغالو لإقفال المرسح المصري، طالب الحكومة المحلية بدفع قيمة الأضرار والخسائر التي تلحق به، محتجًّا بنص العقد الموقع بينه وبين إدارة المعرض، وهو ما رفضته الإدارة».

وقد بلغ إجمالي الإيرادات، بحسب بنغالو، ٧٨٨ ألفًا و٦٦٦ دولارًا أميركيًّا وأربعة وثلاثين سنتًا، وذلك بعد دفع نفقات التشغيل الهائلة للمعرض العالمي والبالغة ١٥٩ ألف دولار، مؤكدًا أن التوزيعات النقدية المدفوعة للمساهمين، بعد عودة رأس المال المستثمر، تجاوزت خمسة وتسعين في المئة، وذلك في ١٥٦ يومًا، بما في ذلك أيام الآحاد.

bid36_p131.jpg

معرض شيكاغو، «البيت الدمشقي».

معرض شيكاغو، «البيت الدمشقي».

 

٢-السوريون العثمانيون

إشراف حميدي

مرّت مشاركة السوريين العثمانيين في معرض شيكاغو بسلسلة من الإجراءات البيروقراطية المختلفة عن تلك التي مرت بها المشاركة المصرية، حيث ارتبطت بالموافقة الرسمية العثمانية التي كانت تحت أنظار السلطان عبد الحميد الثاني (١٨٤٢-١٩١٨م) المهجوس بصورة مملكته في الخارج، لذلك نشط جهاز الاستخبارات (الخفية) قبل المعرض وأثناءه، ومارس رقابة صارمة أدخلت الرعب في قلوب المشاركين.

وصلت الدعوة الرسمية للسلطنة في التاسع من شباط/ فبراير ١٨٩١، ولم يتأخر إصدار فرمان سلطاني بإنشاء لجنة تحضيرية للمشروع، تفرعت عنها ثلاث لجان فرعية. كان الترتيب المعتاد عند المشاركة في مثل هذه المعارض، أن يقوم «الباب العالي» بالتعاقد مع شركة تجارية خاصة لإنجاز المهمة برمّتها. واتصلت اللجنة الأولى مع سعد الله أفندي الذي كان يمتلك شركة خاصة للتصدير في إسطنبول تدعى شركة «إيليا سهامي وسعدالله». وفي يوم ٢٤ أيار/ مايو ١٨٩٢، أحالت وزارة الأشغال العامة والتجارة إلى الباب العالي نسخة من عقد أبرم مع سعد الله وشركاه، وعلى رأسهم سليمان البستاني (١٨٥٦ – ١٩٢٥م)، ينص على بناء الجناح العثماني الرسمي على شكل مبنى «سبيل السلطان أحمد» القائم عند مدخل «طوب قابي سراي»، على أن يُنجز قبل يوم ٢٨ نيسان/ أبريل ١٨٩٣، أي قبيل حفل الافتتاح الرسمي للمعرض بأربعة أيام.

ونص العقد أيضًا على بناء مسجد، يكون مفتوحًا للصلاة أمام جميع المسلمين في المعرض، مع تأكيد الالتزام بالآداب الإسلامية الصحيحة التي ينبغي مراعاتها في جميع الأوقات. واشترط العقد ألا يسمح لزوار المسجد من غير المسلمين بالدخول، إلا بعد السماح لهم من ممثلي السلطنة العثمانية، المؤتمنين على المسجد. وخصص جزء من المعرض ليكون مسرحًا، وهنا أيضًا تم وضع شروط صارمة في متن العقد مفادها أن «لا يكون التشخيص، الذي يتعين الالتزام به، مسيئًا لشرف وحياء النساء المسلمات، أو يلحق الضرر بالهيبة والكرامة الوطنية كما حدث في الجناح المصري في باريس (عام ١٨٨٩)».

بالإضافة إلى ذلك؛ تقررت المشاركة في المؤتمر النسائي العالمي الذي أقيم على هامش المعرض، بإرسال مؤلفات الكاتبة والناشطة النسائية التركية فاطمة علياء هانم، لعرضها في مكتبة مبنى النساء في المعرض. وتمت الموافقة على مقترح راجي بيك من مدينة عكا على الساحل السوري، بالمشاركة في ميدان للخيول العربية الأصيلة، في حين رُفض مقترح من نوري بيك، من مدينة جمليك على بحر إيجة، بإقامة معرض لأزياء القوات الإنكشارية، بسبب «ما قد تثيره هذه الأزياء من ذكريات غير سارة بين المسيحيين».

عند توقيع العقود مع العارضين، تبين أن الغالبية الساحقة من الأشخاص الذين تقدموا ليشغلوا مساحات القرية العثمانية كانوا من السوريين، باستثناء محل وحيد ليهودي من إسطنبول يدعى إيليا سهامي وسعدالله وشركاهم، بل وصل السوريون إلى جميع الأجنحة الشرقية مثل القرية التونسية والسوق المصري، وكان صاحب امتياز الجناح الفارسي سوريًّا أيضًا هو جرجس دباس، حضر إلى نيويورك في الثامن من نيسان/ أبريل ١٨٩٣، مصطحبًا معه ٢٢ شخصًا من السوريين الذين «سيقومون بتمثيل عوائد المعيشة في بلاد فارس».

وقد كتبت جريدة «كوكب أميركا» مرتين عن مشاركات السوريين في المعرض، مرة بالصفحة الإنكليزية، وأخرى بالصفحات العربية، حيث قالت: «أقبل السوريون على العمل بهذا المعرض إقبال الجياع على القصاع، أشغل تجارهم القسمَ العثماني والمصري والفارسي أيضًا، وهذا يبرهن ميلهم للإتجار دون باقي سكان الولايات، فإذا طرحت السوري بأقصى الأرض رأيت معه سلعة يتّجر بها ولو إبرة وخيطًا، ولا تعب من ذلك فإن السوري سليل فينيقيا ملكة التجارة القديمة. فلا غرو إن أشغل فريق منهم المحلات الثلاثة التي ذكرناها أشغل آخرون مواضع أخرى في مدينة شيكاغو خارج المعرض في مدته، ومما نلاحظ أن سورية ستكون في الاستقبال ولاية غنية مأهولة من ولايات الدولة العثمانية».

قرية سورية عثمانية

كان اهتمام «الباب العالي» و«قصر يلدز» منصبًّا على الجناح العثماني الرسمي الواقع في «جاكسون بارك»، أما القرية العثمانية، فقد ترك أمرها لمتعهديها، ولم تحظ بأدنى اهتمام يذكر في مراسلات حقي بيك، رئيس الوفد الرسمي العثماني، مع العاصمة. وكذلك الأمر لم تكن فعالياتها حاضرة بقوة في جريدة «مصور معرض شيكاغو» العثمانية التي كان يملكها ويرأس تحريرها السوري- اللبناني سليمان البستاني، وبدأت تصدر أعدادها اعتبارًا من حزيران/ يونيو ١٨٩٣، ربما بسبب الموقف المتحفّظ للمشرف على تحريرها محمد عبيد الله أفندي (١٨٥٨- ١٩٣٧م)، وهو أحد أهم رموز حركة «تركيا الفتاة» الداعية إلى إصلاحات عميقة في السلطنة، حيث كان أعضاؤها يتميزون بنزعة قومية تركية متطرفة، لا تكنّ الودّ للعرب. وقد كتب عبيد الله أفندي في مذكراته واصفًا القرية العثمانية باقتضاب. وشدد على أن من كان يشغّلها هم المسيحيون السوريون: «تضم القرية العثمانية مسجدًا جميلًا شيّد وفق الطراز المعماري العثماني، وسوقًا مسقوفًا فيه بين ٤٠ إلى ٥٠ من المحلات التجارية يشبه البازار المصري في اسطنبول، وهناك مطعم من طابقين (تحتاني وفوقاني)، ومسرح بسعة ألف مقعد، وشارع فيه عشرة إلى خمسة عشر منزلًا تستخدم كمكاتب، وهناك بعض الأكشاك الصغيرة على زوايا الشوارع تبيع الحلوى. البازار، والمطعم، والمسرح كلها مملوكة للمسيحيين السوريين».

وثمة حادثة مزعجة واكبت حفل افتتاح القرية العثمانية؛ تحدّث عنها القنصل العام العثماني ألكسندر مفرويني في رسالة إلى اسطنبول مؤرخة بيوم ٢٨ نيسان/ أبريل ١٨٩٣، أبطالها بعض «النساطرة» الذين بنوا مسجدًا خارج محيط المعرض لكي يتقاضوا المال مقابل عرض «الممارسات التعبدية للمسلمين». وقد أكد مفرويني في رسالته تدخّله لدى سلطات مدينة شيكاغو لإغلاق ذلك المسجد المزيف. ولم تخل الرسالة من تقييمه الواقعي لحفل الافتتاح الذي رأى أنه «حقق النجاح المطلوب، على الرغم من عدم قدرة السلطنة العثمانية على منافسة الدول التي تنفق آلاف الفرنكات على معارضها».

مسرح أبو خليل القباني

ومن أبرز المشاركات السورية، وأكثرها شعبية لدى زوار المعرض «مرسح العادات الشرقية» الذي كان يديره فنيًّا الرائد المسرحي الدمشقي أبو خليل القباني. وكما هو مخطط، وصلت الفرقة في الموعد المحدد، فكتبت «كوكب أميركا» على صدر صفحتها الأولى: «وصلت من مدينة بيروت في ١٦ الشهر الجاري شركة ممثلي العوائد الشرقية تحت رئاسة عمدتها الفضلاء، جناب الخواجات بطرس أنطونيوس وشركاه، ومدير ممثليها جناب الشيخ محمد [أحمد] أبي خليل القباني الممثل الشهير والمطرب المعجب. أما جوق التمثيل فمؤلف من خمسين شخصًا ما بين مطربين ومطربات وممثلين وممثلات، وكلهم حائزون على قصب السبق في مضمار هذه الصناعة. وصحب رئيس هذه الشركة بعض أعضائها وهم الأفندية إسكندر ضعون، ونقولا صهيون، وإسكندر الحجار، وفضول مغبغب، وجناب الدكتور حبيب الطبجي تصحبه والدته الفاضلة. وستظهر أعمال هذه الشركة في القسم العثماني من المعرض الكولمبي، وهي تمثيل عوائد أهل الشرق من بدو وحضر في أعراسهم وولائمهم وأيام أفراحهم وأتراحهم وملابسهم، مع اختلاف بيئاتهم، وتمثيل بعض حوادث تاريخية وروايات تتضمن الأخبار عن رجالهم العظام الأقدمين، كهارون الرشيد، وعنترة العبسي وغيرهما من المشاهير. ويتخلل كل ما تقدم محاورات وفكاهات أدبية وأنغام موسيقية يُطرب الآذان سمعها. وقد انتخب بعض من العارفين بأنواع الملاعب، كالسيف والترس وعصا الشوم، الحكم، والضاربين بالآلات الشرقية القديمة والحديثة، كالربابة والنقيرات والدائرة إلخ، ليمثلوا في دورهم كل ذلك. وورقة الدخول تباع بريال للمحل الأول، وبنصف ريال للمحل الثاني، وسيقدمون من المرطبات على اختلاف أجناسها، مع قهوة وما يلزم للزائرين من المآكل اللذيذة الطعم، والحلويات المختلفة، فنسأل الله لهذه الشركة نجاحًا وتوفيقًا تامَّين».

وفور وصول الفرقة إلى شيكاغو واستقرارها في محل إقامتها الجديد، باشرت التدريبات في مبنى «المسرح التركي» وفق الصيغة المعتمدة في المخططات الأميركية، و«مرسح العادات الشرقية» وفق الصيغة العربية، والذي اكتملت تفاصيله الجمالية، فأتى تحفة فنية فريدة أوضحتها صورة نشرت في صدر دليل العروض موقّعة من بطرس أنطونيوس (صاحب الامتياز) باللغة الإنكليزية، مبيّنةً الفرقة التمثيلية والجوق الموسيقي، وهم جميعًا يصطفّون على خشبة المسرح. وبدت الستارة والكواليس وخلفية المنظر التي تصوّر أقواس البهو بحجارة البلقاء المتناوبة في خان أسعد باشا الدمشقي.

وفي سجلات الواصلين إلى نيويورك يوم ١٧ نيسان/ أبريل ١٨٩٣ على متن السفينة «إس إس ويرّا» نقرأ أسماء أعضاء الفرقة الـ٥٨، وأن غالبتهم كانوا من السوريين.

ومن المشاركات اللافتة أيضًا «القصر الدمشقي». لكنه لم يحظ باهتمام مؤرخي معرض شيكاغو مثل هوبرت باكروفت أو جون جوزيف فلين وغيرهما، على الرغم من إشادة صحيفة «شيكاغو تريبيون» به، وتخصيصها مقالًا عنه. والمقالة على ما يبدو تلخيص لمقابلة مع مدير هذا المبنى نعمان أبو شعر، وهو كما عرّفته الجريدة مستشار لمحكمة التمييز في سورية، ومراسل في جريدة «الفلاح» القاهرية.

ومن المشاركات أيضًا «قهوة الفن»، بإدارة شديد كوراني، إذ كانت تقدم أغاني وعروضًا فلكلورية. ونشبت بين صاحب امتيازها وصاحب امتياز المسرح التركي مشكلة قانونية وصلت إلى المحاكم، وتم حلها بالتراضي بسعي من سليمان البستاني.

مأساة الخيول العربية

من أكثر المشاركات العربية في معرض شيكاغو إثارة «مرمح الخيول العربية الأصيلة»، الذي حظي باهتمام غير عادي من جانب مربّي الخيول الأميركيين، وجمهور المشاهدين المولعين بالفروسية. فقد تمخض عن هذه المشاركة بعد سنوات تأسيسُ «نادي الحصان العربي في أميركا» عام ١٩٠٨، حيث استحوذ مربو الخيول الأميركيون على جميع خيول «المرمح»، وكانت الفرس «نجمة» والحصان «عبيران» هما صاحبا الرقم واحد واثنين في السجل الرسمي للسلالة العربية في الولايات المتحدة. وقد تم تسجيل نسل هؤلاء أيضًا، ولا يزال نسلهم يسجّل حتى اليوم، وقلّما يوجد مربّ للخيول لم يحصل على واحد أو اثنين من هذا النسل من الخيول العربية. هذه السلالة ذات الدم الأصيل تُعدّ جزءًا مهما من الخيول العربية في الولايات المتحدة الأميركية التي يزيد عددها على نصف مليون رأس حاليًّا.

كان النصف الثاني من القرن التاسع عشر هو زمن الضابط الأميركي بوفالو بل كودي «Buffalo Bill» (١٨٤٦- ١٩١٧م)، مبتكر عروض الغرب الأميركي المتوحش، وكان يطوف بها في الولايات المتحدة والعالم، حيث يمثل معارك حيّة مع الهنود الحمر. وكانت أخبار وصول فريق عربي إلى معرض شيكاغو، يمثل بطولات فرسان الملاحم الشعبية الشرقية كعنترة بن شداد وأبي زيد الهلالي على متن خيول أصيلة، حدثًا منتظرًا ليس على مستوى شيكاغو فقط، بل على مستوى أميركا كلها.

صاحب فكرة «المرمح الحميدي» بحسب الاسم الرسمي للشركة، وجيهٌ من مدينة عكا يدعى راجي صيقلي (١٨٥١-١٩١٠م)، تقدم بمشروعه إلى السلطان عبد الحميد الثاني وطلب الموافقة عليه، فأعجبت الفكرةُ السلطان أيّما إعجاب، وأهدى «المرمح» رأسين من الخيول العربية الأصيلة من إصطبله الخاص، وأصدر فرمانًا بتسهيل الأمور أمام هذا المشروع، الذي رأى فيه السلطان دعاية كبيرة للسلطنة. لكنه اشترط في صيغة الفرمان أن تكون الخيول من سلالات عربية أصيلة ذات أنساب موثّقة، وأن تعاد كل الخيول المأخوذة إلى الصحراء بعد انتهاء المعرض، وأن يكون الفرسان المرافقون لهذه الخيول من خيرة العشائر البدوية، وأن يرافق الفريق ضابطان من الحرس السلطاني للتأكد من تنفيذ الشروط كافة.

كان المشروع مكلفاً للغاية، فبالإضافة إلى شراء الخيول بأسعار مرتفعة جدًّا، هناك أجور الفرسان والساسة والراقصين والعازفين، إذ كان برنامج المرمح حافلًا بالفنون الشعبية، وتمثيل ملاحم العرب بشكل حي، وكان لا بد من هؤلاء جميعًا مع الخيول والجمال على متن سفينة خاصة مجهزة. وتم تقدير المبلغ الإجمالي لكل ذلك بخمسة وعشرين ألف ليرة ذهبية عثمانية، تعادل ١١٢ ألف دولار أميركي، وهو مبلغ خيالي في حسابات ذلك الزمن.

وطرح بعض رجال الأعمال من الولاية السورية على راجي أن يشكلوا شركة مساهمة لتمويل المشروع، فوافق على أن يبقى هو مدير المرمح. وتم تشكيل مجلس إدارة من ثمانية أعضاء برئاسة الصحافي خليل سركيس (١٨٤٢ – ١٩١٥م) صاحب جريدة «لسان الحال». وبالفعل، تم استئجار سفينة الشحن البريطانية المسمّاة «سنثيانا» من طراز «كونراد»، وتم تجهيزها لنقل الفريق ومعدّاته وخيوله ومؤنه. وأبحرت السفينة من ميناء جونية في ٢٩ آذار/مارس ١٨٩٣، ورست في ميناء نيويورك في ٢٥ نيسان/ أبريل ١٨٩٣، بعد أن توقفت عدة أيام في ميناء جبل طارق.

وقد تكوّن الفريق من ١٢٠ رجلًا وامرأةً وولدًا، و٤٥ حصانًا، و١٢ جملًا وكلاب معهم عدد من أغنام العواس، وبرغل وزيت وزبدة وجبن ودقيق وكمية كبيرة من الشعير، ونصف طن من حذوات الخيول، وصناديق تحتوي على مليون ونصف المليون من تذاكر الدخول بقيمة دولار واحد للتذكرة، وبدأوا رحلتهم إلى أميركا. كان من بين الرجال كلّ مالكي الأسهم، وكلّ واحد معه خادم أو أكثر، وفرسان، ورعاة حمير، وركاب جمال، وسبعة طباخين وخمسة بياطرة، وخمسة عشر كاتبًا وبائع تذاكر.

ولعدم خبرة الطاقم الإداري بالقوانين الأميركية وتعاملات شيكاغو في ذلك الوقت، دبّت المشاكل بين الفريق، وخضعوا لنصائح سيئة من بعض المحامين الأميركيين، أدت في نهاية المطاف إلى خسارة الشركة لجميع خيولها لصالح أصحاب الرهونات في شيكاغو.

٣-القرية الجزائرية التونسية

متعهد أميركي

وخلافًا للمشارَكتين المصرية والسورية- اللبنانية، كانت المشاركة المغاربية مرهونة بمتعّهد أميركي لم يحصل على أي موافقة أو مباركة من أي سلطة سياسية، لا من سلطات الاحتلال الفرنسية، ولا من الباي التونسي، فقد عقد المتعهد، وعضو مجلس النواب الأميركي في ما بعد، سول بلوم (١٨٧٠- ١٩٤٩م) الاتفاق مع الفرق التونسية والجزائرية في العام ١٨٨٩ أثناء معرض «إكسبو باريس» العالمي.

كان برنامج ذلك المعرض يعج بالعروض الشعبية الأجنبية، حيث عرضت محلات للفلاحين الأوروبيين الذين ينتجون أنواع الأجبان المختلفة وغيرها من الأغذية والمشروبات التقليدية، إضافة إلى نوع جديد من الترفيه قادم من المستعمرات الفرنسية آنذاك. وكانت أبرز هذه المشاركات وأكثرها غرابة للجمهور الغربي «القرية الجزائرية» التي ضمت أكثر من خمسين فنانًا من الجزائر وتونس، يقدمون بعض الفنون الشعبية من هذين البلدين العربيين، بما في ذلك الغناء والرقص والفقرات البهلوانية، كالتهام الزجاج وألعاب الأفاعي والعقارب، والرقصات المثيرة للدهشة، التي كان الفرنسيون يسمونها «دانس دو فينتر»، أي رقصة البطن.

bid36_p138.jpg

معرض شيكاغو، «القرية الجزائرية التونسية»، 1893.

معرض شيكاغو، «القرية الجزائرية التونسية»، 1893.

استحوذت فكرة «القرية الجزائرية – التونسية» على خيال واهتمام بلوم الذي كتب في مذكراته أنه اتفق مع المونسنيور غوينون، المشرف الفرنسي على القرية الجزائرية في معرض باريس العالمي، على دفع مبلغ خمسة آلاف فرنك فرنسي، أي ما يعادل ألف دولار أميركي، مقابل وكالة حصرية لمدة عامين، هدفها إبرام عقود لتنظيم عروض في أميركا الشمالية والجنوبية.

باشر بلوم أعمال بناء «القرية الجزائرية – التونسية» في «ميدواي بليزانس» في شتاء ١٨٩١. وما إن حل ربيع عام ١٨٩٢، حتى غرق في أعمال الدعاية والتخطيط للفرق القادمة من أنحاء العالم، فقد تم تعيينه مديرًا فنيًّا لـ«ميدواي بليزانس»، وهو شارع الترفيه الموازي لمعرض شيكاغو.

حضور مبكر

أرسل سول بلوم عقدًا إلى الفرقة الجزائرية في باريس، وطلب منها أن تأتي في نيسان/ أبريل ١٨٩٣، قبل وقت قصير من افتتاح المعرض. وذكر بلوم في مذكراته أن سوء فهم أدى إلى أن يبحر الفريق الجزائري – التونسي قبل الموعد المحدد بعام تقريبًا، وحين رست سفينتهم على رصيف نيويورك، بدأ يشتم ويصيح معبرًا عن تذمّره. وكانت الفرقة قد استأجرت مترجمًا جزائريًّا يدعى «القبايلي العملاق»، يعيش في لندن، فردّ على شتائم بلوم ولامه بشدة على موقفه، فبدأ بلوم بالاعتذار، ودعا القبائلي العملاق إلى أن يكون مترجمًا ومساعدًا وحارسًا شخصيًّا له.

وقد وجد بلوم للفريق الجزائري أعمالًا في أرض المعرض، فمعظم الرجال عملوا في مجال البناء، ووظف امرأتين تتكلمان الإنكليزية في مكتبه. وحين انتهى بناء المسرح الجزائري الذي يتسع لأكثر من ألف مقعد في صيف عام ١٨٩٢، كانت الفرقة قادرة على تقديم العروض حتى قبل افتتاح المعرض العالمي. وتحوّل سوء الفهم هذا إلى ربح خالص، إذ بدأ بتقديم عروض تجريبية للزوار الفضوليين الذين كانوا يأتون يوميًّا إلى «جاكسون بارك». وبحلول أيلول/ سبتمبر ١٨٩٢، أي قبل ثمانية أشهر من الافتتاح الرسمي للمعرض، كان سول بلوم قد غطى تكاليف القرية الجزائرية – التونسية، وبدأ يجني أرباحًا سخية.

مع حلول الشتاء، تباطأ العمل في «ميدواي بليزانس»، فانضمّ سول بلوم إلى حملة المرشح الديموقراطي كارتر هاريسون، وساعده في الفوز بمنصب رئيس بلدية شيكاغو، هذا الفوز الذي ترافق مع افتتاح المعرض الكولومبي في الأول من أيار/ مايو ١٨٩٣.

احتلت القرية الجزائرية التونسية الجناح رقم ٣١ في «ميدواي بليزانس». وجاء في الدليل الرسمي للمعرض أن أصحاب الامتياز هم إيلا جانون، وأ. سيفليكو، وسليمان بلوم، الذي وُصف بأنه مدير هذا الجناح.

وبحسب هذا الدليل: «كانت القرية الجزائرية – التونسية تتكون من مسرح واحد يتسع لجلوس ١٢٠٠ شخص، ويضم ٥٠ محلًّا لبيع المشغولات، وعشرة أكشاك ومقاه، وقاعة للحفلات الموسيقية وبازارًا كبيرًا. وأيضًا خيمة قبائلية جزائرية. أما ما يقدم على المسرح، فهو رقصات وأغان تونسية وجزائرية منها تراث قبائلي، بما في ذلك رقصة السياف، المعروفة باسم رقص التعذيب. في المحلات التجارية والبازار، كان يمكن العثور على البضائع الجزائرية والمشغولات التونسية، بما في ذلك المجوهرات، وما إلى ذلك. وفي مقصورات منفصلة هنالك حرفيون لصناعة الملابس الفلكلورية والمطرّزات والمشغولات المرصّعة بالجواهر. وثمة أكشاك فيها أسلحة تقليدية وخناجر وسيوف ودروع وغيرها، وهي معروضة للبيع. ويضم البازار السجاد والمفروشات، والمشغولات النحاسية، وجميع البضائع الغريبة من الجزائر؛ وأيضا ثمة كشك أنيق من مشغولات الموزاييك التي تم تصنيعها بشكل خاص للمعرض. وفي بعض الأكشاك يتم عرض تشكيلة واسعة جدًّا من السكاكين التقليدية، والمجوهرات والسلع الفاخرة. أما المقهى التونسي فالخدمة فيه تونسية، والطبخ تونسي. والقرية كلها مزيّنة بالبلاط المجلوب مباشرة من الجزائر العاصمة. وثمة خيمة للأسرة القبائلية، تعرض النسج والأقمشة الأصلية، وفي بعض الأكشاك، يصنع المواطنون من تونس والجزائر الحلويات والحلوى الشرقية الغريبة».

وفي مؤلفه «كتاب المعرض»، كتب هوبرت بانكروفت حول القرية: «على الجانب الآخر من «ميدواي بليزانس» تقع القرية الجزائرية – التونسية، وهي نسخ مصغرة من الشوارع والبازارات، تتخللها النوافير وحدائق الزينة. هناك قاعة حفلات موسيقية، ومقهى مغاربي، وخيمة قبائلية، ومنازل وخيام للعرب. ويغطي معظم المباني البلاط المزجج الغني بالألوان، المستورد من شمال أفريقيا. هناك الكثير من الستائر المطرزة والديكورات الداخلية الأخرى. وعدد الموسيقيين قليل، يعزفون موسيقى محلية على آلات قديمة من بلد المنشأ. أصحاب الامتياز اثنان، أحدهما هو الفائز على جميع المعارض الأخرى بجائزة معرض باريس في عام ١٨٨٩، وهي أعلى جائزة لهذا النوع من الفعاليات التي تقام منذ عام ١٨٦٥».

غرائب

ويستعرض بانكروفت غرائب هذه القرية بقوله: «في الأسواق العديدُ من الغرائب التي تباع جنبًا إلى جنب مع معظم السلع المعروفة في عالم التجارة، من الأحجار الكريمة والمجوهرات إلى البنادق ذات السبطانات الطويلة، والمسدسات من طراز قفل الصوان. وهناك السيوف الدمشقية المطعّمة بالذهب والآيات القرآنية، ذات المقابض المرصعة بالأحجار الكريمة والأنصال المرهفة. بالإضافة إلى مجموعة رائعة من الخناجر، من كل نمط يمكن تصوّره، من تلك التي يتم ارتداؤها للزينة، إلى تلك المخصصة لأشد الأعمال فتكًا، إلى الخناجر المسمومة التي يحتفظ بها على حدة. وهناك الأقمشة المطرزة بالفضّة والذهب المخصصة للوسائد الأنيقة وأغطية الطاولات المذهّبة برسومات الأرابيسك. وهناك لفائف أقمشة التاسيليين (الطوارق) المزركشة بكل الألوان المبهجة. وفي إحدى الخيام نرى الأقمشة القطنية التي تحوكها النساء المحليات، وهنّ جالسات على الأرض، وفي خيمة أخرى نرى ترصيع المجوهرات على الخواتم والأساور. وصناعة العطور، وقطع الحلوى المعطرة بماء الورد، والمباخر التي تقدمها فتيات جميلات سمراوات البشرة ذوات أعين سوداء. وهذه السلع وسلع أخرى غيرها تمتع البصر وتستنزف الجيب».

ولم تقتصر المشاركة التونسية على قسم الترفيه فقط، بل كان هناك مبنى في «المدينة البيضاء» يرفع العلم التونسي، يقع ضمن قسم المستعمرات الفرنسية، بين المبنى الزراعي والمعرض المالي، وهو «قصر بني على النمط المغاربي الخلاب جدًّا، ذو أربع قباب. فيه معرض للأثاث، وفي وسطه قاعة كبيرة مربّعة مقدّمة من باي تونس، هي نسخة عن قصره».

بالإضافة إلى ذلك، كان هناك قصر مراكشي يديره متعهد ألماني، يضم ديكورات وأزياء ومجسمات من المغرب الأقصى والتراث الأندلسي.

هَنا كوراني الاستثناء

ذهب العرب إلى شيكاغو تحت عناوين ويافطات مختلفة، لكنهم جميعًا لم يبارحوا مربع الفلكلور الذي وُضعوا فيه، باستثناء هَنا كوراني التي شاركت في المؤتمر النسائي العالمي المقام على هامش المعرض في مبنى النساء. وإنْ تميزت المشاركة بالفنون الشعبية التونسية – الجزائرية باستغلالها من جانب المتعهد الأميركي إلى أقصى الحدود، فإن عروض «شوارع القاهرة»، ومسرح أبي خليل القباني الدمشقي، حفرت عميقًا في وجدان الجمهور الأميركي الذي بقي لسنوات طويلة تحت تأثير مشاهدهما المبهرة. ومع أن فرقة «المرمح الحميدي» للخيول العربية الأصيلة كان يعول عليها كثيرًا، على صعيد المردود والمادي المعنوي، إلا أن ضيق أفق مجلس إدارتها، ووقوع الخلافات والتباغض بينهم، أفشلا هذه التجربة وألحقا بها الخسائر الصافية.

ومع ذلك، شكلت هذه التجربة الفرصة الأولى للتفاعل الثقافي العربي– الأميركي، والذي صحح بعض المفاهيم المغلوطة عن الشرق.

 

المراجع

مراجع عربية:

خلف، تيسير، من دمشق إلى شيكاغو، رحلة أبو خليل القباني إلى شيكاغو، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ٢٠١٧.

صحف:
لسان الحال
كوكب أميركا
ثمرات الفنون
شيكاغو تربيون
واشنطن بوست
نيويورك تايمز

مراجع إنكليزية:
Ben Hur, Arabs at Chicago, 1893, Western Horseman May 1950.
The Exhibits of the Ottoman Empire at the World’s Columbian Exposition, 1893, Chicago, 1893.
“Passenger lists of vessels arriving at New York 1820-1897”, National archives microfilm publications, microcopy No. 237, 1897.
John Joseph Flinn, “The Best Things to Be Seen at the World’s Fair Chicago”, The Columbian Guide Company, 1893.
Hubert Howe Bancroft, The book of the Fair, Chicago, San Francisco: The Bancroft Company, 1893.
Benjamin Cummings Truman, History of the World's Fair, Philadelphia, 1893.
Sol Bloom, The Autobiography of Sol Bloom, New York: Putnam House, 1948.
The Cosmopolitan / A Monthly Illustrated Magazine / Vol. XXIII. / May 1897 - October 1897.

وثائق عثمانية:
BEO.99/7981. BEO.140/10426-1.
BEO.140/10426-2. DH.MKT.204/90-1.
BEO.153/11423. Y.A.HUS.267/60-1.
Y.A.HUS.267/60-2. İ.HUS.4/136.
İ.HUS.4/136-2. İ.TAL.9/63-2.

العدد ٣٦ - ٢٠٢٣
حضور فلكلوري مؤثر وجمهور مبهور بالاختلاف

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.