العدد ٣٦ - ٢٠٢٣

الجزائر ١٩٦٢

الاستقلال من وجهة نظر الشعب

ننشر هنا تقديم ملكة رحّال لكتابها «الجزائر ١٩٦٢، تاريخ شعبي» الصادر بمناسبة الذكرى الستين لاستقلال الجزائر

 

سنة ١٩٦٢ في الجزائر هي سنة نهاية الحرب والانتقال العسير نحو السلام في آن معًا. تضع نقطة النهاية للاستعمار الفرنسي الذي استمر ١٣٢ سنة، موسومًا بمزيج نادر من العنف والتثاقف، وتشهد السنة أيضًا على ولادة دولة جزائرية كانت مهمتها الأولى تأمين استقرارها الذاتي وبقاء السكان في أرضهم وإعادة تعريف ماذا يعني أن يكون المرء جزائريًا.

الأفضل هو النظر إلى ١٩٦٢ من الخارج. تكتسب تلك السنة أهمية دولية لأنها ترمز، في بلدان الجنوب، إلى استقلال الشعوب المستعمَرة. ومن جهة أخرى، باتت حرب التحرير الجزائرية نموذجًا ومرجعًا بفضل طبيعتها واستمراريتها، وبفضل قوة رموزها (فيلم «جميلة الجزائرية» ليوسف شاهين ذو الرواج الكبير في العالم الثالث، أو الجميلتان جميلة بوحيرد وجميلة بوباشا). وجرى الاعتراف بـ«جبهة التحرير الوطني الجزائرية» بفضل كتّابها، بمن فيهم فرانز فانون، والدعم الذي قدمته إلى حركات التحرر الوطني في العالم. هكذا شكل استقلال الجزائر تاريخًا يتجاوز حدود البلد الجديد.

«الأقدام السوداء» و«الحركيون»

في فرنسا، عرف ١٩٦٢ من خلال التجارب المميزة لـ«ذوي الأقدام السوداء» [المستوطنين الأوروبيين] و«الحركيين».

من أصل سكان فرنسيين يبلغ عددهم مليون نسمة (أي ١٠٪ من السكان) غادر ٦٥٠ ألفًا الجزائر سنة ١٩٦٢، بينهم مجموع اليهود تقريبًا. إنّ سرديات ما سُمّي باكرًا «الهجرة» هي المعروفة أكثر من سواها: هي الأكثر عرضة للدراسة في أعمال تاريخية كثيفة، احتلت موقعًا مركزيًا في وسائل الإعلام وعالم النشر. وفي الوقت ذاته، بدأ العالم يتعرّف إلى تجارب «الحركيين»، التسمية العامة التي تشير إلى الذين خدموا سابقًا في الجيش الفرنسي وقد غادرت أعداد منهم الجزائر إلى فرنسا سنة ١٩٦٢. إن ظروف مغادرة هاتين الفئتين المختلفتين وأيضًا مسألة اندماج هذه وتلك في فرنسا وأخيرًا بناء ذاكرتها الجمعية، لا تزال موضع نقاش في فرنسا. وتشترك تلك التواريخ المختلفة في أنها صيغٌ مأساوية للحدث الذي وقع سنة ١٩٦٢.

المفارقة هنا أنه فيما الاستعمار يلفظ أنفاسه، إذا بتاريخ التابعين السابقين، أولئك الذي خضعوا للسيطرة الاستعمارية، يبدأ في الاختفاء. لا تزال معارفنا ناقصة جدًا عن تجربة أكثرية السكان الذين بقوا في البلاد سنة ١٩٦٢. معظمهم من المستَعمرين السابقين، أي «السكان المحليين» أو «الفرنسيين المسلمين»، حسب التسمية الكولونيالية، ممن كانت الحركة الوطنية تطالب بهويتهم الجزائرية منذ عدة عقود من الزمن. ولكن بقي في الجزائر أيضًا «أوروبيون» سابقون طرح عليهم في الآن نفسه خيار وإمكانية أن يصيروا جزائريين، والأمر نفسه ينطبق على «حركيين» سابقين نادرًا ما يُذكر مصيرهم في البلاد فيما يتعدى أعمال العنف التي تعرضوا لها سنة ١٩٦٢.

١٩٦٢ بواسطة التاريخ الشعبي

الهدف الأول للكتاب إذًا هو إعادة الاعتبار للطريقة التي عاشت بها تلك الأكثرية «المتحولة إلى أقلية» العام ١٩٦٢ بناء على ما نعرفه إلى الآن عن ذلك الحدث.

تنتظم سنة ١٩٦٢ في ثلاث لحظات: وقف إطلاق النار الموقّع في «أفيان» الذي نفذ يوم ١٩ آذار/مارس؛ الاستقلال في تموز/يوليو الذي جرى الاحتفال به في الخامس منه؛ وأخيرًا قيام الدولة الجزائرية مع إعلان الجمهورية يوم ٢٥ أيلول/سبتمبر.

ترسم هذه الأحداث فصولًا هي فصول سياسية قبل أي شيء آخر: يعرف البلد خلالها فترة «انتقالية» ابتداء من إعلان وقف إطلاق النار، ثم يشهد أزمة سياسية داخلية في «جبهة التحرير الوطني». لكن هذا التاريخ السياسي، المعروف على نطاق واسع، يخبّئ تجارب معيشة.

بناء على التعرّف إلى نهايات حروب أخرى (الحروب الأوروبية، الحروب العالمية أو حرب الانفصال الأميركية) يعمل الكتاب على التبحر في التجارب المنسية للنهاية الغريبة للحرب الجزائرية. في غياب وثائق دولة رسمية تسمح بالإحاطة بتجارب مشتركة، كما هو الحال في أوروبا، كان علينا إعادة بناء تلك الوثائق بواسطة تراكم التجارب الفردية: شهادات، سِيَر، مقابلات في الصحافة، صور أو أفلام وكالات أو صور وأفلام شخصية وأيضًا أغانٍ وأشعار، كلها مجندة هنا لتسجيل تاريخ شعبي للعام ١٩٦٢ في الجزائر.

وقد استلهمت في شغلي من التأريخ الشعبي الذي يمارسه هاورد زِنّ أو ميشيل زانكاريني-فورنيل واهتمامهما بإعادة بناء مسارات أشخاص من بيئات متواضعة مع إيلاء أهمية خاصة لسرديات النساء، والابتعاد عن التاريخ السياسي أو الدبلوماسي. كما أنني استعير أيضًا من «دراسات التبعية» لبارثا تشاترجي أو رانجيت غوها الانشغال بكتابة تاريخ الذين أخضِعوا للسيطرة الكولونيالية وبالتالي للمحو، في اللحظة التي شارف بها الاستعمار على نهايته، وإن يكن هذا التاريخ لم ينتهِ تمامًا بين ليلة وضحاها.

ينضوي الكتاب حول أربعة أسئلة موزعة على أقسامه الأربعة. كل قسم معالج بفصول قصيرة، تدور كلها حول تواريخ فردية وروايات حية ترسم صورة تاريخ شعبي.

bid36_p120.jpg

جزائريون وجزائريات بعد إعلان الاستقلال، تموز/يوليو ١٩٦٢.

جزائريون وجزائريات بعد إعلان الاستقلال، تموز/يوليو ١٩٦٢.

١٩٦٢ـ العنف، الأجساد، المكان

كان السؤال الأول هو معرفة ما مثّلته سنة ١٩٦٢ بالنسبة للعنف. قبل أن تسمح باستتباب الهدوء، شكلت ١٩٦٢ ذروة في أعمال العنف صعقت المراقبين الأجانب، إلا أن المفارقة ظاهرية فقط، لأننا شهدنا حالات مماثلة في نزاعات أخرى. حتى أنّ وقف إطلاق النار يفتتح بذاته فترة من تجدّد العنف، إنه العنف الذي مارسته «منظمة الجيش السرّية» وأيضًا بعض أعمال العنف الانتقامية التي طبعت نهاية الحرب، مترافقة مع أعمال عنف بين الجزائريين أنفسهم سوف تطول.

ترتبط أعمال العنف، في الحالة الأولى، بالفجيعة الناجمة عن قرب انتهاء العالم الكولونيالي، وفي الحالة الثانية بالغليان الجماعي عشية الاستقلال. وإنّ الخروج مِن الإطار الجزائري الوحيد للتفكير بالمقارنة مع حالات أخرى من الخروج من الحروب يسمح بإعادة اكتشافها بحالاتها الأصلية.

كان السؤال الثاني هو معرفة ما الذي فعلته ١٩٦٢ بالأجساد، بالجسد الجمعي وبالأجساد الفردية على حد سواء. خلال حرب التحرير، كان شاغل «جبهة التحرير الوطني»، ابتداء من تأسيسها سنة ١٩٥٨، و«الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية» أن تأخذ على عاتقها شعبها. إلا أن عنف «منظمة الجيش السرّية»، والفوضى التي أحدثتها هجرة العديد من الموظفين والكوادر التابعين للمؤسسات الكبرى، أسرع في تولي الجزائريين الإدارة الذاتية، حتى قبل حلول الاستقلال، خصوصًا في مجالات العناية والتموين. ومن جهة ثانية، سمح توقف الأعمال الحربية بإعادة وصل العلاقات التي قطّعها العنف وأن يبحث جزائريون بعضهم عن بعض، وأن يلتقوا ويمارسوا أخيرًا طقوس الحِداد على موتاهم التي تأجلت طويلًا بفعل الحرب. والسؤال هنا هو معرفة كيف يُبنى مجتمع، أو يُعاد بناؤه، من خلال أحداث سنة ١٩٦٢.

مهما يكن من أمر، فإن التلاقي، والخروج من الحرب ومن العمل السرّي، يُمكن أن يثيرا صدمة اللقاء بعد انقطاعات الحرب واكتشاف أجساد مختلفة دمغتها تجارب الحرب، أو إدراك أن البعض لن يعودوا. من هنا فإنّ مغادرة الحرب يمكنها أن تكون تجربة أليمة و«العودة إلى الحميمية» مصدر خيبات للبعض.

السؤال الثالث هو عما فعلته ١٩٦٢ بالمكان. سجّل وقف إطلاق النار يوم ١٩ آذار/مارس ١٨٦٢ انتصارًا لـ«جبهة التحرير الوطني» لاكتسابها سيادة شبه مطلقة على كامل التراب الوطني الجزائري تقريبًا، وهو مطلبها الأول منذ إعلان الأول من تشرين الثاني/نوفمبر ١٩٥٤. هكذا حرر وقف إطلاق النار التراب الجزائري: فتح معسكرات الاعتقال، معسكرات التوقيف والسجون، وسمح بأشكال من التواصل كانت ممنوعة حتى ذلك الوقت. فكانت الجزائر بذلك شبيهة بأوروبا عام ١٩٤٥ كما يصفها مودريس إكستين: بلد مثل مستعمرة نمل ينتقل الناس فيها بكل حدب وصوب. الأحياء والمحلات تغيّر هويتها، أحيانًا بطريقة عنيفة، عندما يغادرها سكانها «الأوروبيون» ليعاد تأهيلها بسرعة.

وبالرغم من الانفتاح، طوال المرحلة الانتقالية، بقي التراب الوطني منقسمًا بين الجيش الفرنسي و«جيش التحرير الوطني» وفي المدن حيث كانت «منظمة الجيش السرية» قوية، ظلّت الأحياء الجزائرية في حالة حصار. خلال الصيف، كان التراب الوطني يحتاج إلى إعادة توحيد ولو بدرجة أقل، بسبب النزاعات الداخلية. ومهما يكن، نشأت الحاجة لـ«ترميم» التراب الوطني ذاته لكي يستقبل اللاجئين ومن جمعهم لمّ الشَمل، ويرغبون في العودة إلى ديارهم، ما دام الأمر يتطلب نزع الألغام أو إعادة التحريج.

١٩٦٢: الزمن

أخيرًا، يعالج القسم الأخير من الكتاب أثر سنة ١٩٦٢ على الزمن. هنا كان المطلوب إعادة التفكير في سؤال غالبًا ما يُثار في الحقل السياسي الجزائري وهو عن دور الاستقلال في القطع أو في الاستمرارية، وهو ضروري من أجل التفكّر في تجارب الزمن المعيش. إنّ تقاسم الزمن الجذري الذي حققه الاستقلال هو في الواقع ثمرة شغل بدأ من ١٩٦٢ في ابتكار الماضي ومحاولة دفع الحرب إلى الماضي.

في الآن ذاته، مثّل الاستقلال تحقيق انتظار طويل أعيد بموجبه تشغيل ذاكرة الأحداث القديمة، بدءًا بالاحتلال الفرنسي عام ١٨٣٩ وعمليات مصادرة الأراضي في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وقد استتبع ذلك عملٌ دؤوبٌ من التخيّل، نُظِر إليه غالبًا على أنه إعادة إصلاح لمظالم الاستعمار. وقد تواصل هذا التخييل عن الاستقلال وتكثف مع اقتراب النهاية، وأضفى على نهاية الحرب بعدًا خلاصيًّا، تفاقم مع مغادرة الأعداد الكبيرة من فرنسيي الجزائر، ما فتح إمكانات لم تكن متصورة من قبل لإعادة الإسكان، والاستحواذ على الأراضي، أو الحصول على فرص اجتماعية ومهنية: كان بلدًا يتسّع لأحلام نضالية قدر ما يتسّع لإمكانات فردية عينية.

الجزائر سنة ١٩٦٢ بلد المستقبل، حتى لو أن الانتظارات الضخمة حملت معها إمكان خيبات عظيمة.

العدد ٣٦ - ٢٠٢٣
الاستقلال من وجهة نظر الشعب

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.