العدد ١٧ - ٢٠١٧

أصوات من الضفّة الثانية

تنشر «بدايات» في هذا العدد مقتطفاً من الحلقة الأولى من البرنامج الإذاعي «أصوات من الضفة الثانية» الذي بثّته إذاعة صوت الشعب لأوّل مرّة في موسم ١٩٨٩ - ١٩٩٠ وقدّمه نزار مروّة وكان يهدف إلى تعريف المستمع إلى تاريخ الموسيقى العربيّة والعالميّة ورموزها الكبيرة. ومروة هو مؤلّف كتاب «في الموسيقى اللبنانيّة العربية والمسرح الغنائي الرحباني». تعود كتاباته الأولى في النقد الموسيقي إلى أوائل الخمسينيّات في مجلّة «الثقافة الوطنية»، ومن ثمّ في مجلّة «الأخبار»، وجريدة «النداء». تولّى في السنوات الأخيرة من عمره إدارة التحرير في مجلّة «الطريق». وكان له برامج موسيقيّة متخصّصة في إذاعتَي «صوت الوطن» و«صوت الشعب» في منتصف الثمانينيّات من القرن الماضي.

في رحلتنا هذه:

أوّلاً: هؤلاء المؤلّفون اكتسبوا معارفهم وتقنيّاتهم إمّا من دراستهم في الغرب أو من مصادر محلّيّة ذات طابع غربي. إلّا أنّهم في الوقت ذاته مطّلعون على تراثهم ويكاد يكون اطّلاع بعضهم يقترب من الكمال، وهم متأثّرون أيضاً ببيئاتهم وتاريخهم ومكوّناتهم الحضاريّة. هكذا نتوسّم فيهم إمكاناتٍ للتّفاعل الحضاري المستمرّ والمتنوّع في جدواه فيما يتّصل بصفتهم الموسيقيّة.

ثانياً: يتطلّب أداء هذه المؤلّفات عازفين ذوي تقنيّات عالية وبأعداد كبيرة أحياناً. هذه الحاجة باتت في بلادنا صعبة التحقيق. فلا نستغرب أن تظلّ تلك المؤلّفات أحياناً على شكل مخطوطات تنتظر التنفيذ. هذا واقعٌ ذو انعكاسات سلبيّة على نشاط هؤلاء الموسيقيّين وتطوّرهم التقني والرّوحي.

ثالثاً: ليس الحكم على الحياة الموسيقيّة في بلادنا بالتخبّط حكماً قاسياً. ثمّة تجاذبٌ عنيفٌ بين القائلين بالأصالة والقائلين بالتطوّر والتحديث والتيار المندفع إلى الموسيقى الاستهلاكيّة الذي يزداد تسلّطاً متصاعداً. هذا التجاذب لا يختصّ بالحقيقة في الحقل الموسيقيّ فقط، وإنّما هو ظاهرة اجتماعيّة شاملة يصعب تبسيطها إلى المفاضلة بين الأصالة والتغرّب. ويصعب حصرها شأن النّقاش حول المقامات العربيّة أو استخدام تعدّد الأصوات. إنّ كلّ تحوّل اجتماعيّ كبير لا بدّ من أن يسايره تحوّلٌ في المفاهيم الموسيقيّة والفنّيّة على نحوٍ عامّ. غير أنّ التحوّل في وجدان الشعب وثقافته أمرٌ أبطأ وأشقّ. وفي تأريخ الموسيقى شواهد عديدة على هذا النّبض المختلف. فعصر انحدار الدولة العباسيّة مثلاً كان في أزهى عصورها موسيقيّاً ولم تنعكس آثار التّدهور السياسي على الموسيقى إلّا بعد ذلك بقرنٍ تقريباً. هذا النّبض المختلف للتحوّل الروحي إذاً هو أحد أسباب تصدّع موسيقانا وفصامها. نحن الآن بأمسّ الحاجة إلى صمّام أمان يحمينا خلال مراحل التحوّل والتطوّر من فقدان عناصر من روح ثقافتنا، ويحمينا في الوقت نفسه من تكبيل موسيقانا بأغلال المحلّيّة الضيّقة والمتعصّبة.

اهتمامنا بهذا التيّار من مؤلّفات الأوركسترا السيمفونيّة والمجموعات الأصغر من الآلات الموسيقيّة سنعتبره تيّاراً... في الوضع الموسيقيّ الحاضر / القائم وإلى المساهمة في رسم الاتجاهات الموسيقية في المستقبل. إذ لا نقدّم هذا التيار التحديثي... بذاته للتّطوير الموسيقي ولا نقدّمه أنّه علميّ لمجرّد استخدام التقنيّة الغربيّة. كذلك لا نقدّم هذه المؤلّفات على أنّها الأفضل في الموسيقى العربيّة... بغير عربيّة أصلاً. وإنّما نقدّمها كتيّار موسيقيّ من ضمن التيّارات التي تشعّبت إليها الظّاهرة الموسيقيّة العربيّة نتيجةً لعوامل موضوعيّة وذاتيّة عديدة في الثقافة العربيّة الحديثة. هذا التيّار الذي يعتمد على الأوركسترا السيمفونيّة أو مجموعاتٍ أصغر من الآلات لم ينظر بعين الرضا إلى الموسيقى العربيّة ولم يجد فيها شيئاً من النّبض الرّوحي أو الثقافي أو الفنّي سمّه ما شئت. والغناء العربيّ الحديث أصيب بجراحٍ روحيّة بليغة.

ثقافة جماهيريّة مشوّهة

أيّاً كانت هذه الثقافة الاستهلاكيّة الغزيرة الموضوعة في تصرّف الجمهور بواسطة وسائل الإعلام الحديثة، فهي ثقافة ذات طبيعة تجاريّة، ثقافة معادية للثقافة المحترفة (الراقية) الرّفيعة ومعادية للتراث بفرعيه الفلكلوري والفنّي. لأوّل مرّة تنتظم الإبداعات الفنّيّة على مقياس الإنتاج بالجملة، كأيّ سلعة، ولأوّل مرّة، ينشأ سباق مجنونٌ من أجل الحصول على أقصى ما يمكن من الربح في الإنتاج الثقافي. إنّها ثقافة التّرفيه والتّسلية السطحيّة، طبعاً، الموجّه إلى الأذواق غير المتطلّبة. لقد تحوّلت هذه الثقافة إلى عاملٍ فاعلٍ في القولبة الأيديولوجيّة وأدّت إلى تمتين الأنماط الاجتماعيّة الثقافيّة والقيَم الوهميّة للوعي الجماعي العامّ. وأدّى الأمر إلى انحطاطٍ لا مثيل له في الإنتاج الفنّي وإلى هبوط التذوّق لدى مستهلكي الفنون ومطيعيها ومالكي صناعة الاتّصال الإعلامي على حدٍّ سواء.

وهذا الوضع يولّد قطيعة كبيرة بين الجمهور الواسع والثقافة الرفيعة. فإذا كان ثمّة ما يقال عن غربة تعيشها الموسيقى السمفونيّة العربيّة فتلك العزلة أو الغربة لا تنبع بالضّرورة من المؤلّفات السمفونيّة أو الأوركستراليّة التي نتناولها في برنامجنا هذا، وإنّما هي نابعة في الأساس من انحطاط الثقافة الجماهيريّة التي لا تسمح بالاختبار ولا بحرّية الاختيار. والدليل على ذلك هو النصيب البائس الذي وصلت إليه الموسيقى العربيّة التراثيّة والحسرة على الأشكال التراثيّة الموسيقيّة وهروب الأصوات العظيمة وتدهور الغناء العربيّ.

أعمال أصدقائنا السمفونيّة تواجه الكثير من المعارضة والمقاومة الشديدتين. فالدكتور حبيب حسن توما مثلاً، يعتبر أنّ من الخطأ أن يُدخل الملحّن العربي آلات موسيقيّة أجنبيّة في ألحانه بقصد التجديد أو التّطوير وإلّا لأدّى استخدام آلات أوروبّية وسلالم موسيقيّة أوروبيّة إلى صياغة قوالب موسيقيّة أوروبيّة وقد تندثر الحضارة الموسيقيّة العربية ونصبح جميعاً ضاحية موسيقيّة للمركز الأمّ. وترى الباحثة شهرزاد قاسم حسن أنّ من الخطأ طرح التخلّي عن التّراث والدعوة إلى الاستفادة من التكتيك الأوروبيّ والتأكيد على وجوب خلق السيمفونيّة العربيّة. ثمّ تسأل شهرزاد بحدّة: من قال إنّ على البشريّة أن تسلك طريق السّيمفونيّات والسّونتّات، ولماذا نلغي الاختلاف ونقدّم التوحيد الهزيل؟ أمّا الزميل سليم سحّاب فيرى أنّ في التيّار التأليفيّ عقدة نقص تقول بأنّ الموسيقى العربيّة متخلّفة والموسيقى الأوروبيّة متقدّمة. وإذا كان سليم سحّاب يقول بالتفاعل الحضاري ولا ينفي إمكان تلاقي الأشكال الموسيقيّة العربيّة مع الأشكال الأوروبيّة المناسبة لطبيعتها وشخصيّتها، فهو يرفض هذا الإسراع القسريّ في عمليّة التطوّر لأنّ هذا الإسراع سيؤدّي إلى تطوّرٍ مرتهن.

هذا بعض ما يقول المعارضون للموسيقى السمفونيّة والأوركستراليّة بوجهٍ عام. وقد لا يصحّ بالضرورة أن نضع هذه الآراء في خانة التقوقع، إنّما هي برأيي في باب التجاذب الفكريّ الذي سبق أن أشرت إليه في باب الحوار الحضاريّ العامّ الدائر على مساحتنا الثقافيّة. والواقع أنّ الأعمال الموسيقيّة التي سنعرض لها في برنامجنا هذا أعمالٌ متنوّعة ومتباينة في أساليبها وتقنيّاتها وأيضاً في ابتعادها أو اقترابها من الأصول الموسيقيّة التراثيّة. إنّ حملة الاعتراضات السابقة قد تصحّ بالنّسبة إلى بعض الأعمال ولا تصحّ للبعض الآخر. وتالياً، فهي اعتراضات ليست صحيحة في المطلق ولا هي مخطئة بالمطلق. على هذا الأساس يبدو برنامجنا هذا مبرّراً في منطلقاته، إنّه دعوة إلى الحوار والتّفاعل والدراسة.

وفي رأيي إنّه يحسن اعتبار هذا التيّار السمفوني جزءاً من الخارطة الموسيقيّة العامّة ونتاجاً فنّيّاً خاضعاً للتحليل والحكم الزمني أوّلاً وآخراً. هذه المؤلّفات الموسيقيّة التي نعرض لها تَشَكَّل له مستمعوه والآخذون بمنطلقاته التي تُشكِّل تياراً قام بالتأسيس له عددٌ من الموسيقيّين المنتمين إلى أجيالٍ عديدة والمنتشرين في العالم العربي. إنّهم موسيقيّون على بيِّنة من نشاطاتهم الموسيقيّة وغاياتهم الفنّيّة والتعبيريّة، وهم على ثقةٍ بأنّ خياراتهم الفنّيّة والموسيقيّة هي خيارات صحيحة. وإلى اللقاء أعزّائي المستمعين في ملفّاتٍ قادمة مع موسيقيّين في لبنان وسورية والعراق وتونس ومصر وغيرها من أعمال جديدة من بلدانٍ عربيّة أخرى.

العدد ١٧ - ٢٠١٧

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.