العدد ٣٦ - ٢٠٢٣

محيي الدين بعيون

صوت بيروت الذي نجهل

فرح قدّور

من دكّانٍ لبيع التبغ في محلة برج أبي حيدر ببيروت إلى بلادٍ بعيدة واسعة طربت لصوته ولريشة طنبوره.

لا توجد وثيقة تؤكّد تاريخ أو حتى سنة ولادة محيي الدين بعيون. تحليلاتٌ ارتكزت على أقوال شفهيّة موثوقة ترجّح أنه ولد عام ١٨٨٥، فيما تذكر المصادر المكتوبة أنه وُلد عام ١٨٦٨، لكنّ المؤكد أنه توفّي عام ١٩٣٤.

أمّا دكان التبغ، فهو في الحقيقة مدرسة موسيقى كان صاحبُها – بائعُ التبغ – عازفًا على العود واسمه حبيب الدندشلي، وكان محيي الدين بعيون واحدًا ممّن قصدوا هذه المدرسة وتخرّجوا منها إلى جانب زكّور حجّال الذي كان أستاذًا للبزق في «المجمع الموسيقي الشرقي». وتتلمذ محيي الدين بعيون أيضًا في مرحلة مبكّرة على يد عازف القانون المصري أحمد البدوي الذي زار بلاد الشام في ثمانينيّات القرن التاسع عشر. إلى جانب مدرسة حبيب الدندشلي، تعلّم بعيون في مدرسة المقاصد، التي كانت حديثة العهد حينها، أصولَ الفقه والتلاوة والأدب، وهو ما تجلّى عليه بشكل واضح من خلال نطقه وغنائه، وصولاً إلى عزفه على آلة البزق أو الطنبور.

بدأ بعيون أول تسجيلاته مع شركة «غراموفون» عام ١٩١٢، وهي شركة تسجيل أسطوانات إنكليزيّة، وانقطع عن التسجيل طيلة فترة الحرب العالمية الأولى، ثم عاد إليه عام ١٩٢١ مع شركة «بيضافون»، وهي شركة تسجيل أسطوانات لبنانيّة، احتكرت التسجيل له طيلة حياته الفنية. مع «بيضافون» سجّل بعيون خلال عدة دورات تسجيل في بيروت، والقاهرة، وفي مدن عدة من المغرب العربي في السنوات ١٩٢١، ١٩٢٤، ١٩٢٥ و١٩٢٧. ويروى أنّه أثناء حملة التسجيل مع شركة بيضافون في المغرب عام ١٩٢٥، أصيب بمرضٍ في حنجرته منعه من الغناء، لذلك نجد أن الأسطوانات الصادرة بعد هذا التاريخ، جميعها آليّة فقط.

في تسجيلاته، قدّم بعيون قوالب متنوّعة عزفًا وغناءً، منها الموّال البغدادي والموّال السبعاوي، القصيدة، الموشّح، السماعي، الدور، الدولاب، التقسيم المرسَل والتقسيم الموقّع. أما قوالبه التي اشتهر بها كثيرًا فكانت الموّال غناءً والتقسيم المرسَل عزفًا.

«الطنبوري»

«الطنبوريّ محيي الدين بعيون»، هذا ما نسمعه في بداية كلّ تسجيل، وهذا ما نقرأه على غلاف كلّ أسطوانة، باستثناء الأسطوانة التي صدرت عام ١٩٢٤ وكُتب عليها بزق بدل طنبور. والطنبور اسمٌ واسعٌ لعائلة الآلات الوتريّة ذات العنق الطويلة التي تتجذّر في ثقافات وحضارات متنوّعة جدًّا، وقد ذكَرها الفارابي في كتابه «الموسيقيّ الكبير» إذ قال «نتبع ما قلنا في العود أن نقول الآلات التي تجانسه، وأقرب ما يجانسه من الآلات هي الآلة التي تُعرف بالطنبور، إذ كانت أيضًا، يُستخرج منها الصوت بقسمة الأوتار». ويذكر محمود أحمد الحفني في كتابه «علم الآلات الموسيقية» أنّ قدماء المصريين قد عرفوا هذه الآلة منذ حوالي ١٦٠٠ ق.م. من نقوش الأسرة الثامنة عشرة.

من آلات هذه العائلة على سبيل المثال، الساز (Saz) وهو الآلة التقليدية لدى الأكراد والأتراك، ويُطلق على الآلة نفسها اسم بغلمة (Baglama) عندما تكون أصغر حجمًا من الساز. من عائلة الطنبور أيضًا آلة التار (Tar)، ويتألف صندوقها الخشبي من قطعتين متّصلتين من الخشب تغطّيهما قطعة من الجلد وهي منتشرة بشكل أساسي في إيران وموجودة أيضًا في أذربيجان وأرمينيا وغيرها من البلدان المجاورة. من الآلات الفارسيّة ذات العنق الطويلة نجد السّيتار (Setar)، ومعنى الاسم باللغة الفارسية هو ثلاثة أوتار، حجمها صغير بالنسبة لعائلة الطنابير وهذا ما يميّز رنينَها، إذ إنه يصيب ديوانًا أعلى من غيرها من الآلات المشابهة. من عائلة الأعواد ذات العنق الطويلة، نجد آلة السيتار (Sitar) في الهند وآلة البوزوكي (Bouzouki) في اليونان وهي مرتبطة كثيرًا بموسيقى الزوربا الشعبية اليونانية، ونجد أيضًا الجمبش والبانجو وهما آلتان متماثلتان إلى حدّ كبير، تتميّزان بقصعة تكون على شكل طبل صغير مصنوعة من الحديد، والوجه يكون جلدًا حيوانيًّا أو مصنّعًا. يُقال إنّ البانجو أتت من أفريقيا، في حين أن الجمبش آلة منتشرة جدًّا في تركيا وفي شمال شرق سورية.

بُزُق محيي الدين بعيون

أمّا آلة البزق، والمعروفة أيضًا بالطنبور البغدادي، فموطنها هو بلاد الشام وكانت موجودة بكثرة أيضًا في العراق، لكن في العراق ذهبوا أكثر باتّجاه آلة الساز وذلك بسبب وجود الثقافة الكرديّة والتركمانيّة هناك.

بالتفصيل، تتألّف آلة البزق من:

قصعة: وهي الصندوق الصوتي الذي يُصنع عادةً من أخشاب صلبة، وتتكوّن «القصعة» من أضلاعٍ رقيقة يتراوح عددها بين ثلاثة عشر وسبعة عشر ضلعًا.
وجه: تغطّي «القصعة» قطعة من الخشب الرقيق تسمّى «الوجه» وتحمل من الداخل عوارضَ خشبيّة بأبعاد معيّنة، هي المسؤولة عن طبيعة الصوت الصادر من القصعة برنّاته المختلفة الغليظة والرفيعة.
الشمسيّة أو القمريّة: تُحفر على «الوجه» فتحةٌ مستديرةٌ تسمّى «الشمسيّة» أو «القمريّة»، غايتها تقويةُ رنين الصندوق الصوتي.
العنق أو الزند: وهي من أكثر الجزئيات التي تعطي للبزق ولغيره من عائلته طابعًا وهويّة. تُصنع العنق أيضًا من أخشاب صلبة، وهي موضع العفق على الأوتار وتُربط عليه الدساتين.
الدساتين: مفردها دستان، وهي الربطات التي تحدد أماكن النغمات بحسب اللهجة المقاميّة لكل منطقة، وكانت تُصنع قديمًا من أمعاء الحيوانات، أمّا اليوم، فباتت الدساتين تُصنع من مادة البلاستيك.
البنجق: عند مؤخّرة العنق، يتمّ وضع قطعة خشبيّة شبه مستطيلة اسمها «البنجق»، وهي التي تحتوي على «المفاتيح» التي تُربط وتُلفّ عليها الأوتار المعدنيّة.

أخيرًا، تضاف قطعتان صغيرتان إلى البزق هما «الأنف» الذي يتمّ وضعه بين العنق والبنجق، يحتوي على خطوط محفورة تُثبّت فيها الأوتار، أمّا القطعة الثانية فهي «الفرس» التي توضع على «الوجه» وتُثبّت عليها الأوتار بنفس الطريقة لكن من الناحية الأخرى.

عادةً، تُشدّ على البزق أربعة أوتار على طريقة وتَرين مزدوجين، دوزانهما من الأدنى إلى الأعلى: دو (راست) وَصولْ (يكاه). في أوائل القرن العشرين بدأ بعض العازفين بإضافة وتر ثالث لتكبير المساحة الصوتيّة، وهو وتر غليظ عادةً يُشدّ على درجة دو (قرار راست).

في بلاد الشام، ارتبطت آلة البزق بالتراث الشعبي، لا سيّما البدوي أو الغجري، أكثر من ارتباطها بالموسيقى الفصحى العربية التي عاشت عصرَها الذهبي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ولمعت فيها أسماء عديدة مثل عبده الحامولي، يوسف المنيلاوي، سامي الشوّا، سلامة حجازي، منيرة المهديّة، أبو خليل القبّاني، أسماء الكمسريّة وكثيرين غيرهم. لمحيي الدين بعيون دور أساسيً في طرح آلة البزق كواحدة من آلات التخت إلى جانب العود والكمنجة والقانون والناي والرقّ، مؤدّيًا بها قوالب هذه الموسيقى، وناطقًا لنغماتِ مقاماتها بشكل مطابق للنظام المقاميّ الذي كانت تسير هذه الموسيقى على نهجه. الفارق هنا، أنّ بعيون نفّذ التطبيق المقامي على آلة مُدَستنة، أي ثابتة النغمات، لا حريّة للعازف بأن يحرّك النغمة الواحدة بنسبة معيّنة لكي يلمس لهجة موسيقيّة يقصدها. مثال على ذلك، يستطيع عازف آلة العود أو آلة الكمنجة أن يعزف نغمة السيكاه (مي نصف بيمول) بشكل منخفض أو مرتفع قليلاً عن درجتها الأصليّة، وهذا أمرٌ معلومٌ في الموسيقي المقاميّة بحيث تختلف النغمة الواحدة بدرجة بسيطة من مقام إلى آخر، أمّا عازف البزق فمحكوم نوعًا ما بالدساتين الموجودة على آلته، إلّا في حال قرّر تحريكها أو زيادة دساتين إضافيّة إليها، وهذا ما قام به بعيون على الأرجح. في دراسة صوتيّة لأربعة من تقاسيمه قمتُ بها عبر استخدام برنامج لقياس الصوت بالهيرتز (Hertz)، تبيّن أن لبزق بعيون نغمات ثابتة لا توجد لها دساتين في النظام العادي للبزق، وكان الاستنتاج أنّ بعيون أضاف هذه الدساتين كي يلمس لهجة مقاميّة معيّنة. على سبيل المثال، عند عزفه لبيّاتي الدوكاه (ري)، يستخدم بعيون نغمة النيم عجم (سي بيمول منخفضة) بدل نغمة العجم (سي بيمول).

إلى جانب جملته اللحنيّة، يلمع عند محيي الدين بعيون الجانب الإيقاعي الداخلي، تحديدًا، في تقاسيمه المرسلة. على سبيل المثال، عند سماعنا لتقسيم مرسل لبعيون يحتوي على لحظات صمت، نستطيع الشعور بالنبض الداخلي الذي ما زال يجري برغم الصمت. هو ليس لحنًا ولا ضربًا إيقاعيًّا، هو شيء يشبه النفس أو النبض المتواصل. ثمّ يأتي بعيون ليسقِط جملته المرتجلة، مهما كانت مدّتها، على شكل تفاعيل عروضيّة نستطيع لفظها مع الجملة إن سمعناها لمرّة واحدة فقط، كما نستطيع التمييز بين تفعيلة عروضيّة وأخرى مستَخدمة. الوسيلة لإبراز هذه التفاعيل هي ضربة أو نقرة الريشة التي تحدّد ما إذا كانت النغمة قصيرة أو طويلة، وبالتالي اللفظ أو المقطع التفعيلي قصير أو طويل. أحيانًا، يمكننا استخلاص بحر من بحور الشعر الخليليّة من جملة بعيون، مثل البحر الطويل أو البحر الوافر اللّذين وردا في تقاسيم مرسلة له. وفي أحيان أخرى، لا بحور معيّنة تظهر، وإنّما مجرّد مجموعة من التفاعيل المرتّبة بشكل عشوائي.

نظريّة التفاعيل هذه موجودة وهي قيد الدرس منذ زمن سابقٍ على العديد من الموسيقيين ومنظّري الموسيقى، وهي تنطبق على أغلبيّة عازفي عصر النهضة، لارتباط موسيقاهم بشكل مباشر جدًّا بموسيقى المشايخ، أي باللّغة العربيّة بشكل واضح. أمّا بالنسبة لبعيون، وبناءً على تحليل شخصيّ، فيمكننا الربط بين وجود هذا الحسّ العروضي في جملته وبين تعلّمه في مدرسة «المقاصد» ذائعة الصيت بتعليمها المتين لأصول اللغة العربيّة، وهذا ما انعكس أيضًا على أسلوب غنائه للقصائد والمواويل البغداديّة والموشّحات.

محزنٌ أن نبني تحليلات عن شخصية بهذه الأهمية من خلال بعض الأقوال الشفهية والقليل من الوثائق المكتوبة. محزن أنّنا نعرف أنّ بعيون هو ابن المصيطبة، لكننا لا نعرف منزله. محزن كيف نبني تحليلات بناءً على نقرة ريشته وصوت بزقه لكنّنا لم نرَ أيًّا من آلاته. محزن أنّ معظم أبناء جيلي من الموسيقيين لم يسمعوا باسمه قطّ.

من خلال ما قرأت وما سمعت، أرى في محيي الدين بعيون، أو بالأحرى في القليل الذي وصلنا عنه، كتلة من أصالة وجمال وثبات، تشبه دكّان التبغ الذي بدأ مسيرته تلميذًا فيه، وتشبه مدرسة «المقاصد» وبيروت في تلك المرحلة، أصيلة وفصيحة، وتشبه صوته وصوت آلته، حادّ، واثق، يقول قوله ببساطة وعمق شديدَين.

أرى فيه أيضًا معلّمًا عابرًا للزمن. بالمناسبة، لا نعلم من هم تلامذة بعيون، سوى عازف البزق السوري محمد عبد الكريم، الذي ذكر بعض المصادر أنّه تتلمذ على يد بعيون، وأن الأخير هو من اكتشف موهبته وأطلقه بشكل أو بآخر. لكنّني شخصيًّا عندما أُسأل عن هويّة أستاذي على آلة البزق، أقول، وبكلّ ثقة، إنّه محيي الدين بعيون.

من المستحيل أن ألمح له أي مقطع مصوّر، لأراقب حركة أصابعه أو حركة ريشته. لكن حقيقةً، لم أشعر حتّى الآن بالحاجة إلى ذلك. أجل، صوت بعيون واضح وصريح إلى هذا الحدّ. أستطيع رؤيته وتحليله من خلال صوت ريشته. الحمدُ دائمًا للتسجيلات التي يسّرت لنا وجود معلّم على بُعد عشرات السنين.

المصادر:

الطنبوري محيي الدين بعيون بلبل بيروت، مؤسسة البحث والتوثيق في الموسيقى العربيّة، ٢٠١٩.
لوائح بيضافون من ١٩٢٢ إلى ١٩٣٣.
الفارابي، أبو نصر، كتاب الموسيقي الكبير.
الحفني، محمود أحمد، علم الآلات الموسيقية، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، ١٩٨٧.

العدد ٣٦ - ٢٠٢٣
صوت بيروت الذي نجهل

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.