العدد ٣٦ - ٢٠٢٣

حوار مع الموسيقي إيلي معلوف

في عشق البزق و«تعريب البيانو»

حوار زينب سرور

من زحلة إلى العالم

لم تكن الانطلاقة الموسيقية يسيرة. خلال الثمانينيات، بدأ الدراسة الموسيقية بمفرده وبمجهوده الشخصي. واجه العديد من العوائق على رأسها عدم وجود معهد أو مدرسة للموسيقى خلال تلك الفترة في مدينة زحلة، مسقط رأسه. حتى الأشخاص المستقلّون الذين كانوا يقدّمون بعض دروس البيانو لم يكونوا أساتذةً محترفين.

تتمثّل ثاني المشكلات في عدم امتلاك معلوف بيانو حينها، ما صعّب جدًّا عمليةَ متابعة الدروس. لكنّ حماسَه وتصميمَه وشغفه لعزف الآلة جعلت المستحيل ممكنًا. ولم يحصل على أول بيانو حتّى بلغ السادسة عشرة من العمر بعد أن كان بدأ العزف في عمر التاسعة، وكان قد بدأ حينها تعلّم الموسيقى في مدرسة Ecole de musique et des arts techniques في منطقة جونيه، إلا أنه لم يتمكن من إنهاء العام الدراسي بسبب تأزّم الحرب، فترك البلاد إلى فرنسا عام ١٩٨٩.

ليست الصورة سوداويةً بالكامل، فغياب التعليم الأكاديمي الموسيقي في صغره وعدم وجود من يعينه على قراءة العلامات الموسيقية بشكل جدّي، جعلاه يتّكل إلى حدٍّ كبير على حاسة السمع وتطوير أذنه الموسيقية، كما أنه اكتشف مع الوقت أنّ تلك العوائق فتحت أمامه الخيال الموسيقي.

الانتقالُ من بلد شرقي إلى آخرَ غربي وتمازجُ المشارب الموسيقية لديه، أبعداه عن التساؤل الدائم عن معنى «الهوية» والموسيقى التي ترافقها. الهوية قابلة للاختيار والتكوين، إذ نأخذ ما عشناه خلال طفولتنا في المكان الذي تربينا فيه، ونكوّن مع الزمن هويتنا حسب أذواقنا واختياراتنا. وهويتنا الشرقية نحملها بداخلنا على الدوام، ومع مرور الوقت تطفو على السطح تلقائيًّا. عندما انتقل إلى فرنسا في عمر السابعة عشرة، لم يُعِر الموسيقى الشرقية كثيرًا من الاهتمام، وصبَّ أكثرَ تركيزه على الموسيقى الغربية (لأن الهدف أن يصبح pianist)، فدرس الموسيقى الكلاسيكية ثم الجاز. لكن مع الوقت، بدأت تطفو «الهوية الأم»، إذا صحّت التسمية، على السطح، وبدأ يعي أنّه يمكن فهم هذه الهوية بشكل أفضل في أوروبا بسبب وجود الكثير من الموسيقيين الشرقيين الجيّدين فيها، مع أنه لم يدرس الموسيقى الشرقية مع أحد في فرنسا. وقد ساهمت الأسطوانات الشرقية التي كان يستعيرها من مكتبات فرنسا الموسيقية في تكوين وإبراز هويّته. ولم تنحصر تلك الأسطوانات في العالم العربي، بل شملت كامل الشرق الأوسط والأدنى والأقصى، فتعرّف منها إلى موسيقى آسيا الوسطى وإيران وتركيا ومختلف الدول العربية وموسيقى القوقاز وغيرها.

كلاسيك وجاز وارتجال

على الرغم من شغفه بالموسيقى الكلاسيكية ومن كونها جزءًا من حياته اليومية، لم يختَر متابعتها في مسار عمله الموسيقي، واختار التركيز على موسيقى الجاز ومؤلفاته الشخصية. تحتاج الموسيقى الكلاسيكية إلى دراسة تبدأ في سنّ صغيرة، الأمر الذي لم يكن متاحًا له. لكن السبب الأساس للتوجه نحو الجاز وأنواع أخرى من الموسيقى والابتعاد عن الكلاسيكي كان حاجته إلى إخراج موسيقاه وأفكاره النابضة.

تزامن الانتقال إلى فرنسا نهاية الثمانينيات مع وجود عددٍ من الموسيقيين الكلاسيكيين الكبار الذين كانوا على قيد الحياة. خلال السنوات اللاحقة، بدا هناك تغير على مستوى تلك الموسيقى، كان ذاك الجيل من الموسيقيين قد احتكّ مع المؤلفين الكبار أو تلامذتهم، كما كان للموسيقيّ الكلاسيكي شخصية وهوية مميزة يتمكّن المستمعُ اليقظ من معرفة هوية الموسيقي عبر عزفه من دون معرفة مسبقة بهوية العازف. أما اليوم فتبدّلت الأحوال وأصبحت هناك قلّة من العازفين الكلاسيكيين الذين يمكن التعرف إليهم من خلال بضع جمل موسيقية.

لكنّ الموسيقى الكلاسيكية ليست «جامدة»، فالموسيقى، أيًّا كان نوعها، أمرٌ حيّ، وما يُثبت ذلك أنّ كلّ عازف يمكنه تقديم عملٍ موسيقيّ مكتوب منذ ٤٠٠ عام بطريقة تختلف عن الآخر. بالطبع، لا يمكن تغيير النص في الموسيقى الكلاسيكية، لكنّ فكرة الارتجال فيها تبدّلت مع الزمن. لقد كان الارتجال جزءًا من عمل الموسيقيين الكلاسيكيين الكبار الذين كانوا يعزفون على أكثر من آلة وكان الارتجال جزءًا من حياتهم اليومية. خلال حقبة موزارت مثلًا، كان يتم الارتجال في بعض المقطوعات، خاصةً في كونشيرتو البيانو، إذ كانت تُرتجل الـCadence في آخر الحركة الأولى بالكونشيرتو. أما اليوم فأصبح من النادر إيجاد موسيقي كلاسيكي يرتجل، وصارت هناك معاهد تحدّدت فيها كلُّ هذه الأمور.

إن القدرة العالية على الارتجال وحريةَ التعبير في الجاز من أكثر العوامل التي دفعت معلوف إلى اختيار تلك الموسيقى على نحوٍ احترافي، ففي الجاز يمكن تغيير التوزيع بشكل مطلق، بينما في الموسيقى الكلاسيكية لا يمكن التغيير بالنص. أما اختياره الجاز فكان لقدرته على إبراز الكثير من الشخصية الذاتية بالإضافة إلى علم تمازج الأصوات (الهارموني) كما جذبه «الجاز مودال»، الذي يتبع نوعًا من المقامات، مشيرًا إلى أن الفرصة سنحت له للدرس مع برنار موري (Bernard Maury)، أحد أهم أساتذة الهارموني المودرن في فرنسا ومؤسس أكاديمية Bill Evans في باريس.

الارتجال مسألة «طبيعية» لديه لأنه بدأ العزف على البيانو بشكل منفرد، فكان يستمع إلى مقطوعاتٍ ويرتجل منها، والارتجال يكون أيضًا من دون الاستناد إلى مادةٍ ينطلق منها. وقد عززت ثقافتُه الشرقية، وما تحويه موسيقاها من تقاسيم وارتجالات، قدرته على الارتجال في الجاز.

في الحديث عن الارتجال، يفتِّت وهمًا شائعًا لدى الناس بأنّه مطلق، فهو يتشكّل من حزمة الخبرة الكاملة التي يكوّنها الموسيقيّ عبر السنين. هناك نوعان من الارتجال؛ الأول لا يحدّه قالب لكنّ تحقّقه يشترط أن يكون العازف وحيدًا، ولكن ما أن يصبح هناك عازفان ضمن المعزوفة ننتقل إلى النوع الثاني الذي يتطلّب نوعًا من القانون، إذ لا يمكن لعازفَين الارتجال بشكل عشوائي، فالارتجالُ، وإنْ كانت الحريةُ من سماته، تحكمه قوانين. وكلّما كان الموسيقي أكثر اطّلاعًا على تلك القوانين وأكثر احترامًا لها، «جوهَرَ» عمله الموسيقيّ أكثر.

أما الارتجال على المسرح، بين آليّة ضبطه وإطلاق العنان له، فعادةً ما يُعزف فيه اللحنُ الأساسي، المؤلَّف، ومنه يَنطلق الارتجالُ لتُختَتم المعزوفة بالعودة إلى اللحن الأساسي. وفي الجاز هناك نظامان للارتجال: نظام يأتي على شكل هيكل مكتوب يتبعه العازف، لكن الارتجال يكون فيه بشكل دائري مع طاقةٍ وعزفٍ مختلفَين في كلّ دورة، وفق الهيكل نفسه. ويمكن للارتجال أيضًا أن يكون وفق «الجاز مودال»، الموسيقى التي تتّكل على مقام، فتُعزف الموسيقى على المقام نفسه لفترة طويلة أو يتمّ الانتقال من مقامٍ إلى آخر ولكن ليس وفق هيكل هارموني، أو وفق هيكل هارموني أوسع.

أما نجاح الارتجال بين آلاتٍ من أجناسٍ وثقافات مختلفة فيرجع إلى الموسيقيّ نفسه، فإذا كان عازف الدرامز يشارك عملاً مع عازف آلة شرقية ويحملان الثقافةَ نفسها، نجد الكثير من الانسجام. ونجاح الارتجال بين آلتين من أفقين مختلفين، كالبيانو والبزق مثلًا، يتطلّب من عازف البيانو أن يكون على معرفةٍ بالآلة الأخرى كي يكون هناك انسجام، فالبزق آلة تقليدية، وعادةً لا يملك عازفو الآلات التقليدية اطّلاعًا كافيًا على آلات من ثقافات أخرى، فقد تجد عازفًا ماهرًا على آلة تقليدية، لكنه عندما يخرج عن الأسلوب الذي يألَف تراه تائهًا عن الحوار مع آلات من ثقافات مختلفة، علمًا بأن الجيل الجديد على اطلاع أوسع على الموسيقى العالمية. أما البيانو فيتميّز بعالميّته وإمكانية عزف أيّ نوعٍ من أنواع الموسيقى عليه، وهو موجود في كلّ البلدان، على عكس الآلات التقليدية ذات الانتشار المحدود.

البزق

لدى معلوف أيضًا شغفٌ في الموسيقى الشرقية. وقد تمّ اللقاء مع البزق في عمر الخامسة والعشرين. لكنّ هذا الشغف تطوّر لديه منذ الصغر، إذ كان يسهر مع الأهل والأقارب والأصدقاء في كروم زحلة خلال الصيف، يعزفون الموسيقى الشرقية. مع الوقت، تطوّرت اللقاءات، فصار الأصدقاء في زحلة يعزفون على آلاتٍ وترية، ومنهم المرحوم ربيع حداد، صانع الأعواد والعازف البديع في زحلة. وحوالي العام ٢٠١٥، جمع معلوف في كروم زحلة أكثر من أربعين موسيقيًّا من كلّ مناطق لبنان.

وهو يلاعب البزق بطريقة مميزة غير تقليدية. عن ذلك يقول إنه يحبّ في الآلات التقليدية أن تتقدم وتتطور على الدوام وألّا ينحصر العزفُ عليها بشكله البدائي، مع الحرص في الوقت نفسه على الحفاظ عليه من دون أن يمنع التطوير. وقد ساعده كونه عازف بيانو في سماع نغمات مختلفة تخرج عن النطاق التقليدي في عزفه على البزق. تكمن صعوبة البيانو في أنّ تقنيته معقّدة للغاية كي ينجح العازف في إخراج الصوت الذي يرغب منه. لكن ما يثير الاهتمام لدى عازف البيانو عندما يعزف على آلة وترية أنه يضع إصبعه مباشرةً على الوتر، فلا يضطرّ للمرور بكلّ تلك التقنية المعقّدة. ومن الأمور اللافتة للاهتمام أيضًا في التعامل مع الآلتين، أنّ البزق آلة قابلة للحركة، يمكن حملها والتنقل بها، بينما البيانو آلة لا يمكن تحريكها بسهولة، لا تأتي إلى العازف، بل عليه التوجه إليها.

لنبرة البزق أيضًا أهمية خاصة لديه. ولا ينحصر فهمُه للآلة في إتقان عزفها، بل يتعدّاه إلى صناعتها. ولديه ولعٌ في صناعة الآلات والخشب منذ بدء اهتمامه بالبزق، وقد عمل مع العديد من صانعي تلك الآلة وغيّر أفكار العديد منهم حول صنعتها. يوضح معلوف أن إهمال صناعة البزق يؤدّي إلى خروج نبرة معدنية مزعجة من الوتر لم نكن نسمعها لدى عازفي البزق القدامى مثل محيي الدين بعيون وأمير البزق محمد عبد الكريم، ومطر محمد. ويبدي انزعاجه من تقنية «الرشّ» طوال الوقت لدى الكثير من عازفي البزق الحاليين. ويشير إلى أن البزق ليس آلة تركية كما يظنّ كثيرون، بل آلة عربية مستوحاة من الآلات التي وُجدت خلال الحقبة العثمانية في منطقتنا، والتي نفسها أتت من آسيا الوسطى، مشيرًا إلى أنّ كلّ منطقة آسيا الوسطى تحوي أعوادًا ذات زند طويل. وقد استُعمل البزق خلال الفترة العثمانية ضد العثمانيين أنفسهم ضمن أغان مثل «والعصملّي بده يفلّ وتطلع براسه الفلّة»، كما ذكر عاصي رحباني في فيلم «سفر برلك».

«بيانو– كونترباص»

حتى اليوم، لم يصدر معلوف باسمه سوى أسطوانة واحدة ومن إنتاجه الشخصي بعنوان «عبر الحياة» عام ٢٠٠٧، إلى جانب أكثر من ١٥ أسطوانة سجّلها مع آخرين. يحيل عدم إصدار أسطوانة ثانية إلى كلفتها المرتفعة وصعوبة بيعها اليوم. ومع ذلك، هو مؤلفٌ نهِم. وقد تألّفت الفرقة التي عزفت الأسطوانة من بيانو وكونترباص وجاز درامز، بالإضافة إلى إيقاع شرقي وساكسوفون سوبرانو، وكان عازفُ الساكسوفون يعزف أيضًا على الناي والفلوت.

منذ فترة، يصبّ اهتمامه على ديو يقتصر على البيانو والكونترباص. وعلى الرغم من أنّ بعض المعزوفات على مسرحه جمعت بين الآلتين، لم يسبق له أن خصّص حفلةً كاملة لهما فقط. يصف العلاقة بين الآلتين بـ«الحلْف الذي فيه نوعٌ من الحميميّة والذي يحتاج إلى تركيز سمعي». خلال الصيف الماضي، عزَف مع عازف الكونترباص مارك بولانجييه وكان هناك انسجام كبير بين الاثنين، وذلك ضمن فرقة Hamra - Ginza Quartet المؤلفة من أربعة موسيقيين، قدّمت مؤلفاتٍ لمعلوف وللعازف ياباني الأصل هيديهيكو كانْ، وضمّت الفرقة أيضًا عازف الفيبرافون فلوريان بلكور. وقد شاءت الصدف أن تولّى بولانجييه مركز أستاذ كونترباص في المعهد الذي يدرّس فيه معلوف، فصار الاثنان يتمرّنان معًا كل أسبوع، وأصبح هناك برنامج جاهز لعرضه على المسرح.

وعن المشاريع الأخيرة، قام معلوف بجولة موسيقية امتدّت على مدى شهر تشرين الثاني/ نوفمبر في فرنسا شملت عشرين حفلة. تمّت الجولة التي جمعت بين الموسيقى والمسرح ضمن فعاليات مهرجان Festisol في منطقـة Bourgogne-Franche-Comté وموضوعها الهجرة والاختلافات بين الناس. عزف معلوف على البيانو والإيقاع والبزق وتولّى التوزيع، وشاركه ماتياس شبل، الأرجنتيني من أصول لبنانية، الذي يغنّي بسبع لغات منها العربية التي لا يجيدها ولغة خاصة بسكان الغابات، ومارك فورشان الذي يعزف على الساكسوفون والكلارينيت والفلوت. كما ألّف الموسيقى التصويرية لفيلم «عَ مفرق طريق» للمخرجة لارا سابا.

البيانو الجامع

وكما هو الحال مع ديو «الكونترباص– البيانو»، يحبّ معلوف مزج البيانو مع آلات من آفاق موسيقية أخرى، ومنها آلةُ الكمانتشة الكلاسيكية التركية هي واحدة من الآلات الأثيرة لديه. يوضح وجود عدة أنواع وأشكال من هذه الآلة التي تختلف باختلاف البلد ويبدي إعجابه بآلة الكمانتشة الإيرانية. تعاون معلوف مع ندا آتيش، المغني وعازف الساز التركي، وكانت الكمانتشة حاضرة في المشروع. وهو يعدّ مشروع عمل مشترك مع الموسيقي التركي ديريا توركان، أحد أفضل عازفي الكمانتشة.

منذ عدة سنوات، خطرت على بال معلوف فكرة عفوية عن إصدار أسطوانة تجمع عدة بلدان؛ من بلاد القوقاز وآسيا الوسطى وإيران وتركيا وغيرها، وأن يكون البيانو صلة الوصل بينها. حاول من خلال الفكرة جمع هذه الثقافات الموسيقية لتلك الشعوب المتناحر بعضها مع البعض الآخر. وتمحورت الفكرة حول سفره مع فريق صغير إلى كل بلد من تلك البلدان حيث يتمّ تسجيل ريبورتاج وأغنية خاصة بالبلد مع مغنٍّ منها. ولأنّه يملك ثقافة واسعة عن موسيقى تلك البلاد، ولأنه يعرف مغنّين من تلك المناطق ولمن عليه توجيه المشروع، لم يتوقع وجود مشكلة على مستوى التنفيذ، لكنه اصطدم بعوائق عدة على مستوى الإنتاج. يعقّب بأنه ربما كان عليه عرض المشروع على منظمة دولية، كالأونيسكو، بسبب صبغته العالمية، موضحًا في الوقت نفسه أنه لا يعرف كيف يرسل «ملفّات» لطلب المساعدة في الإنتاج الموسيقي، في وقتٍ أصبح مطلوبًا من الموسيقي تخصيص أغلب وقته لنسج العلاقات وطلب المساعدات، والقليل من ذاك الوقت للموسيقى، ويقول «ما زلت أرفض هذا الموضوع. أحاول ألّا أتلوّث كليًّا في هذا العصر».

«هاربسي- شرقي»

ولمعلوف شغفٌ خاصّ بموسيقى عصر الباروك. يهوى من آلات ذاك العصر الهاربسيكورد والڤيول والثيوربو، عود الباروك المستوحى من العود العربي. وله رأي في أثر المنطقة الجغرافية على الأعمال الموسيقية، فلو أنّ الموسيقي الفنلندي جان سيبيليوس مثلًا كان من سكان ريو دي جانيرو لكتَب أعمالًا موسيقية تختلف عن تلك التي نعرفها، وكذلك الأمر لو أنّ الموسيقي البرازيلي أنطونيو كارلوس جوبيم وُلد في هلسنكي لمنَحنا موسيقى مختلفة عن تلك التي نألفها في أعماله.

يوضح أنّ في زخرفة موسيقى عصر الباروك ما يشبه كثيرًا زخرفة الموسيقى الشرقية. وفي آلة الهاربسيكورد نفسِها، التي كانت رائجة خلال تلك الحقبة، ما يشبه السنطور الفارسي ونبرة آلة القانون. والهاربسيكورد آلة موسيقية هامّة تشبه في الشكل آلة البيانو وتُعتبر إحدى مراحل تطوّره، كانت شائعة الاستخدام خلال عهدَي النهضة والباروك، وكان باخ من أبرز عازفيها. ويلاحظ أنّ باخ لم يحبّ البيانوهات في نسختها الأولى، التي كان يطوّرها بارتولوميو كريستوفوري، متوقعًا ألّا يكون هناك مستقبل لتلك الآلة. قام معلوف بتجربة مثيرة للاهتمام على الهاربسيكورد في وقت قياسي وتحت الضغط على المسرح، إذ عدّل أوتاره خلال العرض لتتناسب مع المقامات الشرقية وتمنّى لو تسنّى له حينها أن يعزف موشّحًا على تلك الآلة.

ومعلوف مقتنع بأنّ البيانو، «حفيد الهاربسيكورد»، مرتبط بالسنطور الفارسي للتقارب في تركيبتهما. وقد عدّل مرةً أوتار بيانو يملكه كي تتناسب مع المقامات الشرقية. وقد سبق للموسيقي والعازف اللبناني عبد الله شاهين (١٨٩٤–١٩٧٥) أن عدّل أوتار البيانو لتتناسب مع المقامات الشرقية. يَذكر معلوف أنّ البيانو الذي عمل عليه شاهين ما زال موجودًا لكنه لم يكن عمليًّا، وقد عرضته حفيدةُ شاهين، زينة أبي راشد، خلال إحدى المناسبات. ولدى معلوف أيضًا فكرة حول نموذج أوّلي لـ«بيانو شرقي»، موضحًا أن هناك بعض الأشخاص الذين عملوا على الموضوع منهم الإنكليزي جفري سميث الذي تمكّن من صناعة بيانو يُدعى «البيانو السائل» (piano fluid) يُمكن عزف أرباع الأصوات والميكرو تون عليه.

وعلى الرغم من غنى ميزة تجربة تعديل أوتار الهاربسيكورد، لا يرى معلوف أنّها ستحظى بالاهتمام إلا إذا تبنّاها أحدُ الموسيقيين أو المعاهد الموسيقية. ما يشجع هو تزايد الاهتمام بالموسيقى الشرقية في الغرب، ففي فرنسا معاهد تعطي دروسًا في تلك الموسيقى، ومعلوف نفسُه يعمل على تخصيص صفّ للموسيقى الشرقية في المعهد الذي يدرّس فيه. وللمرة الأولى في تاريخ الكونسرفتوار الفرنسي، سيُدرج المعهد آلة البزق ضمن آلاته بمبادرة من معلوف.

بوغوص جلاليان: عبقريّ مغمور

بوغوص جلاليان موسيقي له مكانة خاصّة عند معلوف؛ «إذا كان هناك من شيء يُدعى بيانو لبنانيًّ، فبوغوص هو مَن أسسه». وجلاليان كان عازف البيانو الذي رافق الأخوين رحباني وفيروز في أكثر التسجيلات التي نعرفها. يرجع معلوف إلى طفولته ليتحدث عن أثر جلاليان في تكوين وعيه الموسيقي، وتحديدًا في ما يتعلق بالبيانو في الأغنية اللبنانية. كان ينجذب بشدة إلى ما يُعزف على البيانو، خصوصًا في أغاني الأخوين رحباني مع أن البيانو لم يكن أساسيًّا أو ظاهرًا فيها بشكل كبير، مثل أغنية «يا ربوع بلادي». لقد استعمل الأخوان رحباني البيانو في الكثير من أغانيهم من خلال ارتباطها بنبض المعزوفة، الذي يولّد الحركة فيها، مثل البيانو والكونترباص والإيقاعات، وإلى هذا النبض تُضاف الوتريات وآلاتُ النفخ والتوزيعُ وغيرها.

أسس جلاليان أسلوب عزف خاصًّا به. كان كمن ينسج على آلة الحياكة عبر تفاصيل خلقت سحرًا في الأغنية الرحبانية، لولاها لفقدت الأغنية شيئًا من ألقِها وصدرت بحلّة مختلفة، ولكنها في الوقت نفسه تفاصيل لا يستطيع المستمع العادي التقاطها.

كان جلاليان من عازفي البيانو القلائل الذين رافقوا فيروز ويملكون فعلًا لمسة عازف البيانو، ليس بمجرّد شخص يعزف البيانو، بل معلّم حقيقي في العزف على البيانو، والفرق شاسعٌ بينهما، على مستوى اللمسة والصوت والمادة التي تصدر من الآلة. كما أنّ جلاليان مؤلّف موسيقي كبير له بصمته الخاصة في أعمال الأخوين رحباني. وجلاليان أخيرًا ليس آخرًا هو أستاذ زياد رحباني الذي أسّسه في انطلاقته الموسيقية. ويعتبر معلوف أنّ أفضل فترة عزف فيها زياد على البيانو كانت خلال دراسته وتمرينه مع جلاليان، كما في أغنية «ليالي الشمال الحزينة» بمسرحية «المحطة».

وعن زياد و«البيانو اللبناني» يذكر معلوف أنه منذ حوالي ٢٣ عامًا، كان يستمع مع زياد في الاستديو إلى ألبوم سجّله مع أصدقاء في فرنسا، فأعطاه زياد ملاحظة أثّرت فيه إذ قال: «إنتَ من القلّة بهالبلد اللّي فهموا شو هوّ البيانو بالجوّ اللبناني وكفّى فيه وأخذه على غير مطرح». أما اليوم، فيرى أنّ الأمر اختلف، هناك جيل جديد يعزف بشكل جميل ومتقن لكنّ «البصمة اللبنانية»، إذا صحّت التسمية، اختفت بعض الشيء.

وكان أول وآخر لقاء بين معلوف وجلاليان عندما لبّى الأخير دعوة معلوف الشابّ إلى أول حفلٍ له في الجامعة الأميركية في بيروت. أبدى جلاليان حينها إعجابه بمعلوف وأخبره أنّ لديه «أداء جميلًا مع آلة البيانو»، مسديًا له بعض النصائح المفيدة. وقد توفّي جلاليان عام ٢٠١١.

«أزمة الموسيقى في لبنان»

ينتقل معلوف إلى المؤلفين الكلاسيكيين اللبنانيين، فيؤكد ضرورة إحياء أعمال هؤلاء والتركيز على تسجيل أعمالهم، ليس فقط الكلاسيكيين بل كلّ الموسيقيين الذين يقدمون أعمالًا ذات معنى، فمهما كانت الحفلة ناجحة فإنها تختفي في لحظتها، وما يبقى منها هو أحاسيس الناس وذاكرتهم، بينما الأسطوانة تبقى للتاريخ. ولإدراكه صعوبة تحقق ذلك، يتمنى أن تهتمّ وزارة الثقافة بتسجيل أعمال رواد الموسيقى اللبنانية وأن تكرَّس ميزانية له. ويربط هذا الوقع بأزمة الإنتاج، موضحًا أنّ الإنتاج اليوم للموسيقيين، خاصةً للمؤلفين، شبه معدوم. ويشير إلى أنّ زينة صالح كيّالي من «مركز التراث الموسيقي اللبناني» في مدرسة «الجمهور»، ألّفت كتبًا عن المؤلفين الكلاسيكيين اللبنانيين، وهي تعمل حاليًّا على تأليف قاموس للموسيقى اللبنانية، كما يحاول المركز أرشفة أعمالهم. والمؤسف أنّ أغلب المؤلفين الكلاسيكيين اللبنانيين قد هاجر من لبنان بسبب الظروف الراهنة، ويبدي معلوف إعجابه بقائد الأوركسترا اللبناني لبنان بعلبكي الذي ما زال صامدًا في لبنان برغم الظروف.

يشير إلى وجود جمعيات تساعد الموسيقيين، لكن الصعوبة أنه ينبغي على الموسيقي تقديم طلب للحصول على المساعدة، والموسيقيون عادةً ما يكونون مهملين من هذه الناحية، خصوصًا مع وجود هامش للرفض من قِبل الجمعية. وهو يدعو إلى أن تطّلع تلك الجمعيات نفسها على أعمال الموسيقيين والمؤلفين والعازفين وأن تبادر هي إلى دعم من يستحق، كأن تدعم تسجيل أسطوانة للمؤلف.

يأسف أنه خلال ٣٢ عامًا من غيابه عن بلده، لم يدعَ مرةً واحدة إلى أي مشروع أو مهرجان أو حفل موسيقي في لبنان، باستثناء دعوة يتيمة من مهرجانات بعلبك. كما يأسف لأنه لم يتلقَّ دعوةً إلى لبنان من قِبل معاهد أكاديمية لتدريس صفوف «الماسترز» في الموسيقى أو لتقديم المساعدة الموسيقية، التي حُرم هو نفسُه منها، إلى الطلاب اللبنانيين، بينما هو يدرّس صفوف الماسترز في جميع أنحاء العالم.

وعن تعليم الموسيقى في لبنان يَعقد مقارنةً بين الأمس واليوم، فحين انتقل إلى فرنسا لم يكن في مدينته زحلة مدرسة مخصصة للموسيقى، بل كانت الموسيقى تدرَّس قليلًا في المدارس العادية، مع غياب أستاذ متخصص. ولمعرفة ما كان يحصل على المستوى الموسيقي خارج لبنان، كان يطّلع على المجلات الموسيقية في «المركز الثقافي الفرنسي»، لكن تلك المجلات كانت تصل متأخرةً، فتبدو قديمة بعض الشيء. تغيّر الوضع اليوم، فبإمكان من يسكن في قرية بعيدة حضور دروس موسيقية وصفوف ماسترز ومشاهدة فيديوهات عبر الإنترنت. وبرغم تسهيلات العصر الحالي، ليست الصورة ورديّةً بالكامل، فالإنترنت وحده لا يكفي لتعلّم الموسيقى بشكل جيد. فكلّ شخص موهوب تعلّم الموسيقى في لبنان ويرغب بمتابعتها يضطر إلى السفر. يذكر معلوف أنّ الصين تساعد على بناء كونسرفتوار في لبنان، مؤكدًا أن المبنى وحده لا يكفي. فيطالب من جديد بدعوة الموسيقيين اللبنانيين في الخارج، والذين اكتسبوا خبرة طويلة، لتعليم أولاد بلدهم. حتى انه يتساءل: «ما الذي يمنع فيروز مثلًا، في ما لو كانت غير منعزلة، من تلبية دعوة لإعطاء للتعليم في صف ماسترز عن الأداء في الموسيقى؟ ما الذي يمنع أن تسمع مواهب الغناء المهمة وأن تعطي ملاحظاتها»؟، موضحًا أن هناك الكثير ممّن يحبّون فيروز بشكل جنونيّ لكنهم لم يتعلّموا منها شيئًا من الحس الذوقي وطرق وأساليب الغناء.

وينتقد أيضًا معهد الموسيقى في زحلة. صحيح أنه يوجد معهد للموسيقى هناك لكن هذا لا يكفي فلماذا لا توجد أوركسترا في المدينة: «أين التلامذة الذين يتخرّجون من المعهد الموسيقي»؟

يذكر معلوف أيضًا أنه قبل سفره إلى باريس كانت توجد عدة فرق موسيقية جيدة في المدينة، وكانت هناك موسيقى شرقية جميلة وموسيقى روك وپوپ والقليل من الجاز، كما كان هناك موسيقيون يعزفون في المسرحيات، ويعيدون تقديم مسرحيات الرحابنة. اليوم، لم يعُد كلّ هذا موجودًا. هناك بعض المبادرات الفردية لإنشاء مدرسة موسيقية أو حركة موسيقية، لكن لا يوجد عدد كافٍ من الموسيقيين مع أن المدينة تملك الكثير من المواهب. ومن هؤلاء يذكر معلوف صديقًا له في طفولته يُدعى داني شمعون، يسكن اليوم في أستراليا، وهو عازف بيانو مميز، لكنّ أحدًا لا يعرفه في لبنان أو يدعوه إلى إقامة حفلة في زحلة. وعن «حلمه الكبير» للمدينة يقول: أن يصبح هناك مسرح وطنيّ فيها، وأن يكون هناك برنامج سنوي يُدعى إليه فنانون من زحلة، ربما أصبحوا عالميين، وأن تقام فيه معارض فن ورسم وتعرض مسرحيات وحفلات موسيقية.

مؤلف موسيقي وعازف بيانو وبزق وآلات أخرى، لبنان- فرنسا. هاجر إلى فرنسا عام ١٩٨٩. له أسطوانة واحدة من إنتاجه هي «عبر الحياة» (٢٠٠٧)، بالإضافة إلى عشرات الأعمال والأسطوانات مع عدة موسيقيين وفنانين من مختلف أنحاء العالم

العدد ٣٦ - ٢٠٢٣
في عشق البزق و«تعريب البيانو»

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.