العدد ١٥ - خريف ٢٠١٦

بيروت في حوارية الرواية والعمارة

النسخة الورقية

ننشر فيما يلي الحوار بين المهندس جاد تابت والروائي الياس خوري، الذي نظمه "المركز العربي للعمارة" و"بيت الكتب" في بيروت في متحف سرسق، في ٣١ آب\أغسطس ٢٠١٦.

الياس خوري: الرواية والعمارة

لا أعرف ما العلاقة بين الرواية والعمارة، لكنّني أعرف أنّ صداقتي الطويلة مع جاد تابت، أخذتني إلى عوالم جديدة، يقوم فيها المعماريّ بتحويل الخيال إلى حقائق لا نراها فقط بل نقيم فيها أيضاً. فنحن نعيش في عالم ملموس رسمه خيال مهندس، وفي هذا العالم، سواء أكان بيتاً أم مقهى أم شارعاً، نحوّل هذا الواقع إلى متخيّل تصنعه أحلامنا. المعماري يحوّل الخيال واقعاً، بينما يقوم الكاتب بتحويل الواقع بعناصره البشريّة والماديّة إلى خيال. عملان يفترقان في الهدف لكنّهما يلتقيان عند نقطة يتقاطع فيها المتخيّل بالمتخيّل، بحيث تصير العمارة كتاباً نعيش بين سطوره، وتصير الرواية عمارة نعيش مع أبطالها الذين يصبحون حقيقيّين في وعينا، بل ربّما أكثر حقيقيّة من الحقيقة التي نراها. المتخيّل هو عيوننا الخفيّة التي نعيد بها رسم ملامح العالم، كي نعطي معنىً لحياة تبحث دائماً عن معناها، ولا تجده.

لا أحاول في هذه الكلمة القصيرة أن أنظّر، بقدر ما أحاول التعبير عن تجربتي في صحبة معماري كان دليلي إلى بيروت بأزقتها المدمّرة، وتاريخها الذي طمرته الحرب قبل أن تمحوه جرّافات السلام. وفي طرابلس القديمة، عندما كنت أكتب روايتي "سينالكول" مشيت صحبة جاد في الشوارع كأنّنا نمشي بين سطور رواية كتبها الزمن. كنت أبحث عن أزقّة روايتي، وكان المهندس دليلي إلى عالم متخيّل تحوّل إلى واقع عشت في داخله ثلاث سنوات.

علاقتي بالمهندس أخذت شكلها العملي في معركة مقاومة مشروع "سوليدير". يومها كان جاد مع عاصم سلام ومجموعة من المعماريّين يحاولون إنقاذ المدينة من هندسة الحرب والخراب، وكنت معهم على صفحات "الملحق"، التي تحوّلت إلى ميدان معركتنا التي خسرناها.

كانت الفكرة ألّا نسمح للحرب وقَيم الرأسمال المتوحّش التي التصقت بها، عبر اتفاق الطائف وبَعده، أن تكون مهندس مدينتنا الوحيد. صحيح أنّ الحروب هي أكبر مهندس تنظيم مدني في التاريخ، لكنّ الصحيح أيضاً هو أنّ البشر يعيدون هندسة ما صنعه توحّش الحروب بنكهة البُعد الإنساني الذي يدافع عن قيَم الحياة. غير أنّ محاولتنا الفاشلة كانت النذير الأوّل لمسار الخراب الروحي والمادي الذي سيجتاح وطننا الصغير.

خسرنا معركة الواقع ربّما، لكنّنا صنعنا مدينتنا بكلماتنا وأحلامنا. إلى هذه المدينة المتخيّلة ندعوكم اليوم، كي تشهدوا على الصراع الذي يدور في الكلمات والصور بين مدينتين، وكي تكون شهادتنا عن بيروت، صورة للمدينة التي يغيّبها اليوم وحش الباطون المسلّح، لكنّها تستعاد بكلماتنا ومرايا أرواحنا المتشظّية.

 جاد تابت: أزمنة المدينة

بالإمكان قراءة المدن بوصفها تجميعاً لعدّة عوالم تتمفصل حول أنساقٍ مبنيّة ومساحاتٍ مفتوحة. ومن شأن هذه الأماكن المتنوّعة، شوارع وساحات وحارات، أن تؤلّف شذراتٍ من واقعٍ ما، كما من شأنها أن تعبّر عن أزمنةٍ أخرى أو عوالم أخرى، ماضياً أو مستقبلاً.

هكذا، تكون جادّة فؤاد الأوّل، حرفيّاً، هي اسكندريّة داريل، وساحة المدينة القديمة هي براغ كافكا ونهج نيفسكي هو سان بترسبورغ دوستويفسكي.

كما يستحيل التجوّل في الأزقّة المتفرّعة من حارة الصنادقية دون تخيّل قاهرة نجيب محفوظ أو تسلّق تلال الأشرفيّة دون استذكار جبل الياس خوري الصّغير.

من خلال سحر الإيحاء في الأسماء ولكن أيضاً عبر تبدّل واجهات البناء أو تحوّل الطّرقات أو ثبات النّصب، ترتسم تجربةٌ معماريّةٌ وثيقة الصّلة بالأدب لقدرتها على بعث ذاكرة الأماكن في الحاضر كمرآةٍ دون طلاءٍ يخترقها النّظر ليصل إلى عالمٍ آخر، عالم الرّغبات والتّخيّلات التي تُحدّد إيقاعات أزمنة المدينة.

الياس خوري: يسمّونه الجبل الصغير (مقتطف من الجبل الصّغير)

يُسمّونه الجبل الصّغير، وكنّا نسمّيه الجبل الصّغير. نحمل الحصى، نرسم الوجوه، نبحث عن بركة ماءٍ نغتسل بها من الرّمل، أو نملؤها رملاً ونبكي. نركض بين حقوله أو ما يُشبه الحقول، نأخذ سلحفاةً بين أيدينا، ونمضي بها إلى حيث أوراق الشّجر الخضراء تغطّي الأرض. نخترع أشياء نقولها أو لا نقولها. يُسمّونه الجبل الصغير، كنّا نعرف أنّه ليس جبلاً، وكنّا نسمّيه الجبل الصّغير. 

تلّةٌ واحدةٌ أو مجموعة تلال. لم أعد أذكر، ولم يعد أحدٌ يذكر. تلّةٌ على الطّرف الشرقيّ لبيروت سمّيناها جبلاً، لأنّ الجبال كانت بعيدة. جلسنا على منحدراتها وسرقنا البحر. الشّمس تطلع من الشّرق، ونحن نخرج من حقول القمح في الشّرق. نقطف السّنابل حبّةً حبّة لنلهو بها. كان الفقراء أو ما يشبه الفقراء يركضون أطفالاً بين حقول التّلال ليسألوا أشياء الطّبيعة عن أشيائهم. هذا الّذي نسمّيه عيداً كان يوماً ككلّ الأيّام، لكنّه يختلط برائحة البرغل والعرق، نأكلها بين أشياء الطّبيعة لنخبرها عن أشيائنا التي بقيت في الذّاكرة حلماً. كان الجبل الصّغير مجرّد حافّة نخترقها في تعجّبٍ وكبرياء. ننسج القصص عن أحزاننا وننتظر لحظات الفرح أو الموت، لنلهو بعواطفنا عن رتابة الأيّام.

يُسمّونه الجبل الصّغير، وكان يمتطي الحقول الواسعة إلى شجيرات الصّبير المنتشرة في أنحائه. كانت النّخلة الّتي أمام بيتنا تنحني من ثقل جذعها إلى اليسار. وكنّا نخاف أن تلامس الأرض أو ترتطم بها فاقترحنا ربطها بحبلٍ من حرير وشدّها إلى نافذة بيتنا. لكنّ المنزل كان يتهاوى بحجره الرّمليّ السّميك، وسقفه الخشبيّ. فخفنا أن تسقط النّخلة بالبيت حين تسقط. تركناها تنحني يوماً بعد يوم. وفي كلّ يوم أمسكها من جذعها المتشقّق وأرسم عليها صورتي. 

كنّا نخاف على الجبل وعلى نباتاته. وكان يتقدّم إلى حافّة بيروت ويسقط فيها. وشجيرات الصّبّير الّتي تجرح أرجلَنا، تموت، والنخلة تنحني والجبل يتقدّم إلى حافّته.

تأتي الجرّافة

يسمّونه الجبل الصّغير. كنّا نعرف أنّه ليس جبلاً، وكنّا نسمّيه الجبل الصّغير.

هل الجبل ينحدر؟ 

كانت السّيّارات الكبيرة تتقدّم، تجتاحنا، وترسل أنينها في أرجاء الشّوارع. الجبل يخترق من جميع النّواحي. يقطعون الأشجار ويقيمون البنايات. آلات جبل الإسمنت أصبحت شعار المرحلة. في كلّ شارع آلة يتراكض من حولها العمّال السّوريّون والأكراد. يرمون في أحشائها الرمل والحصى والماء. فتدور على نفسها وترمي بعد ذلك الإسمنت الّذي تُبنى به البيوت العالية الحصينة. تنبتُ البنايات وكأنّها ولدت هنا وتتساقط الحجارة الرّمليّة الدّافئة والسّميكة لتأتي مكانها حجارة الإسمنت المجوّفة والباردة. والعجلة تدور. مئات العمّال يأتون من أكواخ التّنك المروّعة على المدخل الشّرقيّ لبيروت والّتي تُسمّى الكرنتينا، ليحملوا الحصى والرّمل، ويمدّوا الإسمنت على السّاحات. 

تأتي الجرّافة، فتسوّي التلّة بالأرض، أو بالعلوّ الّذي افترض للأرض. وتتساقط النّخلة أمام بيتنا بين فكّي الجرّافة. جذورها المنتشرة فوق الأرض، في بركةٍ من الحجارة والرّمل، تقتلع وتتساقط. تتمزّق كالشّرايين الصّغيرة أمام القذائف. والأبنية الجديدةُ تعلو. جبالٌ من الأبنية والطّرقات والسّاحات. 

هل الجبل ينحدر؟ 

أسير علىمفترقاته، أبحث عن طفولتي. أجد أمامي على التّلّة الّتي أسمّيها جبلاً، منحدراً صغيراً يفصل الجبل عن نهر بيروت. السّيّارات الصّغيرة كبرت، وأنا كبرت. والبنايات العالية أصبحت تغطّي البحر. كنتُ أعتقد أنّنا سرقنا البحر. لكنّ رائحة الإسمنت المسلّح سرقت رائحة البحر

لم ينحدر الجبل.

الأصواتُ على مداخله، والأبنية تتوالد، والسّاحات تُبنى. هذا الصّوت المرتفع لم يعد صوتي. الأصوات تنحني على المداخل، والحركة أصبحت عنوانَ لحظةٍ جديدة. هذا هو الجبل الصّغير الذي لم ينحدر.

تعلو الحجارة وتعلو الرّؤوس. تعلو الموسيقى الصّاخبة وتعلو الرّؤوس. أحمل على جسدي وشماً قديماً يعود إلى الأيّام وأنتظر على حافّته.

جاد تابت: الذّكريات الأولى

ليس في الذّكريات الأولى سوى صور متفرّقة، صور تتحرّك كمشاهد مختارة من أفلام سينمائيّة، تربطها محطّات الزّمن. 

صورٌ لذلك البيت القديم ذي الطّراز البيروتي التّقليدي، الواقع في شارع عبد الباسط فاخوري بين محلّتَي النّاصرة والخندق الغميق. بيت من طابقين كنّا نسكن في الطّابق الأرضيّ منه، المنظّم حول دار وسطى يدخلها النّور عبر واجهةٍ زجاجيّة تطلّ على الشّارع بقناطرها الثّلاث.

عند تشييده منتصف القرن التّاسع عشر، كان هذا البيت يتوسّط بستاناً فسيحاً يُشرف على قلب بيروت القديمة. لكنّ التّوسّع السّريع للعمران أدّى إلى ضمّ الهضبات المشرفة على المدينة، فشُقّت الطّرقات وأزيلت البساتين لتفسح المجال أمام نظامٍ للبناء أكثر تراصّاً وكثافة.

وقد شُقّ شارع عبد الباسط فاخوري ــ الّذي كان يربط الخندق الغميق بطريق الشّام ــ بمحاذاة الواجهة الرئيسيّة للبيت. وعندما استأجره أبي في منتصف الأربعينيات، كانت داره الوسطى تطلّ على الشّارع، تفصلها عنه مصطبة ضيّقة تتدرّج فيها بضع درجاتٍ تؤدّي إلى المدخل. وبقي من البستان القديم حديقة خلفيّة فيها بضع شجرات بلح كنّا نلعب تحتها خلال النّهار وتجتمع حولها العائلة بعد غروب الشّمس.

حائط حجري مرتفع كان يحيط بالحديقة من الجهة الخلفيّة، يفصلها عن الحي الداخلي الّذي كنّا نسمّيه "حارة المتاولة": مجموعة من البيوت المتراصّة المنتظمة حول الممرّات الضّيّقة والأحواش الداخليّة، تمتدّ لتتّصل بأحياء البسطا ورأس النّبع. وكان أولاد الحارة يتسلّقون الحائط أحيانًا فنتلاسن معهم ويرشقوننا بالحجارة وقناني الزّجاج الفارغة.

في سنوات الصّبا الأولى، كان هذا الحائط يمثّل بالنّسبة لي حدوداً تفصل عالم بيتنا الآمن عن العالم الخارجيّ المجهول. وحتّى سنّ المراهقة، ظلّ ينتابني شعورٌ من الارتياب العميق تجاه هذا العالم الذي كان يبدو لي محفوفاً بالمخاطر. إلى أن تعرّفتُ إلى أحد شبّان المحلّة، فاستقبلني في منزله وتجوّلتُ معه في دروب الحارة واكتشفتُ أسرارها، فصرتُ أقصدها لألهو مع رفاقٍ جدد أمضي معهم وقت الفراغ.

مرّت سنونٌ عديدة كان يبدو لي فيها الحيّ الذي نسكنه وكأنّه لن يتغيّرَ أبداً، فنادراً ما كانت إحدى العائلات تغادر الحارة أو تنتقل من منزلٍ إلى آخر. والدّكاكين القليلة كانت تعرض البضاعة نفسها سنة بعد سنة. فلم نكن نشعر بمرور السّنين إلّا عبر حتميّة الزمن المدرسي، الذي كان ينقلنا من صفّ إلى آخر.

«الثورة» ومشاريع التحديث الشهابيّة

غير أنّ وجه الحيّ بدأ يتغيّر إثر ثورة ١٩٥٨ والمباشرة بتنفيذ تخطيط جادّة بشارة الخوري. ورغم أنّ العلاقة بين هذين الحدثين قد لا تكون مباشرة، فقد ظلّا مرتبطين في ذهني حتّى الآن، وكأنّهما واقعة واحدة قلبت العالم الّذي كنّا نعيش فيه رأساً على عقب.

كان بيتنا يشكّل الحدّ الفاصل بين مواقع الدّرك المتمركزة في أعلى بناية العويني المطلّة على حديقتنا من الناحية الشّرقيّة والمتاريس التي أقامتها "المقاومة الشعبيّة" في الأحياء الدّاخليّة. وكان معظم التّراشق يحصل ليلاً، فنلجأ إلى غرفة أبي التي كانت تبدو لنا أكثر أماناً من غيرها، ونستيقظ باكراً لنخرج إلى الحديقة و"نحوّش" الرّصاصات الفارغة. وتحوّل الحيّ إلى خطّ تماس، يصعب فيه التجوّل والتّنقّل بسهولة من منطقةٍ إلى أخرى.

استمرّت الثورة لأشهر قليلة، بدا لنا وضع الحيّ من بعدها وكأنّه سيعود إلى حالته الطّبيعيّة. إلّا أنّ مجيء الحكم الشّهابّي الجديد ترافق مع تنفيذ مشاريع عمرانيّة كبرى، فما إن انتهت الثّورة حتّى تقرّر هدم جزء من "حارة المتاولة" لشقّ جادة بشارة الخوري، ثمّ تقرّر هدم الجزء المتبقّي منها بعد سنواتٍ قليلة لتنفيذ تخطيط شارع الاستقلال.

محلّ أزقّة الحارَة وأحواشها الدّاخليّة شُيّدت، بمحاذاة الشّوارع الجديدة، مبانٍ عالية لا شكل لها ولا طابع، وأزيل النّسيج العمراني للأحياء القديمة دون أن يُستبدل بنظامٍ حديث يؤمّن الحدّ الأدنى من شروط التّماسك المديني. فمشاريع السّتينيّات، الّتي هدفت إلى ربط أحياء المدينة ببعضها، مزّقت الوحدة الدّاخليّة لتلك الأحياء وبدّلت في طابع الأمكنة وترتيب الأوقات، لكنّها فشلت في إقامة وحدة مدينيّة بديلة.

فالتّحديث القسري الّذي حاول الحكم الشّهابي إدخاله لم يطَل أساس البنية السّياسيّة للنّظام الطّائفي ولم يتمكّن من المضيّ في إصلاح فقدان التّوازن بين المناطق وبين مختلف الطّبقات الاجتماعيّة. وأدّى تفكّك المجتمع الريفيّ التّقليدي تحت تأثير دخول الرّأسماليّة إلى ازدياد الهجرة الريفيّة نحو العاصمة، فتفاقمت حدّة التفاوت الاجتماعي وأحيطت المدينة بحزامٍ من البؤس ممّا أنذر بأنّ النّموذج المديني لبيروت قد دخل في طور الأزمة.

وقد أدّى فشل مشاريع التّحديث الشّهابيّة إلى التّفكّك التدريجي لحيّز المدينة ومن ثمّ إلى تفجيره.



الياس خوري: المحّاية الكبيرة (مقتطف من «الوجوه البيضاء»)

جثّة قرب تمثال حبيب أبو شهلا

هذه ليست قصّة، وهي لن تلفت نظر القرّاء بشكلٍ خاصّ، فالناس مشغولون في هذه الأيّام بقضايا أكثر أهمّيّة من قراءة القصص أو الاستماع إليها، والناس معهم كل الحقّ. لكنّ القصّة حدثت. 

والحقيقة أنّها لم تحدث هكذا، فقد قرأت في أحد الصّباحات خبراً صغيراً في الجريدة "جريمة قتل مروّعة في منطقة الأونيسكو"، ولا أعلم لماذا كلّما قرأت كلمة مروّعة تقفز إلى ذهني كلمة رائعة، فانطبعت العبارةُ في ذهني هكذا: جريمة قتل رائعة في منطقة الأونيسكو. قفزت عيناي عن هذه الجريمة الرّائعة لتستقرّ على صورة القتيل. رجلٌ في العقد الخامس من العمر، وآثار كدماتٍ على الصّدر العاري، وجروحٌ وثقوبٌ في الوجه. لم أتوقّف طويلاً أمام الصّورة، فأحلام اللّيل المرعبة تكفيني وأنا لستُ بحاجةٍ إلى كوابيس جديدة. حاولتُ أن أتذكّر فلم أتذكّر الاسم، ثمّ تذكّرتُ أنّني ربّما التقيتُ هذا الرّجل في مكانٍ ما. ثمّ قرأتُ الخبر، وكان الخبر المنشور إلى جانب الصّورة صغيراً جدّاً: "العثور على جثّة رجل مجهول الهويّة في محيط منطقة الأونيسكو في بيروت، قبل تمثال حبيب أبي شهلا، وعلى الجثّة آثار جروحٍ وكدمات وطلقات ناريّة، وقد أفاد تقرير الطّبيب الشّرعي أنّ الوفاة حدثت قبل ثلاثة أيّام". 

ثمّ وجدتُ نفسي أنساق وراء الخبر وأتابع أخبار هذه الجثّة. فأنا منذ أن كنت صغيراً وأنا معجب بشخصيّة حبيب أبي شهلا، فهو أحد صنّاع استقلال لبنان، ثمّ إنّ تمثاله هو التّمثال الوحيد لقادة الاستقلال الّذي لم يسقط في الحرب الأهليّة، تمثال رياض الصّلح سقط، وتمثال بشارة الخوري دمّر، ولم يبقَ إلّا حبيب أبو شهلا شاهداً على الاستقلال. وبالإضافة إلى ذلك، فأبو شهلا لم يكن شخصيّة عاديّة، والدّليل على ذلك هو أنّه مات بطريقةٍ غير عاديّة، إذ يروى أنّه مات وهو يضاجع امرأة.

***

قالوا لها إنّ الحرب انتهت

وفاطمة فخرو تقف أمام هذا الرّجل، وهو يتلفّت يميناً ويساراً كأنّه مرعوب، كأنّه ينتظر سكّيناً سوف تنغرس في رقبته. يتلفّت ويرفع يديه الإثنتين إلى الأعلى ويمزّق الصّور، وإعلانات السّينما. يمزّق الصّورة، يأخذها بين يديه بعد أن يقشّرها عن الحائط ويجعلكها، ثمّ يحيلها إلى نتفٍ صغيرة ويرميها في الهواء. يضع أصابعه العشر فوق الحائط كأنّه يستند استعداداً للرّكض، لكنّه لا يركض، يبقى جامداً في مكانه كأنّه ملتصقٌ بالحائط. معطفه الأزرق يتلوّث باللون الأبيض، والقبّعة فوق رأسه كأنّه يغنّي أو كأنّه يستعدّ للغناء. 

تقف أمامه متمهّلة، يجلس على الرّصيف، ويأخذ من جيب معطفه خبزاً ويأكل. يلتفت إليها.

- الله يخلّيك شربة ماء.

تدخل إلى الغرفة وتعود حاملةً قنّينة ماء. 

والشّوارع فارغة، لكنّ الحرب انتهت، كلّهم قالوا لها إنّ الحرب انتهت، ودخلت كلّ جيوش العالم إلى البلد من أجل إيقاف هذه الحرب. وهي حزينة، راحت على الّذي راح، الّذين ماتوا ماتوا، كانت تعتقد أنّ الحرب ستميت الجميع، ولن يبقى حيٌّ يُخبر، عندما سقط محمود أمامها بدمائه الّتي تنزف من كلّ أنحائه، اقتنعت بأنّ الجميع سيموتون، وهي أيضاً ستموت والأولاد سيموتون. محمود مات ولن تعودَ إلى هناك، لا تعرف أحدًا هناك، وهو لم يخبرها أين وضع المال الّذي باع به أساور تلك المرأة. لا مال ولا أقارب، والحرب انتهت، يعني ستبقى هكذا مع هذا البشير الحاراتي الّذي يتمقطع بها، ومع الاتّكال على الأستاذ نبيل، ومع الأولاد، وحسين الّذي يذهب ولا يعود، الزّيتونة مهدّمة، من أين العاهرات. لكن أين يذهب. هي لا تعرف ولا تجرؤ على السّؤال. 

كان يمشي منحني الظّهر، حذاءٌ مبلّلٌ بالكلس الأبيض، سطلٌ صغيرٌ وفرشاةٌ وقبّعة من الفلّين. ويمشي إلى جانب الحيطان. تقترب منه، يمشي، تسير إلى جانبه، لا يلتفت، يراها، يقف ثمّ يكمل سيره، لا يردّ السّلام. تقف وتقرّر أن تعودَ إلى البيت. يلتفت إلى الوراء، تراه من طرف عينها، يدنو منها، النّاس في الشّارع كأنّهم يركضون، ومزامير السّيارات وأصواتٌ ترتفع من كلّ مكان، وهو يقف، ثمّ يكمل سيره، وتعود هي إلى البيت، لا تشتري شيئاً، فهي ليست بحاجةٍ إلى شيء، تعود وتنتظر.

أخرجَ من جيب معطفه محاية صغيرة.

- انظري إلى هذه، سوف يعطوني محايةً كبيرة.

فتح يديه على وسعيهما. 

- كبيرة هكذا؟ 

- ومن سيعطيك المحاية؟ 

- هم، أنتِ لا تعرفين، كلّكم لا تعرفون، محّاية كبيرة لكنّها لا تمحو ما هو مكتوبٌ على الحيطان، تمحو كلّ شيء، أضعها على الحائط هكذا فيختفي الحائط، لا يتهدّم، لا ضجيج ولا أصوات ولا غبار ولا ركام ولا حجارة. 

أضعها على الحائط فيختفي الحائط وحده، ويختفي هكذا كما ترين، يختفي كما ترين. ونخرج، نكون ألف رجلٍ وامرأة، نخرج، ألف رجلٍ وألف امرأةٍ يخرجون، كلّ واحدٍ يحمل محايةً كبيرة ونمحو، نمحو الحيطان والبيوت والوجوه. لا يبقى هناك شيء، كلّ شيءٍ يختفي، أنتِ تختفين وأنا أختفي والمدينة تختفي والصّور تختفي، كلّ شيءٍ يختفي ويصبح أبيض، أبيض مثل بياض البيضة، مثل بياض العيون، مثل الأبيض. كلّ شيءٍ ينمحي، تسقط الأشياء هكذا كأنّها لا تسقط. والآن أحمل المحّاية، انظري، أنتِ لا ترينَ بوضوح، عيناكِ لا تريانِ بوضوح، أمّا أنا فأرى، أرى كلّ شيء. كلّ شيءٍ مثل كفّي، كفّي بيضاء، أنا طليتُها بالكلس الأبيض، لتصير بيضاء، كلّ شيءٍ مثل كفّي، لكنّكِ لا ترينَ كفّي، كفّي لا يراها أحد، كفّي مختلفة. أنا الضّابط وحولي الجنود، الجنود يخرسون في حضرتي. أمشي أمامهم فلا يجرؤ أحدٌ على التّنفّس، ثمّ أضرب أحدهم بقضيب الخيزران الّذي أحمله في يدي. لكنّكِ لا ترين يدي. الجنود هربوا، وأنا أضحك عليهم مساكين. هم لا يعرفون وأنتِ لا تعرفين، لا أحد يعرف الحقيقة، وأنا لا أعرف الحقيقة. لكنّهم سيعطونني إيّاها، وسنكون ألف رجلٍ وألف امرأة، هل تستطيعون تخيّل عددنا، وسنمحو ونموت. كلّ شيءٍ يموت، كأنّنا نموت،كأنّ كلّ شيءٍ يموت، كأنّ كلّ شيء.

جاد تابت: في الرابع من آب ١٩٨٢

كان ذلك في الرّابع من شهر آب سنة ١٩٨٢، وكانت الأحياء الغربيّة في بيروت منذ ما يقارب الشّهرين تحت حصارٍ أحكمه الجيش الإسرائيلي من البرّ والبحر والجوّ. في صباح ذلك اليوم استفاقت المدينة المحاصرة وهي تتعرّض لقصفٍ عنيفٍ من المرابض المنصوبة في المرتفعات المشرفة عليها من الجنوب والشّرق مترافقاً مع هجومٍ للدّبابات والزّوارق الحربيّة وغارات جويّة لطائرات الفانتوم والكفير.

المدينة تعيد تنظيم حيّزها الحضري

منذ أن بدأ الحصار كان على المدينة أن تعيد تنظيم حيّزها الحَضريّ كي تتمكّن من مجابهة هذا العنف المدمِّر. فالشّوارع العريضة الّتي شُقت منذ السّتينيات باتت تُشكّل نقاط ضعفِ تعيق حماية المدينة بوجه القوّات الغازية، فاقتضى إقفالها بإقامة الحواجز والسّواتر التّرابيّة والحفر والألغام.

الوظيفة البديهيّة لمثل هذه التّرتيبات هي طبعاً إعاقة تقدّم مدرّعات ودبابات العدو. لكنّ هناك وظيفة أخرى، وظيفة خفيّة، لها بُعدٌ رمزيّ. فالشّوارع والجادّات الكبرى مزّقت النّسيج القديم لأحياء بيروت التّقليديّة، فأصبح كورنيش صائب سلام يفصل مناطق المزرعة والمصيطبة وطريق الجديدة، وجادّة الاستقلال تشطر منطقتي الظّريف وكركول الدروز، كما أصبح كورنيش التلفزيون يبتر منطقة عائشة بكّار، وجادة بشارة الخوري تفصل منطقة رأس النّبع عن البسطا.

لقد كان إقفال هذه المحاور الكبرى بإقامة الحواجز والسّواتر التّرابيّة يهدف بشكلٍ رمزي إلى إعادة إحياء النسيج التقليدي للمدينة في ذاكرة سكّانها، هذا النّسيج الّذي مزّقته العمليّات الجراحيّة التي أُخضعت لها بيروت منذ السّتينيات.

نسيجٌ مفتوحٌ للسّكان لكنّه مغلقٌ للغريب والطّارئ. شبكةٌ من المربّعات لا نظامَ واضحاً للتوجّه فيها إلا للّذي يعيش في داخلها. تنظيمٌ دقيقٌ للحيّز، قائمٌ على شبكةٍ من الممنوعات والحقوق الممنوحة، يستحيل للغازي فكّ لغزها وفهم تركيبها فلا يستطيع إحكام سيطرته عليها. 

في هذا الجوّ المشحون، صدر عدد جريدة "السّفير" في الرابع من شهر آب وهو يتضمّن في صفحته الأولى على ما أذكر صورةً لتمثال حبيب أبي شهلا وقد اقتُلع من قاعدته وانغرز في رأسه عمودٌ حديدي. جثّة معدنيّة ملقاةٌ على مستديرة الأونيسكو وكأنها تمثيلٌ حرفيّ للمشهد الّذي كان الياس خوري قد وصفه قبل سنة من ذلك في كتابه "الوجوه البيضاء". 

وكأنّ الخيال يسبق الواقع، أوْ كأنّ الكاتب هو المجرم الحقيقيّ كما في قصص خورخي لويس بورغيس.

سقوط تماثيل الاستقلال

شكّل سقوط تمثال حبيب أبي شهلا المحطّة الأخيرة لعمليّة إزالة جميع رموز الاستقلال من ساحات بيروت خلال سنوات الحرب.

فتمثالا رياض الصّلح وبشارة الخوري سبقا حبيب أبي شهلا في السّقوط صحيّة العنف الّذي اجتاح ربوع المدينة.

كان تمثال رياض الصلح قد شُيّد في ساحة كانت تُعرف بساحة السّور أو عسّور. باحة على شكل مثلّث قائمة مكان سور المدينة القديمة على مقربةٍ من باب يعقوب في أسفل تلّة السرايا. 

على هذه الساحة، أقيمت النافورة الحميديّة التي أهداها مجلس مدينة بيروت للسلطان عبد الحميد الثّاني بمناسبة مرور خمسةً وعشرين عاماً على تولّيه الحكم. وبقيت النّافورة هذه تتوسّط السّاحة حتّى استُبدلت بالتّمثال البرونزي لرياض بك الصّلح الّذي صنعه النحّات الإيطالي مارينو مازاكوراتي والّذي شُيّد سنة ١٩٥٧ بُعيد اغتيال صاحبه في عمّان على يد مسلّحين ينتمون للحزب القومي السوري. ونُقلت النافورة بعد ذلك إلى حديقة الصّنائع حيث لا تزال هناك حتّى الآن.

أمّا تمثال الشيخ بشارة الخوري فقد تأخّر وضعُه عن شريكة أربعة عشر عاماً إذ لم يُزح السّتار عنه إلّا سنة ١٩٧١. وقد وُضع التّمثال صنع الفنان سميح العطّار ضمن نصب شُيّد على تقاطع شارع الاستقلال وشارع بشارة الخوري الّذي يحمل اسم صاحب التّمثال على مقربةٍ من بيتنا القديم.

لم يُتح لتمثال الشّيخ بشارة أن يعيش فترة استقرار طويلة إذ أصيب بقذائف بُعيد اندلاع المعارك على خطوط التّماس قبل أن يتمّ تفجيره بعبوةٍ ناسفة فيما بعد. 

أما تمثال رياض الصّلح، فقد أصيب هو الآخر بعبوةٍ ناسفة منذ اندلاع المعارك الأولى في الوسط التّجاري فنُقل ما تبقّى منه إلى قصره بالقرب من السفارة الكويتيّة سنة ١٩٧٥ وبعدها إلى دمشق إبان الاجتياح الإسرائيلي.

اختفاء تماثيل رجال الاستقلال من ساحات بيروت كان تعبيراً على أنّ نظام الدّلالات الرّمزيّة في الحيّز العام قد تبدّل جذريّاً خلال سنوات الحرب. فمنذ اندلاع المعارك الأولى في بيروت ربيع سنة ١٩٧٥، بُترت المدينة من وسطها وانهارت فجأةً بنيتها القديمة فانفجر حيّزها من الدّاخل وتطايرت شظاياه في كلّ مكان.

ومع انهيار سيطرة السّلطة المركزية، أقام أسياد المدينة الجدد مناطق نفوذهم فقسّموا الحيّز المديني إلى مجموعة مقاطعات مغلقة على بعضها البعض. وبلغ هذا التّشتّت في أواخر الثّمانينيات حدّاً انهار فيه انقسامُ المدينة إلى منطقتين شرقيّة وغربيّة فتفتّتت كلّ منطقة بدورها إلى مجموعة مقاطعات تُديرها مليشيات متحاربة.

في هذا الحيّز المتفجّر برز نظامٌ جديدٌ للدلالات انتشر في كافّة أنحاء المدينة. إذ كان لا بدّ لكلّ فريقٍ أن يحدّد مناطق نفوذه عبر إشاراتٍ تشهد على سيطرته وتفوّقه على الأرض.

فغطّت جدران المدينة صورُ القادة الأبطال والشّهداء الأبرار كما طُليت واجهات المباني بالشعارات الّتي تمجّد بطولات هذا الفريق أو ذاك: فلان مرّ من هنا، فليتان في كلّ مكان. والغريب في الأمر تشابه نظام الدّلالات هذا في كافّة المناطق، بمعزلٍ عن الانتماءات السياسية للفرقاء وبمعزلٍ عن اختلاف مضمون الرّسالة السياسية الّتي يدلّ عليها. فكأنّ مدى المدينة بأسره قد تحوّل إلى مدى فارغ، كمجموعة إشارات لم تعُد تُحيل إلى أيّ مدلول. وكأنّ جدران المدينة قد اتّخذت استقلاليّتها فانفصلت عن جسم المباني وتحوّلت إلى ملصقاتٍ دعائيّة قائمة بحدّ ذاتها.

لم يختفِ نظام الدّلالات هذا بعد انتهاء الحرب، بل استمرّ بوتائر متصاعدة كأنّ الحرب لم تنتهِ، فاحتلّ المشهد المديني بأسره حتى أضحى وكأنّه الشّكل الأسمى للتّعبير السياسي، وإن بمظاهره الأكثر ابتذالاً.

وإذا كانت تماثيل رجال الاستقلال قد أُعيدت تدريجيّاً إلى أماكنها بعد انتهاء الحرب، إلا أنّها اتخذت أشكالاً غريبة وكأنّها أضحت مجرّد كاريكاتور ساخر لرموزٍ لم يعُد لها أيّ دور سوى التّذكير بماضٍ ولّى.

فتمثال حبيب أبي شهلا الذي أُعيد إلى قلب ساحة الأونيسكو يمدّ يديه إلى الأمام بحركةٍ غريبة وكأنّه يريد أن يُبوِّل. وتمثال بشارة الخوري يبدو أنه مصابٌ بتشويه في جسمه إذ هو يوحي بشخصيّات الفنّان الكوميدي الكولومبي فرناندو بوتيرو أكثر ممّا يوحي برصانة أبطال الاستقلال. 

فقط تمثال رياض الصّلح أُعيدت إليه عظمته السّابقة، إذ يقف معتصماً على قاعدته وسط السّاحة التي تحمل اسمه. لكنّ الشباب الّذين اجتمعوا في الساحة خلال الصّيف الماضي احتجاجاً على هريان الطبقة السياسيّة ألبسوه سطلاً من الزّبالة فوق طربوشه فكان عليه أن يدفع ثمن تعفّن النّظام السياسي الّذي ساهم في تأسيسه.



الياس خوري: مقتطف من سينالكول

قرّر كريم أنْ لا جدوى من بقائه في بيروت. كان العمل في المستشفى بطيئاً، والمهندس أحمد الدَكيز لا همّ له سوى ملاحقة طلب الهجرة إلى كندا، فيما يواصل هذياناته عن بيروت الجديدة.

وكريم يشعر بالوحدة في هذه المدينة المغطّاة بالغبار. بدت له بيروت مدينة رماديّة في عريها، فالباطون المسلّح الّذي صنع غابةً من الحجارة المتراكبة، بدا كمرضٍ جلديّ من كثرة البثور الّتي نبتت عليه.

كلّ شيءٍ مريضٌ هنا، فكّر الطّبيب الآتي من هجرته الفرنسيّة.

وأنا أيضاً مريض، يجب أن أهرب قبل أن ينتشر جذام المدينة على جلدي وروحي، وأصير ملتصقاً بالمكان، لا أستطيع مغادرته ولا أريد البقاء.

ضحك طويلاً وهو يقرأ مقالاً لروائي لبناني في جريدة "النّهار"، قال فيه إنّ "لحظة الفرح الوحيدة الّتي يعيشها اللبنانيّون هي في الطّيارة. تشعر في بيروت أنّك تختنق، فتقرّر السّفر إلى باريس، ولحظة ركوبك الطّيارة تشعر بسعادة من أطلق سراحه من السّجن، لكن بعد أيّامٍ قليلة يستبدّ بك الحنين إلى بيروت، وتشعر أنّكَ لم تعد تستطيع الابتعاد عنها، فتكتئب، ولا يزول اكتئابكَ إلا في الطّيارة الّتي تُعيدك إلى لبنان. اللبناني كائنٌ طائر، لا يفرح إلا في الفضاء".

ضحك كريم لأنّه أحسّ أنّه على وشك السّقوط في هذه المصيدة اللبنانيّة الّتي تلغي العلاقة بالمكان، وتحوّل الفرد غريباً في كلّ الأمكنة. وفهم أنّ غراميّاته مع غزالة ومنى وشغفه الأخرس بهند، هي أعراض هذا المرض الّذي يجعله غير قادرٍ على تحديد وجهة عواطفه، كما يجعله عاجزاً عن الكلام.

وأخيراً جاء هذا المهندس غريب الأطوار، الّذي يتّصل به كلّ يوم، مدّعياً أنّه يعمل، لكنّه كان يشبّح، ويهيمن على المستمعين إليه بحديثه المتواصل عن إعادة إعمار المدينة القديمة في بيروت بعد تدميرها.

التدمير في سوليدير

كان هذا المهندس الثّلاثينيّ، الّذي قالت زوجته إنّه من أصولٍ إفرنجيّة غامضة، مشغوفاً بمشروع سوليدير، وهي الشّركة العقاريّة الّتي أسّسها الملياردير رفيق الحريري من أجل إعادة إعمار وسط بيروت الّذي هشّمته الحرب. هذا بالطّبع قبل أن يصير الحريري رئيساً للوزراء، ثمّ يدخل التّاريخ باغتياله الوحشيّ في 14 شباط عام ٢٠٠٥.

كان الدَكيز رئيس وحدة التّدمير، أي المهندس الّذي وضع مخطّطات تدمير جميع المباني الّتي تحيط بساحة الشّهداء، تمهيداً لشقّ شارعٍ بعرض جادّة الشانزليزييه في باريس، يصل وسط المدينة بناطحتي سحابٍ تحتلّان الواجهة البحريّة، أطلق عليهما المشروع التّوجيهي للمدينة اسم برجي التّجارة العالميّة، وذلك تيمّناً بالبرجين الشّهيرين في مدينة نيويورك اللذين سيسقطان في الحادي عشر من أيلول عام ٢٠٠١، بعد العمليّة الانتحاريّة الّتي نفّذتها القاعدة، بواسطة طائرات

مدنيّة كان يقود إحداها مهندس مصري يُدعى محمّد عطا.

لن ينسى كريم كيف ارتعش وجه المهندس اللبناني بلذّة الانتصار وهو يصف مخطّط تدمير مبنى سينما ريفولي، الّذي كان يحجب مشهد البحر عن وسط المدينة، يومها خطر في باله أن يتلفنَ لمنى ليقولَ لها إنّ زوجها مجرم.

تكلّم الدَكيز عن المشروع بسرعة، ثمّ قاد ضيفه إلى الكومبيوتر الّذي وضع فيه برنامجاً يشبه الألعاب الإلكترونيّة. أدار المهندس الكومبيوتر فظهرت بيروت بالأعشاب والشّجيرات الّتي نبتت في شقوق حيطانها، كمدينة أشباح، أو ديكورات اصطناعيّة تصلح كي تكون مدينةً لسينما الحروب في العالم.

قال مارون بغدادي إنّ المخرج الألماني فولكر شلوندورف اكتشف في فيلمه Circle Of Deceit القيمة التعبيريّة الهائلة لديكور الخراب البيروتي، لكنّ اللبنانيّين بهدلوه عبر عشرات الأفلام الّتي حوّلته من مكانٍ يختزن وحشيّة الإنسان إلى كليشيهاتٍ بصريّة مبتذلة.

قال كريم إنّ هذا المشهد يصلح ديكوراً للحظة القيامة ونهاية العالم. وكان يفكّر بالوصف المروّع الّذي قدّمته غزالة للنّهاية كما تخيّلتها جدّتها غزالة الأخرى، لكنّ الدَكيز بدا وكأنّه لم يسمع، إذ كان مشغولاً بتزبيط عناصر برنامجه الإلكترونيّ قبل أن يبدأ لعبته الّتي سيصفها كريم لشقيقه بعبارة: تدمير المدمّر.

"انظر ماذا سأفعل"، قال الدَكيز.

وفجأةً بدأت الأبنية تتهاوى واحدةً بعد أخرى. يغيب المبنى خلف كتلةٍ من الغبار قبل أن يسقط وقد تفتّت في كومةٍ من الحصى والرّمال. أخذ المهندس في تدمير المباني في شكلٍ منهجيّ، بدأ من ساحة الدّباس فدمّر مقهى لاروندا، وسينما دنيا، ثمّ انعطف إلى سينما المتروبول، وتوغّل إلى اليمين فدمّر مبنى الشّرطة الّذي كان يُسمّى في الماضي السّرايا الصّغير، ثمّ دخل في شارع المتنبّي، هناك رأى كريم لافتة النيون على شرفة الطّابق الثّاني من مبنى بدا وكأنّ الحرب لم تمسّه، وقرأ اسم ماريكا مكتوباً بالحروف اللاتينيّة، "لا أوعا تدمّر بيت ماريكا"، قال كريم، لكنّ المهندس لم يسمح له بمتابعة عبارته، إذ تهاوى المبنى العثماني الجميل على الشّاشة.

"شو هالجنون" قال كريم، "حدا بدمّر ذاكرته؟".

"استنَّ شويّ"، قال الدَكيز، "سينما ريفولي بدها تركع، ليش الكومبيوتر عم يعمل هيك، مع إنّي حطّيت كمية متفجّرات بتنزّل مدينة. هالسّينما متل الشّلكّة مسكّرا البحر كأنّها ما بدها توقع".

"بيكفّي"، قال كريم.

"وادي أبو جميل".

"رح تدمروا الوادي كمان؟".

"رح ينزل على الأرض".

"وسوق الطّويلة؟".

"قال سوق الطّويلة قال"، شو هالأسواق التّافهة يلّي صارت خراب وزبالة، كلّه انحمى(؟؟؟؟انمحى)، وبدنا نعمّر مدينة حديثة، مولز، متل بالسّعوديّة ودبي وأميركا".

"والذكريات؟".

"قال ذكريات قال، هيدي بلاد بلا ذاكرة، لشو الذّاكرة، ذاكرة القرف والجرب c'set fini، المهندس عدنان قال هلّق وقت هندسة المتفجّرات والتّدمير، وأنا مكلّف بهالمهمّة، ولمّا تفرّج عدنان على المشروع اندوخ، قال كان لازم نفرجيه لراشد الله يرحمه، كانوا زقّه عقلاته من الفرح".

فهم كريم من أحمد الدَكيز أنّ المهندسَين عدنان وراشد كانا مسؤولين عسكريّين خلال الحرب. عدنان صار مقاولاً نجحت شركة سوليدير في استقطابه للعمل معها، وراشد مات في معركة الفنادق عام ١٩٧٦. قاتل الدَكيز حين كان في التّاسعة عشرة مع منظّمة العمل الشّيوعي، ثمّ ترك المنظّمة كي يلتحق بمنظّمةٍ ماويّة كانت ترى في الحرب الأهليّة وسيلة لإحداث تغييرٍ جذريّ في لبنان والمنطقة، وهو يشرف اليوم على تدمير ما عجزت الحرب عن تدميره.

"هيدا جنون"، قال كريم.

"لا يا حكيم، هيدا يلّي شفته بعيونك اسمه illusion d'optique، يعني خدعة بصريّة، اليوم صار كلّ شي هيك، مجرّد خدعة بصريّة، ما هو لبنان كلّه على بعضه مش أكتر من خدعة بصريّة، ونحن شو عم نعمل فكرك؟ عم نعمل هلّق يلّي ما قدرنا نعمله بالحرب".

"بس إنت شيوعي؟".

"طبعًا شيوعي".

"وعم تشتغل عند مشروع رأسمالي".

"الله يخلّيك بلا هالحكي التّفنيص، أنا بدّي أعمل قرشين وهاجر على كندا، وإنسى".

قال إنّه يريد أن ينسى، فلم يجد كريم ما يُجيب به، معه حقّ أن ينسى، كلّنا نريد أن ننسى، لكنّ كريم كان مقتنعاً أنّ شرط النّسيان هو حماية الذّاكرة، يجب أن تُحفظ الذّاكرة في مكانٍ ما، كي نستطيع أن ننساها ونفتح صفحةً جديدة. أمّا حين ندمّر الذّاكرة بهذه الطّريقة الوحشيّة، فهذا يعني أنّنا نريد للذّاكرة أن تُعشّش في لاوعينا، وهكذا سوف تتجدّد الحرب كلّما اعتقدنا أنّها انتهت.

جاد تابت: ما لا يمكن أن ننساه

بالإمكان قراءة قصّة إعادة إعمار وسط بيروت على ضوء ملاحظة خورخي لويس بورغيس في كتاب الرّمل: "إن كان هناك شيءٌ لا يُمكن لنا أن ننساه، فلا نستطيع بعد ذلك التّفكير في شيءٍ آخر". 

منذ حوالي ربع قرن، عندما قامت مجموعة من المثقّفين، من بينهم عاصم سلام والياس خوري وحضرة جنابي بنقد المنحى التّدميري لمشروع إعادة إعمار وسط بيروت، اعتقد البعض أنّ نقدنا كان ينبع من حنينٍ للماضي ومطالبةٍ بإعادة الوسط إلى ما كان عليه قبل الحرب.

وكأنّنا كنّا نخفي وراء كلامنا الثّوري منحًى رجعيّاً متخلّفاً يتجاهل التّحوّلات التي أحدثتها الحرب، كما يتجاهل طموح المجتمع لطيّ صفحة الماضي والتّطلّع نحو المستقبل.

لكنّ الحقيقة كانت عكس ذلك.

إذا كنّا قد انتقدنا المنحى التدميري لمشروع سوليدير فليقيننا أنّه، بسبب هذا التّدمير، سيتحوّل الوسط القديم إلى شبحٍ ينتاب عمليّة الإعمار. فتُصبح علاقتنا بذاكرة المدينة علاقةً مرضيّة تمنعنا من صوغ تصوّرٍ مستقبليّ متحرّر من كوابيس الماضي. 

بعد ربع قرنٍ من الإعمار، يُمكننا القول إنّ ما توقّعناه قد حصل فعلاً إلى حدٍّ بعيد.

في صيف عام ١٩٩١ قُمنا مع الياس خوري برحلةٍ في ربوع وسط بيروت قبل بدء عمليّات التّدمير. الصّور الّتي التقطتُها حينذاك تُظهر أنّه، بالرّغم من الدمار الّذي خلّفتْه الحرب، كانت بنية المدينة لا تزال قائمة: ساحة الشّهداء مع مبنى الريفولي. المعرض والصّيفي، حيث توقّف الياس طويلاً أمام مبنى مريكّا سبيريدون. الأسواق وساحة الدّباس حيث مسرح شوشو، وحيّ ادي(إدي أم وادي؟؟؟؟) أبو جميل... 

الّذي اكتشفناه خلال هذه الرّحلة الّتي دامت يومين كاملين، هو أنّ وسط بيروت كان له طابعٌ مركّب، تتشابك فيه الأنماط الهندسيّة والمراحل التّاريخيّة: أحياءٌ تعود للعصر العثماني وأخرى لعصر الانتداب، مبانٍ تاريخيّة تعود للقرن السّابع عشر وأخرى حديثة.

في أساس مشروع سوليدير ذاكرةٌ انتقائيّة، نصّبت نفسها حاكماً مطلقاً ففصلت الحَبَّ عن الزّؤان وانتقتْ ما هو جديرٌ بالبقاء وما سيسقط في غياهب النّسيان.

شبح الأطراف المبتورة

فبالإضافة إلى الكنائس والجوامع والمصارف (إذ يبدو أنّ المصارف في لبنان تُعتبر أماكن مقدّسة مثلها مثل دُور العبادة)، وبالإضافة إلى الأحياء التي أعيد بناؤها إبّان عصر الانتداب الفرنسي على أنقاض بيروت القديمة (أي أحياء المعرض ومنطقة فوش واللنبي). بالإضافة إلى ذلك، اختارت الذّاكرة الانتقائيّة الحفاظ على بعض المباني المنفردة الّتي تعومُ وحدها في فراغ المدينة المدمَّرة.

لم يبقَ مثلاً في حيّ الغلغول المتاخم لساحة رياض الصّلح سوى مبنى وحيد طُلي باللون الزهري فبات يُشبه كعكة عيد، ينتصب وحده بين الأبراج الّتي لحظها المشروع بغية تأمين الاستثمارات المربحة.

هذا هو الحال أيضاً في معظم الوسط الجديد، حيث اقتلعت الأبنية المعزولة الّتي نجت من الدّمار عن النّسيج الّذي كان يحويها وقُطعت الجذور الّتي كانت تربطها بهذا النّسيج فأضحت كأجسامٍ خرقاء، لا تتجانس مع الإطار المدينيّ الجديد الّذي بُني حولها.

لماذا اختارت الذاكرة الانتقائيّة الحفاظ على هذه الأبنية المتفرّقة المبعثرة هنا وهناك وكأنّها سقت سهواً في سلّة الرّقيب؟

أهي مجرّد تعبير عن عقدة ذنب شبيهة ببقع الدّم على أيدي ليدي ماكبث؟

هناك ظاهرة يُسمّيها الأطباء وهْمَ الطّرف المبتور أو شبحَ الطّرف المبتور تتمثّل في آلامٍ يشعر بها الأشخاص الّذين تعرّضوا لبترِ أحد أعضائهم كاليد أو الرّجل. 

سبب ظهور هذه الأعراض غير واضح، إذ لا يأتي الألم أو الإحساس ممّا بقي من العضو بعد البتر إنّما من الجزء الّذي لم يعد موجوداً.

ويُفسّر الأطبّاء أنّ هذه الآلام تأتي من الدّماغ أو من الحبل الشّوكي اللذين يشعران بفقدان الإشارات من الطّرف المفقود، فيُحاولان التّكيّف مع هذا الانفصال بتحفيز إشاراتٍ وهميّة تتفاعل أحياناً مع الأطراف الاصطناعيّة. 

يبدو أنّ مشروع إعادة إعمار وسط بيروت يشكو من الظّاهرة الغريبة. 

فمشروع "صيفي فيلدْج" مثلاً الّذي بُني على أنقاض سوق النّجارين، قد اتّخذ قناعاً تراثيًّاً عبر تعميم القناطر والأشكال الهندسيّة المستوحاة من لغةٍ تقليديّةٍ خياليّة دون مراعاة النّسب ولا أبسط قواعد التّناسق المعماري.

هذا الاستهتار بمبادئ الأمانة للتّراث يترافق مع ظاهرةٍ اتُبعت في معظم الأبنية الّتي لم تُدمّر كلّيّاً إذ تمّت المحافظة على الواجهات الخارجيّة لتلك الأبنية وحُوّلت تلك الواجهات إلى أقنعة تقام وراءها إنشاءاتٌ جديدةٌ لا علاقة لها بالمبنى الّذي دُمّر. فشبح المدينة القديمة أصبح ينتاب واجهات العمارات الجديدة.

كيف يتجلّى شبح الأطراف المبتورة هذا في المشروع التّجاريّ الّذي شُيّد على أنقاض أسواق بيروت؟ 

إذا كان أصحاب المشروع قد نظروا في لحظةٍ معيّنة في إمكانيّة إعادة بناء الأسواق ودعوة التّجار القدامى للعودة إليها، إلّا أنّ هذا الاحتمال سريعاً ما طُوي واستُبدل ببناء مشروعٍ تجاريّ على شكل «مول» لم يحافظ على شيءٍ من نظام الأسواق القديمة. وبالرّغم من ذلك، فإنّ شبح الأطراف المبتورة عاد للظّهور من خلال الإصرار على تسمية المول الجديد: "أسواق بيروت". إنّه فعلاً لأمرٌ مضحك أن يُقارن هذا المكان الّذي لا يختلف عن أيّ مجمّع تجاري في العالم بالأسواق التي دُمّرت. لكن يُصبح الأمر مخزياً عندما تُسمّى أجنحة المول بأسماء الأسواق القديمة: سوق أيّاس وسوق الطويلة وسوق الجميل وسوق أرواد..

ربّما أدركت شركة سوليدير فداحة المفارقة هذه، فقرّرت السّماح لسوق الطّيب مرّة في الأسبوع بإشغال المساحة القائمة بين المجمّع السينمائي الجديد والمركز التجاري قيد الإنشاء وذلك بغية استرجاع، ولو لوهلة، عجقة الأسواق القديمة وازدحامها، بعيداً عن الجوّ المعقّم للمول الجديد.

مشاريع التّنظيم المدني تُعطي المدن شكلاً من أشكال الدّيمومة. فهي تشهد على سيرورتها من خلال تحديدها لاحتمالات تطوّرها المستقبليّ كما تُظهر فيها هذا الجزء الغامض الّذي يرتسم ضمن حيّز مائع، يفصل عالم الخيال عن عالم الحقيقة.

مراحل إعادة الإعمار وأوهامها

لا بدّ إذن من استرجاع المراحل الّتي مرّ بها مشروع إعادة إعمار وسط بيروت لاستكشاف التّصوّرات الضمنيّة التي تكمن وراء الخيالات الهندسيّة الّتي اتُّخذت على الأرض وعلاقتها بشبح المدينة المُدمَّرة.

المرحلة الأولى للمشروع بدأت فور عقد اتّفاق الطّائف وامتدّت حتّى سنة ١٩٩٣. في هذه المرحلة، كان المشروع مشحوناً بنشوة البدايات يتصوّر مدينةً جديدة لا علاقة لها بالوسط القديم، تطمح إلى منافسة دبي كمركزٍ تجاريّ معولم. 

لكن سرعان ما اصطدم المشروع بمعارضة داخليّة عنيفة كما اصطدم بتراجع موقع بيروت المالي خلال سنوات الحرب وصعوبة العودة إليه في مستقبلٍ قريب. 

المرحلة الثانية بدأت نهاية ١٩٩٣ وتمثّلت بتغييرٍ في توجّهات المشروع نحو إبراز عوامل التّواصل مع الوسط القديم والتّأكيد على خصائص بيروت المميّزة كمدينة متوسّطيّة تتميّز عن الخليج العربي.

وقد تبنّت سوليدير في هذه المرحلة شعار "مدينة عريقة للمستقبل" تأكيداً لهذا التّصوّر الجديد. وفي الحقيقة فقد تأسّس هذا التّصوّر إثر اتّفاقات أوسلو والمراهنة على الدّور الذي يُمكن أن تلعبه بيروت في الشّرق الأوسط الجديد.

سرعان ما انهارت هذه الآمال فدخل مشروع سوليدير في أزمةٍ حادّة تجلّت في هبوط الأسهم وتوقّف البيع وتسريح الجزء الأكبر من العاملين في الشّركة. لكنّ أحداث الحادي عشر من أيلول في نيويورك جاءت لتنقذ المشروع وتؤسّس لتصّور جديد قائم على نموذج مونتي كارلو يستقبل أثرياء المنطقة الّذين باتوا يتردّدون على التّوظيف العقاري في الغرب، فيُقدّم لهم خدمات السّكن الفخم واللهو والتسلية تماشياً مع تخيّلات بيروت الستينيّات.

دخل هذا النموذج بدوره في أزمةٍ حادّة بسبب أحداث سنة ٢٠٠٧ في بيروت والاعتصام الّذي شلّ الحركة في الوسط التجاري، إلى أن أتى الحلّ بعد اتّفاق الدّوحة عبر انفتاح سوليدير على استثمارات جديدة. 

فإذا بقيت الاستثمارات في سوليدير إلى حدّ بعيد قبل سنة ٢٠٠٨ حكراً على فئةٍ واحدة، أي جماعة ١٤ آذار، انفتحت بعد ذلك بشكلٍ واسع لتستقبل توظيفات جماعة ٨ آذار. هذا ما يفسّر أنّ وزير الثقافة العوني قد سمح بتدمير موقع سبق الخيل الروماني في منطقة وادي أبو جميل، كما سمح بتدمير المرفأ الفينيقي في الزيتونة وذلك تسهيلاً لتنفيذ مشاريع استثماريّة في هذه المواقع. وهذا ما يُفسّر أيضاً أنّ جميع الفرقاء السياسيين اجتمعوا في لائحةٍ واحدة لانتخابات بلديّة بيروت تحت رئاسة.. المدير العام لشركة سوليدير.

«كلّن يعني كلّن!».

الياس خوري: «عين المريسة» تكتسب اسمها (مقتطف من رحلة غاندي الصّغير)

كان أبو عبّاس اليتيم، يجلس طيلة النّهار على مصطبة مرفأ الصّيّادين في "عين المريّسة" بالشّورت والقميص قصير الأكمام، صيفاً، شتاءً، لا يتغيّر، كأنّه لا يبرد. ويعرف كلّ النّاس. "كلّهم اصدقائي" قال لأليس. قال لها إنّه لا يشتغل شيئاً. في الماضي كان يشتغل صيّاداً، أمّا الآن فلا شيء. يجلس فيأتيه الشّغل، يجلس لأنّه لا يحبّ الشّغل، فيأتي الشّغل وحده. أليس لم تحبّه في بادئ الأمر. جاء عدّة مرّاتٍ إلى ملهى "شاهين"، كان يجلس في الصّفّ الخلفيّ وينتظرها، وعندما تنتهي من جميع الزّبائن تراه واقفاً أمامها، ويقول "يا عيني عالجمال، يلّله". لم تكن أليس تذهب معه، تنظر إليه كأنّها لا تراه وتمشي. وكلّ يوم، كانت هذه الـ"يلله"، تنتظرها على باب "شاهين". وبعد أسبوعٍ أو شهر، لم تعد أليس تذكر، وهذا ليس مهمّاً على أيّة حال، وجدت نفسها معه.

قالت أليس إنّها حين كانت معه، لم تكن معه. كانت عيناه صغيرتين كحبّتي عدس، وجبينه عريضاً، ويداه كبيرتين كبلاطتين. يأخذها إلى غرفته ويُجسلها في الخارج أمام المصطبة، يضع سلّة الفاكهة أمامها ويتحدّث. كانت أليس ترتجف من البرد الّذي يفترس عظامها، لكنّه كان يجلس جامداً كأنّه لا يشعر بالبرد. ثمّ يذهب وإيّاها إلى وراء الغرفة، إلى باحةٍ صغيرةٍ مليئةٍ بالشّموع، وهناك يبدأ في مغازلتها. كانت الباحة مسوّرة، والشّموع نصف الذّائبة تملأ المكان، ورائحة بولٍ وعفن. هناك كان يأخذها واقفة، وهي لا تعترض تتركه يقترب ويبتعد ويتمايل كأنّه ظلٌّ يتماوج وسْط أضواء الفجر الشّاحبة، الّتي تشبه الباذنجان، ثمّ يدخلان إلى الغرفة وينامان.

قالت أليس إنّها لم تكن تحبّه.

"الحب بعدين، بعد ما تخلص الحكاية، الواحد بيعرف إذا كان يحب أو ما كان يحب. بالحكاية بضيع الواحد. هلّق بعرف، طنّوس على راسي، بس هيدا، اليتيم، لا، ما كنت حبّه، بس شي تاني".

والشّيء الثّاني هو البحر. قالت أليس إنّه كان يعطيها شعوراً بالبحر. رائحته كرائحة البحر. هو قال لها إنّ البحر ليل. وكان يسبح في بحر الليل، يخلع قميصه ويقفز، وهي تراقبه كيف يضيع في بحر الليل. تقف خلف السّور الّذي تغطّيه الشّموع، وتنظر إلى البحر، فترى الليل. ثمّ حين يخرج من الماء والملح، يأخذها من جديد، ويتركها ترتعش بالماء والرّغبة الّتي لم تكتمل.

الراهبة الطالعة من البحر

كانت تراه في النّهار محاطاً بالسّيّاح والفضوليّين. يدخل إلى غرفته، ويُخرج منها دفتراً قديمًا مليئاً بالكتابات. يقول إنّ تاريخ "عين المريّسة" في هذا الكتاب. يقف أمام الكاميرات وهو يدلّ الصّحافيّين والأجانب على الشّموع المطعوجة ونصف الذّائبة. ولا يملّ من رواية حكاية الرّاهبة الإيطاليّة.

الرّاهبة، قال.

كانت السّفينة تغرق في عرض البحر، ويشير إلى الأفق البعيد، والنّاس ينظرون إلى أبعد نقطةٍ يبتلعها الأزرق المستدير. غرقت السّفينة وخرجت منها الرّاهبة، خرجت وحدها، جميع النّاس رأوها، فرأوا قبّعتها المثمّنة البيضاء، وهي تطفو فوق سطح الماء. كانت تطفو كأنّها صندوقٌ أبيض، وبدأت الرّاهبة في الظّهور. كانت لا تسبح، كانت كأنّها تمشي، أي والله كانت تمشي، راهبة إيطاليّة تمشي فوق الماء. 

ارتفعت القبّعة البيضاء، وبدت الرّاهبة في ثيابها الممزّقة، والنّاس يقفون هنا، ويشير إلى مكان وجود الشّموع، النّاس هنا، والرّاهبة تأتي إلى هناك، من تلك النّقطة البعيدة، كأنّها تمشي. أنا، يقول أبو عباس، كنتُ صغيراً، أبي رآها، ورحمة ترابه، أبي قال إنّها مشت، وحين وصلت إلى هنا، إلى حافّة البرّ، ركض النّاس، أحدهم جلب شرشفاً ابيض، التفّت به والتصق الشّرشف على جسمها. وأقامت هنا، لم تطلب شيئاً، وجلست هنا، وهنا لم يكن سور، كانت الأرض رملاً وصبّيراً، ركعت قرب الصّبّير وبدأت تصلّي. ثمّ بنتْ لنفسها كوخاً وصارت تعيش بين النّاس، كأنّها طيف. قيل إنّها بنت مدرسة، والله أعلم، وكانت تذهب إلى فوق لتشرب، إلى النّبع الّذي كان هناك، ويشير بيده إلى لا مكان، ولا أحد يسأله ماذا جرى للنّبع الآن وأين هو، وهناك بنت مدرسة، كانت تعلّم الأولاد وتحفظ القرآن، فصار اسمها الرّيسة، وصار اسم المنطقة عين الرّيسة، وتحوّل الاسم بفعل التّحوير والزّمن إلى "عين المريسة".

كلّ هذا مكتوبٌ في الكتاب. هذا هو الكتاب الّذي ورثته عن أبي. تستطيعون أن تقرأوه. يضبّ الكتاب، ويقف أمام الشّموع ويبتسم.

وهذه الشّموع، نسيتم الشّموع يقول، هذه شموع النّذور، حتّى الآن، يأتي النّاس ويضيئون شموعاً للرّيسة الّتي ماتت هنا، ودفنت هنا. غالبيّة الّذين يأتون من النّساء، يركعون ويطلبون من الرّيسة ويضيئون الشّموع، وهي تستجيب.

أبو عبّاس، يروي حكايته كلّ يوم، وأليس لم تكن تصدّق شيئاً منها.

"أنت نصّاب عالمي"، قالت له.

"أنا نصّاب، هيك بدهم، بدهم أخبار، من وقت ما صارت المنطقة منطقة بارات صار لازم يكون في تاريخ، كلّهم بدهم يعرفوا التّاريخ، وشو هو التّاريخ؟ التّاريخ هو العجايب. من أيّام سيّدنا آدم، عليه السّلام، والتّاريخ عجايب".

"بس إنت بتكذب عليهم".

"إذا بكذب بصدّقوا، وإذا ما بكذب ما بصدقوا، بس أنا ما بكذب، أنا بحكي يللي سمعته، ويللي ما سمعته بحقيقي، لأنّي سمعته، مش هيك".

"طبعاً مش هيك، قل لي شو كان اسم الرّاهبة؟" سألتْ أليس.

"كان اسمها الرّيسة، وكلّ النّاس بتعرف".

"مفهوم"، قالت أليس.

كان أبو عبّاس يعيش حكاية الرّيسة، ويقال إنّه كان يتاجر بالحشيش. قال لأليس مرّة إنّه يلحق القرش الفايش، و"القرش ما بفوش إلا عالحشيش".

الياس خوري: على شاطئ الرملة البيضا (مقتطف من يالو)

كان الكوهنو يأخذ عائلته الصّغيرة إلى الشّاطئ في انتظار الرّوح الّذي يهبّ حيث يشاء. وعلى شاطئ الرّملة البيضاء، وبعد أن يليّل الليل، وتنتشر النّجوم الصّغيرة الّتي تخترق الغيوم فوق البحر، ينحني الكوهنو على الماء ويشرب، يمشي قليلاً وسط مياهٍ باردة وأمواجٍ مرتفعة، يمسك يد حفيده بيمْناه ويد ابنته بيسراه، ويتقدّمون في البحر. وعندما ترتفع المياه إلى خصر الطّفل، ينحني الكوهنو، يتمتم كلماتٍ غريبة بلغته الغريبة، ثمّ يملأ يديه بالماء ويشرب. يسقي الأمّ أوّلاً، ثمّ ابنها، ثمّ هو. وبعد أن يشرب كلّ واحدٍ منهم ثلاث مرّات، يمشون إلى الوراء تراجعاً. وحيث كانت يد يالو تفلت من يد جدّه، ويبرم الطّفل راكضاً إلى الشّاطئ وهو يرتجف بالبرد، كان الكوهنو يركض خلفه ويعيده إلى الماء.

"ما لازم تدير ضهرك للبحر يا ولد، حدن بدير ضهرو للرّوح؟".

وحين يصل الثّلاثة إلى الشّاطئ اليابس بالرّمل، تفتح الأمّ شنطتها وتُخرج منشفةً كبيرةً بيضاء، تنشّف بها جسم يالو بعد أن تجبره على خلع بنطلونه، وتعطيه بنطلوناً نظيفاً، ويصير الولد أزرق بالبرد والخوف وطعم الملح الّذي يحتلّ لسانه وأحشاءه.

"الميْ صارت حلوة وطيبة"، يقول الكوهنو.

"آمين"، تقول الأمّ.

"آمين" يقول يالو، منتظراً حبّة راحة الحلقوم الّتي يمتزج سكّرها النّاعم بخشونة لسانه المالح.

تقف غابي على الشّاطئ، بين يدي والدها، وتبدأ بفكّ كوكينتها. تنزع الدّبابيس من شعرها، وتضعها على حرام صوفيّ فرشته على رمل الشّاطئ، تأمر يالو بالجلوس على الحرام، وتقف في انتظار مشط الكوهنو.

يذهب الكوهنو إلى الماء، ويضع بين راحتيه كمشةً من ماء البحر، يرشّها على شعر ابنته، ثمّ يبدأ في تمشيطها. ينسدل الشّعر الطّويل على الكتفين، ثمّ يمتدّ إلى الظّهر ويسقط على الخصر قبل أن يصل إلى الكاحلين.

في ليلة الغطاس، يوم معموديّة المسيح المخلّص، كانت غبريال ابنة أفرام، تفكّ شعرها وتفْرشه تحت ضوء الليل من أجل أن يتلوّن بالأعجوبة. ويبدأ الشّعر الطّويل المليء بالدّوائر والّذي يتساقط تحت مشط الكوهنو، بالتّحوّل ذهباً.

العجيبة

قال يالو إنّ شعر أمّه يصير ذهبيّاً، ينحلّ في الماء والمشط ويتذهّب ويلتمع. الكوهنو يجبر حفيده على إبقاء عينيه مفتوحتين من أجل أن يرى كيف يتلوّن شعر أمّه بالذّهب.

"شوف العجيبة يا صبي"، يقول الكوهنو.

ويالو يرى الأعجوبة، يشعر بمذاق السّكّر المالح تحت فمه، ويرى ألواناً تخرج من بين شفتَي الكوهنو المحاطتين بلحيته الكبيرة البيضاء. الكوهنو يهتزّ بالمشط، بينما يرتسم الضّوء الخافت الّذي يخترق ليل الشّاطئ بقعاً على يديه وعينيه، والمشط يهبط ويصعد من دون توقّف. يالو الطّفل يجلس على الحرام الصّوفيّ مرتجفاً بالبرد، ويدخل في أعجوبة الماء والشّعر الذّهبيّ.

لم يسأل يالو أمّه لماذا تدير ظهرها وتنظر إلى البحر، فهو كان يعرف أنّ أمّه تتمرّى بالبحر، مرّةً في السّنة يصبح البحر مرآةً عجائبيّة، وكان الطّفل يرى أمّه، ويرى شعرها الّذي يمتدّ على المياه المالحة الّتي تصل إلى أطراف السّماء.

هكذا قال لهما الكوهنو.

قال إنّ البحر ينتهي في السّماء. "السّماء امتداد البحر يا ابني، والبحر هو مرآة العالم". فأفرام، رغم اقتناعه بكرويّة الأرض، وبكلّ الاكتشافات العلميّة التي كان يالو يدرسها في مدرسة القدّيس ساويروس في بيروت، كان يصرّ على العلاقة الخاصّة بين البحر والسّماء، وإلا فكيف فنفسّر أنّ روح الله كانت ترفرف على المياه؟ وكيف نفسّر حكاية يونان النّبي الّذي قضى ثلاثة أيّامٍ في بطن الحوت، قبل أن يعودَ إلى الشّاطئسالماً؟

أفرام يقول إنّ حكاية النّبي يونان هي مجرّد رمزٍ لموت المسيح وقيامته، لكنّ الرّمز لم يكن ممكناً لولا العلاقة الخاصّة بين الله والبحر.

"في البدء خلَق الله السّماوات والأرض، وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه القمر ظلمة، وروح الله لا ترفّ على المياه".



جاد تابت: المدينة التي أدارت ظهرها للبحر

لم تمتدّ بيروت القديمة على طول الشاطئ كما هو الحال في العديد من المدن السّاحليّة بل أدارت ظهرها للبحر وتوسّعت نحو الدّاخل. 

خريطة بيروت الّتي رسمها نائب قنصل الدّنمارك سنة ١٨٧٦ وأهداها للسّلطان عبد الحميد تُظهر نواة مدينة متراصّة تنتظمحول المرفأ وتمتدّ بمحاذاة الطّرق التي تربطها بطرابلس وصيدا والشّام.

مدينة تتنكّر لواجهتها البحريّة

على مقرُبة من هذه النّواة، خليجٌ صغير يؤوي مرفأ للصّيادين: إنّها محلّة عين المريسة التي لطالما نظر إليها سكّان بيروت بحذَرٍ بسبب القصص المتعدّدة حول الجنّ والسّاحرات الّذين يقطنون بين صخورها. ثمّ منطقة رأس بيروت حيث اشترى قسّيسون قطعة أرض شاسعة لبناء الكلّيّة الإنجيليّة السّوريّة بين الصّبير والواوية. ونحو الغرب، المنارة التي بناها والي عكّا سليمان باشا سنة ١٨٢٠ لتوجيه البواخر نحو المرفأ والّتي ستبقى فعّالة أكثر من مئة عام حتّى استبدل بها الفرنسيّون منارةً جديدة أكثر ارتفاعاً. 

منذ أوائل القرن العشرين، ستبدأ المدينة بالامتداد نحو السّاحل الغربي حيث نمَتْ أحياءٌ جديدةٌ استأثرت بالمساحات الحرّة وشكّلت تدريجيّاً شريطاً متواصلاً على طول الشّاطئ. 

خليج السّان جورج، حيث يُقال أنّ خضر قتل التّنين وحيث بُنيت أفخم فنادق العاصمة قبل أن يُلحق بمحيط سوليدير ويُحوّل إلى زيتونة باي. 

كورنيش عين المريسة، على كعب تلّة الجامعة الأميركيّة، حيث استُبدلت بالبيوت الصّغيرة تدريجيّاً المباني متعدّدة الطّوابق ومن ثمّ الأبراج الّتي حاوطت مرفأ الصّيادين وشكّلت سوراً لمنظر البحر.

منطقة رأس المنارة، حيث أعطت بلديّة بيروت سنة ١٩٩٥ رخصة بناء لأحد المتموّلين سمحت له بإقامة بناء من عشرين طابقاً يحجب رؤية الفنار من البحر، وذلك بالرّغم من أن هذا الفنار كان قد أعيد ترميمه وتجهيزه حسب أحدث الشّروط العالميّة سنة ١٩٩٣. فاضطرّت وزارة الأشغال أن تبني فناراً جديداً على مقربةٍ من الشّاطئ وبقي الفنار القديم يشهد على عجز أجهزة بلديّة بيروت وعلى فسادها. 

ومنطقة الرّوشة الّتي بدأت تتطوّر في أواخر الخمسينيّات من القرن الماضي وشكّلت حينذاك رمزًا لبيروت الحداثة. وقد شهدت هذه المنطقة تطوّراً سريعاً في العشرين سنة الأخيرة، فبُنيت أبراج عالية بدّلت المشهد المديني لواجهة بيروت البحريّة جذريّاً.

لقد عرَفت العديد من المناطق السّاحليّة في العالم تطوّراً مماثلاً لما شهدتْه بيروت من تكثيفٍ للبناء وإقامة الأبراج على واجهتها البحريّة. وقد برزت هذه الظّاهرة في العديد من المدن مثل ريو دي جانيرو وكان وميامي وكوستا برافا وغيرها، الّتي شهدت تطوّراً مدينيّاً مشابهاً لما شهدتْه بيروت. 

لكن يلاحظ في كلّ هذه المدن أنّه تمّ الحفاظ على الشّواطئ الطّبيعيّة ومُنعت إقامة منشآت من شأنها أن تقيّد من حريّة وصول الجمهور إلى الشّاطئ والاستمتاع بما يقدّمه من خدماتٍ للجميع. 

لقد لحظ القانون اللبنانيّ ترتيباتٍ مماثلة تهدف إلى حماية شواطئ بيروت ومنع تشويه الواجهة البحريّة للمدينة. فالمخطّط التّوجيهي الّذي أقرّ سنة ١٩٥٦ نظّم المنطقتين التّاسعة والعاشرة المتاخمتين للشّاطئ فمنع البناء على أجزاءٍ واسعة من الواجهة البحريّة وحدّد معدّلات استثمار وشروط بناء قاسية في الأجزاء المتبقّية منها. 

لكنّ فاعليّة هذه القوانين بدأت تتراجع على مرّ السّنين عبر التّعديلات الّتي أُدخلت عليها وزيادة معدّلات الاستثمار وإقرار المراسيم الّتي تسمح بالتّحايل على روح القانون، وذلك بالرّغم من أنّ المخطّط العام لتنظيم الأراضي اللبنانيّة الّذي أُقرّ سنة ٢٠٠٥ عاد من جديد ليؤكّد ضرورة حماية الشّواطئ الصّخريّة في منطقة رأس بيروت والبيئة الفريدة في منطقة الروشة والشّواطئ الرّمليّة في منطقتَي الرّملة البيضاء والجناح.

التعدّي على دالية الروشة والرملة البيضا

وقد برزت خلال السّنوات الأخيرة قضيّتا دالية الرّوشة والشّاطئ الرّملي في رملة البيضا لتُظهرا بشكلٍ واسعٍ على صعيد الرّأي العام الضّرورة الملحّة لحماية ما تبقّى من الواجهة البحريّة لبيروت. 

لقد شكّلت دالية الرّوشة لعقودٍ طويلة خلتْ مساحة مشتركة متاحة لجمهورٍ واسعٍ ومتنوّعٍ من سكّان بيروت، كما احتضنت نمطاً اقتصاديّاً وحيويّاً تضمّن صيد الأسماك والجولات البحريّة في القوارب، إلخ... ولطالما وجدت الأسر البيروتيّة فيها وجهةً طبيعيّة لنزهات نهاية الأسبوع وإقامة الاحتفالات لمناسبة الأعياد واشتهر الموقع بثروته الإيكولوجيّة وتنوّعه الجيولوجي والتّوازن البيئي المميّز الّذي تشكّل من خلال إيوائه للنّباتات النّادرة والطيور والحيوانات البحريّة. 

ومنذ صيف ٢٠١٤، قام أصحاب العقارات بطرد الصّيادين وبناء سياج يقيّد الدّخول إلى الموقع ويحجب رؤية البحر من الكورنيش، وذلك تحضيراً لإقامة مشروع تجاري خاص، شبيه بالمشاريع الّتي انتشرت على طول الشواطئ اللبنانيّة وأدّت إلى تشويهها. 

وقد جوبه هذا المشروع بحملةٍ أهليّة هدفت إلى المحافظة على دور الدّالية كمساحةٍ مشتركة ومتاحة لكافّة سكّان المدينة وزائريها. وعملت الحملة على إعداد أبحاثٍ قانونيّة وبيئيّة وتنظيم النّشاطات الهادفة إلى توعية الرّأي العام. كما أقامت مباراة لاستكشاف أفكار جديدة لما يُمكن أن تصبح عليه الدّالية في المستقبل. 

ونتيجةً لهذه الحملة، عمد مركز الرّقابة العالمي للتّراث World Monuments Watch إلى تسجيل موقع الدالية على قائمة المواقع العالميّة في خطر لسنة ٢٠١٦، فانطلقت إثر ذلك حملةٌ عالميّة من أجل الحفاظ على هذا الموقع الفريد. 

أمّا شاطئ الرّملة البيضاء الّذي اكتسب اسمه تيمّناً بلون رماله مقابل الرّمال الحمراء التي كانت تغطّي منطقتي بئر حسن وحرج بيروت، فهو يشكّل جزءاً من حزامٍ رمليّ كان يمتدّ تاريخيّاً لأكثر من عشرة كيلومتراتٍ حتّى شاطئ خلدة. 

وإذ لم يطَل التمدّد العمراني هذه المنطقة حتّى نهاية الحرب العالميّة الثانية، فقد نُقل المطار في أوائل الخمسينيّات من موقعه القديم في منطقة بئر حسن إلى موقعه الحالي في خلدة. ممّا فتح المجال أمام إجراء عمليّاتٍ عقاريّة واسعة النّطاق في منطقتي بئر حسن والرّملة البيضاء، فتبدّلت الملكيّات وارتفعت أسعار الأراضي. 

وبقي الشّاطئ الرّملي الواقع غرب الكورنيش البحري خاليًا من أيّ بناءٍ نظراً لأنّ القسم الأكبر منه يقع ضمن الأملاك البحريّة وأنّ الجزء المتبقّي يقع ضمن المنطقة العاشرة حيث يُمنع البناء. وظلّ سكّان بيروت يقصدونه لينصبوا الخيام والعرازيل ويجتمعوا فيه احتفاءً بشفاء النّبي أيوب من مرضه على هذا الشّاطئ وفق ما جاء في الروايات الشّعبيّة. كما أنشأت وزارة الأشغال العامّة مسبحاً شعبيّاً على هذا الشّاطئ هو المسبح الشّعبي الوحيد على ساحل بيروت. 

وفي منتصف سنة ٢٠١٤، بدأت الأخبار تتوارد عن بيع عقارات المسبح الشّعبي وتعديل القانون بهدف السّماح بإقامة مشروع سياحيّ ضخم على هذه العقارات. 

وبعد ذلك، أتت معلوماتٌ جديدة عن عزم بلديّة بيروت شراء هذه العقارات بسعرٍ خياليّ. تُشكّل هذه القضيّة مثالاً واضحًا لكيفيّة التلاعب بالأملاك العامّة وتجاهل المصلحة العامّة خدمةً لمصالح المتموّلين وأصحاب النّفوذ. 

وإذ جوبه هذا الوضع الشّاذّ بحملةٍ تهدف إلى حماية شاطئ الرملة البيضاء كمساحةٍ عامّة مفتوحة أمام الجميع، تُشكّل هذه الحملة، مثلها مثل نظيرتها الهادفة لحماية دالية الرّوشة، الفرصة الأخيرة لإنقاذ ما تبقّى من شواطئ بيروت والمتنفّس الوحيد لسكّانها والحفاظ على الأماكن الرّمزيّة الّتي تحتضن ذاكرة المدينة. 

وهذا الأمر يتخطّى بالطّبع حدود العمارة والتّنظيم المدنيّ ليطاول جوهر علاقة المجتمع بنفسه وتصوّره لاحتمالات تطوّره المستقبليّة.

العدد ١٥ - خريف ٢٠١٦

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.