العدد ١٥ - خريف ٢٠١٦

غرافيتي الشعراء

النسخة الورقية

يحبّ الكثير من رواد الغرافيتي الوجوه المعروفة (فيروز، محمود درويش، صباح، لوركا، رامبو، غسان كنفاني، أمل دنقل) والشعارات أو العناوين والكلمات "المشرقطة" على الجدران لأنهم يدركون قوة الكلمة المعروفة والحاضرة في الوجدان والذاكرة. يعرفون أنّ بعض الثورات والتحركات الاحتجاجية كانت شرارتها كلمة غرافيتية على جدار، ويعرفون أنّ الغرافيتي فيض في التعبير يحكي هموم المواطن العادي.

عندما يتم اختيار قصيدة أو أبيات شعرية لرسمها وتزيينها على الجدران، يجري انتقاء جمل يغلب عليها طابع شعاراتي يرتبط بالحدث أو بالموجة السائدة والحدث ووعي الناس، المهمّ أن تصيب الهدف المرجو وترضي ذات الفنان أو المحتجّ. فالغرافيتي من الأدوات المشجّعة على الاحتجاج، وربّما الاستعراض. تنطوي الكلمة المباشرة في الغرافيتي على شيء من الغواية و"العضلات" الفكريّة وربما الاندفاع الثوري والمدني، وتختصر الكثير من التفاصيل، ربما لأن الفنان يريد إيصال رسالته من دون مواربة، يهرع إلى الجدران "الهامشية" أو "الاستراتيجية" التي تشدّ العابر. لهذه الأسباب يختار الفنان الجمل المألوفة والنافلة ويطلسها في اللحظات الخاطفة بطريقة فنية وبصمة خاصة.

في العالم العربي، قلّة من الشعراء العرب والأجانب، استُخدِمت عبارات من قصائدهم لتكون فكرة لعمل غرافيتي أو طبعة "ستنسل" (زنكو) على جدران بعض المدن والبلدات والمخيّمات. وعلى رغم أهمية بعض الشعراء وحضورهم الشعبي، لم يندفع الغرافيتيون لاستنباط جمل منهم، ربما لأنّ شعرهم لا يناسب المرحلة أو لا يتناسب مع وجهة نظرهم الثقافية والسياسية. غير أنّ الثورات العربية ساهمت إلى حدّ ما في ترويج بعض الشعر، سواء الشعاراتي منه أو الفلسفي والحكمي. لنقل إن بعض الشعر "الشعاراتي" ساهم في الترويج للثورات من خلال الغرافيتي. ولا بدّ أن يعطينا التأمّل في بعض الأعمال المرسومة انطباعاً عن بعض الشعر والشعراء على الجدران، وعن الذائقة الأدبية السائدة.

ثمّة مجموعة من الغرافيتيين في بعض البلدان العربية، استخدمت عبارات لأبي القاسم الشابّي وأمل دنقل وصلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي وبابلو نيرودا ولوركا ومحمود درويش وتوفيق زياد وأحمد فؤاد نجم. الأبنودي مثلاً، حضر في الغرافيتي المصري، وحضوره أتى كتشجيعللتثوير الاجتماعي. نقرأ من قصائده العامّيّة على رسوم الجدران عبارات "لسه النظام ما سقطش"، و"الثورة مش حكر... لا ملكك ولا ملكي/ ملك اللي يومها سند صدرُه على السونكي/ واللي الرصاصة شالت عينه ولم يبكِ". لا يحمل كلام الأبنودي أيّ تأويل خاص، كلامه ليس كليشّيه، ولا يتّسم بشعرية خاصة، وإن كان يدعو إلى تراجيديّة ما.

بين نيرودا والشابّي

من بين العبارات التي وُظّفت في غرافيتي الثورة المصرية عبارة للشاعر التشيلياني بابلو نيرودا: "يمكنك أن تسحق الأزهار ولكن ليس بمقدورك أن تؤخر قدوم الربيع". هذه العبارة الرومنطيقية المثاليّة الثورية كانت إشارة تفاؤليّة إلى واقع التحوّلات السياسيّة التي حصلت في العالم العربي، ووظفت في مواجهة العقل الأمني والاستبدادي ولبناء الأمل في التغيير، وهي قريبة من شعار آخر كتبه الثوريون "إنْ عشتَ فعش حراً أو متْ كالاشجار وقوفاً"، ومن عبارة الروائي إرنست همنغواي في رواية "الشيخ والبحر": "قد يتحطّم الإنسان... لكنّه لن يُهزم". الأرجح أنّ في معظم العبارات الشعرية التي توظف في الغرافيتي شيئاً مشتركاً: أنّها تنشد الحرية والموقف وأحياناً الرمز.

اختيار قوال الشعراء لتكون غرافيتي على الجدران، يأتي تبعاً لمعايير سياسيّة و"نضاليّة" و"نمطيّة"، وأحياناً ثقافيّة وعصبويّة وثوريّة ومزاجيّة. في تونس استحضر بيت الشابي الشهير "إذا الشعب يوماً أراد الحياة..."، الذي كتب على جدران المدارس وأصبح يعبّر عن وجدان المتظاهرين ومرحلة التحولات الجديدة التي حصلت غداة سقوط زين العابدين بن علي. كأن لا شيء أقوى من العبارة الشابيّة النمطية المستهلكة، لتكون تعبيراً عن توجهات المحتجين والمتظاهرين. ثمّة تقاطع في المعنى بين عبارة نيرودا المذكورة أعلاه وبيت الشابي، لكن الفرق في الموسيقى الداخلية وروحية اللغة والصورة. ففي عبارة نيرودا شعرية "خارقة" وصورة تتكوّن في مخيّلة القارئ من غير أن يغوص الشاعر في المباشرة، وفي بيت الشابي خطابيّة جاهزة تشبه القبضات المرفوعة. وعلى هذا لم يكن مستغرباً أن يكون هذا البيت الشعري مستهلكاً ليس فقط في أعمال الغرافيتيين فحسب بل في أصوات الفنانين والملصقات الحزبية العربية عموماً والتونسية خصوصاً. فهو يردُ في خطب السياسيين وأناشيد بعض الفنانين "الثوريين"، ويستعمله الباحث عن الحرية والآتي من "سلالة الطغيان"، ليصبح مثل عبارة "القدس عروس عروبتكم" لمظفر النواب و"أناديكم" لتوفيق زياد. جمل شعاراتية تستنزَف في الاستعمالات الشعبوية والإعلامية والميديائية والسياسية، قالها شعراء وصارت ملكاً عاماً، كلافتات حزبية وعصبية. بالطبع ليس ضرورياً أن يتضمن الغرافيتي شعراً حداثوياً أو قصيدة نثر أو تفعيلة، فهو في كل الأحوال له أهداف محددة ويحمل "رسالة" محددة في ظروف معيّنة.



«لا تصالح» من القاهرة إلى دوما

توظيف قصيدة "إرادة الحياة" المدرسية التعليميّة للشابي في الحراك السياسي والثوري التونسي، يوازيها استعمال قصيدة "لا تصالح" للشاعر المصري أمل دنقل في الحراك الثوري المصري وفي الثورة السورية على جدران مدينة دوما في الغوطة الشرقية. تبدو في البداية أقرب إلى "الوصية" الواعظة، لكنّ من يقرأ القصيدة كاملة يجد نفسه أمام حكاية (حدوتة) مأسوية. استحضرت "لا تصالح" في مراحل سياسية سابقة، إذ كان دنقل قد بدأ كتابتها قبل توقيع اتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، لا لأنه يرفض السلام وإنما لأنه يرفض الاستسلام، فتحوّلت قصيدة عروبية قومية يسارية "كاريكاتورية" يردّدها رافضو التنازلات التي قدّمها السادات ثمناً للصلح مع إسرائيل. وكانت حدَّة رفضه السياسي في ذلك الوقت مقرونة بالسخرية التي كانت تدفعه إلى كتابة أسطر من قبيل: "أيّها السادة: لم يبقَ انتظارْ/ قد منعنا جزيةَ الصمت لمملوكٍ وعَبْدْ/ وقطعنا شعرةَ الوالي (ابن هند)/ ليس ما نخسره الآنَ.../ سوى الرحلة من مقهى لمقهى/ ومن عارٍ لعَارْ!".

واستحضرت "لا تصالح" على الجدران في كنف تحركات ميدان التحرير ضد نظام حسني مبارك وكُتبت بأشكال متعدّدة ومتنوّعة وملوّنة ومزركشة، وتناقلتها صفحات الـ"فايسبوك" لتصبح نشيد الجيل الجديد في تلك اللحظة. ولم يقتصر استعمالها على عنوانها وعبارتها الأولى الجذريّة والوعظية. فبعدما فقد الشاب المصري أحمد حرارة عينيه في تظاهرات الثورة في مصر، ثمّة من رسم طبعة "ستنسل" لوجهه الحزين مع مقطع من القصيدة الدنْقلية: "أترى حين أفقأ عينيك ثمّ أثبت جوهرتين مكانهما، هل ترى؟ هي أشياء لا تشترى". كانت قصيدة دنقل الأكثر تعبيراً عن حادثة أحمد حرارة الأليمة والمأسوية، كأنها مكتوبة لتصف حادثة هذا الشاب بالذات.

في دوما السورية رُسمت قصيدة "لا تصالح"، وتكمن أهمّية ذلك في المزاوجة بين اللوحة والمكان، فالحائط الذي اختاره الفنان ليرسم عمله، هو ما بقي من منزل دمّره قصف الطيران الأسدي. الحائط في ذلك المكان لديه لغة أقوى من الشعر، ويزيد من وقع لغته قصيدة دنقل وألوانُ الرسام. الغرافيتي، وإن كان فيه شيء من "جمالية الخراب" التي تعشقها الكاميرا، يومئ بالتأكيد إلى جوهر المأساة السورية.

صلاح جاهين: أحلام الملايين وأفراحهم

تبدو قصائد الشاعر صلاح جاهين الأقرب إلى وجدان المصريين، فهو وحده من استطاع أن يترجم مشاعر ملايين المصريين وأحلامهم وأفراحهم كلمات حية متوثّبة مليئة بالدفء والزهو والنشوة، ويتجلّى حضوره في الأعمال الغرافيتية سواء تلك التي كُتبت في الغرف الخاصة أو شوارع الثورة. أحدهم كتب في غرفته فوق سريره: "ياللي يبحث عن إله تعبده/ يبحث الغريق عن أي شيء ينجده/ الله جميل وعليم ورحمن ورحيم/ أجمل صفاته... وانت راح توجده/ عجبي!". خلال الثورة المصرية لجأ أحد الغرافيتيين إلى رسم متظاهر يعيد رمي قنبلة مسيلة للدموع على الشرطة، مرفقة برباعية لصلاح جاهين: "غمض عينيك وارقص بخفّة ودلع/ الدنيا هي الشابة وانت الجدع/ تشوف رشاقة خطوتك تعبـدك/ لكن انت لو بصيت لرجليك... تـقع/ عجبي!!".

ورسم شاب يطلق على نفسه "نيمو"، غرافيتي على مبنى محافظة الدقهلية يتضمّن صورة الإعلامي باسم يوسف وجزءاً من إحدى رباعيات جاهين: "قومتوا ليه، خفتوا ليه، لا في إيدي سيف ولا تحت مني فرس". الغرافيتي كان تضامنياً مع الإعلامي الشهير بسبب الحملات عليه، وقال نيمو: "ما يفعله باسم يوسف يستحقّ التقدير والاحترام والتكريم، لو كنا في بلد يحترم المواهب والفن ويقدر النقد، لكن للأسف في دولة الإخوان أصبح كل شيء ليس له قيمة". وأضاف: "من يعارض الرئيس والإخوان يصبح كافراً، ويستحقّ الجَلد أو القتل ولم أجد أكثر من رسم الغرافيتي للتعبير عن حالة باسم يوسف".

الأبنودي أيضاً حضر في الغرافيتي المصري، وحضوره أتى كتشجيع في التثوير الاجتماعي فنقرأ من قصائده العامّية على رسوم الجدران عبارات "لسّه النظام ماسقطش" و"الثورة مش حكي.. لا ملكك ولا ملكي".

 

 محمود درويش الأكثر حضوراً

وقبل مدّة، قدّم الفنان الفرنسي آرنست بينو رسماً جدارياً "أيقونياً" بالأبيض والأسود لصديقه الشاعر محمود درويش، يقف بكامل أناقته ووسامته وطلّته، مرتدياً بنطالاً أسود وقميصاً شبه أبيض. كأنه لم يغادر الحياة، أو كأنه يمشي باتجاه من ينظر إليه، وحول نظارته السميكة طيف من أحلام كبيرة.

حين رسم بينو صورة درويش في الأماكن العامّة بحجمه الحقيقي، كان قصده أن يبقيه جزءاً من المشهد اليومي الفلسطيني، لأنه (أي درويش) في رأي بينو "يوازي فلسطين وفلسطين توازي درويش"... لكنّنا لا ندري لماذا اختار الرسام الفرنسيّ صورة الشاعر لا شعره؟ كأنّ نجوميّة وجه الشاعر كانت أقوى من نجومية شعره بالنسبة إلى الفنان الآتي من فرنسا.

كثيرون من الفلسطينيين التقطوا صوراً تذكارية مع لوحة درويش الـ"بوب آرت"، وقد وزعها الفنان في أماكن متنوّعة، فيشاهدها المرء على الجدار العازل الذي بنتْه إسرائيل، وقرب المستوطنات، وفي الأسواق، وفي المخيّمات والقرى والمدن، وحتى في المتاجر، وذلك حتى تكتسب سياقات ومعاني مختلفة. صورة درويش لم تكن مجرّد غرافيتي أو "ستنسل" مصيرُه الزوال، بل كانت نموذجاً جديداً ومغايراً للرسم على الجدران، فآرنست بينو معروف عالمياً بتركيزه على المزاوجة بين اللوحة والمكان الذي تعرض فيه، وهو يجعل المرء يشتهي أن يلتقط صورة لرسوماته.

حضرت صورة درويش في رسم بينو الجداري، وحضر بعض شعره في غرافيتي العديد من الناشطين في لبنان والأردن وفلسطين وسورية الذين وجدوا فيه وسيلة للتعبير عن أنفسهم ومحيطهم. بعض الذين كتبوا قصائد لمحمود درويش على جدران مدينة رام الله وأماكن أخرى في فلسطين، يبدو أنّهم سمعوها بصوت الفنان مارسيل خليفة ولم يقرؤوها من خلال ديوان. فعلى أحد الجدران كتبت قصائد" في البال أغنية، يا أخت عن بلدي"، و"أحنّ إلى خبز أمي"، وثمّة من يختار جملاً لدرويش تكون بالنسبة إليه أقرب إلى الحكمة أو المبدأ مثل "وطني ليس حقيبة".

من بين الشعراء العرب يبدو محمود درويش الأكثر حضوراً في الغرافيتي الشعري لأسباب مختلفة ومتعدّدة، سياسيّة ورمزيّة وثقافيّة وأيديولوجية. فعدا حضور صورته كغرافيتي، يراوح انتقاء الغرافيتيين من شعره وفق مزاجيات مختلفة، بين مَن لديهم ذائقة شعرية ذاتية ومَن تأسرهم الكليشيهات والعبارات الطنانة. ثمّة من يختار جملاً لدرويش تكون بالنسبة اليه أقرب إلى الموقف الذي يعبّر عن الواقع الفلسطيني مثل "صامدون". ثمّة عبارات فيها بعض من ثقافة الحياة. فعلى أحد أسوار مخيّم البقعة في الأردن كتب أحد فناني الغرافيتي: "أريد قلباً طيّباً لأحشو بندقية"، و"على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة"، والجملة الأخيرة رسمت في أكثر من عمل وبأشكال مختلفة ومتباينة. ففي بيروت كتبها الفنان الشاب يزن حلواني حين رسم بورتريه لدرويش في منطقة فردان قبل أن يأتي أحدهم في الظلام ويطلي البورتريه، ولاحقاً كتبت مكانها عبارة "الزنى اجرام". لذلك قرّر يزن إعادة رسمها في تونس حيث قضى درويش جزءاً من حياته. تتميّز أعمال حلواني في أنها تجمع بين الخط العربي المنمّق والغرافيتي "الأيقوني"، محاولاً إعادة الاعتبار إلى الخط العربي قبل الغرافيتي.

ثمّة غرافيتيات درويشية يغلب عليها الطابع الشعري المحض، مثل "إنا نحب الورد لكنّا نحبّ القمح أكثر ونحب عطر الورد، لكن السنابل منه أطهر"، أو "تُنسى، كأنك لم تكن/ تُنسى كمصرع طائر/ ككنيسة مهجورة تُنسى،/ كحب عابر/ وكوردة في الليل تُنسى"، "تنسى كحب عابر، وكوردة في الثلج، تنسى فاعلم بأنك حرٌ وحيّ حينماتنسى" (من قصيدة "الآن، إذ تصحو، تذكر"). أو "أنت بداية روحي وأنت الختام" من قصيدة "يطير الحمام"، حيث تتنوع أشكال الغرافيتي التي تستوحي شعر درويش بين وضع صورته المألوفة أو وضع رموز من التراث الفلسطيني الشعبي.

سراقب على موعد

غير أنّ حيطان بلدة سراقب شمال سورية، كان لها موعد دائم ومميّز مع قصائد درويش، وكان لتوظيف الشعر في الغرافيتي نكهة مختلفة، كأنّ من كان يكتب هناك لا يميل إلى الشعارات الشعرية والإيديولوجيا، بل كان أكثر حماسة لجمل تعبّر عن الذات والموت والحياة. استحضر ناشطو الثورة من ديوان "ورد أقلّ" قصيدة "ونحن نحب الحياة، إذا ما استطعنا إليها سبيلا"، خطّوها بألوان علَم الثورة، الأخضر والأبيض والأحمر والأسود. اختيار الكلمات الشعرية في المدينة السورية كان يأتي تبعاً لانعكاس الأحداث. في البداية كانت الثورة سلمية فكُتبت عبارة درويش التي تتغنّى بحب الحياة. لكن على رغم المناداة بالسلمية لم تنجُ الثورة من جحيم القتل النظامي وقد اختار السراقبيون من ديوان درويش "أوراق الزيتون" فكتبوا بالأحمر: "يحكون في بلادي، يحكون في شجن، عن صاحبي الذي غاب، وعاد في كفن"، و"أنتمي لسمائي الأولى وللفقراء في كلّ الأزقة، ينشدون: صامدون، صامدون، صامدون"، و"ابتكرنا الياسمين، ليغيب وجه الموت عن كلماتنا".

كان لتوظيف شعر درويش في الغرافيتي نكهة خاصة مختلفة ربما بسبب كثرة الاختيارات وتنوعها، اذ تحوّلت بعض كلماته مثل "صامدون" و"حاصر حصارك" و"أحنّ إلى خبز أمي"، كليشيهات بسبب استعمالها السياسي والحزبي والثوري، أما معظم العبارات الأخرى فبقيت في إطارها الشعري، إذ بقي للجمل زخمها لأنّ فيها شيئاً من الغموض ومن تجربة درويش في مرحلة ما بعد القصيدة المباشرة المنغمسة في همّ القضية.

ثمّة غرافيتي يستحضر عبارة "مَنْ أَنا لأخيِّب ظنَّ العدم؟" من قصيدة "لاعب النرد" التي يرثي فيها درويش نفسه. لعابر أن يسأل ما دخل هذه العبارة الذاتية بـ"الثورة السورية"؟ الأرجح أنّ من يكتبها هو أكثر ثورية في طروحاته الفردية والأدبية، وهو لا يميل إلى الشعارات المباشرة والكليشاوية. فمثل هذه العبارة، حتى وإن كُتبت على جدار في إطار فن الشارع، تبقى نخبوية، ولا تفهمها إلّا قلة قليلة من المتابعين الفعليين لمسيرة الشاعر.

ولا يقتصر الأمر في سراقب على جملة واحدة، فشبّان الغرافيتي اختاروا عبارات لدرويش من ديوان "كزهر اللوز أو أبعد" الذي يحضر فيه الموت بكل وطأته: "فافرح، بأقصى ما استطعتَ من الهدوء، لأنَّ موتاً طائشاً ضلَّ الطريق إليك. من فرط الزحام، وأجّلك"، و"أنت تخوضُ حروبكَ، فكِّر بغيركَ. لا تنس مَنْ يطلبون السلام". أشعار درويش على جدران سراقب، تنتمي إلى المعنى، وساهمت بشكل فاعل مع الرسوم الأخرى في كسر "السيطرة الغامضة" التي فرضتها ثقافة البعث من خلال نشر الصور التي تقدّس آل الاسد والحاكم. حين حضر شعر أمل دنقل ومحمود درويش على الجدران السورية، كان إشارة إلى تحوّل ما في الشارع السوري، حيث كان الإعلام السوري الأسدي يقصر الشعر على عبارة للجواهري في مديح الأسد: "سلاماً أيها الأسد"، ترد في موسيقى نشرات الأخبار البعثية.

درويش الذي كرّس الكثير من شعره للقضية الفلسطينية، حضر بقوة في الحراك السوري كأنّ كلّ القضايا تتشابه في لحظة الشدّة، وما قاله عن واقع فلسطين في محنتها، ينطبق على سورية التي تعيش أزمتها، فنجد أحد السوريين يختار عبارة "ذهب الذين تـحبهم ذهبوا/ فإما أن تـكـون أو لا تكون" ليكتبها على أحد الجدران، أو "عبارة "فأنت الآن حرّ فحرّ"، كأنّ هذه الجمل الشهيرة تعبّر عن كل شخص في هذا الشرق.

محمود درويش الذي باتت قصائده وصورته لوحاتٍ جدارية في الأماكن العامّة من نابلس إلى سراقب، لطالما كتب مواقفه الصارخة في وجه معنى الجدران السياسية التي زرعتها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية، وفي قصيدة "لوحة على الجدار" يربط درويش الحائط بالموت الجماعي، يورد عبارات مثل: "كانت الجدران تستعصي على الفهم". ذلك الجدار السياسي الإسرائيلي الذي كتب عنه درويش تختلف معانيه عن الجدران التي يكتب عليها شباب الغرافيتي قصائد درويش نفسه، لكن ما يمكن قوله هو أن شباب الغرافيتي في رسوماتهم الجدرانية غالباً ما يطمحون إلى هدم جدران الخوف في أنظمة الطغيان.

جدران لم تنسَ غسان كنفاني ولا سعيد عقل

يمكننا أن نضيف إلى شعراء الغرافيتي الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني الذي اغتاله الموساد الإسرائيلي عام ١٩٧٢ في منطقة الحازمية (شرق بيروت)، يعتبر الأكثر حضوراً في رسوم الغرافيتي من بين الأدباء العرب، خصوصاً في المخيمات الفلسطينية. يبدو بالنسبة إلى مريديه ذلك المناضل والسياسي قبل أن يكون أديباً له قصصه ورواياته.أحد أقوال كنفاني التي وظفت في الكتابات الـغرافيتية عبارة "لن أموت حتى أزرع في الأرض جنتي"، وهي كتبت في مخيّم الدهيشة الفلسطيني بصيغة أخرى "لن أرتدّ حتى أزرع في الأرض جنتي". باتت هذه العبارة الغيفارية شعاراً للحالمين بتحرير فلسطين، لكنّها لم ترقَ إلى مستوى عبارة "لماذا لم يطرقوا جدران الخزان؟" التي يعتبرها بعض النقاد أشهر جملة في الأدب الفلسطيني فضلاً عن كونها إحدى أكثر الجمل إثارة للجدل وهي وردت في رواية "رجال في الشمس" وباتت أشهر من الرواية نفسها، واختيرت لتكتب كغرافيتي على خزان مياه في مشهد رمزي.

من الرسوم الجدارية اللافتة في بيروت، غرافيتي للشاعر سعيد عقل في منطقة الجميزة - مار نقولا، لرسام جديد ربما نجهله حتى الآن. تنضمّ إلى سلسلة غرافيتيات المشاهير المنتشرة على جدران بيروت، واللافت أنّ الرسام بدأ متماهياً من جنون عظمة سعيد عقل وحبه لذاته، فاختار إلى جانب الرسم عبارة "سئل نزار قباني من أشعر شعراء العربية، فقال: سعيد عقل إذ قبل وإلا فالمتنبي".

هذه الرسوم القليلة والمتنوعة، أصبحت معالم سياحية وثقافية في مناطق بيروت وغيرها، تستقطب العديد من المهتمين والمثقّفين وبعضها أزيل بسبب التحوّلات السياسية والميدانيّة. هي لغة المدينة الجميلة والقابل للتحول.

العدد ١٥ - خريف ٢٠١٦

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.