العدد ١٣ - شتاء ٢٠١٦

شارلي تشابلن وفن السقوط

النسخة الورقية

إنّه يرى أنّ مجريات الأمور في العالم بلا رحمة ويتعذّر تفسيرها. فيعتبر ذلك تحصيل حاصل. يتركّز كل نشاطه على الراهن: أن يتدبّر أمره، أن يجد مخرجاً نحو مزيد من النور. فقد لاحظ أن الحياة مليئة بظروف ومواقف تتكرّر حتى تصير مألوفة، بالرغم من غرابتها. منذ الطفولة المبكرة، ألِّف الأمثال والنكات والنصائح وحيَل المهنة والمخاتلات، التي تشير إلى أحاجي الحياة اليومية المتكررة. ولذا يتصدّى لها بحِكَمٍ استشرافية لما يتعرّض له. فنادراً ما يرتبك.

هذا بعض من بدهيات الحكم الاستشرافية التي اكتسبها:

العجيزة هي مركز الجسد الذكوري: إنها حيث يجب أن تركل خصمَك أولاً وهي غالباً ما تقع عليه عندما يطرحونك أرضاً.

النساء جيشٌ آخر. راقِب عيونهن قبل أي شيء آخر.

الأقوياء هم دوماً ضخام الجثة ومتوتّرون عصبياً.

المبشّرون لا يحبّون إلّا أصواتهم.

يوجد من ذوي الحاجات الخاصة حولنا ما تحتاج عرباتُهم إلى شرطي سير.

تعوزنا الكلمات لتسمية أو تفسير مسارات العناء اليومي والحاجات غير المشبعة والرغبة المكبوتة.

معظم الناس لا وقت لديهم لأنفسهم مع أنهم لا يدركون ذلك. إنهم ملاحقون فيستلحقون حيواتهم استلحاقاً.

وأنت مثلهم، لن تكون لك قيمة إلّا إذا وقفتَ جانباً، ومدَدْتَ عنقك للخارج، إذذاك يتوقّف أصحابك فجأة وينظرون إليك دهشين. وفي صمت هذه الدهشة يكمن كل الكلام الذي يمكن تصوّره في أي لغةٍ أمّ. فقد أنشأتَ فجوةَ اعتراف.

إن صفوف الرجال والنساء المحرومين من كل شيء أو من كل شيء تقريباً، يمكنهم أن يوفّروا فجوة من حجم مناسب لكي يختبئ فيه ولد الصايع.

الجهاز الهضمي غالباً ما يكون خارج سيطرتنا.

ليست القبّعة للوقاية من الطقس، إنها علامة على المقام الاجتماعي.

عندما تسقط سراويل الرجال ففي الأمر مذلّة، عندما ترتفع فساطين النساء فهذا إشراق.

في عالم بلا رحمة يمكن للعصا أن تكون رفيقاً.

وثمّة بدهيات أخرى حسب المكان أو الظروف.

لدخول معظم الأمكنة عليك أن تملك النقود أو الدليل على امتلاكها.

السلالم موجودة لنتزلج عليها.

النوافذ موجودة لرمي الأشياء خارجها أو لنتسلّق إلى داخل من خلالها.

الشرفات مواقع للزحف أو لإنزال الأشياء منها.

الطبيعة المتوحّشة مخبأ.

كل المطاردات دائرية.

كل خطوة تخطوها قد تكون خطوة ناقصة، فتعامل مع الأمر بأناقة لحرف الأنظار عن الخراء المحتمل.

أشياء من هذا القبيل كانت جزءاً من المعرفة الأمثولية للصبي ذي العشر سنوات.

لأول مرة عمرك له رقمان – يتسكع في جنوب لندن، في لامبث، مطلع القرن العشرين.

قضى معظم طفولته في «مؤسسات الرعاية الاجتماعية». أولاً في معمل، ثم في مدرسة للأطفال البائسين. أمّه، واسمها هنة، التي كان شديد التعلّق بها، لم تكن قادرة على الاهتمام به. قضت معظم حياتها في مستشفى للمجانين. كانت متحدرة من جنوب لندن من بيئة من المؤدين في القاعات الموسيقية.

كانت مؤسسات رعاية الفقراء، مثل المحرفات ومدرسة الأطفال المهجورين، تشبه السجون، وهي لا تزال تشبه السجون، بطريقة تنظيمها وهندستها. إنها إصلاحيات للـ«خاسرين». وعندما أفكّر في الصبي ذي العشر سنوات ومعاناته، أفكر بصور زيتية لأحد أصدقائي.

ميشيل كوان، قضى أكثر من نصف حياته في السجن إلى أن بلغ الأربعين، محكوماً عليه لسرقات صغيرة. بدأ التصوير الزيتي وهو في السجن.

مواضيع لوحاته حكايات تجري في العالم الخارجي الحرّ، كما يراها ويتخيّلها سجين. والسمة الأبرز لتلك اللوحات هي الأمكنة والمواقع المغفلة الظاهرة فيها. الشخصيات المتخيلة والأبطال حيويّون، يحسنون التعبير عن أنفسهم ونشطون، لكن نواصي الشوارع والبنايات الشاهقة، والمداخل والمخارج، والآفاق والأزقّة، حيث نلقى تلك الشخصيات، جرداء، بلا هوية، بلا حياة، ولا مبالية. لا أثر أينما كان أو لمحة للمسة أمّ.

إننا ننظر إلى أمكنة في العالم الخارجي من خلال الزجاج الشفاف لكنه معتمٌ وقاسٍ لنافذة زنزانة سجين.

يكبر صبي العشر سنوات ليصير مراهقاً ثم شاباً قصير القامة، نحيلاً جداً، له عينان زرقاوان ثاقبتان. إنه يمارس الرقص والغناء. وهو أيضاً إيمائي يبتكر حوارات معقّدة بين ملامح وجهه، وحركات يديه الحساستين والهواء المحيط به، هواء حُرّ ولا ينتمي إلى أي مكان. الممثّل، يصير معلّماً في فنّ النشل، ينشل الضحك من جيب بعد جيب من الارتباك والخيبة. يُخرج الأفلام ويمثّل فيها. لكن ديكوراتها جرداء، مغفلة، ولا أمّ لها.

أيّها القارئ، علّك خمّنت مَن أقصد، أليس كذلك؟ إنه شارلي تشابلن، الولد الصايع، المتسكّع.

عندما كان فريقه يصوّر «الهجوم على الذهب» العام ١٩٢٣، كان نقاش حامٍ يدور في الاستوديوعن مساق القصة. وكانت ذبابة تحرف انتباه الحضور، فطلب تشابلن بغيظ أن يؤتى إليه المضرب للانقضاض عليها، ثم توقف فجأة وأعاد المضرب إلى مكانه. عندما سأله الآخرون: لماذا؟ تطلّع إليهم وقال: «ليست هي الذبابة ذاتها».

منذ عقد من الزمن، لاحظ روسكو آربكل، «القبضاي» الأثيرعند تشابلن، أن صديقه شارلي «عبقريّ هزلي متكامل، وهو بدون شك الوحيد في زمانه ممن سوف يَذْكَرهم القرنُ المقبل».

انقضى القرن وتبيّن أنّ ما قاله آربكل «السمين» قد تحقّق. لقد تغيّر العالم كليّاً خلال ذلك القرن، اقتصادياً واجتماعياً. مع اختراع الأفلام المحكية، ومع بناء صرح هوليوود الجديدة، تغيّرت السينما. على أنّ أفلام تشابلن لم تفقد شيئاً من فجائيتها أو فكاهتها أو سخريتها أو ألَقها. أكثر من ذلك، تبدو دلالتها أقرب إلينا، وأكثر إلحاحاً من أي وقت مضى: إنها تعليق حميم على القرن الحادي والعشرين الذي نعيش فيه.

كيف أمكن ذلك؟ أريد تقديم ملاحظتين متبصّرتين. تتعلّق الأولى بنظرة تشابلن الحِكَمية إلى العالم الموصوفة أعلاه، والثانية بعبقريته بما هو مهرّج، والمفارقة أنّ هذه العبقرية مدينة إلى أبعد حدّ بعيد للبلاوي التي عاشها زمن الطفولة.

إنّ الطغيان الاقتصادي الكوني لرأسمالية المالية المضاربة، في أيامنا هذه، التي تستخدم الحكومات المحلّية (وسياسييها) بما هو قوّاد العبيد، ومثلما تستخدم الإعلام العالمي بما هو مروّج المخدّرات التابع لها، هذا الطغيان الذي لا هدف أوحد له غير الربح والتراكم بلا هوادة، يفرض علينا نظرة ونمط حياة متقلقلين، هشّيّن، بلا رحمة وبلا تفسير. وهذه النظرة إلى الحياة هي أقرب الآن إلى النظرة الأمثولية لصبي العشر سنوات إلى العالم مما كانته الحياة في الزمن الذي صوّر فيه شارلي تشابلن أفلامه.

في الصحافة اليوم تقرير عن إيفو موراليس، رئيس بوليفيا، الذي يتمتّع بقدر من الصراحة وطيبة القلب، يفيد بأنه اقترح قانوناً جديداً يسمح للصبْية بأن يبدأوا العمل عند بلوغهم العاشرة من العمر. وقد باشر نحو مليون من صبيان بوليفيا العمل من أجل المساهمة في تأمين معيشة أهلهم. وسوف يمنحهم القانون حداً أدنى من الحماية القانونية.

منذ ستة أشهر، في البحر المحيط بجزيرة لامبيدوزا الإيطالية، غرق ٤٠٠ مهاجر من أفريقيا والشرق الأوسط في مركب غير صالح للإنزال إلى الماء، وهم يحاولون دخول أوروبا بطريقة غير شرعية على أمل الحصول على عمل. على امتداد الكرة الأرضية يوجد ٣٠٠ مليون من الرجال والنساء والأطفال يبحثون عن العمل يؤمّن لهم الحد الأدنى من المعيشة. لم يعد «المُتَسكِّع» فريداً.

إنّ حجم الأمور المستعصية على التفسير يتّسع يوماً بعد يوم. ذلك أنّ سياسات الاقتراع العام فقدت معناها لأنّ خطابات السياسيين الوطنيين لم يعد لها صلة بما يفعلون ولا بما يستطيعون فعله. القرارات الأساسية التي تقرّر مصائر عالمنا اليوم يتّخذها جميعاً كلَّها مضاربون ماليون ووكلاؤهم، وهم بلا أسماء وبكمٌ سياسياً. وكما افترض ابن العشر سنوات: «تعوزنا الكلمات لتسمية أو تفسير مسيرة العناء اليومية، والحاجات غير المُشبعة والرغبات المكبوتة».

يدرك المهرّج أنّ الحياة قاسية. وزيّه البالي المرقّع ذو الألوان المبهرجة هو بحدّ ذاته تعليق هزلي على تعابيره الكئيبة. المهرّج معتادٌ على الخسران. الخسران هو مقدمة العرض الذي يقدّمه.

يكمن زخم أفلام تشابلن في أنّها تكرارية ومتصاعدة. كلّما سقط مرّة، انتصب على قدميه بما هو رجل جديد. والرجل الجديد هو الرجل ذاته ورجلٌ مختلف عنه في آن معاً. بعد كل سقطة يتبيّن أنّ سرّ قدرة تشابلن على أنّ البقاء على قدميه يكمن في تعدّده.

هو التعدّد ذاته الذي يمكّنه من أن يتمسّك بأمله التالي مع أنه معتاد أن تتبدّد آماله تكراراً. إنّه يتعرّض للمذلّة تلو المذلّة برباطة جأش. وحتى عندما ينتقل إلى الهجوم المضادّ، يفعل ذلك بشيء من الندم ولكن بجرأة. فتلك الجرأة هي سرّ مناعته، فهو منيعٌ لدرجة يبدو معها أنه من أهل الخلود. ونحن، إذ نستشعر ذلك الخلود في حلبة «سيرك» أحداثنا الخائبة، نحيّيه بواسطة الضحك.

في عالم شارلي تشابلن الضحك هو الاسم المستعار للخلود.

ثمّة صور فوتوغرافية لتشابلن عندما كان في منتصف الثمانين. نظرت إليها ذات يوم فلاحظت أنّ التعبير على وجهه أليف. لكني لم أعرف السبب. عادت إليّ الفكرة لاحقاً. تحرّيت عن الأمر. التعبير على وجهه يشبه تعبيراً على وجه رامبرانت في آخر صورة ذاتية له: «صورة ذاتية بما أنا فيلسوف ضاحك أو بما أنا ديمقريتس».

«أنا مجرّد ممثّل هزليّ لا أساوي أكثر من فِلس»، يقول، «كل ما أطلبه هو ضحِك الناس».

العدد ١٣ - شتاء ٢٠١٦

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.