العدد ١٢ صيف / خريف ٢٠١٥

الهيب هوب العربي

«الراس» والهوية الجديدة

النسخة الورقية

أحدثت الاعتصامات والثورات التي انفجرت في العالم منذ أواخر عام ٢٠١٠ وأوائل عام ٢٠١١ دوياً في وعينا النظريّ العمليّ. مكّنتنا هذه الثورات من رؤية (وإن كانت رؤية لا تتعدى اللمحات) الخراب المذهل الذي يكسو العالم في القرن الحادي والعشرين. إنّ ما يميّز هذا الخراب في هذا القرن ليس فقط كميّته، بل كونه مشتركاً في كل أنحاء العالم. لا شكّ أنّ تجربة الخراب المشترك هذه هي منسجمة حول العالم لتُحدث أو تُنتج حركات عالمية من دون مركز أو محور أساسي. هذه الحركات ليس متجانسة، لكن ما يجمعها من صفات بالرغم من اتساعها وانفصالها جغرافياً هو أفقيتها، وبسبب أفقيتها يكون عدم تجانسها سبباً لانتعاشها.

هو خرابٌ مشتركٌ، لكنه ليس يأساً مشتركاً. في مصر، تُحمل راية مكتوب عليها «اليأس خيانة». ترمز هذه الراية إلى الوعي الذاتي لهذه الحركات. تصوّر الإحساس الضمني المتعذّر تفسيره، إحساس يُعلمنا أن كل الأسى والكآبة والفقر الذي تعيشه الدول القومية، تواجهه رغبة تتضاعف وشوق يتكاثر وحب يكبر لشيء لا يكون معارضاً فحسب بل مختلفاً اختلافاً جذرياً عن الصورة الظاهرة لزمن وسياسة الحداثة التي نعيشها منذ فترة.

شكّلت هذه الحركات غير المتجانسة تعبيراً ومحرّكاً لصِلات وصل تعبر وتتفوّق وتتخلّى عن القومية المنهجية التي سادت في القرن العشرين. صلات الوصل هذه تُنتج تحالفات «توحّدنا في إقرارنا بأنه يجب علينا أن نغيّر الأمور أو أن نموت، كلّنا» (Halberstam، ص10). يصل جاك هالبرتسام هذه التحالفات بما يدعوه ستيفانو هارني وفريد موتن بالكون «معاً في حالة تشرّد»، أي رفض ما تم فرضه من «موقع لا يبرز منه الوعي الذاتي أو معرفة الآخر، بل يبرز ارتجال يتحرّك من مكانٍ يكمن وراء سؤال لم يُسأل» (Moten and Harney، ص11). هذا الشعور بالألفة والوحدة في حالة التشرّد يفسّره جاك هالبرستام عبر استحضار مغنيّين للهيب هوب، هما جاي زي (Jay-Z) وكانيه ويست (Kanye West)، حيث كلمات أغنية «لا كنيسة في البرية» (No Church In The Wild) ترمز إلى «الوحدة في التشرّد».

عمل هالبرستام في مجال الدراسات الثقافية ساعدنا في الكشف عن كيفيّة اقتفاء أساليب جديدة للتكوين الثوري من خلال ما يسود ثقافتنا اليومية. بعبارة أخرى، ساعد هالبرستام على خطّ الصلة بين النشاط الحراكي والفن بمختلف أنواعه. وهنا نعبر الباب الذي فتحه لنا هالبرستام ونتّجه إلى أعمال ثقافية من أجل رصد ما توفّره لنا من أساليب خلّاقة للفكر والحراك الثوري. ويأتي هذا الرصد لإزالة الاعتقاد الشائع بعدم أهمية الثقافة للحركات النضالية. ويأتي ما يلي بما هو رفض لهذا الاعتقاد واقتراح يقول بأنّ الأعمال الثقافية يجب أن تُفهم وأن تُستعمل كقوّة جذرية.

هذا الاقتراح يجد مبتغاه في صعود موسيقى الهيب الهوب العربية. فبينما كتب الكثيرون عن تنوّع أشكال الأدب العربي ليشمل المدونات والمقالات المصورة، نجد القليل من الاهتمام بالحقل الموسيقي والسمعي عامّةً. ومن خلال التركيز على أداء الهيب الهوب العربي، نلاحظ أن الإثنين معاً، المجال الأدبي والمجال الموسيقيّ، أو المجال المكتوب والمجال المسموع، يستمتعان بالأهمية المطلوبة، فالمرء لا يستطيع أن يفصل بلاغة الكلمات عن نبض الموسيقى وذبذباتها. وقد أخذت موسيقى الهيب هوب أهمية على الصعيد الاجتماعي ــ السياسي عربياً وعالمياً، فتم ترشيح المغنّي والناشط المغربي معاد بلغوات «الحاقد» ومغنّي الراب التونسي علاء اليعقوبي للحصول على جائزة سخاروف لحرية الفكر في أيلول / سبتمبر من العام 2014 1. هذان الترشيحان برهان على أنّ ساحة الموسيقى البديلة في العالم العربي لا تزال ساحة تخلق خطابات ضد الخطاب المهيمن والسائد. ستتمحور هذه المقالة حول عمل فنّي واحد هو النتاج الفني لمازن السيّد، أو الراس، كما يُعرف. كما سترتكز على ألبوم الراس الأول «كشف المحجوب» وبضع الأغنيات التي نُشرت في الفترة عينها.

بالطبع لا يمكن حصر نتاج الهيب الهوب العربي في العمل الفني للراس، إنّما قوّة هذه الموسيقى والكلمات تكفي لعرض صدى هذا العمل مع الحركات النضالية في العالم العربي والعالم بأسره.Beinin, Joel. «Can Arabs Be Human Rights Defenders?» Jadaliyya
10 تشرين الأول / أكتوبر 2014

من الأسباب الدافعة إلى كتابة هذه المقالة مَيل الكثير من الناس لغضّ النظر عن هذا النتاج الموسيقي وتقييمه فقط كتسلية عابرة. تجادل المقالة ضد هذا الرأي عبر كلمات وإنتاج الراس، أنّ هناك عبرة سياسية وفلسفية وراء موسيقى الهيب هوب. سوف تبرهن هذه المقالة أن نتاج الراس الموسيقي والشعريّ ليس مجرّد وصف لواقع العالم الذي نعيشه، بل إنّه أيضاً رسالة من أجل مفهوم مغاير للهويّة. هوية تتناسب وجزءاً لا يتجزّأ من العالم الجديد المرجو بناؤه. من جهة، يهدف هذا المقال إلى إظهار النغمات الفلسفية والنظرية السياسية التي تتخلّل الإنتاج الثقافي من موسيقيّي الهيب هوب على نسق الراس، وفي هذا توكيد للرسالة السياسية الثورية لهذا النتاج الموسيقيّ.

ومع ذلك، لا يهدف هذا إلى التعتيم على النقاش الجمالي والشعري لهذا النتاج أو تهميشه. فالراس ثوري في استخدامه اللغة العربية، سواء العربية الفصحى أو العامية والشعبية، كما في رسالته السياسية. فإذا كان الجانب الجماليّ واللغوي غائبا في هذه المقالة، فهذا تقصير من كاتبها وليس من موضوعها. إنّما ذلك لا يمنع من فتح الدعوة إلى كتابة دراسات ومقالات أخرى تعطي الجانبين اللغوي والشعري ما يستحقان.

كل صور هذا المقال للراس من حفلة «بالعرس جيناكم» احتفالا بزفاف الرابر ناصر الدين الطفار في مترو المدينة في بيروت

ما بين الراس والحركات الثورية

وُلد مازن السيّد في طرابلس شمال لبنان سنة 1984 وبدأ كتابةَ الشعرِ باللّغةِ العربيةِ عندما كان في الخامسة عشرة من عمره. أمضى وقتَه بين فرنسا ولبنان، مكرساً سنوات من حياته من أجل دراسته في المهجر. عندما سئِمَ من عملِه بمصرفٍ في فرنسا عاد إلى لبنان، وقد تمكّن من الحصول على عملٍ في جريدةِ «السفير» فاستقرّ في لبنان مستعداً لدمج شعرِه بموسيقاه.

على صفحة الساوندكلاود (SoundCloud) الخاصة به، يعرّف «الراس» عن نفسه قائلًا:

 

لست نفسي كي أكون

أنا طائر النار المسافر نحو أسرار التراب

أستعيض عن النعاس باحتمالات العتاب

لأعود وأعود وأعود

حتى أعلّق النجوم بالعيون

صدقوني أنا لست نفسي كي أكون

عروبتي بداوة إلكترونية عمق جذورها بامتداد أغصانها

فلا عصبية، ولا حنين إلى الماضي، بل شغف في صناعة الهوية الجديدة

هكذا أقرأ الثورة وهكذا أكونها

الحبّ للكلّ، والحق لمن يريده.من صفحته على ساوندكلاود

 

يبدأ الراس بنكران ورفض القومية العصبية والحنين إلى الماضي. لا يقف على أطلال ماضي الحركات القومية، وبهذا يرفض خصيصاً الحركات القومية التي سيطرت على الحقل السياسي في القرن العشرين. بدلًا من الاعتماد على الخطابات القديمة الماضية، يشير الراس إلى مفهومٍ جديد ودائم التجدّد للهوية، وهي هوية متّصلة بمفهوم الثورة المستمرة على الذات. ومن هذا المفهوم للهوية، أي مفهوم الولادة المتكرّرة، يؤلّف الراس موسيقاه وأغانيه ويجسّد ثورته في كلماته. هذا التعريف يُمكن قراءته كإعلان عن نوايا للقيام بثورة ثقافية عبر «شغف في صناعة الهوية الجديدة». تشير الثائرة غرايس لي بوغس إلى أهمية القدرات الفردية للإبداع والاختراع في أي حراك ثوري قائلةً «اعتماداً على المهارات والمصالح، والمكان الذي نعيش فيه، معظمنا يحمل ويستمر مع ثورتنا الثقافية بطريقتنا الخاصة. على سبيل المثال، قد يقرّر الطبيب أن يمارس الطب البديل، وقد يقرّر المدرّس أن ينشئ صفاً أكثر ديمقراطية إلخ. ومهما كان خطّ عملنا، نرى أنفسنا وثقافتنا كأعمالٍ في قيد التطوّر» (ص٤٣). مستخدماً أدواته الموسيقية وكلماته، يعبّر الراس عن ثورته الثقافية عبر كلماته وتعليقه النقدي.

لا ينبع هذا التعليق والوعي النقدي من شعور رجعي باليأس، بل من خيار للتخلي عن مرض هذا العالم: الرأسمالية المالية. فبعد أن درس الرياضيات المالية والتمويل في فرنسا، واجه الراس بوضوح كل تقاسيم وخرائطية الأيديولوجيا النيولبرالية، فانعطف تجاه الشِعر، الذي هو «مورد خفيّ يمكّننا من التحول من نموذج واحد إلى آخر» (Berardi، ص140).

في أحد تعليقاته الأولى على إنتاجه، يقول الراس:

«اخترت أن أسمّي موسيقاي (تعليقاً). وفي هذا إشارة إلى عملية التعليق في اللغة العربية، كما تشير إلى ذلك كلمة عربية تأتي من الجذر نفسه، (معلّقات)، التي هي جسم الشعر الجاهلي والتي تم اختيارها وتعليقها بالحبر الذهبي على جدران الكعبة في مكّة المكرمة»من صفحته على الفايسبوك.

من داخل مشهد وسوق موسيقيّ مُحتكر من قبل شركات إنتاج كبيرة، حيث يتكرّر إنتاج الأغاني السيّئة، يأتي تعليق الراس ليعقد الصلة بين الهيب الهوب العربي والنتاج الشعري العربي من الشعر الجاهلي إلى الشعر الحديث. كما أنّه يُقحم في موسيقاه وكلماته نزعة أو مزاجاً جذرياً وراديكالياً، متحدّثاً عن مواضيع التشدّد، والمجتمع، والعدالة، والفساد.

الأغنية الثانية من أوّل ألبوم موسيقيّ للراس تفتتح بكلمات المفكّر الماركسيّ اللبناني مهدي عامل. الأغنية، واسمها «تخيّل» يغزوها طلب التخيّل. لكن التخيّل يعمل هنا ساخراً من الواقع، مسلّطاً الضوء على الأوضاع المعيشية اليومية البائسة. إذن يفتتح ألبوم «كشف المحجوب» بطلبٍ من المستمع ليتخيل «زلحفة مرمية على سجادة ركض بقاعة تمرين رياضية». يتبع هذا العمل الفظّ سلسلة من التخيّلات المألوفة التي تصف الواقع القاسي والوحشي. منها على سبيل المثال الأبيات الثلاثة التالية للجزء الأول:

تخيل طفل عندو موهبة شعرية بالفطرة بس لغة شعبو منقرضة.

فمات شب وانتهت جثتو مكبوبة مصبوبة بباطون مدينة بيئية بشي دولة خليجية.

 

مدركاً أنّ ندرة الوظائف تحدّ من إمكانات النشاط الإبداعي والثقافي، كما أنّها تؤدّي إلى حركات هجرة ضخمة باتجاه الدول الخليجية، يقرّ الراس في هذه الأبيات بعدم استقرار الحياة اليومية ويشهد على صعوبة المناورة في الحياة اليومية بعيداً عن تدفّقات نمط الإنتاج الرأسمالي. الأبيات تؤكد عدم إمكانية تعزيز المواهب الفنيّة في عالم يقدّم لك خيار العمل في الخليج أو الموت. ومع ذلك، فإن هذه الأبيات ترفض هذين الخيارين بين الموت والحياة، فمجرّد كون الفرد في حالة دَين يُعتبر موتاً فورياً.

لكنّ الأغنية لا تترك المستمع فاقداً للأمل. في وسط الأغنية، التخيّل يصبح مصدر تضامن:

 

تخيل، تحوّل على غيرك

بإحساسه تجوّل على كيفك.

تعرّف على ضعفو تتعرف تدافع عنّو بسيفك والقلم،

بعلمك والعمل.

بالحلم المرسوم بشظايا الأمل.

 

تستحضر هذه الأبيات حلًا للتحالف الجذري بين العالم، وهو تحالف يجمع بين فئات العالم بالرغم من تشتّت المجتمع تحت الرأسمالية. كما أنّها تنسجم مع بيان «Una Huelga de Mucho Cuidado»[إضراب بعناية كبيرة] من قبل مجموعة الـ«Precaris a la Deriva». هذا البيان يصرّ على ما يسمّيه تسلسل «تواصلياً» الذي يصر على دحض القيمة المبادلة للتواصل الاجتماعي عبر رفعه إلى الأعلى وتهجيره بعيداً عن الطبيعة التشتّتية للرأسمالية.

«أنا مش أنا»

التلاعب بين الأمل والسخرية في أغنية الراس يرمز إلى طاقة طوباية تفرض تغيير أوضاع بائسة ومقفرة. كل لحظة تصبح فرصة لتغييرٍ جذري. هذا التغيير، في جذره، يكون تغييراً في منطق الهوية في آن واحد. في أغنية أخرى تحت عنوان «أنا مش أنا»، يتطرق الراس لعصب كل عصبية ومنطق الجوهر للهوية.

تسود أغنية «أنا مش أنا» انتماءاتٌ تنسب إليها الكثير من الخلافات، عصبيةً كانت أم طائفية. علاوةً على ذلك، ثمّة أبيات تفرض تجاوراً أو تراصاً بين ثوّار ذوي خلفيات مختلفة كعمر المختار — أستاذ قرآن ليبيّ ساهم وقاد حروب الغوريلا ضدّ الاستعمار الإيطالي — وتشي غيفارا. تجاور هذه الشخصيات المتناقضة عقائدياً وأيديولوجياً يبرز قيمة البيت الشعري في قدرته على حياكة معنى بالرغم من التوتّر اللفظي والدلاليّ. وعلى درجة أعلى، هذا التجاور يعطي معنى وقيمة للفارق التاريخي والجغرافي للشخصيات عبر إعطاء الأهمية لمشاركتهما النضال ضدّ قوى الاضطهاد والاستعمار. وإذ يصف الراس نفسه على صفحة «الساونكلاود» قائلًا: «لا للقومية، لا للحنين»، فأغنية «أنا مش أنا» تأتي وفيةً لمعنى هذا الوصف الذاتي.

في الجزء الثاني من الأغنية، يعبر الراس بين هويّتين طائفيتين عبر انتقاله من بيت شعريّ إلى آخر:

 

أنا سنيّ من الروافض

أنا شيعي من النواصب

أنا «ميكس» بين أبو بكر وعليّ بن أبي طالب.

 

يلغي الراس في هذه الأبيات الفرق بين الكيان السنّي والكيان الشيعي، معبّراً عن وجود هويته في الطائفتين معاً وعن إمكانية ربط ووصل الخلاف الطائفي بين السنّة والشيعة. هذا الربط بين الطائفتين يُكمل مجاز التسلسل التواصلي بين الناس كضرورة الرؤية والشعور عبر الآخر ورسم الأحلام بشظايا الأمل. التسلسل التواصلي يوازي هويات مختلفة ويوجّهها نحو الاهتمام ورعاية بعضهم بعضاً ويبرز النضال المُشترك بين هذه الهويات المختلفة.

تعبّر غرايس لي بوغس عن التسلسل التواصلي بالقول: «بدلًا من الفكر الاختزالي، الثنائي، المُقسّم، أو الفكر الذي يلقي اللوم على الآخرين، التحرّك الاجتماعي [المرجوّ] يؤكّد على وحدة العقل مع الجسد والروحي مع المادي، كما يشجّع وعياً يرفض الحتمية — الاعتقاد بأنّ الماضي يعرّفنا ويحدّنا — ويدحض كلّ مطلق. كما أنه يَدعم وعياً يجد المتعة في عبارة الحدود، وعياً لا يعتمد على قوّة غير طبيعية بل يكون (طبعانياً)، ويطمح إلى تمكين الأنا والآخر وليس للقوّة والتحكّم بالآخر» (ص41). هي تقوية الأنا والآخر ضدّ «أمّة الظلم»، وهو اسم أغنية أخرى للراس.

 

الأنا والآخر

في «أمة الظلم» يبدأ المتكلّم معبّراً عن صعوبة الكتابة عن الشام: «لما أكتب عن الشام، إيدي بترتجف». ولكن مع تقدّم الأغنية ينتقل مزاجها من البارد إلى الدافئ. لا تعود مساحة ومجال النضال محصورين بمنطقة جغرافية معيّنة، بل يشملان العالم بأسره. في البداية، الراس يقدّم سردا للأحداث الجيوبوليتيكيّة في المشرق العربي منذ العام ٢٠٠٥، وذلك لإبراز نفاق السياسيين. في نسيج من الكلمات والإيقاع، بداية الأغنية تصل نضال الشعب السوريّ مع نضال اللبنانيين ضد السياسيين الفاسدين. وأبرز مثال على ذلك قوله: «لو حكمهم السنيورة كانوا اختنقوا السوريّة». في بداية الجزء الثاني، هذا الوصال الثوري يتوسّع ليشمل فلسطين:

 

فلسطين حقّ الشعب

والشعب حقّه الكرامة

الكرامة بيحميها الحاكم والحاكم بقصره نايم.

نايم على جثث الشعب،

والشعب بدّه فلسطين

وفلسطين بدها الأحرار

والأحرار اختاروا الثورة على النظام.

 

كتابة هذا البيت تشبه حجّة منطقية. الأغنية توازي ما بين النضال الفلسطيني والنضال ضدّ أيّ طاغية أو ديكتاتور. ولكن النضال الفلسطيني يشمل السياسة العالمية والسياسة الخارجية للولايات المتحدة، ولذلك يقدّم الراس تحذيراً:

 

العقول الحالمة، مدركة إنّو العفن بالنظام العالمي

أميركا علقة بتعيش على الميّ الآسنة

من كلّ جسم حيّ بتلزق تتمص الدم للأمانات خائنة

ابتعد عنها يا ابن العم

رأس المال لكل ثورة سمّ مميت

الدعم الأميركاني الوحيد بتاخدوا من العنيد بوول ستريت

كون الطوفان وسمّع صوتك للكون

كون نبض انقلاب على موسى وعفرعون.

 

من الانفراد إلى الكتابة، تتطوّر الأغنية لتصبح أغنية نصائح للثوار والناشطين حول العالم. الأغنية تعبّر عن شبكات التواصل بين النضالات العالمية، من لبنان إلى سورية إلى فلسطين وصولًا إلى حركة «احتلوا وول ستريت» (Occupy Wall Street). تتضح صورة أميركا التي يمكن اعتبارها مجازاً للرأسمالية، كعدوّ مُشترك يعمل كـ«عَلقة» تمصّ الدماء من الجسم المضيف. تُضعف أغنية «أمّة الظلم» وجهة النظر القومية وتؤكّد أهمية الحراك خارج إطار الدولة في آن معاً.

الأغنية دعوة إلى نظام حكم يكون بديلًا للهيكل العمودي الحالي، ويتكوّن من صلات وصل تخلق مجتمعات أفقية تراعي بعضها بعضاً. في مقال بعنوان «الجمهورية التأسيسية» يدعو أنطونيو نيغري إلى وجهة نظر تعتبر الحياة «تمرّداً يومياً، ومقاومة مستمرّة، وقوّة تأسيسية. وتكون وجهة النظر هذه رافضة وكاسرة لـ[الواقع المفروض عليها]، تكون خيالية، والخيال هو أساس كل العلوم السياسية» (ص٢١٩).

بالإضافة إلى ذلك، تريد هذه النظرة الجديدة الوصول إلى تشكيلٍ جذري «لجمهورية تعتمد على قوّة الشعب من دون الاعتماد على مال الأمير [الميكيافيللي]»، تاركةً وراءها الحاكم أو الأمير الذي ينام على جثث الشعب ورافضةً لسمّ رأس المال، تظهر «أمّة الظلم» كأغنية عن أشكال جديدة لتشكيل المُجتمع تتّفق مع القيم الثورية لمفهوم الهوية الجديد.

«أمّة الظلم» تتناغم مع أغنية أخرى للراس عبر خطابها لثوار وناشطين. يغنّي الراس في أغنية «من ثائر» (هون فهمت وحدة حبري ودمّي)، ويوجّه هذا الفهم في شكل رسالة، ولكن هي رسالة تأتي من مختلف المناطق:

 

هيدي رسالة من التحرير، من وديان كشمير

هيدي رسالة من نابلس، من الجوعان بطرابلس

هيدي رسالة من البصرة

من ريف حمص الحرة

من كل محمد الدرة والبوعزيزي

هيدي رسالة من بنغازي

من ملثّم بسينا بفجر أنبوب الغاز

من تونس، من مهد الثورة

من إثيوبية عالدورة

من دوار الشهداء بالمنامة

من تلال النبطية

من رموش عين مقاوم ما بتنام

من سفوح جبال قنديل

من دم شهيد عميروي النيل

من محتلي وول ستريت، من محتجّي أثينا

من دلال المغربي، من ورد نبت عكفنها

من ضواحي باريس والمخنوقين بعفنها

 

ينسج الراس مواقع عالمية للمعارضة والانشقاق تتّصل ببعضها البعض عبر النضال الثوري. هذه المواقع والمدن تمتدّ في سائر الجنوب العالمي والعالم الثالث المتواجد في العالم الأوّل (الأقليات والمهاجرين). التسلسل التواصلي بين سائر هذه المواقع على الأرض لا يعني القيام بحركة متجانسة، بل يشدد على إيمان بإمكانية وجود عالم فيه حركات كثيرة على نسق حركة الزاباتيستا في المكسيك. تنسج هذه الثورات مع بعضها البعض بشكلٍ مختلفٍ عن ثورات الماضي. في لهجة خيبة أمل، يقول الراس:

عزيزي الوالد

أتمنى أن تبارك

ثورات جيلنا البطل

لقد شهدنا ما حصل، وما حصدنا من ثوراتكم

غير الكلام في الظلام

غير العتاب والنحيب

وما نفع أقوالنا وجسمنا معلّق فوق الصليب؟

وقدسنا سليب.

 

الأغنية تنتهي بالابتعاد عن محنة وسوداوية فشل الجيل الماضي. رغم إدراكهم لعدم استقرار الوضع، ثوّار اليوم ليسوا سريعي الاستسلام في وجه الفشل. خياراتهم تمتد من القلم إلى السيف إلى جلودهم المحروقة:

 

فلتستفض أقلامنا، ولتستفق سيوفنا

فلتحترق جلودنا، لتندفق حروفنا والبنادق

 

توظيف الجلد المحروق كسلاح ثوري بين أساليب التمرّد المعتادة يدلّ على إدراك احتمال الفشل، لكنّ هذا الفشل المدلول عليه بواسطة الجلد المحروق هو علامة نجاح مستقبلي ملحوم في الحاضر.

 

على سبيل الخاتمة

«الراس» مثال لقوّة الثقافة الخلاّقة، في تماثلها مع حركات اجتماعية حول العالم وتعبيرها عنها وتوضيحها. الأهم من ذلك واللافت في الوقت عينه، هو قدرة هذا النوع الجديد من الإنتاج الثقافي على أن يكون مختلفاً عن محيطه ومتّصلًا ومعنياً به في آن معاً. من خارج احتكار أسواق الموسيقى من قبل شركة روتانا السعودية، تظهر سائر الموسيقى البديلة في العالم العربي. ولكن الهيب هوب العربي لم يكن يريد يومًا أن يخلع روتانا عن عرشها الوحيد.

الهيب هوب العربي يوضّح عدم أهمية وعدم تقديم روتانا أيّة إضافة للإنتاج الثقافي العربي والعالمي. فإذًا، تعلن موسيقى الهيب الهوب العربية هزيمتها منذ البداية أمام شركات محتكرة مثل روتانا لأن هدفها ليس التنافس، بل هدفها تحقيق التواصل الحيّ، والشعور الجديد الذي يأتي من هذا التواصل. هذا الشعور هو نوع آخر من الشعور بالألفة.

كما يقول موتن وهارني «هذا النوع من الشعور ليس جماعياً، لا يُنسب إلى قرار، لا يلتزم أو يُعاد عقده في أيّ نوع من التسوية أو أمّة أو دولة أو قصّة تاريخية، كما أنه لا يُستعاد من قبل مجموعة[كإقصاء للآخرين]» (ص٩٨).

يسمّي موتن وهارني هذا الشعور باللمسيّة، واللمسيّة تعبير عن مستقبلٍ لا يُرى بُعده، لكن يُلمس، أي الإحساس أن ما هو آتٍ موجود في قدراتنا على التعبير والتحرّك والحب، والعطاء والمراعاة، وخلق جذري لماضي مستقبلٍ آتٍ ووضع جذور حيث مُنعت الجذور وتزيين مخاض التاريخ بتردّدات مختلفة.

وبسبب لمسيّة هذا النتاج الفني تتمكّن موسيقى الهيب الهوب من أن تزيل الفرق بين أداء حفلةٍ موسقيةٍ وتظاهرة. من تظاهرات لدعم الثورة السورية إلى تظاهرات غاضبة ضد مجلس نوّاب لبناني يمدّد لنفسه، أغاني الهيب الهوب كانت موجودة دوماً على اللافتات وفي الهتافات. كلمات الأغاني غالبًا ما تكون متناسقة مع هتافات شعبية أو مقتبسة من مفكّرين شهداء.

شعراء جدد. موسيقى جديدة. قال الفيلسوف الألماني والتر بنجامين إن «الرأسمالية لن تموت موتاً طبيعياً». جيل ١٩٦٨، والحركات القومية بعد الحرب العالمية الثانية بدورهما تعلّما بصعوبة أن الرأسمالية لن تموت على أيديهم. جيل اليوم، جيل حركات «احتلوا...»، ما بعد «احتلوا...»، وجيل الثورات العربية، يشعر بوجود وقتيات متعدّدة، ومن هذه التعدديّة يمكن لهذا الجيل أن يستمتع بالفشل كنجاح. تعدّد الوقتيات يعد بطرق مختلفة للنضال والعمل وتكون الثقافة جزءاً منها، تؤثّر بالسياسة بتأثيرها في الوعي الجماعي.

في كلمات «الراس» نوع من الطاقة البروميثتية وتجسيد لقول برتولت بريشت «الفن ليس مرآة تُحمل لتعكس الواقع، بل مطرقة عبرها يُصاغ الواقع». في «مجلّة بيروت للتنشيط الرديكالي» يُسأل «الراس» عن «كيف يُمكن للمستمعين أن يدعموا مشروعك؟»، فيجيب قائلًا «حتماً طموحي النهائي هو رؤية العالم يستعمل هذه الأفكار بشكلٍ يوميّ».

فعلًا، موسيقى الراس تترجم نفسها لأعمال غرافيتي، ولأفكار راديكالية، ولتحرّكات سياسية. شعره، عبر الاستعانة بكلمات بيراردي يكوّن «ما لا يُمكن تلخيصه بمعلومة، ولا يُمكن مبادلته، بل يعطي الفرصة لمساحة جديدة من التفاهم والتلاقي حول معنى مُشترك: خلق عالم جديد» (ص١٤٦).

 

المراجع:

  • Halberstam, Jack. Gaga feminism: sex, gender, and the end of normal
  • Boston: Beacon Press, 2012. Print.
  • Harney, Stefano, and Fred Moten. The undercommons: fugitive planning & black study.
  • Negri, Antonio. «Constituent Republic.» Radical Thought in Italy: A Potential Politics. Minnesota: University of Minnesota Press, 1996. Print.
  • Boggs, Grace Lee, Scott Kurashige, and Danny Glover. The Next American Revolution Sustainable Activism for the Twenty-First Century. 1st ed. Berkeley: U of California, 2012. Print.
  • Berardi, Franco. The Uprising: On Poetry and Finance. Los Angeles: Semiotext(e), 2012. Print
العدد ١٢ صيف / خريف ٢٠١٥
«الراس» والهوية الجديدة

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.