العددان ٣-٤ خريف ٢٠١٢ / شتاء ٢٠١٣

العنف في الحروب الاهلية: القنّاص والمنتقم

النسخة الورقية

الجَمع بصيغة المفرد

«السوري»، «الفلسطيني»، «المسلم»، «الدرزي»، «المسيحي»، «الماروني»، الخ.

هكذا يجري تفريد الجماعة في لغة الحرب. العدو دوما مفرد. تختصِر صيغةُ المفرد كل خصائص الجماعة. ويخدم هذا التفريد في تبرير العقاب الجماعي: اي واحد منهم جدير بالقتل. لمّا كان كل واحد منهم يحمل خصائص الجماعة، إذاً فقتل واحد منهم يعني قتلهم جميعا. لنتذكر هنا المعادلة الحسابية الرهيبة التي أطلقها «حراس الارز»، وصكّها سعيد عقل، ورفعها الى مصاف الواجب «الوطني»: «على كل لبناني ان يقتل فلسطينياً».

للقبائل دوما «عادلون»، وهم المنتقمون المتطوعون لغسل العار بالدم، او الرد على الثأر بالثأر. وهم الذين يتلقون الضربات الاشد إيلاماً في وقائع الثأر وساحاته. ان القناص في الحرب الاهلية هو مسخ حداثي للمنتقِم القبليّ. لقبه ــ القناص ــ وسلاحه ــ القناصة ــ مستمدان من القنص. القناص صياد يعمل لحسابه الخاص. غير أن القناص في الحروب الاهلية لا يشبه بشيء تقريبا قناص الحروب الكلاسيكية او حركات التحرير الوطنية. أسلافه الاشهر هم قناصو الحرب الاهلية الاسبانية، افراد «الطابور الخامس» الشهير، الموالون للجنرال فرانكو الذين بقوا في مدريد المحاصرة، مكلّفين بإحداث اكبر قدر من الاضرار، وقتل وترويع اكبر عدد من المدنيين، وزرع الرعب في اواسط القوات المعادية وتحطيم معنوياتها. وقد سمّي هؤلاء الأفراد المجموعات بالطابور الخامس لأنّ الطوابير الاربعة الاولى كانت تحاصر مدريد، فيما الخامس يعمل داخل اسوار المدينة.

كثر استخدم مصطلح «الطابور الخامس» في الحروب الاهلية اللبنانية، للاشارة الى قوة غامضة مؤامراتية ومجهولة يعزى اليها تخريب التعايش بين اللبنانيين وعرقلة جهود تحقيق السلام. والافتراض السائد ان قتل اللبناني للآخر أمر مناف لـ«طبيعة اللبناني» فلا بد من محرّض خارجي، بل منفّذ خارجي، حتى أنّ الحرب كلها ليست إلا «حرب الآخرين»، حسب الصيغة الشهيرة للصحافي غسان تويني. في خطابات بيار الجميل، مطلع الحرب عامي ١٩٧٥ــ ١٩٧٦، كان الطابور الخامس هو «اليسار الدولي». ثم كثرت الاشارات الى «الاصابع الخارجية» التي تعبث بـ«أوضاعنا الداخلية» وتخدم مؤامرة دوماً خارجية تروم زعزعة الاستقرار وزرع الفتنة بين اللبنانيين.

المدنيون هم اختصاص القنّاص

للقناص دوران اثنان في الحروب الاهلية. دوره الاول الابقاء على توتر امني دون ان يؤدي ذلك الى اندلاع الاشتباكات على خطوط التماسّ، او اللجوء الى اعمال القصف بين الاحياء السكنية. يكفي «قطع» طريق من الطرقات بنيران القنص لاثبات انّ الوضع ليس آمنا. خلال تنفيذه هذه المهمة، يكون القناص تحت الرقابة المباشرة لرؤسائه الذين يقررون وتيرة القنص ومدته.

يؤدي القناص الدور الثاني خلال الاشتباكات العسكرية عندما الحرب «تمري في يد حالبها»، وتكون خطوط التماس قد استقرّت. اذذاك يكون القناص رامياً حرا، اكثر حرية من القتلة واشد فتكا منهم، بمعنى ان اهدافه هم المدنيون في معظم الاحوال. اولئك الذين لا ذنب لهم الا انهم يتجولون في الشوارع والطرقات والازقة الواقعة في الجهة الثانية. اما الخوف من الموت الذي يزرعه القناص فيمنحه سلطة فردية استثنائية على عشرات الالوف من البشر. هنا يكون نشاط القنّاص التطبيق العملي لتفريد الجماعة بمعنيين: الجماعة ــ جماعته ــ تتجسد هنا بفرد يمارس العقاب باسمها. وعكساً، الجماعة المعادية تتفرّد، اي تصير كثرة من الافراد يجدر، إن لم نقل يحلو، قتلهم. ولما كان القنّاص «صياد رؤوس» فغالبا ما يجري تعويضه ماليا حسب عدد الرؤوس التي اطاحها.

المدنيون هم اختصاص القناص. اولئك الذين لا يحاربون. لنتفاهم: لا معنى لنعتهم بالمدنيين الابرياء. ذلك انه لا وجود لأبرياء وفق منطق الحروب الاهلية. كل فرد متّهم بالأمر الوحيد الذي لم يختره: ولادته. كل فردِ يحمل الجماعة في ذاته، والجماعات مذنبة بعضها تجاه بعض. بل ان معظم ضحايا القناص هم المدنيون الذين تدفعهم الضرورة الاقتصادية الى التنقل: عمال، كناسون، موزعو صحف، باعة متجولون، موظفون صغار، صحافيون، الخ.

لا يقتل القناص إلا القناص. يصعد قناص صديق الى احد السطوح ليناوش القناص المعادي ويشاغله لكي يتمكن اخيرا من ان يصيب منه مقتلا.

في الانتظار، ابتكر الناس حيلتين رئيسيتين للتحايل على القناص. الحيلة الاولى هي ان يعمد اهل الحي ليلا الى رفع ستائر على عرض الطريق تحجب النشاط الجاري في الشارع. هكذا يجد القناص نفسه بمثابة الاعمى ويستطيع أهل الحي ان يؤدوا ما يلزم من مهمات حياتهم اليومية دون كبير مخاطر. وجدير بالذكر أنّ اهل ساراييڤو المحاصرة استخدموا الحيلة ذاتها التي استخدمها قبلهم اهالي بيروت الحرب الاهلية للاحتماء من القناصين المعادين. بل زادوا على ذلك نصيحة للعابرين شوارع يسيطر عليها قناصون: اياك ان تكون ثالث العابرين في شارع يقطعه قناص. فالقناص يشاهد العابر الاول. ويصوّب على الثاني. ويصيب الثالث.

اما الحيلة الثانية فهي استخدام عارضات أزياء الواجهات التجارية (المانيكان) لحرف انظار القناص، فما ان يكتشف القناص ان ما يراه من خلال منظاره ليس إلا تمثالاً يتحرك على عجلات، لا بشر، يكون الاهالي قد عبروا الشارع الخطر الذي يسيطر عليه القناص. لكن القناص ينتقم من العارضة باطلاق النار عليها فيمزقها إرباً إرباً.

في اغتيال الحياة

لا يكتفي القناص بقتل الابرياء، انه يغتال «الحياة» ذاتها. في رواية حنان الشيخ، «حكاية زهرة»، يمكن قراءة انجذاب زهرة الجنسي الى القناص العامل في الجوار قراءة فرويدية على انه رغبة في الموت. مهما يكن، فإن رغبة زهرة تفضح حقيقة القناص. ففي الامر ما يتعدى الرغبة في الموت عند زهرة الى الموت ذاته. ما تجهله زهرة هو انها إذ تجامع القناص تحكم على نفسها بالموت. فمن المجامعة تولد حياة تحملها زهرة في أحشائها. تحلم زهرة بأن القناص سوف يتزوجها ذات يوم. اما القناص فما هو في الحقيقة الا العِنّة والعُقْم. وهي العِنّة التي تولّد العنف، كما تشير حنة ارندت عن حق. لهذا فإن زهرة إذ تحمل من القناص تحكم عليه بالاعدام، لأنها تحمل في أحشائها نقيضه، الخصوبة والحياة. ان قناصا خصيبا ليس بالقناص. لن يقع القناص في الفخ. بحذر، بلا رحمة وبسرعة خاطفة، يقنص المرأة التي تحمل الحياة في احشائها، تلك الحياة التي هي موته.

ثم ان القناص ليس يقتل المدنيين الابرياء ولا هو يقتل الحياة ذاتها وحسب. انه يقتل الموتى ايضا. رصاصة في قدم الضحية، وها هي ارتمت ارضا. رصاصة ثانية في الخاصرة مثلا او في الرأس. يجب دوما اصابة الرأس. الرأس هو الامتحان الارقى للقناص وهو ما يكرّسه قناصاً. واصابة الرأس هي البرهان الاكيد على ان الضحية لم تعد غير جثة هامدة. والرأس هو ما يصوّب عليه منتقمو القبيلة، بين العينين تحديدا. ذلك ان الشرف يستوطن بين العينين، كما يقال. والثأر يوجب قتل الشرف. وبعد ان يتأكد القنّاص من أنّ الضحية قد ماتت، تنهال الرصاصات بتصويب دقيق. عند كل واحدة منها، تترقص الجثة، يتقفز عضو من اعضائها، في هذا الاتجاه او ذلك، في حركة فجائية، وعند كل رصاصة اضافية، تتحرّك الجثة حركاتها المتخلعة. في الحروب اللبنانية جرى تعميد هذه اللعبة «ترقيص الجثة».

مع ان القناص هو منتقم القبيلة، الا ان اهله لا يعترفون به. انه يذكّرهم كثيرا برعب زميله، القناص العدو في الجهة المقابلة من الشارع. يخشى الناس القناص، لكنهم لا يحبّونه. القناص ليس بطلا. خلال حملات التفتيش والمداهمة، تكون الاولوية للبحث عن القناص، ويمكن التعرّف اليه من الكدمات الزرقاء الكبيرة على كتفه. ذلك ان للبندقية القناصة قوة ارتداد عنيفة تحدث كدمات تظل ظاهرة خلال اسابيع. اما بشاعة ما يرتكبه القناص فيستحق عليه مصيرا على المستوى ذاته من البشاعة عندما يقع بين ايدي اعدائه. يطلق القبض على قناص هذياناً دموياً وطقس تضحية جماعياً. هذا هو المصير الذي لاقاه قناص فندق «هوليدي إن» الذي روّع سكان بيروت الغربية وأرهبهم خلال شهور باكملها. إذ القي القبض عليه عند سقوط الفندق بيد «القوات المشتركة» لمنظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، طُعِن جماعيا بالسكاكين والخناجر والحراب ثم شنق وفصل رأسه عما تبقى من جثته التي ربطت بخلفية سيارة، وتم جرّها عارية استعراضاً في شوارع بيروت الغربية.

في الحرب الطائفية، يموت القناص وحيدا. انه قاتلٌ لحسابه الخاص وعلى مسؤوليته، وهكذا يموت.

المنتقِم بين شرعتين

الانتماء المزدوج للفرد الى منظومتي قيم وسلوك هو احد النوابض الاكثر مراوغة والاشدّ زخما للعنف في الحروب الاهلية اللبنانية. ينجم عن ذلك نظام قيمي هو تنغيلٌ يجمع أعرافا من العنف القبليّ الى أحكام انتقائية من قوانين المجتمع الحديث. ولهذا السبب بالذات فهو نظام يعيش حالة استعصاء دائمة تطلق عنفا مخبلا حد العبث. والحالة الاكثر تعبيرا عن هذه النغولة وذاك الخبل هي حالة جوزيف سعادة، الملّقب «سفاح السبت الاسود».

يمكن الحديث عن حياتين عاشهما جوزيف سعادة. للوهلة الاولى لم يكن شيء يؤهل هذا الرجل للعنف او لارتكاب المجازر. كان نشطا في الوسط الرياضي، يرأس «جمعية سباق السيارات اللبنانية»، وعلى خصومة عنيدة مع حزب الكتائب المسيطر على قطاع لا بأس به من الحياة الرياضية اللبنانية. ولأنه متمرد «ضد سلطة المال والظلم»، حسب تعبيره، جنحتْ عواطفه السياسية جهة كمال جنبلاط وحزبه التقدمي الاشتراكي. خلال «ثورة» العام ١٩٥٨، والاسابيع التي تلتها من الاقتتال الاهلي، عمل سعادة مقدِّما للاخبار في اذاعة الثوار. وعمل خلال الستينيات والسبعينيات موظفا اداريا في جريدة «الاوريان» في مكاتبها في بيروت الغربية. ولما كان جوزيف سعادة ايضا احد المتحمسين للنضال الفلسطيني، كنتَ ترى على الجدار فوق مكتبه صورة لجورج حبش، زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي كان جوزيف معجبا باخلاصه وصراحته. عند اندلاع الحرب، انبثقت شخصية اخرى وحياة باطنية اخرى لجوزيف سعادة، موسومتين بميسم الاصل والهوية. فهذا الجوزيف سعادة ذاته هو ابن صاحب مطعم ماروني كسرواني الاصل عمل في خدمة الجيش الفرنسي ولحق بعسكر الانتداب من لبنان الى درعا فالسويداء في سورية. انتظم ابنه جوزيف في الامن العام الفرنسي في سورية، ما اضطره الى مغادرة البلاد هربا من الانتفاضات الوطنية ضد الانتداب. ثم عاد. وعند الاستقلال، سجن جوزيف لشهر واحد في دمشق بتهمة «التعامل مع العدو». فور الافراج عنه، غادر الى بيروت حيث إستقرّ ووجد لنفسه عملا ثابتا بما هو حارس الملعب الرياضي الفرنسي، المسمّى «ستاد ده شايلا». سمح له المورد المالي الثابت بأن يطلب يد امرأة لطيفة من أسرة ارثوذكسية ميسورة. سمّيا ابنهما الاول «رولان» على اسم ابن اخ الامبراطور شارلمان الذي قُتِل بسهام العرب، على ما تزعم رواية مشكوك فيها تاريخيا. مهما يكن، عُرِف جوزيف سعادة بتعلّقه الشديد بالعائلة وبنزعة الى الارتقاء الاجتماعي ولو على سبيل الادعاء. فكان فخورا بابنيه اللذين يشاركانه الحماسة لسباق السيارات ويخالطان ابناء المجتمع المخملي البيروتي الذين يتعاطون تلك الرياضة، من ابناء سفراء وزعماء السياسيين ورجال الاعمال.

«السبت الاسود»: ٦ كانون الاول ١٩٧٥

هذا الجوزيف سعادة الثاني سوف تنقلب حياته رأسا على عقب جراء حادثة وقعت خلال احدى هدنات الحرب. في آب ١٩٧٥، اختفى ابنه الاصغر ايلي خلال سباق سيارات، ووجدت جثته بعد بضعة ايام على مقربة من قرية مسلمة في منطقة زحلة. صاح الوالد المفجوع: «سوف أرتكب مجزرة... أريد ١٥ ولدا مقابل ولدي». المجزرة سوف يرتكبها بعد شهور. اما حينها، فما ان شفي من ذبحة قلبية اصابته يوم دفن ابنه، حتى كان جوزيف سعادة امسى عضوا في حزب الكتائب واخذ يطارد الفلسطينيين والمسلمين مراكما اعداد ضحايا الانتقام من الذين حمّلهم مسؤولية قتل ولده. في رياضة القتل تلك، لعب الادوار كلها: مارس القنص والخطف والقتل، يعاونه ابنه رولان الذي انضم الى الـ«ب.ج»، فرقة النخبة الكتائبية التي تحمل الاحرف الاولى من اسم بيار الجميّل، ويقودها ابنه بشير. غير ان ممارسة جوزيف سعادة الاثيرة كانت ان يستقلّ سيارة أجرة يقودها احد الفلسطينيين فيخطف السائق ثم يقتله. يوم ٥ كانون الاول ١٩٧٥، اختفى ابنه رولان بدوره في برمانا ومعه ثلاثة من رفقائه من مقاتلي «ب.ج.». وإذ شاع خبر اختفائهم، بدأ خطفُ المسلمين في بيروت الشرقية. وعندما عثر على جثث الكتائبيين الاربعة في منطقة الفنار، في ضواحي بيروت الشرقية، بدأ «السبت الاسود» يوم ٦ كانون الاول، المجزرة الطقوسية الاشد روعا في الحروب اللبنانية قبل مجزرة صبرا وشاتيلا. هكذا يروي جوزيف سعادة نفسه وقائع ذلك النهار المرعب:

«حمل الي احد افراد الميليشيا قميص ابني رولان مخضبا بالدم. دفنت رأسي في القميص. وذرفت دموعا وانا اصرخ واطلق العويل.

رفعت القميص بذراعيّ الاثنتين فوق رأسي، واخذت اتمتم صلوات غير مفهومة، فيما قدماي تؤديان رقصة جنائزية بدائية. صرت الفّ وأدور على نفسي هكذا خلال عدة دقائق ثم توقفت شاخص النظر، متوتر الجسد. امتدت يدي الى اخمص مسدس الـ «كولت» المعلّق في حزامي. وقد بقي في جيوبي ممشطا رصاص.

توجهتُ الى الرجال الشيعيين الذين كنا عفونا عنهم منذ ساعة. وصرعتهم جميعا.

صرخ رينغو صرخة مروعة عندما أخبرته بمقتل رولان ورفاقه الثلاثة. إغرورقت عيناه بالدموع. فإمتشق رشاشه الـ«ماو» ذا الممشط الاسطواني وفتح الباب. واخذ يطلق النار في كل الاتجاهات فيما انا أفرغ رصاصات مسدسي «الكولت».

نفدتْ ذخيرتي خلال ثوان. فأسرعت باتجاه القيادة العامة للـ «ب.ج.» حيث مخزن الاسلحة. عثرت فيه على بندقية كارابين اميركية ذات العشرين طلقة وثلاثة مماشط. انضممت الى رينغو اتهادى كالمجنون وواصلنا التصفيات. كان الرجال متمددين في بحر من الدماء تنوس حشرجاتهم وتوسلاتهم تدريجيا. غادرت الزقاق وقد خيّم عليه الصمت وتقدمت باتجاه جادة شارل حلو حيث كانت بوابات جهنم مشرّعة على مصاريعها.

هي حمى مجنونة ضربت الحيّ. لم نعد بشرا. حتى الذئاب كانت أرحم منا تأكيدا. كنا نصفّي المسلمين، ومعظمهم عمال في المرفأ، برصاصة في الرأس بطلقة من مسدس او بصلية من رشاش الكلاشنيكوف. كدّسنا الجثث في شاحنة ذات ستارة، فنقلهم مسلحون وقذفوا بهم من فوق احد الجسور. لقد انتصر الاكثر خبلا بيننا. لكني لم اشعر بأني إرتويت. لم أشعر بأي فرح، ولا اية نشوة. كنت أطلق النار لأنه لم يعد يوجد ابرياء، لأنه لم تعد توجد براءة. كان جميع المسلمين مسؤولين عن مقتل ولدي».

«لا ابرياء في الحرب»

هوذا سعادة يعلن حقيقة من حقائق كل حرب اهلية: لا ابرياء في الحروب الاهلية ولا براءة. اعترفَ بأنه قتل ٧٥ رجلا بمفرده، من اصل مجموع لا يقل من ٢٠٠ ضحية. ها هو الانتقام العددي قد تضاعف ثلاثة اضعاف: قتل سعادة وصحبه ٥٠ مسلما مقابل كل قتيل كتائبي، وهو حرفيا ما أقسم عليه في مشرحة المستشفى امام جثة ابنه.

بعد المجزرة، تولى بشير الجميّل «التغطية» على جوزيف سعادة فعيّنه مسؤولا عن المكتب الرابع (التجهيز) في التنظيم العسكري للحزب الذي كان بشير نائبا لقائده. وفيما منح الحزب والطائفة الرعاية لـ«والد الشهيدين»، كان الناس في بيروت الغربية يسمّونه «سفاح السبت الاسود».

غير أن الثأر الجمعي، بكل ما فيه من خبل، لم يكن ليروي غليل «بطل» قصتنا. صحيح انه كان بالإمكان اعتبار كل مسلم مسؤولا عن موت ولديه. الا ان جوزيف سعادة كان يريد معاقبة المتهمين الفعليين هم ايضا. والمفارقة في الامر انه قد حصل له ذلك. فبعد سقوط مخيّم تل الزعتر، تسلّم جوزيف سعادة من امين الجميّل، رئيس الجمهورية لاحقاً والقائد العسكري للهجوم على تل الزعتر، ثلاثة فلسطينيين يفترض انهم القتلة الحقيقيون لابنه رولان. ولكي تكتمل غرائبية ذلك الطقس الدموي، قرر جوزيف سعادة احتجاز مخطوفيه الثلاثة في... قصر العدل! كان يزور المبنى المهجور يوميا برفقة رجال ثقاة ويعرّض المخطوفين لابشع انواع التعذيب على امتداد اكثر من اربعة شهور. وكانت المدة لتطول اكثر من ذلك، لولا ان سعادة خشي الدخول السريع لقوات الردع العربية الى بيروت الشرقية، فقرر إعدام سجنائه في الذكرى الاولى لمقتل ابنه، يوم ٦ كانون الاول ١٩٧٦، وفي المكان ذاته حيث عثر على جثة رولان.

ينطلق رينيه جيرار في تنظيره للعنف من الافتراض ان العنف لا محيد عنه في اي اجتماع بشري. وقد كتب صفحات مثيرة مقارناً الثأر والعقاب بين التقليد القبلي والقانون الجزائي الحديث. يقول جيرار إن النظام القبلي «يخدع العنف» إذ يستبدل معاقبة الجاني بإنزال العقاب بـ«كبش محرقة»، اكان حيوانا ام بشرا. فعندما تضطر القبيلة الى دفع ديّة قتيل، فترتضي التضحية باحد افرادها، او تقرر ان تتولى هي ذاتها قتل احد افرادها، في مبادلة الدم بالدم، عادةً ما تختار القبيلة رجلا آخر غير الرجل المذنب للتضحية به او لقتله. في المقابل، ينزِل القانونُ الجزائي الحديث العقاب بالمذنب شخصياً، ملتزماً بالوصايا العشر للديانات التوحيدية الثلاث: القاتل يقتل. لأن هذا النظام، نظام دولة الحق والقانون، يملك احتكارا مطلقا للعنف. هكذا يسعى النظامان، القانوني والعرفي، في رأي جيرار، الى تحقيق الهدف ذاته: قطع دابر العنف ومنعه من التفشي في المجتمع. علماً ان جيرار يرى ان العرف القبلي القائم على التضحية بغير المذنب هو وحده القابل لتحقيق ذلك السعي لقطع دابر العنف ووقف مسلسله الدموي.

عرفت الحروب اللبنانية عمليتي ثأر جمعي استبدالي تمثلتا في ردود الافعال على اغتيال كمال جنبلاط وبشير الجميّل. ومع ان ثمة فارقا بين العمليتين من حيث درجة العنف وعدد الضحايا، غير ان المشترك بينهما هو تركّز الثأر على ضحايا يصعب إجمالهم بما هم متهمون بقتل اي من الزعيمين السياسيين. عند موت كمال جنبلاط، قَتل أنصارُه لا اقل من مئة مسيحي في عدد من قرى منطقة الشوف. يصعب التصوّر ان اعمال الثأر تلك كانت مدبّرة سلفاً، او انها إرتكبتْ عن سابق تصوّر وتصميم. في المقابل، كان السعي الى إجلاء المخيمين الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا بواسطة المجزرة الاشهر للحرب الاهلية، فعلاً جماعياً منظماً ومدبّراً قبل اغتيال بشير الجميّل وقد نفّذ بعد اغتياله عن سابق تصوّر وتصميم. خلال المجزرة، قضى لا اقل من الف فلسطيني ولبناني وكان هدف العملية احداث ما يكفي من الترويع لدفع المدنيين الفلسطينيين الى الهجرة من بيروت، بل من كل لبنان. ومهما يكن من امر، في كلا الحالين لم يسهم ارتكاب العنف على غير المذنبين في خداع العنف ولا في إهماده.

من جهة اخرى، تلقى «القانون» الالباني، وهو مجموعة الاعراف المركبة البالغة التعقيد التي يكشفها لنا الروائي اسماعيل قدريه في احدى اجمل رواياته «نيسان المكسور». يرتكز «القانون» على المبدأ القائل ان العنف نمط من التبادل ــ تبادل الدم ــ بين الجماعات يخضع لقواعد عرفية هي الاكثر شكلانية يلتزم بها المعنيون حتى ادق تفاصيلها. يعيّن «القانون» الالباني شكليات الانتقام وطقوسه ومواعيده ويقرّر تحليل الدم وتحريمه وفقا لحالات ومواقيت معينة، هي «الاشهر الحُرُم»، على غرار السائد عادةً وعرفا في اي مجتمع رعوي قائم على الغزو. ويعيّن «القانون» ايضا اثمان الدم، او الفديات، ومن يعيّنها ويقبضها، وما اليه.

في لبنان الحرب الاهلية، ظل القانون القبلي ساري المفعول، ولكنه اخذ يفعل فعله على نحو مضطرب، في وضع لم يكن فيه القانون الحديث قد حقق الغلبة، إذ كان تطبيقه هو ذاته لا يزال يجري على نحو جزئي وانتقائي. عادة ما يكون مثل هذا التنغيل بين القانونين الحديث والعرفي حاداً في المجتمعات التي عرفت انتقالا سريعا من العالم الريفي الزراعي التقليدي الى السوق الرأسمالية. يقول آرلاتشي عن التنازع بين القيم المتولدة عن ذلك الانتقال: «يبدو ان المجتمع التقليدي يقاوم الخضوع الكامل لمنطق السوق، الا انه ليس يملك القوة الضرورية لتصفية آثار القوى والقيم وانماط السلوك المرتبطة بذلك المنطق او حتى تحييدها». لا ينتج من تلك المقاومة فصام ما وانما تعديل عجيب في وظائف السوق ومعانيها يتخذ شكل رد فعل ثنائي يجمع، على صعيد القيم: «تمجيد الثقافة التقليدية مندمجا مع تطبيق انتقائي ووظيفي لقيمها».

في الحالة التي نحن بصددها، ينجم عن «التطبيق الانتقائي والوظيفي للثقافة التقليدية» اعتماد مبدأ الثأر ولكن دون شكلياته واصوله وضوابطه المذكورة اعلاه: متى يجوز الثأر ومتى يحرّم؟ كيف؟ ضد من؟ ضمن اية حدود؟ الخ. يتّبع القانون القبلي مبدأ «العين بالعين والسن بالسن». وهو تبادل للدم يبدو متكافئا. اما جوزيف سعادة فيصعّد في جدول الضرب: من ١٥ مقابل واحد، وصولا الى ٥٠ مقابل واحد. اقتضى الامر رؤية اكثر تراتبا للكائنات البشرية ــ هي رؤية عنصرية بإمتيازــ لكي يمكن تصوُّر هذه الكمية من البشر الواجب قتلها انتقاما لقتيل واحد، وتقدير مبلغ الديّة غير المتكافئة اطلاقا قياسا للدم المراق. وعلى عكس ما يوحيه العرف التوراتي، الثأر عملية تبادل، لكنه تبادل غير متكافئ. ذلك ان ثمن الدم ليس متساويا في معظم الحالات إن لم يكن في كلّها.

لم تشبع الجريمة الاستبدالية غريزة الثأر عند «بطل» قصتنا. تبيّن ان التضحية بالابرياء لمجرد انهم ينتمون الى القبيلة ذاتها التي ينتمي اليها القتلة، لم تفلح في «خداع العنف» عند المنتقم ليقطع حلقة الثأر المفرَغة. فهل ان تطبيق القانون الجزائي الحديث ــ تنفيذ حكم الاعدام «بالقاتل الذي لا يستطيع ان ينتقم»، حسب عبارة جيرارــ سوف يروي غليل الاب المنكوب؟

معارضة الاب پانو

قبل الاجابة عن هذا السؤال، لنتوقف هنا لبرهة لكي نسأل: هل ان انتقام الاب سعادة كان رد الفعل الوحيد الممكن والقابل للتصوّر على جريمة اغتيال الكتائبيين الاربعة؟ لن يأتي الجواب عن سؤالنا من خلال اي ديّان او مرجع اخلاقي او ديني. ولا معنى ان يأتي من هذا السِلك. الجواب صادر عن والد أحد ضحايا الذين قتلوا مع رولان سعادة، وقد رواه جوزيف سعادة ذاته في كتابه. خلال «السبت الاسود» كان والد ايلي پانو، احد افراد الـ «ب.ج.» الاربعة الذين قتلوا مع رولان سعادة، يلاحق جوزيف سعادة ورهط القتلة وهو يصيح بهم بما يبدو انه الخبل عينه: «انتم وحوش. انكم تقتلون العمال، الكناسين، الفقراء. اقتلوا المجرمين لا الابرياء!».

على عكس الاب سعادة، كان الاب پانو يعتقد انه لا يزال يوجد ابرياء في الحروب الاهلية، حتى في أشدها فتكاً وهولاً. فاذا كان لا بد من القتل، فالاحرى قتل المجرمين الحقيقيين. غير ان خطاب الأب پانو اكثر ثراء بالدلالات. للوهلة الاولى يبدو انه يدعو الى احقاق الحق حتى لو عنى ذلك ان يتولى المرء تطبيق القانون بنفسه. لكن الصيحات الصادرة مباشرة عن قلب هذا الاب المفجوع تعبّر عما يمكن تسميتة بـ«شعبوية التعايش» التي لا تزال عميقة الجذور في ضمير ابناء الشعب ووعيهم، على الرغم من كل شيء. فالاب پانو، لا يؤمن بالانتقام من «كبش محرقة»، بل انه لا يؤمن ايضا بأن «الآخر» كل متكامل وموحد، ولا هو يؤمن بتفريد «الآخر» الجمعي من جهة اخرى. المسلمون منقسمون مثلما قومه منقسمون الى اغنياء وفقراء، حكام ومحكومين. اما الادعاء بأن الاب پانو يريدنا ان نفهم ان العمال والفقراء ليسوا يقتلون فينطوي على تبسيط شديد. الاحرى انه يكرر حكمة شعبية لا تلبث ان تظهر الى السطح باستمرار: انهم الزعماء والاغنياء من جرّنا الى هذه الحرب، نحن الفقراء من كل صوب، ومنهم يجب الانتقام. بهذا المعنى، لا بمعنى غسان تويني، يمكن القول، مع الاب پانو، ان الحروب الاهلية كانت «حروب الآخرين». لكنهم «آخرو» الداخل، في هذه الحالة، لا «آخرو» الخارج. إن القتلة الفعليون ليسوا من ينفّذ الجريمة بل من يحرّ ض عليها.

«اسياد الدم»

بهذه العبارات، يضع الاب پانو موضع الاتهام اولئك الذين يسمّيهم اسماعيل قدريه «أسياد الدم» في «القانون» الالباني. و«اسياد الدم» هم اولئك الذين يقبضون «ثمن» الدم وثمن «استعادة الدم» على الصعيد المادي، والرمزي والسلطوي. والصّعُد الثلاثة متلازمة في اي حال. في رواية «نيسان المكسور»، يرد توصيف عناصر هذا الاقتصاد السياسي للثأر خلال تبادل احاديث بين عريسين جاءا لدراسة العادات والتقاليد الشعبية في الاطراف الريفية الالبانية:

- «الدم المُراق، الدم المستعاد» كررت ديان، «انك تتكلم عن هذه الامور كما لو انها عمليات مصرفية».

إبتسمَ بِسْيان:

- «في نهاية المطاف، بمعنى ما، بلى، ليست تختلف عنها كثيرا العمليات المصرفية. «القانون» يحسب ببرود... وغالبا ما يجب التنقيب وراء هذا الديكور شبه الاسطوري عن العنصر الاقتصادي (...) في عصرنا، تحوّل الدم الى سلعة، مثله مثل كل شيء آخر».

الدم سلعة في عصرنا. كأن قدريه يشرح لنا في هذا الحوار معادلة معلّمه ايسكيليس «الحرب مصرفي/الذهب الذي يتعاطاه هو اللحم البشري».

لنعد الى الاب المنتقِم. جوزيف سعادة هو ابن مدينة. ليس له «ظهر» في أسرة عشائرية من الاسر الريفية او ذات التحدر الريفي الحديث. ليس يملك عزوة تدافع عنه وتنتقم له او تغطيه وتحضنه. لذا تجده يلجأ الى الحزب والى الحي والى الطائفة. غير ان هذه الاقانيم الثلاثة لا يسعها ان تحل محل العائلة، انها لا تني تردّه الى الاقانيم الثلاثة التي تقوم عليها العقيدة الكتائبية: «الله، الوطن، العائلة» ــ وهي الطاقة المحركة للجماعة التي تريد ان تكون «حديثة».

حقيقة الامر ان تقديس العائلة هو محرك كل القصة الفاجعة لـ«سفاح» الاشرفية. ذلك ان مقتل الابنين قد خصى المنتقم بأن صرم عملية إعادة انتاج العائلة ذاتها. من هنا فإن العنف الذي صدر عن جوزيف سعادة هو على قدر قوة ايمانه بالعائلة بما هي مؤسسة، وعلى قدر عجزه عن اعادة انتاج عائلته وإعادة انتاج نفسه بما هو رأس تلك العائلة وشيخها وقيدومها.

حقيقة الامر ان رواية سعادة أشبه بتحقيق على طريقة المآسي الاغريقية، ولكن نهايتها معكوسة. فجوزيف سعادة يتحرّى عن جريمة مثله مثل أوديب. لكن الاكتشافات المفاجئة التي تقوده اليها تحرياته، ليست اكتشافه قتلة ولده، ولا حقيقة انه هو القاتل، كما في حال أوديب. لا. ان الاكتشاف الفاجع الذي يتوصل اليه جوزيف سعادة هو عكس اكتشاف أوديب. يكتشف سعادة السفاح القاتل انه هو الضحية. عند دفن ابنه، يبلغ الرجل ذروة مأساته إذ يدرك انه «لن يكون له حفيد يحمل إسمه». وهكذا فالعائلة، وقد أخصي شيخُها وقيدومها والبطريرك فيها على هذا النحو، قد قتلت قيدومها!

لنتوقف لحظة لنلاحظ جيدا اننا بصدد مفهوم ذكوري للعائلة: العائلة هي افرادها الذكور. ذلك ان لجوزيف سعادة ابنة، تلك التي يسمّيها «صغيرتي الرائعة مايا». الا انه عندما يجدّ الجدّ، لا تدخل البنات في الحسبان. فالبنت لا تستطيع ان تعيد انتاج العائلة ولا ان تمنح اسم اسرة أبيها الى ذريتها. الا تقول الحكمة الجبلية «ابن ابنَك إلك وابن بِنتك للغريب»؟ وها نحن حرنا ودرنا وعدنا الى الغريب!

الحيّ ميت على التلفزيون الفرنسي

وجوزيف سعادة، في نهاية الامر، هو «حيّ ميت»، حسب اللقب الذي تطلقه القبيلة على افرادها الذين أعطبتهم أعمال الثأر. عند صدور كتابه في فرنسا، دعي هذا «الحي الميت» إلى المشاركة في برنامج «آپوستروف» الذي يديره برنار پيفو، وهو اشهر البرامج الثقافية في حينها. على مسرح استديو القناة الثانية الفرنسية تقابل عالمَان ومفهومان للعنف والقانون والجريمة والعقاب. عجّت سهرة پيفو بالاسئلة المعلّقة: لماذا ارتضى المشاركون أن يظهروا في البرنامج نفسه مع مجرم قد إعترف بجرائمه؟ هل فعلوا ذلك احتراما لحقه في التعبير والرأي؟ ام هو من قبيل التسامح؟ وهل انّ القاتل الشيعي مروان صاحب الاعترافات في كتاب مينيه كان سوف يدعى الى البرنامج ويعامل بالاحترام ذاته الذي عومل به «زميله» المسيحي؟ ام ان المشاركين كانوا يعون ان الامر مجرد لعب في شكل «ظهور» تلفزيوني؟

لعلنا نلقى مفتاح الاجابات عن هذه التساؤلات في حقيقة ان الحضور يعرفون ان العنف كامن في مكان آخر، «هنالك»، وان استحضاره على «مسرح» القناة الثانية للتلفزيون الفرنسي يؤكد احدى وظائف استحضار العنف على التلفزيون: إشعار المشاهِد بالانفراج والاطمئنان لأنّ العنف لا يجري عنده. ولعل تفسيرا آخر يقول إن جوزيف سعادة بالنسبة إلى المشاهد الفرنسي ليس سوى كائن افتراضي، مثله مثل ابطال العنف في افلام هوليوود، او هو من تلك الكائنات التي يؤتى بها من بعيد، من بلدان العالم الثالث، للمزيد من السماح للمتفرّج الفرنسي بأن يتطهر ولو رمزياً من العنف القائم في ذاته بتصعيده بما هو عنف «الآخر».

دون اية بادرة ندم او اي تأنيب ضمير، روى سعادة حياته وأفعاله على الشاشة كما رواها في الكتاب. هل ادلى بتلك الاعترافات كفارة عن ذنوبه؟ هل كان يسعى فعلا الى تفهم الآخرين له؟ الى التسامح، بل الغفران؟ في كل الاحوال، الفريد في وضع سعادة انه قاتِل معترف بجرائمه ولكنه لن يضطر للمثول امام اية هيئة قضائية لتحاكمه. هذا ما كان يعرفه جيدا. فعند انتهاء الحرب، صدر سنة ١٩٩١ قانون العفو العام عن كل الجرائم المرتكبة في تلك الحرب الطويلة القذرة. والانكى من ذلك هو استثناء الجرائم في حق سياسيين او رجال وعلماء دين من العفو على اعتبار انها «جرائم في حق امن الدولة»! لهذا السبب، لا توجد قضية اسمها قضية جوزيف سعادة. قضيته مردودة في الشكل، كما تطالب مرافعات المحامين او تجزم احكام القضاة.

مهما يكن من امر، سئل سعادة اذا كان يحدث له ان يتذكر جرائمه. اجاب انه إذ تخطر الجرائم في باله، يطرد كل افكار اخرى، ويركّز فقط على ذكرى ابنيه القتيلين. للغرابة، قد يوحي الستوديو بأنه اشبه بجلسة استجواب، الا انه كان العكس تماما من قاعة المحكمة. «المتهم» هنا يذكّر «قضاته» بأنهم لا يعرفون الـ«قوانين» السارية المفعول «هناك»: «لستم تتصوّرون ما الذي بوسعهم ان يفعلوا»، يقول قاصدا المسلمين. بل ثمة اكثر من ذلك. فهذا «المتهم» المعترف بجرائمه لا يجد اي سبب يدفعه الى الندم والغفران. فهو يصرّ على ما قد فعله ويتشبّث به. «لو ان الامر يعاد الى ما كان عليه، سوف اعيد ما فعلت»، قال ردا على سؤال مباشر في هذا الصدد، مكررا ما قد قاله اصلا في كتابه واضاف اليه «سوف اعيد ما فعلت، ولكن بفن اكبر، لاني اكتسبت خبرة». للعلم، اعطى القناص الشيعي الجواب نفسه عن السؤال ذاته.

مهما يكن من امر، لم يكن سعادة متّهما في الستوديو، ولا كان سائر المشاركين في تلك الحلقة يرون الى انفسهم على انهم مدّعون عامون او قضاة او ديّانون. لكن الغريب في امر هؤلاء المواطنين في دولة الحق والقانون الفرنسية انهم ارتضوا بوجود شرعتين: شرعة «لبنانية» قائمة على قانون الثأر، وشرعة ديمقراطية فرنسية قائمة على قانون نابليون مع تعديلاته! ومع ان الديانات المسماة سماوية تحرّم جميعها القتل، الا ان الاسقف غاليو ــ اسقف مدينة ليون المعروف بمواقفه السمحة والمنفتحة في امور الدين والاخلاق ــ آثر ان يتفادى الوصايا العشر ويتحدث عن الثأر. فعندما واجه سؤالا مباشرا من برنار پيفو عما اذا كان يعتقد ان سعادة لا يزال مسيحيا، اجاب «لست اقاضي. ولكن المسيحية والثأر لا يتوافقان. ان الانتقام لن يحقق السلام». فوافق سعادة بخشوع. لكنه ذّكر بمكر شديد بأنه ليس المسيحي الوحيد الذي قتل «قريبه».

هل نفعتْ الجريمة بأي شيء؟ لا حاجة للتبشير الى مؤمن. يعرف سعادة سلفا ان الجريمة «لن تعيد لي ابنائي». وماذا عن السلام؟ ليس يسعى سعادة الى السلام. ربما كان ينشد سلام النفس، كما قال، بمعنى راحة البال. مهما يكن، فالسلام هو ايضا لن يعيد له ابناءه.

عندما قال سعادة انه سوف يعيد ارتكاب جريمته، ولكن بمزيد من الفن بعد كل ما اكتسبه من خبرة، ما الذي كان يريد قوله فعلا؟ ألم يكن يعني انه سوف يعيد ارتكاب ما قد ارتكب تحديدا لأن ما قد ارتكب لم يؤّدِ الى اي شيء؟ تكمن مأساة سعادة في انه جرّب القانونين الاثنين، طبّق قانون الانتقام العرفي القبلي على ابرياء هم «اكباش محرقة» ــ «ذنبهم» الوحيد انهم ينتمون الى «قبيلة» القتلة. هذا من جهة. لكنه من جهة ثانية، كان له ما يندر ان يتحقق. سنحت له فرضة ان يعاقب المتهمين «الحقيقيين»، بل «المجرمين» المفترضين الحقيقيين، ونفذ فيهم حكم الاعدام. هنا، ناب سعادة عن هيئات تنفيذ القانون الجزائي الحديث واستجوب وحكم ونفّذ الحكم. ولكن لا هذا ولا ذاك روى غليله. كان انتقامه المسخ عنيفا على نحو مضاعف، لأنه عنف عبثي، عنفٌ عنّين.

«العدوّ هو أنا»

زدْ في تغريب العدو، ينتهِ بك الامر الى استبطانه. يصير العدو في داخلك. تلك هي احدى الاواليات المراوغة للحرب الاهلية اللبنانية.

طوال سنيّ الحرب، تصوّر لبنانيون كل الحجج الممكنة لتغريب العنف الذي كان يمارسه واحدهما ضد الآخر. انها «حرب الآخرين» على أرضهم؛ المسؤولية عن الحرب تقع على «الطابور الخامس» وعلى «الغرباء»، والحرب إن هي الا نتاج «المؤامرة الخارجية». ذلك ان التقاتل بين اللبنانيين امر مستحيل، لأنّه غريب عن العادات والتقاليد اللبنانية! ومع ذلك فعندما يبدو أن الطوائف قد بلغت ذروة تماسكها، عندما تبدو انها قد حققت اكبر قدر ممكن من الوحدة، في تلك اللحظة بالذات تأخذ في التفكك والتشظي في كثرة لا عدد لها من الوحدات الفرعية العشيرية والقبلية والعائلية والمناطقية المتحاربة. وهذا الانتشار الجهنمي للعنف مغروز في المنطق الطوائفي ذاته، إذ هو نتاج الوهم المزدوج القاتل: الوهم بامكان توحيد الطائفة في ظل قيادة واحدة من جهة والوهم بامكانية اختزال عناصر الطائفة ومصالحها، على ما فيها من تفارق بل تضاد، الى وحدانية واحدة، حتى لو اضطر الامر إلى فرض تلك الوحدانية بواسطة السلاح. فلن تكون نتيجة هذه المنطق، في احسن الاحوال، غير فرض الغلبة على الطائفة من داخلها لا اكثر.

هكذا فالمَشاهد الاخيرة من الحرب تشبه تصوير بابلو بيكاسو للحرب الاهلية في جداريته الشهيرة «غيرنيكا» حيث تختلط ملامح الجزّار وأعضائه بملامح الضحية واعضائها، فيصعب تمييز واحدهما عن الآخر.

لننتقل دون مقدمات من بابلو بيكاسو الى... وليد جنبلاط. خلال أحلك فترات الحرب، وبمناسبة ذكراها التاسعة في ١٩٨٦، رمى جنبلاط فجأة هذه المعادلة: «صار العدو داخل كل واحد منا». هكذا أتمت الدائرة انغلاقها في هذه الرؤية التآمرية الرُهابية الى التاريخ. لقد استبطننا «الآخر». صار القاتل في قلب قلبنا، في صميم صميمنا.

تختزل هذه العبارة الحرب الاهلية اللبنانية كلها. منطقها والمسار. من معسكرين اثنين، انتشر العنف ليغطي المجتمع كله، موغلا في التشرذم والتفتت. حلّت «الحروب الصغيرة» (والعبارة عنوان فيلم للراحل مارون بغدادي) محل الحرب الكبرى (على افتراض ان ثمة كِبَراً ما في اي حرب)! لم يعد للحرب معسكرات ولا جبهات قتال. كل حي، كل زقاق، كل بناية، كل عائلة انقسمت على ذاتها في معسكرات وجبهات قتال وصولا الى الوحدة التي يتفرض انها لا تتجزأ: الفرد ذاته. حتى الفرد انفصم نصفين، نصفاً يقاتل نصفا آخر. صار الاخوة الاعداء يتقاتلون في صميم كل واحد منهم، ذروة العنف في الشخصية الفصامية: قايين وهابيل في كائن واحد.

العددان ٣-٤ خريف ٢٠١٢ / شتاء ٢٠١٣

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.