العددان ٢٠-٢١ - ٢٠١٨

ماركس والدولة

كان ماركس عدوّاً لدوداً للدولة. في الواقع، كان يتطلّع علناً إلى زمنٍ يأتي تضمحلّ فيه الدولة. قد يجد نقّاده أنّ هذا الأمل عبثيّ في طوباويّته، لكن لا يسعهم إدانة ماركس في الوقت نفسه على حماسته للحكم الاستبداديّ.

والحال، لم يكن ماركس عبثيّاً في طوباويّته. ما أمل ماركس باضمحلاله في المجتمع الشيوعيّ لم يكن الدولة بمعنى الإدارة المركزيّة. أيّ ثقافة حديثة مركّبة لا بد لها من أن تتضمّن مثل تلك الإدارة.

بالفعل كتب ماركس في الجزء الثّالث من «رأس المال»، وفي ذهنه هذا الموضوع، عن «نشاطات مشتركة تنشأ من طبيعة كلّ الجماعات». إنّ الدولة بما هي جهازٌ إداريّ سوف تستمرّ. الدولة بما هي أداة عنف هي ما يأمل ماركس زوالها. وكما عبّر في «البيان الشيوعيّ» سوف تفقد السلطة العامّة في ظلّ الشيوعيّة طابعها السياسيّ.

ضدّ الفوضويّين في زمانه، أصرّ ماركس على أنّ الدولة سوف تختفي بهذا المعنى فقط. ما الذي يجب أن ينتهي هو حكم طبقةٍ اجتماعيّةٍ تسيطر على سائر المجتمع. الحدائق العامّة وميادين امتحانات سَوق السيّارات سوف تبقى.

يرى ماركس إلى الدولة بواقعيّة باردة. ليست بالبداهة جهازاً حياديّاً سياسيّاً، منصفاً في تعاطيه مع طبقاتٍ متصارعة. ولا هي إطلاقاً بلا أهواء في النّزاع بين رأس المال والعمل.

ليست وظيفة الدولة أن تعلن ثورات ضدّ الملكيّة الفرديّة. فمن بين مبرّرات وجودها أن تدافع عن النظام الاجتماعيّ القائم ضدّ الذين يعملون على تغييره. إذا كان هذا النظام ظالماً، تكون الدولة ظالمة بذاك المقدار هي أيضاً. هذا ما أراد ماركس أن يرى له نهاية، لا المسارح الوطنيّة أو مختبرات الأدلّة الجنائيّة.

الدولة منحازة

لا شيء مؤامراتيّاً مُظلماً في الفكرة القائلة إنّ الدولة منحازة. كلّ مَن يفكّر على هذا النّحو لم يشارك في تظاهرة سياسيّة مؤخّراً. الدولة الليبراليّة حياديّة بين الرأسماليّة ومنتقديها إلى أن يبدو أنّ النقّاد باتوا على أهبة الانتصار. إذّاك تتحرّك بخراطيم المياه وفرَق مكافحة الشغَب، وإذا ما عجزتْ هذه، تتدخّل الدولة بدبّاباتها. لا أحد يشكّ في أنّ بمقدور الدولة أن تكون عنيفة. كلّ ما في الأمر أنظ ماركس قدّم جواباً جديداً لمسألة مَن يخدم العنف في نهاية المطاف. ينتمي الإيمان بتنزيه الدولة عن المصالح إلى عالم التهويمات، لا المقولة التي تتوقّع أنّنا قد نعيش في زمنٍ لا تضطر فيه الدولة للّجوء إلى عدوانيّتها النزقة. في الواقع، حتى الدولة نفسها لم تعد تؤمن بأنّها منزّهة عن المصالح. إنّ افراد الشرطة الذين يعتدون بالضرب على عمّالٍ مُضربين أو على متظاهرين سلميّين لم يعودوا يدّعون أنّهم على حيادٍ أصلاً. والحكومات، بما فيها الحكومات العمّاليّة، لم تعدْ تكترث لإخفاء عدائها للحركة العمّاليّة. كما يعلّق جاك رانسيير «إنّ أطروحة ماركس التي كانت فضائحيّة ذات مرّة لقولها إنّ الحكومات إنْ هي إلّا مجرّد وكلاء أعمال لرأس المال العالميّ، هي في أيّامنا هذه واقعٌ بديهيّ يتّفق عليه «الاشتراكيّون» كما «الليبراليّون». إنّ التماهي المطلق للسياسة مع إدارة رأس المال لم يعد ذلك السرّ المشين الذي يختبئ خلف «أشكال» الديمقراطيّة، إنّه الحقيقة المعلَنة جهاراً والتي تكتسب الحكومات شرعيّتها من خلالها».

غير أنّ هذا لا يعني أنّنا نستطيع التخلّي عن الشرطة والمحاكم والسجون بل وحتى عن فرَق مكافحة الشغَب. فالأخيرة، مثلاً، قد تكون ضروريّةً في حال وجود عصابة طليقةٍ من الإرهابيّين المزوّدين بأسلحة كيميائيّةٍ أو نوويّة. ولا بدّ لتلك الفصيلة حانية القلب من اليساريّين من الاعتراف بهذه الحقيقة. ليس كلّ عنفٍ دولتيٍّ يحصل باسم الدّفاع عن الوضع القائم. ماركس نفسه يميّز في الجزء الثّالث من «رأس المال» بين الوظيفة الطبقيّة والوظيفة الحياديّة للدولة. أفراد الشرطة الذين يمنعون البلطجيّة العنصريّين من الاعتداء حتى الموت على شابٍ آسيويّ ليسوا يتصرّفون بما هم عملاء للرأسماليّة. والشقق المجّهزة للنساء اللواتي تعرّضن للاغتصاب ليست أمثلةً قاتمة عن القمع الذي تمارسه الدّولة. ضبّاط التّحري الذين يصادرون كومبيوتراتٍ معبأة ببورنوغرافيا عن الأطفال ليسوا يخرقون حقوق الإنسان بفظاظة. ما دام هناك حرّيّة إنسانيّة فسوف تبقى معرّضة للاعتداءات، وبعض تلك الاعتداءات قد يصل إلى حدّ مستفظَع بحيث يستوجب احتجاز مرتكبيها من أجل أمان الآخرين. ليست السجون مجرّد أمكنةٍ للاقتصاص من المحرومين اجتماعيّاً، مع أنّه من المؤكّد أنّها تخدم تلك الوظيفة أيضاً.

ليس من دليل على أنّ ماركس قد يرفض أيّاً من تلك المقولات. الواقع أنّه كان يعتقد أنّ الدولة يمكنها أن تكون قوّة جبارةً في سبيل الخير. لهذا أيّد بحماسةٍ التشريعات الآيلة لتحسين الظروف الاجتماعيّة في إنكلترا زمن الملكة فكتوريا. لا قمع في إدارة مياتم للأطفال المهجورين، أو في ضمان أنْ يسوق كلٌ سيّارته على الجانب ذاته من الطريق. ما رفَضَه ماركس هو الوهم العاطفيّ عن دولةٍ هي منبع انسجام، توحّد مختلف الفئات والطبقات سلميّاً. رأى إلى الدولة على أنّها مصدر شقاقٍ أكثر منها مصدر وفاق. أنّها تسعى بالتأكيد لتأمين تماسك المجتمع، لكنّها تفعل ذلك خدمةَ لمصالح الطبقة الحاكمة في نهاية المطاف. خلْف عدالتها المزعومة يكمن انحياز حديديّ. أنّ مؤسّسة الدولة «تفرض قيوداً جديدة على الفقراء، وتمنح سلطات جديدة للأغنياء... أنّها تؤبّد قوانين التملّك وعدم المساواة، تحوّل أعمال السلب الذكيّة إلى حقٍّ غير قابلٍ للتصرّف، وفي سبيل خدمة عدد من الطامعين، تعرّض الدولةُ البشريةَ جمعاء للعمل الدائم والعبوديّة والبؤس». هذه ليست كلماتِ ماركس، إنّها كلمات جان جاك روسّو في «خطاب عن عدم مساواة». لم يكن ماركس يغرّد خارج السرب في معاينته العلاقة بين سلطة الدولة والامتياز الطبقيّ. صحيحٌ أنّه لم يحمل تلك الأفكار باستمرار. بما هو تلميذ شاب لهيغل، تحدّث عن الدولة بتعابير إيجابيّة برّاقة. لكنّ هذا كان قبل أن يصير ماركسيّاً. وحتى عندما صار ماركسيّاً، ظلّ يصرّ على أنّه ليس بماركسيّ.

الذين يتحدّثون عن التساوق والتوافق يجب أن يدركوا ما يمكن تسميته نظرة قسّيس الرعيّة الصناعيّة إلى الواقع. الفكرة، بالجملة، هي أنّ هناك أربابَ عملٍ جشعين من جهةٍ وعمّالاً عدوانيّين من جهة أخرى. القسّيس اللائق يقبع في الوسط، رائقَ الكلام، ليبراليّ الذّهن، يحاول، بغيريّة، أن يجمع بين الطرفين المتصارعين. ولكن لماذا يجب أن يكون الوسط هو الموقع الأنسب الذي يجب أن يحتلّه المرء؟ لماذا نميل إلى أن نرى أنفسنا على أنّنا في الوسط وسائرَ النّاس في الأطراف؟ إنّ اعتدال المرء إنْ هو إلّا تطرّف الآخر، في نهاية المطاف. لن تلقى أناساً يسمّون أنفسهم متعصّبين، أكثر ممّا ستلقى أناساً يسمّون أنفسهم «فلان». ثمّ إنّه هل تلقى مَن يتحدّث عن المصالحة بين أرقّاء وأصحاب رقّ، أو يُقنع السكّان الأصليّين أن يحتجّوا باعتدالٍ على الذين يخطّطون لإبادتهم؟ ما هو الموقع الوسط بين العنصريّة والعداء للعنصريّة؟

الدولة والمجتمع المدنيّ

إن لم يكن لماركس وقت يصرفه على الدولة فذلك عائد جزئيّاً إلى أنّه رأى إليها بما هي قوّةٌ مستلَبة. فكأنّ ذلك الكيان المتسامي قد صادر قدراتِ الرجال والنساء على تقرير مصيرهم ذاته، وتولّى مهمّة أن يقرّر مصيرهم بالنيابة عنهم. بل إنّها بلغت الوقاحة بالدولة حدّاً سمحتْ لنفسها فيه بأنْ تسمّي تلك العمليّة «ديمقراطيّة». بدأ ماركس نفسه حياته بما هو ديمقراطيّ جذريّ وانتهى إلى ما هو ثوريّ، إذ أدرك تماماً مقدار ما تتطلّبه الديمقراطيّة الحقّة من تحويل، وقد تحدّى سلطة الدولة المتسامية بما هو ديمقراطيّ. ثمّ إنّه كان أيضاً مؤمناً إيماناً كلّيّاً بالسّيادة الشعبيّة إلى حدّ أنّه ارتضى ظلّها الشاحب المسمّى الديمقراطيّة البرلمانيّة. لم يعارض البرلمانات من حيث المبدأ، ولم يشذّ لينين عنه في ذلك، لكنّه رأى أنّ الديمقراطيّة أغلى من أن تضعها في عهدة البرلمانات وحدها. كان عليها أن تكون قاعديّة، شعبيّة، وموزّعة عبر كلّ مؤسّسات المجتمع المدنيّ، وأن تشمل الحياة الاقتصاديّة قدْر شمولها الحياة السياسيّة. كان على الديمقراطيّة أن تعني الحكم الذاتيّ الفعليّ لا الحكم الموكل إلى نخبةٍ سياسيّة. إنّ الدولة التي وافق عليها ماركس كانت حكم المواطنين لأنفسهم بأنفسهم، لا حكم الأقلّيّة ضدّ الأكثريّة.

كان ماركس يرى أنّ الدولة قد انحرفتْ عن المجتمع المدنيّ. ونما تناقضٌ فاضحٌ بين الاثنين. فمثلاً، نحن متساوون، على نحوٍ مجرّدٍ، بما نحن مواطنون في الدولة، لكنّنا غير متساوين على نحوٍ فاجعٍ في وجودنا الاجتماعيّ اليوميّ. كان ذلك الوجود الاجتماعيّ مخروقاً بالنّزاعات، لكنّ الدولة تعكس صورة عنه وكأنّه كلٌّ متكاملٌ بلا شقوق.

ترى الدولة نفسَها على أنّها تكوّن المجتمعَ من أعلى، في حين هي نتاجٌ لذلك المجتمع. لم يولد المجتمع من الدولة، الأحرى أنّ الدولة هي المُتطفّل على المجتمع. التركيبة كلّها واقفة على رأسها. وكما قال أحد المعلّقين «لقد انقلبت الديمقراطيّة والرأسماليّة عاليها سافلها» وهو يعني أنّه بدلاً من أن تتولّى المؤسّسات السياسيّة ادارة الرأسماليّة، ها إنّ الرأسماليّة هي التي تتولّى ادارة تلك المؤسّسات. المتكلّم هو روبرت رايش، وزير عمل أميركيّ سابقٌ، لا شكوك حوله بأنّه قد يكون ماركسيّاً. كان هدف ماركس تجسير الفجوة بين الدولة والمجتمع، بين السياسة والحياة اليوميّة، بأنْ يذيب الأولى في الثانية. وهذا ما كان يسمّيه ديمقراطيّة. على الرّجال والنّساء أن يطالبوا في حياتهم اليوميّة بالسّلطات التي سلبتْها الدولة منهم. إنّ الاشتراكيّة هي استكمال الديمقراطيّة، وليستْ نقيضها. ويصعب أن أفهم لماذا يكثر المدافعون عن الديمقراطيّة الذين يعترضون على هذه الرؤية.

فكرة سائدة بين الماركسيّين تقول إنّ السلطة الفعليّة الآن تقع في البنوك وكبريات الشركات المجمّعة والمؤسّسات الماليّة، التي لم ينتخب أحدٌ مديريها، مع أنّ قراراتهم تؤثّر في حياة ملايين البشر. إنّ السلطة السياسيّة إنْ هي إلّا الخادم المُطيع لـ«أسياد الكون»، إلى هذا الحدّ أو ذاك. قد تؤنّبهم الحكومات بين وقتٍ وآخر، أو حتى تصفعهم باستصدار «قانون السلوك المعادي للمجتمع»، لكنْ إذا سعى السياسيّون لدفع أرباب العمل إلى الإفلاس يتعرّضون للاعتقال والحبس في السجون على يد قوّات الأمن التابعة لهم. قد يخطر ببال الدولة أن تمسح بعض الضرّر البشريّ الناتج من النّظام الحاليّ. إنّها تفعل ذلك لاعتباراتٍ إنسانيّةٍ من جهة ولاستعادة سمعة النظام الملوّثة من جهةٍ أخرى. وهذا ما هو معروفٌ بالديمقراطيّة الاجتماعيّة. الواقع أنّ ترابط السياسة بالاقتصاد هو السبب في أنّ الدولة التي نعرفها لا يمكن اختطافها لأهدافٍ اشتراكيّة. كتب ماركس في «الحرب الأهليّة في فرنسا» أنّ الطبقة العاملة لا يمكنها إلقاء القبض ببساطةٍ على آليّة الدولة الجاهزة وتسخيرها لخدمتها. ذلك لأنّ تلك الآليّة تتضمّن انحيازاً جاهزاً للأمر الواقع. إنّ صيغتها الديمقراطيّة، المصابة بفقْر الدّم وبؤسها المثير للشفقة يناسبان المصالح المسيطِرة والمعادية للديمقراطيّة.

كوميونة باريس نموذجاً

إنّ النموذج الرئيس لماركس عن الحكم الذاتيّ الشعبيّ هو كوميونة باريس ١٨٧١، عندما سيطر شعب باريس العامل على مقاليد حياته بنفسه في العاصمة الفرنسيّة لعددٍ من الأشهر المضطربة. كانت الكوميونة، كما يصفها ماركس في «الحرب الأهليّة في فرنسا»، متكوّنة من أعضاء مجالس بلديّاتٍ محلّيّين، معظمهم من الشغّيلة، انتُخبوا بالاقتراع الشعبيّ ويمكن لناخبيهم نزع الثقة عنها. مورست الخدمة العامّة لقاءَ رواتب موازية لرواتب العمّال، وقد ألغيَ الجيشُ المحترف، وصارت الشرطة مسؤولةً أمام الكوميونة. أمّا السلطات التي كانت تمارسها الدولة الفرنسيّة سابقاً فقد تولّى أنصار الكوميونة ممارستها بدلاً منها. نُفي القساوسة من الحياة العامّة، فيما فُتحت المؤسّسات التعليميّة للشعب العامل وتحرّرتْ من تدخّل الكنيسة والدولة معاً. القضاة المدّعون العامّون وموظّفو الخدمات العامّة بات عليهم أن يُنتخبوا انتخاباً وأن يكونوا مسؤولين تجاه الشّعب الذي يملك القدرة على سحب الثقة منهم. كذلك قرّرت الكوميونة إلغاء الملكيّة الفرديّة باسم الإنتاج التعاونيّ.

كتب ماركس: «بدلاَ من التقرير مرّة كلّ ثلاث أو ستّ سنوات، أيّ عضوٍ في الطّبقة الحاكمة يسيء تمثيل الشعب في البرلمان»، وضِع الاقتراع العامّ في خدمة الشعب المتكوّن في كوميونات». ويستطرد قائلاً «كانت الكوميونة في الأساس هي حكومة الطبقة العاملة... الشكل السياسيّ المكتشَف أخيراً لتحقيق التحرّر الاقتصاديّ للعمل». مع أنّه لم يُعفِ تلك المغامرة سيّئة الطالع من النّقد (أشار مثلاً إلى أنّ معظم أعضاء الكوميونة لم يكونوا اشتراكيّين) إلّا أنّه وجد فيها العديد من العناصر المنتمين إلى السياسة الاشتراكيّة. ولقد وُلد ذلك السيناريو من ممارسة الطبقة العاملة وليس من أي مرسوم نظريّ. لفترةٍ وجيزة رائعة توقّفت الدولة عن أن تكون قوّة استلابٍ واتّخذت بدلاً من ذلك شكل حكومةٍ يحكم فيها الشعب نفسَه بنفسه.

أطلق ماركس على ما تحقّق خلال تلك الأشهر القليلة في باريس تسمية «دكتاتوريّة البروليتاريا». قليلةٌ هي عباراته الشهيرة التي دبّت قشعريرةَ الرّعب في عروق نقّاده قدْر ما فعلتْ تلك العبارة. مع أنّ ما يعنيه في هذا المصطلح سيّئ السّمعة ليس أكثر من الديمقراطيّة الشعبيّة. إنّ دكتاتوريّة البروليتاريا تعني ببساطةٍ حكمَ الأغلبيّة. في كلّ الأحوال، مفردة «دكتاتوريّة» في زمن ماركس لم تكن تعني بالضّرورة ما تعنيه في أيّامنا هذه. كانت تعني خرقاً غير قانونيّ للدّستور السياسيّ. أوغست بلانكي، شريك ماركس المشاكس، والرجل الذي تميّز بكونه ثدْ سجنتْه كلّ الحكومات الفرنسيّة من العام ١٨١٥ إلى العام ١٨٨٠، هو الذي نحَتَ عبارة «دكتاتوريّة البروليتاريا» لتعني الحكم بالنيابة عن النّاس العاديّين، وقد استخدمها ماركس لتعني سلطة هؤلاء النّاس العاديّين. انتُخب أوغست بلانكي رئيساً لكوميونة باريس لكنْ كان عليه أن يكتفي بأن يكون رئيسها الفخريّ فقد كان في السجن في تلك الفترة.

الدولة ورأس المال

كتب ماركس عن الدولة أحياناً كما لو أنّها مجرّد الأداة المباشرة للطّبقة الحاكمة. إلّا أنّه في كتاباته التاريخيّة تجده أكثر حرصاً على التلاوين الدّقيقة. إنّ مهمّة الدّولة السياسيّة لا تقتصر على خدمة المصالح المباشرة للطّبقة الحاكمة. عليها أنْ تعمل أيضاً للحفاظ على التّماسك الاجتماعيّ، لكنّ هذين الهدفين هما هدف واحد في نهاية المطاف، مع ما قد ينشأ بينهما من نزاعٍ في المديين القصير والمتوسّط. السيّد الإقطاعيّ شخصيّة سياسيّة واقتصاديّة في الآن ذاته، في حين أنّ الوظيفتين منفصلتان في ظلّ الرأسماليّة. إنّ عضو البرلمان عن دائرتك ليس هو في العادة ربّ عملك. هذا يعني أنّ ظهور الدولة الرأسماليّة بأنّها تحوم فوق العلاقات الاجتماعيّة ليس مجرّد مظهرٍ فقط. إنّ مدى استقلال الدولة عن المصالح المادّيّة يتوقّف على الظّروف التاريخيّة المتغيّرة. يبدو أنّ ماركس يحاجج بأنّه في ظلّ نمط الإنتاج الآسيويّ، الذي يتضمّن أعمال الرّيّ الضخمة التي لا يمكن أن تضطلع بها إلّا الدولة، تكون الدولة هي القوّة الاجتماعيّة المسيطِرة. إنّ ما تسمّى «الماركسيّة المبتذَلة» تنحو نحو الافتراض بوجود علاقة تماثل بين الدولة والطبقة السيّدة اقتصاديّاً، وثمّة مناسبات يكون فيها هذا الحال صحيحاً. ثمّة أوقاتٌ تتولّى فيها الطبقة المالكة إدارة الدولة مباشرة. إنّ جورج بوش وزملاءه من رجال النّفط مثالٌ على ذلك. بعبارةٍ أخرى، إنّ واحداً من أهمّ إنجازات بوش هو أنّه أثبت أنّ الماركسيّة المبتذلة على حقّ. ويبدو أيضاً أنّه بذل جهوداً جبّارة لكي يبدو النظام الرأسماليّ على أبشع صوَره، وهي واقعة إضافيّة تدعو إلى التساؤل عمّا إذا كان الرجل يعمل سرّاً في خدمة الكوريّين الشماليّين!

غير أنّ العلاقات قيد البحث أكثر تعقيداً ممّا قد توحي به إدارة بوش. في الواقع، إنّ كلّ شيء تقريباً في الوجود الإنسانيّ هو أكثر تعقيداً ممّا يوحي به. فمثلاً، ثمّة فتراتٌ تحكم فيها طبقة بالنيابة عن طبقةٍ أخرى. في إنكلترا القرن التاسع عشر، كما أشار ماركس، كانت الأرستقراطيّة الوِغز Whigs ١ لا تزال هي الطبقة السياسيّة الحاكمة فيما الطبقة الصناعيّة الوسطى كانت الطبقة المسيطرة اقتصاديّاً، فإذاً الأولى تمثّل مصالح الثانية. الثانية. وقد حاجج ماركس أيضاً بأنّ لوي بونابارت حكَمَ فرنسا في خدمة مصالح الرأسماليّة الماليّة في حين كان يقدّم نفسه على أنّه ممثّلُ صغار الفلّاحين المالكين للأرض. وعلى نحو شبيهٍ إلى حدٍّ ما، حكم النازيّون في خدمة مصالح الرأسماليّة الكبرى، لكنْ فعلوا ذلك من خلال إيديولوجيا كانت ذات منظور واضحٍ في تمثيله الطّبقات الدّنيا. وكان هؤلاء يصبّون جام غضبهم ضدّ طفيليّي الطبقة العليا والأغنياء الكسالى بطرائق قد يحسبها غير اليقظين سياسيّاً على أنّها راديكاليّة أصيلة. ولم يكن هؤلاء مخطئين في رأيهم هذا. ذلك أنّ الفاشيّة هي بالتّأكيد لونٌ من ألوان الراديكاليّة. إنّها تضيق بحضارة الطّبقات الوسطى الليبراليّة. كلّ ما في الأمر أنّ هذه راديكاليّة اليمين بدل أن تكون راديكاليّة اليسار.

السلطة، الديمقراطيّة، الاشتراكيّة

خلافاً لعددٍ كبيرٍ من الليبراليّين، لم يكن ماركس يتحسّس من السلطة بذاتها. ليس من مصلحة المحرومين من السلطة أن يُقال لهم إنّ كلّ سلطةٍ شيءٌ كريه، خصوصاً من طرف الذين يملكون فائضاً من السلطة. الذين تبدو لهم كلمة «سلطة» دائماً على أنّها تتضمّن التعيير محظوظون حقّاً. إنّ السلطة في قضيّة التحرّر الإنسانيّ لا يجوز خلطها بالاستبداد. إنّ شعار «السلطة السوداء» أقوى بكثير من صيحة «لتسقط كلّ سلطات!». إلّا أنّنا لن نعرف أنّ مثل تلك السلطة سلطةٌ تحرّريّة حقّاً إلّا إذا نجحتْ في أن تحوّل النّظام السياسي الحاليّ بل معنى السلطة ذاته أيضاً. إنّ الاشتراكيّة لا تتضمّن استبدال فريق من الحكّام بآخر. في حديثه عن كوميونة باريس، لاحَظَ ماركس «لم تكن ثورةً لنقْل الدولة من جناحٍ من الطبقة الحاكمة إلى آخر وإنّما ثورة لتحطيم آلة السيطرة الطبقيّة المقيتة ذاتها». الاشتراكيّة تعني تغييراً في صميم معنى السّيادة. أوجه الشبَه باهتة بين ما تعنيه كلمة «سلطة» في لندن في أيّامنا هذه وما كانت تعنيه في باريس العام ١٨٧١. إنّ شكل السلطة الأكثر جدوى يتمثّل بالسلطة على الذّات، والديمقراطيّة تعني الممارسة الجمعيّة لتلك القدرة. أكّد عصر التنوير أنّ أوّل شكل للسّلطة الذي يستحقّ الخضوع له هو السلطة التي نصنعها بأنفسنا. وتقرير المصير الذاتيّ هذا هو أثمن معاني الحرّيّة. ومع أنّ البشر قد يُسيئون استخدام حرّيّتهم إلّا أنّه لا تكتمل إنسانيّتهم بدونها. إنّهم محكومون بأن يتّخذوا قراراتهم متسرّعة او طائشة بين وقت وآخر - قرارات قد يمتنع عن اتّخاذها مستبدٌّ حكيم. لكن عندما لا تكون تلك القرارات هي قراراتهم هم، فإنّها سوف تنطوي على شيء فارغٍ ومصطنع، مهما تكن حذقة.

تستمرّ السلطة على قيد الحياة من الحاضر الرأسماليّ إلى المستقبل الاشتراكيّ لكن ليس في الشكل ذاته. تتعرّض فكرة السلطة ذاتها لعمليّة تثويرٍ هي نفسها. والأمر ذاته يصحّ بالنّسبة إلى الدولة. إنّ معنىً واحداً من معاني مفردة «دولة» - «اشتراكيّة الدولة» - يحوي تناقضاً في التعبير قدر ما تحويه النظريّات المعرفيّة لتايغر وودز٢. لكن، في معنى آخر، يبقى للمصطلح قوّةُ ما. بالنّسبة إلى ماركس، تبقي دولة ما في ظلّ الاشتراكيّة، وفقط فيما يتجاوز الاشتراكيّة، في ظلّ الشيوعيّة، تخلي الدولة القمعيّة المجال أمام الدولة بما هو جهازٌ إداريّ. لكنّها لن تكون دولة قد نتعرّف نحن أنفسنا عليها بسهولة. فكأنّ أحدهم يشير لنا إلى شبكة لا مركزيّة من الجماعات التي تحكم نفسها بنفسها، وتُدار بمرونةٍ بإدارة مركزيّة منتخبة ديمقراطيّاً، ويعلن «تلك هي الدولة!» فيما نحن نتوقّع شيئاً مختلفاً تماماً، أكثر هيبة وضخامة، شيئاً يشبه مثلاً قصر وست مظنستر الملكيّ، أو شارع وايت هول [حيث الأبنية الحكوميّة] أو الأمير أندرو الغامض الملغّز.

دار جانبٌ من سجال ماركس مع الفوضويّين حول مدى أساسيّة السلطة بذاتها. هل هذا مهمّ فعلاً؟ لم يكن مهمّاً بنظر ماركس. ما هو مهمّ بالنسبة إليه هو ضرورة وضع السلطة السياسيّة في إطارٍ تاريخيٍّ أوسع. على المرء أن يسأل أيّة مصالح مادّيّة تخدمها الدولة، فذلك في نظره هو جذر المسألة. وإذا كان ماركس نقديّاً تجاه المحافظين الذين يرفعون الدولة إلى مصاف المثال، فقد كان يضيق صدراً أيضاً بالفوضويّين الذين يضخّمون من أهمّيتها. رفض ماركس أن يحوّل السلطة إلى قوّةٍ مستلبة، بأن يفصلها عن محيطها الاجتماعيّ والتعامل معها كشيء قائمٍ بذاته. وهذه بدون شكّ نقطة قوّة بين نقاط القوّة في نتاجه الفكريّ. إلّا أنّ ذلك ترافَقَ مع نقاط عمى، مثلما يحصل لنقاط القوّة غالباً. ما أغفله ماركس عن السلطة هو ما اعترف به اثنان من مواطنيه، نيتشه وفرويد كلٌّ بطريقته المغايرة. قد لا تكون السلطة كائناً قائماً بذاته، لكنّ في داخلها عنصراً يمارس ترفَ السيطرة لمجرّد السيطرة ويستمتع باستعراض عضلاته بدون هدف، ثمّ إنّ السلطة تجمح دائماً بالقياس إلى الأهداف العمليّة التي سُخّرت لها. لقد اعترف شكسبير بذلك عندما كتب عن العلاقة بين بروسبيرو وآرييل في مسرحيّته «العاصفة». آرييل هو الوكيل المطيع لسلطة بروسبيرو، لكنّه متحفّز للتخلّص من تلك السيادة ليمارسها هو بنفسه. بروحٍ لعوبٍ لكنها مؤذية، يريد أن يستمتع بملَكاته السحريّة بما هي أهدافٌ بذاتها، لا أن تبقى مقيّدة بأهداف سيّده الاستراتيجيّة. إنّ النظر إلى السلطة على أنّها مجرّد أداة يعني التغافل عن تلك السمة الحيويّة من سماتها، ما قد يؤدّي بنا إلى إساءة فهم لماذا تتمتّع السلطة بتلك الطاقة الجبّارة على القسْر.


خاتمة كتاب لماذا كان ماركس على حقّ؟

تيري إيغلتن

هذا ما لدينا. كان لماركس شغفٌ جارفٌ بالفرد وشكٌّ مريبٌ في الأفكار الجامدة المجرّدة. لم يصرف أيّ وقتٍ في تصوّر المجتمع المثاليّ، وكان حذراً من فكرة المساواة، ولم يحلم بغدٍ نرتدي فيه زيّ عمال صَهْر المعادن وقد طُبعتْ أرقامُ تسجيلنا في «الضمان الاجتماعيّ» على ظهورنا. التنوّع لا الأحديّة هو ما آمل في تحقيقه. ولم يكن يعلّم أنّ الرجال والنّساء ضحايا مستكينون يتلاعب بهم التاريخ. كان الأشدّ عداءً تجاه الدولة من المحافظين اليمينيّين، يرى إلى الاشتراكيّة على أنّها تعميقٌ للديمقراطيّة، لا عدوٌّ لها. وارتكز نموذجه للحياة الحلوة على فكرة التعبير الفنّي الذاتيّ. كان يؤمن أنّ بعض الثورات يمكن تحقيقها سلميّاً، ولم يكن بأيّ حالٍ معارضاً للإصلاح الاجتماعيّ. لم يركّز تركيزاً ضيّقاً على الطبقة العاملة اليدويّة. ولا كان يرى المجتمع بمنظار طبقتين مستقطبتين بالمُطلق.

لم يقدّس ماركس الإنتاج المادّيّ. على العكس من ذلك، كان يفكّر أنّه يجب التحرّر منه قدر الإمكان. كان مثاله الأعلى هو الرفاه، لا العمل. وإذا كان أولى ذاك القدر من الاهتمام للاقتصاد فمن أجل تقليص سطوته على البشريّة. وكانت نزعته المادّيّة قابلة للتوافق كلّيّاً مع أرقى القناعات الأخلاقيّة والروحانيّة. كال الكثير من المديح للطبقة الوسطى، ورأى في الاشتراكيّة على أنّها وريثٌ لكبار مواريث الحرّيّة والحقوق المدنيّة والرفاه المادّيّ. أمّا آراؤه عن الطبيعة والبيئة فكانت متقدّمة بأشواط مذهلة قياساً لعصره. ولم يكن لنصير حقوق النساء والسلام العالميّ والنّضال ضدّ الفاشيّة أو النّضال من أجل التحرّر الوطنيّ أن يكون أكثر حماسةً من الحركة السياسيّة التي تولّدت بوحيٍ من مؤلّفاته.

فهل وُجِد إطلاقاً مفكّرٌ تعرّض للمسخ قدْر ما تعرّض له هذا المفكّر؟

  • ١. Whigs الاسم الذي يطلق على حزب الملكيّين الدستوريّين الذي نشأ عن ثورة العام ١٦٨٨ الدستوريّة في مقابل Tories - وهم حزب الملكيّة المطلقة. وقد ارتبط الحزبان أيضاً بأسرتين ملكيّتين متنافستين على العرش. في القرن التاسع عشر تمايز الحزبان في تمثيلهما الاجتماعيّ حيث مثّل «الويغز» - حزب الأحرار - الرأسماليّة الصناعيّة داعية حريّة التجارة و«التوريز» - حزب المحافظين - أرستقراطيّة الأرض والنظام الملكيّ. مع نموّ حزب العمّال، ظلّ نظام الحزبين قائماً على حزب المحافظين وحزب العمّال إلى أن حقّق الأحرار عودة متواضعة كحزب في العقود الأخيرة من القرن العشرين.
  • ٢. لاعب غولف أميركي شهير، والاستشهاد به لبداهة القول إنّ الرجل لا يتعاطى نظريّات معرفيّة.
العددان ٢٠-٢١ - ٢٠١٨

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.