العدد ١٧ - ٢٠١٧

أنا القارئ وهذه كتبي

ابن خلدون, إمام المؤرّخين

جاء ذكرٌ للطّبري (ت. ٩٢٣ م.) في المقال السابق بشكل مختصر لكنّه بدون شكّ إمام مؤرّخي قبّة الحديث. ولم تصدر عنه حتّى اليوم دراسة عميقة تليق بمقامه الفكريّ الشامخ. لم يترك لنا فقط تاريخاً لا تزيده الأيّام إلّا منفعة وعمقاً لمؤّرخي اليوم بل تفسيراً جليلاً للقرآن أشبه بسجلّ كاملٍ لآراء العلماء وتفاسيرهم حتّى أيّامه هو.

التأريخ من الإسناد إلى الرّواية

سبق أن استشهدنا بالطّبري الذي يقول إنّ المعرفة التاريخيّة لا تأتي إلّا من «أخبار المُخبرين ونقْل النّاقلين دون الاستخراج بالعقول والاستنباط بفكر النّفوس». كان أهل الحديث أيّام الطّبري عُرضةً لهجمات شديدة من جانب علماء الكلام بوجه خاصّ الذين عابوا عليهم منهجيّتهم في تمحيص الأخبار، وطعن بعضهم بنظريّة الإسناد فجاء الطبري ليقول إنّ الأخبار لا يمكن أن تُستخرج بالعقل بل هي معلومات ترِد إلينا عن طريقٍ واحد فقط هو طريق المخبرين. لذا فإنّ فضيلة المؤرّخ الكبرى عند الطّبري هي الأمانة في النّقل عن كافّة المخبرين بدون استثناء مع ذكر الإسناد بدقة. وإذا أردنا أن ندخل في خضمّ هذا الجدل حول الحديث والأخبار بشكل عامّ لن نجد في رأيي دفاعاً عن الحديث ومنهجيّته أشدّ عوداً وصلابةً من تاريخ الطبري ثمّ خصوصاً من كتاب «تأويل مختلف الحديث» لابن قُتيبة.

لكنّ هذه المنهجيّة لم ترقْ لمن جاء بعد الطبري من أجيال المؤرّخين.

أوّلاً: الإسناد الذي هو بمثابة العمدة في علم الحديث لم يكن متوفرّاً ولا ملائماً لتواريخ الأمم الأخرى التي بدأ يهتمّ بها جيلٌ آخر من المؤرّخين.

ثانياً: مع بروز علم الأدب عند كتّاب الدّولتين الأموّية والعبّاسيّة، وجد الأدباء أنّ الإسناد من التّثقيل والتّطويل خصوصاً أنّ مادّة الأدب الأساسيّة هي الرّواية المنفردة التي لها مغزى أخلاقيّ أو هي للتّسلية وشحْذ الذّهن ثمّ طبعاً رواية الشّعر على أنواعه من قديمٍ وحديث: كلّ هذه الموادّ لا ضرورة تدعو لذكر إسنادها.

ثالثاً: مع مجىء الفلسفة وعلم الكلام وعلوم الطّبيعة لم يعُد للإسناد مكانٌ بينها فهي كلّها علوم مستنبَطة من العقل. لذا انتقلت الكتابة التاريخيّة التي تأثّرت بكلّ هذه العوامل من قبّة الحديث إلى قبّة الأدب ثمّ قبّة الحكمة حيث النّثر المتسلسل هو الأسلوب السّائد وحيث تُستقى وتُمحّص المعلومات لا من سلاسل الإسناد بل من مؤلّفاتٍ معيّنة أو من راوٍ معيّن أو من مشاهدات شخصيّة أو من استنتاجات عقليّة.

رابعاً: لا شكّ لديّ في تأثير الجاحظ العميق في انتقال أسلوب الكتابة عامّةً من الجمع إلى التّأليف. بكلام أبسط، المؤرّخ أصبح مؤلّفاً بالمعنى الحديث للكلمة ولم يعدْ مجرّد جمّاع للرّوايات، أي إنّه أصبح يُرجّح ويحذف ويلخّص ويركّب وينسّق ويُجمّل ويقرّب ويباعد ويسرد ويربط ويعلّل ويوجب، أي يفعل ما يفعله أيّ مؤرّخ في زماننا هذا. وهكذا عندما نقرأ اليعقوبي أو المسعودي أو الدَّينوري أو غيرهم نجد أنّنا قد انتقلنا من دهاليز الطّبري وأسانيده إلى رحاب التاريخ المتّصل الذي تُوجّهه وتَصوغه يدٌ واحدة وروحٌ واحدة هي يد وروح المؤرّخ المعيّن. لا يمكن أن نزعم أنّ قراءة تاريخ الطّبري متعةٌ للقارئ لكنّنا نجد متعةً لا شكّ فيها عندما نقرأ المسعودي مثلاً فنجده يسرد التّاريخ أمامنا وكأنّه بساط من الرّوايات متعدّدة الألوان والأمزجة. أمّا الإسناد فإنّه لم يختف طبعاً بين ليلة وضُحاها إذ نجده حاضراً حتّى في كتب الأدب ككتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني (ت. ٩٦٧م.). لكنّ ضمور الإسناد بات واضحاً في كتب التّاريخ بدءاً من القرن الرابع للهجرة / العاشر للميلاد.

انفتاح التّاريخ على العلوم العقليّة

أمّا القبّة الثّالثة أي قبّة الحكمة فهي تلك التي بنَتْها العلوم الفلسفيّة والكلاميّة (أي اللاهوتيّة) والطبيعيّة والتي استظلّها عدد من كبار المؤرّخين في القرون اللاحقة. نلمح ظلال هذه القبّة بدءاً باليعقوبي الذي يذكر بانتظام «الطّالع» عند ابتداء كلّ خلافة فيقول مثلاً: «وكانت الشّمس يومئذٍ في الدّلو ستّاً وعشرين درجة وعشرين دقيقة، والقمر في السّنبلة خمس درجات والمرّيخ في الجدْي أربع درجات. والزهرة... وعطارد إلخ.». وهذه كلّها مأخوذة من علم أحكام النّجوم الذي يحدّد مآل ومسار الزمن كالرّخاء أو الكوارث في تلك الآونة. ثمّ نجد ظلالها قد امتدّت بعيداً عند المسعودي والمطهر بن طاهر المقدسي حيث يلعب علم الكلام المعتزليّ كما العلوم الطبيعيّة دوراً بارزاً في قبول الرّوايات وتمحيصها. وثَمّة نصٌ في المسعودي أراه جديراً بالتأمّل عند الحديث عن تأثير علم الكلام والعلوم الطبيعيّة على التّاريخ. ففي صدد كلامه عن وجود أو عدم وجود بعض الكائنات الخرافيّة كالنّسناس والعنقاء يقول أوّلاً إنّ الأخبار عنه تتضارب في الشّرق والغرب فأهل الشّرق يرَوْن أنّه موجود في الغرب وأهل الغرب أنّه في الشّرق، ثمّ يستطرد على النّحو الآتي: «ونحن لم نُحِلْ وجود النّسناس والعنقاء وغير ذلك ممّا اتّصل بهذا النّوع من الحيوان الغريب النّادر من طريق العقل فإنّ ذلك غير ممتنع في القدْرة (أي القدرة الإلهيّة) لكنْ أحلنا ذلك لأنّ الخبر القاطع للعذر لم يَرد بوجود ذلك في العالم. وهذا باب داخل في حيّز الممكن والجائز... ويحتمل هذه الأنواع من الحيوان النّادر ذكْرها... أن تكون أنواعاً من الحيوان أخرجتْها الطّبيعة من القوّة إلى الفعل فلم تُحكمه... فبقي شاذّاً فريداً ...طالباً للبُقاع النّائية من البرّ مبايناً لسائر أنواع الحيوان... ممّا قد أحكمتْه الطّبيعة وعدم المشاكلة والمناسبة التي بينه وبين غيره من أجناس الحيوان».

هذا النّص يمثّل أحسن تمثيلٍ انفتاحَ التّاريخ على العلوم العقليّة إذ يستخدم أوّلاً علم الكلام ليثبت أنّ الخَلق على أنواعه ممكن في القدرة الإلهيّة ثمّ يُتبع ذلك باستخدام مفهوم الخبر «القاطع للعذر» ليصل أخيراً إلى نظريّة أرسطو حول القوّة والفعل فيستخدمها لتفسيرٍ محتمَلٍ لوجود النّسناس أو ما يشابهه من غريب الحيوان.

هذا الاهتمام المتزايد عند المؤرّخين بالعلوم الطبيعيّة والعقليّة يقابله اهتمامٌ متزايدٌ بالأخبار وتمحيصها وتحقيقها عند علماء الكلام وعلماء الطّبيعة. فنحن نجد عند القاضي عبد الجبّار المعتزلي (ت. ١٠٢٤ م.) مثلاً تحليلاً مفصّلاً لأصناف الأخبار متفاوتة الصحّة وتعريفاتٍ دقيقةً للخبر المتواتر وخبر الآحاد وما يُعرف صِدقُه بالضّرورة وما يُعرف بالاستدلال. أمّا أبو الحسين البصري (ت. ١٠٤٤ م.) وهو تلميذ عبد الجبّار، فهو يفحص بدقّةٍ الأحوال المحيطة بالخبر والمُخبِر وينتقل بالتّحليل من المجال الفقهيّ إلى المجال اليوميّ أي الحوادث اليوميّة فيقول: «أمّا أحوال المخبِر فنحو أن يكون له صارفٌ عن الكذب في ذلك الخبر ولا يكون له داعٍ إليه... نحو أن يكون رسولاً من سلطان يذكر أنّ السّلطان يأمر الجيش بالخروج إليه فعقوبة السّلطان تصرِفه عن الكذب (...) ونحو أن يكون الإنسان مهتمّاً بأمر من الأمور متشاغلاً به فيُسأل عن غرّة فيخبر عنه في الحال فيعلم أنّه لم يفكّر فيه (...) وهذه الأمور تقتضي أن لا غرض للمخبر في الكذب». لكنّه يستطرد ليقول إنّ مثل تلك الأحوال لا تقطع بصحّة الخبر بل هي من صنف الظّنّ الغالب. وهذه الأمثلة المختارة من الحياة اليوميّة هي بالطّبع أقرب إلى ما يتعاطى به المؤرّخ العاديّ.

ونجد عند ابن حزم الأندلسيّ (ت. ١٠٦٤ م.) ذاك المفكّر النّابغة، تحليلاً لمشكلة التّواطؤ في تلفيق الأخبار إذ يرى أنّ الكذب والتّواطؤ يجوز على الواحد والكثرة، لكنّه يعرّف الخبر الموجب للعلم كما يلي: «إذا جاء إثنان فأكثر من ذلك وقد تيقّنا أنّهما لم يلتقيا ولا دسَسَا ولا كانت لهما رغبة في ما أخبرا به ولا رهبةٌ منه ولم يعلم أحدهما بالآخر، فحدّث كلّ واحدٍ منهما مفترقاً عن صاحبه بحديثٍ طويلٍ لا يمكن أن يتّفق خاطرُ إثنين على توليد مثله، أخبرت عن مثلها بأنّها شاهدت، فهو خبرُ صدقٍ يضطرّ بلا شكّ مَن سمعه إلى تصديقه... وهذا الذي قلنا يعلمه حساً مَن تدبّره ورعاه في ما يرد كلّ يوم من أخبار زمانه من موت أو ولادة أو نكاح أو عزل أو ولاية أو وقعة وغير ذلك» . ولعلّ الجدل الدّائر بين المتكلّمين حول تعريف العادات والمعجزات من أمتع أوجه الفكر التّاريخيّ في ذلك الزمن. ما هي العادة وما هو خرق العادة؟ وما هي المعجزة وما علاقة الأنبياء بالمعجزات؟ وما المعجزات التي يمكننا أن نقبلها وما تعريفها؟ هذه كلّها أسئلة حظيت بالكثير من التحليل عند علماء الكلام ووصلت أصداؤها إلى بعض المؤرّخين كالمسعودي كما في النّصّ أعلاه أو كالمطهر بن طاهر المقدسي الذي يعرّف المعجزة على النّحو الآتي: «قد يكون الشّيء معجزة في وقت وهو بعينه غير معجزة في وقت آخر، ويكون معجزةً لقوم وغير معجزة لقوم، ويكون الشّيء باجتماع أجزائه معجزة ويكون جزءٌ منه على الانفراد غير معجزة». لن أسترسل هنا في الحديث عن موضوع المعجزات لكن لاجدال في أنّ للمعتزلة دوراً رئيسيّاً في تعريف المعجزات وحصرها بالأنبياء وإنكارها عند باقي البشر ككرامات الأولياء مثلاً. وأنكَر بعض الفلاسفة كأبي بكر محمّد بن زكريّا الرازي (ت. ٩٢٥ م.) المعجزات بالكامل واستمسكوا بما تمليه القوانين الطبيعيّة. أمّا الفيلسوف مسكوَيْه فقد ورد أعلاه كيف نبَذ من كتابه «تواريخ الأنبياء» إذ هي تزخر بالمعجزات وليس فيها من التّدبير والتّجارب ما قد يفيد أصحاب الحكم في يومه الرّاهن. ولعلّ البيروني العظيم (ت. ١٠٤٨ م.) أوضحُ مثالٍ على قبّة الحكمة، ففي كتابه «الآثار الباقية عن القرون الخالية» يستخدم آخر ما توصّل إليه علم الفلك والرياضيّات لتحديد تواريخ الأمم وضبْطها على أساس تماسكها الدّاخليّ، وفي كتابه ذائعِ الصِّيت عن الهند يكشف الأباطيل المحكيّة عن الدّيانة الهنديّة استناداً إلى المصادر الهنديّة الموثوقة والأصليّة وذلك بتجرّدٍ علميّ تامّ وبالدّراسة المقارنة للثّقافات المختلفة.

قبّة السياسة

ونصل اخيراً إلى قبّة السياسة. نحن الآن في عصر السّلاطين من السّلاجقة والزّنكيّين والأيّوبيّين ومن ثَمّ المماليك، أي القرون ١١ إلى ١٦ ميلاديّة. هذه الحقبة خلقت على ما أعتقد خطاباً فكريّاً واجتماعيّاً جديداً ترك أثره العميق عند المؤرّخين. فقد بنى هؤلاء السلاطينُ دولاً من صنف جديد قوامها حشد كافّة طاقات المجتمع وتركيزها وعسكرتها في دولة مركزيّة واحدة تمتلك أيديولوجيّةً دينيّة معيّنة كثيراً ما يكون الجهاد ضدّ الأعداء محرّكَها الأساسي. ولعلّ كتاب «سياست نامه» (أي كتاب الحكم) للوزير السّلجوقيّ الشّهير نظامِ الملك (ت. ١٠٩٢ م.) هو أفصح تعبير عن هذه الدّولة السّلطانيّة الجديدة، بل قد نعتبره الشّعار السياسيّ لتلك المرحلة في التّاريخ. وهذا الكتاب بمثابة دستور ينبغي للسلطان أن يتبعه حتى تستقيم أمور الدَّولة، فهو يتطرّق إلى تدبير الجيوش والإقطاع واستخدام الشُرَط والعيون ومراقبة الأموال، ثُمّ يتطرّق إلى الأمور الأخلاقيّة والدينيّة وإلى تعريف العدل والاهتمام بكافّة طبقات المجتمع وإلى مسؤوليّة السّلطان تجاه الله والدِّين. هذه الدّول الجديدة التي قد نسمّيها شموليّة هي التي خلقت خطاباً ساد عمران تلك الدّول. وهذا العمران (بالمفهوم الخَلدونيّ) نلمح ظلاله ليس فقط في أدبيّات تلك العصور بل أيضاً في فنونها المختلفة ومنها مثلاً فنّ العمارة الضّخمة التّذكاريّة التي عكست هيبة الدّولة، كما نلمح تلك الظّلال في سعي الدّول السّلطانيّة للسّيطرة على التّعليم وخلق «كادر» جديد من موظّفي الدّولة من خلال المدارس (كالنّظاميّة في بغداد مثلاً) ولتدبير وتنظيم المذاهب الفقهيّة ولدمج الطّرُق الصوفيّة في المجتمع وحشدها للدّفاع عنه كما وللسيطرة التامّة على نظام الإقطاع من جانب السّلطان. ولا ريب أنّ هذا التّحوّل نحو الشموليّة كان في جزء منه على الأقلّ ردّة فعلٍ على خطرين عظيمين دهما العالم الإسلاميّ في تلك العصور هما الخطر الصليبيّ في الأندلس أوّلاً ثمّ في الشرق الأدنى ولاحقاً الخطر المغوليّ الأعظم والأكثر ديمومة في شرقنا العربيّ. ونجد عند ابن الأثير (ت. ١٢٣٢ م.) مثلاً تحليلاً إستراتيجيّاً عميقاً لتزامن هذين الخطرين وانقضاضهما على ممالك الإسلام كالكمّاشة، الواحد من الغرب والثّاني من الشّرق.

هذه باختصار وتبسيط هي المكوّنات الأساسيّة لعصور السلاطين والتي استظلّها الأدباء والمؤرّخون. فقد عزّزت تلك المكوّنات تراتبيّة المجتمعات وهرميّة بنيانها من جهة، كما عزّزت إحساس أهل الأدب والتّاريخ بأنّهم يعيشون في زمن تاريخيّ عميق المغزى لا يقلّ شأناً عن تاريخ ما مضى من الأيّام. فهذا مثلاً عماد الدين الأصفهاني (ت. ١٢٠١ م.) يصف في مقدّمة تاريخه المعقود لاستعادة القدس على يد السّلطان صلاح الدّين الأيّوبي كما يلي: «وإنّما بدأنا بالتّأريخ به (أي بالفتح القدسي) لأنّ التّواريخ معتادها أن تكون مُستفتحة من بدء نشأة البشر الأولى وإما مستفتحة بمعقب من الدول... وأنا أرّختُ بهجرة ثانية تشهد للهجرة الأولى... وهذه هي هجرة الإسلام إلى بيت المقدس وقائمُها السّلطان صلاح الدّين... وعلى عامها يُحسن أن يُبنى التأريخ... وهذه الهجرة أبقى الهجرتين».

وهذا كلام جريءٌ للغاية! وواكب هذا الإحساس بقدوم عصرٍ جديدٍ بروزُ تواريخ موسوعيّة ضخمة، شاملة في تغطيتها. ونحن عندما نتصفّح هذه التّواريخ نجدها تشبه إلى حدٍّ بعيد النظام البيرقراطيّ السّلطانيّ السّائد أو «المسح الإقطاعيّ» الذي لا يترك صغيرة ولا كبيرة من الحوادث دون تدوينها بدقّة. ولعلّ التّواريخ التي كُتبت في العصر المملوكيّ هي من أوضح الأمثلة على ما نسمّيه اليوم «التّغطية الشاملة» للأخبار في الكتابة الصحافيّة، ومن أكثر هذه التّواريخ شهرة كتاب «السّلوك لمعرفة دول الملوك» للمقريزي (ت. ١٤٤٢ م.) الذي يعتمد التأريخ على السّنين ثمّ يسرد ضمنها ليس فقط حوادث الشّهور والأيّام بل حتّى الساعات في بعض الأحيان، ويُرفق ذلك ببعض المعلومات الاقتصاديّة كغلاء الأسعار أو انخفاضها، ثمّ أيضاً الحركات الشعبيّة والرسائل المتبادلة بين الملوك المأخوذة من سجلّات الدَّواوين، وأخبار الزّلازل والبراكين والأوبئة والطواعين، وصُورٍ وصفيّة دقيقة لبعض الشخصيّات الهامّة كتلك التي رسمها مثلاً لشخصيّة الملك الصّالح أيّوب وهو أحد آخر سلاطين بني أيّوب قبل قيام دولة المماليك. وكما عند المقريزي كذلك الأمر عند العديد ممّن سبقه من مؤرّخي تلك العصور كابن الجوزي (ت. ١٢٠١ م.) وابن واصل (ت. ١٢٩٨ م.) وسبط ابن الجوزي (ت. ١٢٥٦ م.) وأبو شامة (ت. ١٢٦٧ م.) وابن تغريبردي (ت. ١٤٦٩ م.) وغيرهم. السياسة إذاً وبمعناها الأوسع الذي يشمل فيما يشمل السّيطرة البيرقراطيّة والنّظُم الإقطاعيّة العسكريّة هي القبّة التي أظلّت الكتابة التاريخيّة إبّان تلك العصور.

ابن خلدون إمام المؤرّخين

هكذا إذاً كان التقسيم الذي اقترحتُه في كتابي «فكرة التاريخ عند العرب». وأنا عندما أعود في هذه الأيّام إلى ذاك الكتاب الذي بلغ من العمر اليوم ما يزيد عن العشرين عاماً أجد فيه بعض التعسّف في التّقسيمات لكنّني ما زلت أرى أنّ من المفيد لنا أن نطرح ما يشبه ذاك التقسيم كي نربط كتابة التّاريخ بما حولها من المناخات الاجتماعيّة والفكريّة، ولا نكتفي بسرد أسماء المؤرّخين وكأنّها سلسلة إسنادٍ أو فهرس أو «كاتالوغ» حيث يتسلّم اللاحق الرّايةَ من السابق وحيث التركيز هو على التّأثير الذي مارسه زيد على عمرو. وقد يكون من المفيد أيضاً أن نحاول أن نفعل الشيء ذاته مع الأدباء والفلاسفة والمتكلّمين وعلماء الطبيعة وغيرهم. كما قد نستلهم في هذا الصّدد المقولة التي يردّدها ابن خلدون: «النّاس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم».

لا مفرّ لي الآن من أن أصل إلى إمام المؤرّخين عبد الرحمن ابن خلدون (ت. ١٤٠٦ م.) الذي تناوله عدد ضخم جداً من الكتّاب في الشرق والغرب، فماذا يمكن أن يُقال فيه ما لم يكن قد قيل من قبل؟

تتملّكني الحيرة في هذا الموقف فهو بدون شكّ يحتلّ في تاريخنا الفكريّ مكاناً يشبه ما يحتلّه كارل ماركس مثلاً في الفكر الغربيّ. غير أنّني أجد أنّه، وبسبب هذه المكانة الفكريّة الكبرى بالذّات، يوحي لكلّ جيل بتفسيرات متنوّعة المناحي والدّلالات، بل لربّما من الواجب أن يحاول المرء أن يصوغ لجيله نظرات جديدة في بنيانه الفكريّ الشاهق. يقول الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو إنّ الكتاب الكلاسيكيّ هو الكتاب الذي «لم ينته قَطّ من قول ما أراد أن يقوله» وهذا ما يشجّع المرء على أن يُدلي بدلوه حتّى ولو كانت البئر مكتظّةً بالدّلاء. وفي أثناء محاولاتي المتكرّرة لإيصال فكره إلى التّلامذة وجدت في نهاية الأمر بعض الفائدة في أن تكون نقطة الانطلاق هي أن نتأمّل ببعض التّفصيل عنوان تاريخه الذي هو على النّحو الآتي: «كتاب العبَر وديوان المبتدأ والخبر في أيّام العرب والعجم والبربر ومَن عاصَرهم من ذوي السلطان الأكبر».

أوّلاً: كلمة العِبر

هي طبعاً جمع عبرة وتعني الدّروس المستفادة من التّاريخ أو الماضي، وهي كلمة كثيراً ما ترِدُ في القرآن مصحوبة بلفظة «أولي الأبصار» أي أنّ العبرة لا يفهمها سوى الذين يتأمّلون حوادث الزّمن ويستخلصون منها مغزاها العميق. والكلمة مشتقّة من المصدر ع-ب-ر وتعني فيما تعنيه العبور أو الانتقال من ضفةٍّ إلى أخرى من النّهر مثلاً. فإذا دمجنا المعنى القرآنيّ بالمعنى الحرفيّ نصل إلى ما يريد ابن خلدون لنا أن نفعله وهو أن نعتبر بالماضي ونقطع من ضفّة التّاريخ إلى ضفّة مغزاه الحقيقيّ، من ظاهر التّاريخ إلى باطنه، من موج التّاريخ المتلاطم إلى حقيقته الثّابتة، من أحداثه السّطحيّة المتلاحقة إلى أعماقه التي لا تتغيّر. فالتّاريخ بحدّ ذاته عند ابن خلدون ليس إلّا سلسلة من الحوادث التي تمرّ من أمامنا فلا نعرف لها وجهة ولا معنىً، ولا فائدة تُرجى منها سوى لربما التسلية التي نجدها في القصص. أمّا إذا أردنا أن نحمِل التّاريخ على محمل الجدّ فلا بدّ من العبور إلى ما وراءه لاستكشاف مبادئه التي تحدّد مساره وتعرّجاته. وهذا ما يفسّر هجومه الماحق على المؤرّخين الذين يرى أنّهم مجرّد قُصّاصٍ ليس إلّا.

ثانياً: ديوان المبتدأ والخبر

لفظة الديوان في المغرب وهو مسقط رأس ابن خلدون، تعني عملاً موسوعيّاً شاملاً، الأمر الذي توضّحه لفظة المبتدأ والخبر. من هنا فإنّ ابن خلدون يوحي لنا أنّ كتابه سوف يكون شاملاً ومكتملاً، تماماً كما يكمّل الخبر المبتدأ. فالتّاريخ بحدّ ذاته ليس سوى المبتدأ ولا يُفهم إلّا إذا فهمنا خبره. وهذا الفهم يتطلّب في رأي ابن خلدون الإحاطة بكوكبة واسعة من العلوم التي يحدّدها على النّحو الآتي: «يحتاج صاحب هذا الفنّ إلى العلم بقواعد السّياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السّيَر والأخلاق والعوائد والنِحل والمذاهب... والإحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة ما بينه وبين الغائب... حتّى يكون مستوعباً لأسباب كلٍ خبرَه وعندئذٍ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول»، فيصحّح الخبر أو يرفضه. وإذا أردنا أن نترجم هذا الكلام إلى لغة الحاضر لقلنا إنّ الذي يتنطّح لكتابة التاريخ عليه أن يكون قد حصل على درجة الدكتوراة في العلوم الآتية: العلوم السياسيّة، الاقتصاد، علم البيئة، علم الاجتماع، علم الأحياء، الفلسفة والمنطق، علم الكلام، العلوم الفقهيّة، التّاريخ المقارن، علم الجغرافيا والأدب، ولوجَب أن يسمّي نفسه «الدكاترة فلان الفلاني»!

أمّا الاسم الذي اختاره ابن خلدون لعلمه الجديد والذي يقول إنّه لم يسبقه إليه فهو «علم العمران البشريّ». لكنْ قبل الحديث عن هذا العلم تجدر الإشارة إلى أنّ ابن خلدون قد قلب كتلة مفاهيم الحضارات القروسطيّة الشرقيّة والغربيّة رأساً على عقب من خلال هذا العلم. إذ إنّ النّصوص الأدبيّة والدينيّة حتّى أيّامه هو كانت، في الغالب الأعظم منصبّة على الإنسان الفرد، على الروح البشريّة، والمصير، على العبادات والمعاملات والواجبات الإنسانيّة، على الخير والشرّ، على معنى البطولة، على الحبّ، وإلى ما هنالك من الأمور التي محْورُها الإنسان الفرد. أمّا ابن خلدون فهو يرى أنّ العمران البشريّ هو الأمر الجدير بالفحص والتّدقيق. فإذا أردنا أن نفهم الإنسان الفرد يجب أوّلاً أن نفهم بيئته ومجتمعه، أن نفهمه في الدائرة الكبرى لا في الدائرة الصغرى، وما إن تتّضح صورة الإطار الأوسع حتّى تتّضح صورة الفرد. لذا فالإنسان الفرد ما هو إلّا «مبتدأ» أمّا بيئته فهي «الخبر» الذي يضفي عليه معناه الشامل. قد نقول إذاً إنّ ماهيّة الإنسان أو جوهره (المبتدأ) تجد معناها الحقيقيّ والكامل في كيانه ووجوده (الخبر). ولو أردنا تشبيهاً عصريّاً لقلنا إنّ ابن خلدون يغلّب التطبّع على الطّبع إذ كثيراً ما يردّد أنّ «النّاس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم» أي أنّ البيئة هي التي لها التأثير الأكبر في تكوين الإنسان، لا المصدر والنسَب والطبع والوراثة وإلى ما هنالك.

ما هي هذه البيئة في نظر ابن خلدون؟ ثمّة بيئتان أساسيّتان إحداهما البيئة البرّية أو القفر (ويسمّيها ابن خلدون العمران الوحشيّ) والأخرى البيئة المدينيّة (العمران الحضري). هاتان البيئتان تقعان خارج الزمن بمعنى أنّهما لا تواكبان الزّمن العاديّ بل هما نوعان من الوجود الذي يتغيّر ببطء واستناداً إلى قوانين معيّنه لكنّه يبقى في جوهر ذاته كما هو. والعلاقة بينهما علاقة ديالكتيكيّة نوعاً ما، أي علاقة التّفاعل بين المتناقضات. وهذا يعني أنّ ثمّة ما يحمل العمران الوحشيّ إلى أن يتوق دوماً إلى أن يصبح عمراناً حضريّاً إذا سمحتْ له الظروف بذلك. غير أنّ الإنسان الفرد في كلّ بيئة يختلف جذريّاً عن الإنسان في البيئة المقابلة. فالإنسان الوحشيّ يتميّز عن الحضري سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً، بل ونفسياً، تميّزاً تامّاً. ولو رجعنا إلى المبتدأ والخبر لقلنا إنّ العمران الوحشيّ هو المبتدأ والحضريّ هو الخبر. فالوحشيّ يمكنه أن يستمرّ في الوجود غير المكتمل بمعزل عن الحضريّ، لكنّ معناه ومغزاه لا يكتملان إلّا حين ينقلب إلى الحضريّ. كيف يتمّ هذا التحوّل والانتقال؟ الجواب هو في قوانين علم العمران التي نصل إليها بعد حين.

ثالثاً: «في أيّام العرب والعجم والبربر»

أيّام العرب هي طبعاً ذلك التّراث من القصص الشّعبيّ والشّعريّ الذي صاغ لأيّام الجاهليّة ما قد نسمّيه تاريخاً ملحميّاً من الغزوات والحروب التي تذكّرنا من حين لآخر بملحمة الإلياذة لهوميروس. لكنّ ابن خلدون لا يستعمل تلك اللفظة بهذا المعنى بل يعني بها على ما أعتقد الحوادث الجسام التي مرّت على هذه الأمم. العرب هم بالطّبع قومه الذين بنَوا تلك الإمبراطوريّة العظمى لكنّ نجمهم السياسيّ كان قد خبا وأتت أممٌ أخرى لتقود أمّة الإسلام. والعجَم هم كافّة الأمم التي عاشت إمّا حول البحر المتوسّط أو في الشّرق، أي مجموع ما كان يعرفه ابن خلدون عن عالمه. أمّا البربر فهم سكّان أفريقيا الشّماليّة الذين كان ابن خلدون على اطّلاع عميق على تاريخهم وسلالاتهم الحاكمة. لذا قد نقول إنّ ابن خلدون ينوي أن يطبّق قواعد وقوانين علمه على أوسع رقعة ممكنة من التّواريخ المحيطة به.

رابعاً: «ومَن عاصرَهم»

نعود مجدّداً إلى مقولة «النّاس بأزمانهم» فنرى أنّها لا تعني فقط طغيان بيئة معيّنة بل تعني أيضاً طغيان زمنٍ معيّن أي أنّ العمران البشريّ أمر نسبيّ يتكيّف حسب الزّمان والمكان. ففي صدد هجومه على المؤرّخين يسرد ابن خلدون بعض الأسباب التي تحمل المؤرّخين على إدخال الأخبار المستحيلة إلى تواريخهم كالتّعصّب للمذاهب المختلفة والثّقة المفرطة بناقلي الأخبار والجهل بمغزى الخبر والتقرّب إلى الحكّام طمعاً بالمكافأة. لكنّ السّبب الأهمّ في رأيه هو «الجهل بطبائع الأحوال في العمران فإنّ كلَّ حادث من الحوادث... لا بدّ له من طبيعة تخصّه في ذاته وفيما يَعرض له من أحواله».

وبما أنّ تحوّلات العمران البشريّ هي التي تحدّد مسار الحوادث التّاريخيّة وما ينبغي لنا أن نقبل أو نرفض من هذه الحوادث، فإنّ تلك التحوّلات هي التي يجب على المؤرّخ أن يفهمها، فالحوادث معاصرة لزمانها. لذا ينبغي أن نفهم التّاريخ ليس بالمعنى التسلسليّ للحوادث المنفردة بل بمعنى تسلسل الأزمنة المتعاصرة. التّسلسل هذا أفقيٌ وليس عموديّاً. لنأخذ مثلاً مجتمعين متعاصرين: أليس ما يجمع هذين المجتمعين المتعاصرين أكثر بكثير ممّا يجمعهما بتاريخهما؟ وعلى سبيل المثال، وهو بالطبع ليس مثالاً خلدونيّاً، أليس ما يجمع لبنان باليونان اليوم أقرب بكثيرٍ ممّا يجمع لبنان مع قرنه العاشر أو اليونان مع قرنها العاشر؟ أليست المؤسّسات المختلفة وأنماط المعيشة وعلاقات الإنتاج بل وحتّى أنماط الفكر في لبنان اليوم أقرب إلى ما يقابلها في اليونان اليوم ممّا يقابلها في أزمنة سابقة من تاريخه، والعكس بالعكس طبعاً؟ يبدو إذاً وكأنّ ابن خلدون يوصينا بأنْ نفهم المعاصرة أوّلاً كي نستطيع لاحقاً أن نميّز الممكن من المستحيل في الأخبار. كيف ينتقل زمن متعاصر إلى زمنٍ متعاصر آخر؟ الجواب عند قوانين علم العمران التي نصل إليها بعد قليل.

خامساً: «من ذوي السلطان الأكبر»

العديد من قوانين علم العمران له صلة وثيقة بـ«السّلطان» أي ما نسمّيه اليوم السّلطة والقوّة: السّلطة السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة والنّخبويّة والديمغرافيّة والأيديولوجيّة والقبليّة وإلى ما هنالك من أشكال القوّة والتسلّط. وهذه القوى تتجلّى أكثر ما تتجلّى بالدّول، فالدّولة القويّة المتسلّطة هي التي تمتلك القدْر الأنسب من تلك القوى. والعصبيّة أي التّلاحم الاجتماعيّ هي من أهّم مكوّنات تلك القوى. ولعلّ المثال الآتي ينال رضى ابن خلدون: لنأخذ مثلاً رجلاً أو امرأة رياضيّة. هذا الإنسان يكون في أحسن حال حين يكون قويّ العضلات، سريع الجري، حادّ النّظر والسّمع والذّهن، صحيح القلب والمعدة، شديد التركيز، سريع التكيّف، مع التناسق والتكافؤ بين كافّة تلك القوى. وهذا المثال ليس بعيداً عن الفكر الخلدونيّ إذ كثيراً ما يشبّه الدّول ومسارها بتشبيهات مأخوذة من علم الأحياء. هذه إذاً هي الدّولة حينما تكون في أوج سلطانها.

فالدّولة تمرّ بأطوار تشابه أطوار الشّباب والبلوغ والهرم وكما أنّ الشابّ يختلف في تصرّفه عن البالغ وعن الهرِم كذلك الأمر عند الدّول. والتسلّط يكون على أشدّه عند البلوغ، تماماً كما في حال الرياضيّ الشابّ. ويصيب الهرمُ الدّولَ بأمراضٍ كالتّرهّل والتّباطؤ وفقدان التّركيز وانحلال العصبيّة، ممّا يعني الاعتماد المفرط على المرتزقة كما يعني كنزَ المال واحتكار الأسواق، وكلّ ذلك يؤْذن بقرب نهاية الدّولة. فإذا مرّ بنا حادث تاريخيّ وجب علينا عرضه على ما يقابله من هذه الأطوار: هل يُحتمل أن يكون هذا الحدث قد حصل فعلاً في مثل ذاك الطّور؟ والمثال الأشهر لقانون التطوّر هذا عند ابن خلدون هو ما يحكى في التّواريخ عن سبب نكبة البرامكة. هل كان السّبب هو حقّاً ما يورده المؤرّخون من أنّ جعفر البرمكيّ والعبّاسة أخت الرّشيد علقا بحبٍ جارف خلافاً لرغبة الخليفة ممّا أوغر صدر الرّشيد على البرامكة فأمر بتدميرهم؟ كلّا، يقول ابن خلدون، إذ إنّ حدثاً كهذا لا يمكن أن يحدث في تلك الفترة بالذّات من الخلافة العباسيّة التي كانت في أوج سلطانها آنئذٍ، بل السّبب الحقيقيّ هو أنّ الدّولة التي تكون في أوج سلطانها لا تسمح بقيام دولة اخرى ضمن دولتها كما فعل البرامكة.

لذا وحين نسأل كيف ينتقل عصرٌ ما إلى عصرٍ آخر فالجواب الخلدوني هو أنّ نميّز العصور بالنّسبة إلى ما قد نسمّيه مقياس التطوّر وأنْ نقارن الدّول الفتيّة والبالغة والهرمة بعضها ببعض فنصل في نهاية الأمر إلى مقياس علميّ يميّز الصّواب من الخطأ في قبول الأخبار.

عِلم العمران الخلدوني

وماذا عن قوانين علم العمران الخلدوني؟ لا مجال هنا لسرد كافّة تلك القوانين التي يبلغ عددها قرابة المئة والعشرين قانوناً. لكنّ القوانين التّالية قد تكون من أهّمها:

أوّلاً: الأمم الوحشيّة من شأنها أن تتغلّب على الدّول الحضَريّة إذا توفّرت لها الظروف المناسبة وذلك لأنّ عصبيّة التّوحّش غالباً ما تكون أقوى من عصبيّة التمدّن.

ثانياً: الأعمار الطّبيعيّة للدّول لا تتعدّى أشكال متعدّدة من العصبيّات لكنّ أقواها هي عصبيّة الدّم والعصبيّة الدينيّة. والدِّين لا يمكن أن ينتشر بدون عصبيّة قويّة.

ثالثاً: الدّول في طور الهرم تصبح عرضة للسّقوط أمام هجمات أعداء أقوى منها عصبيّةً.

رابعاً: العلوم والآداب والفنون تزدهر في المدن لكنّها لا تختلف في الجوهر عن باقي الحِرف والصناعات أي إنّها تخضع لقانون العرض والطّلب، فالعالم أو الفقيه أو الفيلسوف هو صاحب حرفة تماماً كالنّجّار أو الحدّاد أو الخبّاز وما شابه.

أكتفي بهذا القدْر من الحديث عن ابن خلدون راجياً من قرّاء هذه السّطور أن يشاطروني الإعجاب اللامتناهي بهذا الكتاب الذي «لم ينته قطّ من قول ما أراد أن يقوله». كلمة أخيرة لا بدّ منها. كثيراً ما يقال إنّ تاريخ ابن خلدون لا يليق بالمقدّمة أي أنّه لا يستخدم القوانين الواردة في المقدّمة ولا يوجد فيه ما يميّزه عن التّواريخ الأخرى في عصره. وهذا رأيٌ شاع خصوصاً بين أوساط المستشرقين. لا أدري كم من هؤلاء قد قرأ تاريخ ابن خلدون بتمعّن ودقّة لكنّه رأيٌ لا يستقيم أبداً عند كلّ مَن تفحّص تاريخه، فهو مليءٌ بنفحات خلدونيّة وتفسيرات مستمدّة من فكره ونظريّاته والقوانين التي وضعها لعلم العمران.

عودة إلى التاريخ الحديث: المذكّرات

وما إن وضعتُ كتاب «فكرة التاريخ عند العرب» جانباً، مودّعاً ومتمنّياً له التّوفيق، حتّى عدت إلى التّاريخ الحديث من خلال دراسةٍ عن حياة النّاس اليوميّة في العالم العربيّ خلال الحربين العالميّتين. وصدرتْ تلك الدّراسة لاحقاً في كتاب شامل بالإنكليزيّة يغطّي حياة النّاس العاديّة من مختلف الأمم في الشّرق والغرب خلال تلك الفترة. تردّدت كثيراً قبل أن أقبل دعوة محرّري الكتاب إلى المساهمة فيه إذ لم أكن على اطّلاع وافٍ بتلك الحقبة من التّاريخ، لكنْ سرعان ما تبيّن لي أنّ مادّة البحث الأساسيّة سوف تنحصر في الذّكريات التي كتبها أولئك الذين عاشوا تلك الأيّام. وكنت في الماضي أجد متعة في قراءة هذا الصنف من الأدب، الأمر الذي سهّل قبولي للدّعوة. وليس في التّراث العربيّ قبل الحداثة الكثير من السّيَر الذّاتيّة، وإذا استحضرتُ في الذّهن ما يمرّ منها أمامي الآن فقد أستحضر «المنقذ» لـ«الإمام» الغزالي و«التعريف» لابن خلدون وسيرة ابن سينا، ولا بدّ من أنّني نسيت البعض الآخر. غير أنّ السِّيرة الذاتيّة ليست على كلّ حال صنفاً أدبيّاً شائعاً أو مألوفاً في تراثنا القديم، بل قد أجزم فأقول إنّه ليس صنفاً مألوفاً كذلك في تراث أمم ما قبل الحداثة بوجه عام. فهل الحداثة هي التي فتحت الباب واسعاً أمام هذا الصنف الأدبيّ، وكيف، ولماذا؟ لا أملك الجواب عن هذا السؤال بل أتركه عالقاً أمام الدّارسين. ولعلّ الجواب يكمن في التّعريف الدقيق لمفهوم الحداثة وعلاقته بالأنسنة، ولا سبيل هنا للولوج في هذا الموضوع.

أقبلتُ إذاً على قراءة هذه الذّكريات بلذّة وفضولٍ عميقين وحاولت أوّلاً أن أجعل الدّراسة تشمل كتّاب بلاد الشام ومصر والعراق. ومن خلال دراستي السابقة عن مجلة العرفان كنت قد اطّلعت على ما جرى في لبنان في خلال الحرب الأولى من وَيْلات، لكنّني وجدت أيضاً أنّ تلك الويلات لم تعمّ البلاد بأسرها بل انحصرت في مناطق دون أخرى. وعلى سبيل المثال فالمجاعة التي حلّت بجبل لبنان لم تتكرّر في الجنوب اللبنانيّ كما أنّ فلسطين لم تشهد كوارث تشبه كوارث الجبل اللبنانيّ. وفي العراق يبدو أنّ بغداد لم يُصبْها ما أصاب الموصل من النّكبات، كما يبدو أنّ المدن الساحليّة الشاميّة عانت من الحرب أكثر ممّا عانته المدن الداخليّة. لذا فنحن نجد تفاوتاً في التجارب التي شهدها أصحاب هذه الذّكريات. ونحن لا نملك بالطّبع سوى ذكريات أُناسٍ من طبقات اجتماعيّة لم تتأثّر بشكل فادح بتلك الفواجع، كما أنّ معظم الذّكريات مدينيّة الطّابع. لكنْ يخيّم على أصحابها في الغالب ما يشبه اليأس، والشعور بالعجز التام أمام الأحداث، والخوف من المستقبل، والجهل العميق لأسباب ما يجري حولهم وكأنّهم يعيشون وسط غيومٍ داكنة، فثمّة الصّدمة العنيفة لدى اقترابهم من هياكل الجياع العظميّة أو غيرها من المشاهد المروّعة، والغضب العارم من مسبّبي تلك الويلات وعلى رأسهم جمال باشا السفّاح في بلاد الشّام، والمحاولات المُستميتة التي بذلها بعضهم لتخفيف تلك الآلام. وكان من شأن الحرب الأولى أن أدّت إلى تفتيت المنطقة بالمعنى الاجتماعي والنفسي للكلمة حيث انكمش السكّان ضمن مناطقهم الضيّقة فأصبح السّفَر محفوفاً بالصّعوبات والمخاطر وأضْحت تلك المناطق مكتفية ذاتيّاً، فتقلّصت الآفاق واقتصر النّظر والاهتمام على ما هو فوريّ وعاجل ومباشر ويوميّ وذلك بسبب تقلّص الزّمان والمكان.

بدأتُ بمذكّرات الوالدة رحمها الله وهي بعنوان «جولة في الذكريات بين لبنان وفلسطين». كانت الوالدة كغيرها من أصحاب الذّكريات تنتمي إلى أسرة لم تعانِ من ويلات الحرب العالميّة الأولى بشكل خطير لكنّ المجاعة كانت تحوّم حولها باستمرار بالإضافة إلى المشاعر المذكورة أعلاه أي اليأس والعجز والخوف وإلى ما هنالك.وفي تلك الذّكريات مشاهد وصور للجوع والموت عاينتْها فتاة بيروتيّة في السّابعة عشرة من عمرها، وانطبعت في ذهنها على مرّ الأيّام. وتكتسب هذه الذّكريات بعض أهمّيتها لكونها ذكريات كتبتْها فتاة ضمن صنف أدبيّ سيطر عليه الرجال على نحوٍ تامّ. فقد عانت تلك الفتاة ليس فقط من محيط حرب ماحقة بل أيضاً من محيطٍ اجتماعيٍّ خانق يجبر الفتيات على خوض معارك مستمرّة لنيل أبسط الحقوق. ووصل الأمر معها إلى ذروته حين شنق جمال باشا خطيبها الشهيد عبد الغني العريّسي ثمّ أجبرتْ هي على الوقوف أمامه لتلقي خطاباً حول أعمال الإغاثة التي يجب القيام بها في زمن الحرب، وهو مشهد «سوريالي» بامتياز. لا يتسع المجال هنا لذكر كافّة تلك الذّكريات فهي متفاوتة في قيمتها الأدبيّة وفي الصّراحة عن الذّات، وهذه الصراحة هي على أوضح ما يكون في مذكّرات الزعيم المصريّ سعد زغلول التي هي أقرب إلى الاعترافات الشخصيّة منها إلى المذكّرات الاجتماعيّة، فهو يسجّل وبأدقّ التفاصيل عذابات روحٍ استهوتْها السياسة لكن مزّقها إدمان خطير على القمار. والحرب ليست من اهتماماته المباشرة، كما أنّه بالكاد يشير إلى ما كان يجري في بلاد الشّام وذلك بسبب تقلص الآفاق المذكور أعلاه. ويبدو أنّ مصر نجت على العموم من فظائع الحرب كما نجا السودان أيضاً من تلك الويلات كما يرد في مذكّرات بابكر بدري بعنوان «تاريخ حياتي». وهذه مذكّرات شيّقة للغاية لكنّ الحرب لم تكن فيها سوى حدثٍ بعيدٍ جداً احتفل بنهايتها كلٌ من المحتلّ البريطانيّ وأهل السودان تحت الاحتلال. أمّا في اليمن، كما في مذكّرات عبد الواسع ابن يحيى الواسعي بعنوان «تاريخ اليمن»، فقد عانت البلاد في البدء من انقطاع وسائل الاتّصال برّاً وبحراً لكنّها سرعان ما أضحت مكتفية ذاتيّاً، وتحسّن الإنتاج الزّراعي، ويضيف عبد الواسع أنّه لم يكن ينقصهم سوى السكّر والكاز.

من الجليّ إذاً أنّ ويلات الحرب الأولى كانت على أفدحها في مدن بلاد الشام والعراق، أمّا في الرّيف فالذّكريات الريفيّة متفاوتةٌ في أهوالها. فذكريات جبرائيل جبّور بعنوان «من أيّام العمر» تصف حياة سيف البادية السوريّة وقرى زراعيّة لم تتأثّر بالمجاعة، وكانت بعيدة عن أعين السّلطات فسلِمت محاصيلها من المصادرات، ولم يسمع النّاس أخبار الحرب سوى لماماً ومن الزوّار القليلين. أمّا المذكّرات الريفيّة الأخرى فهي مذكّرات أنيس فريحة بعنوان «قبل أن أنسى» والتي تصف الحياة في قرية في الجبل اللبناني الذي كان أقرب بكثير إلى ويلات الحرب من غيره من المناطق في المشرق العربيّ. وهنا أيضاً نقف وجهاً لوجه أمام فظاعة الجوع وهيكل عظمي لطفلٍ اعتنت به عائلة الكاتب ريثما يفتح الميتم أبوابه. لكنّ القرية ذاتها نجحت في التغلّب على معظم المصاعب من خلال الاستخدام الذّكيّ للموارد، وتحويل كافّة الأراضي المتاحة إلى الزّراعة، والعودة إلى صناعات تقليديّة كانت قد اندثرت مع الزمن فجعلتْها الحرب مرغوبة من جديد. وتسجّل هذه الذّكريات بالتّفصيل ما كان يردُ على لسان القرويّين من آراء حول مسيرة الحرب المستعرة حولهم، وهي ذات قيمة للمؤرّخ لدى مقارنتها مع المذكّرات المدينيّة.

المذكّرات المدينيّة

وفي المدن، وخصوصاً بيروت، نلمح من ذكريات يوسف الحكيم بعنوان «بيروت ولبنان في عهد آل عثمان» كيف أدّى الجوع إلى فتور الهمّة تماماً لدى الجياع، فلم يكلّفوا أنفسهم حتّى بالتحوّل إلى السرقة أو إلى مهاجمة مستودعات الأطعمة بل استسلموا للأقدار وماتوا ومِن حولهم بيوت العظماء والميسورين وموائدهم التي كانت تزخر بأشهى أصناف الطّعام. كيف شوّهت الحرب أنماط العيش والحياة العاديّة؟ يأتي الجواب السّاخر إلى حدّ ما في مذكّرات خليل السكاكيني بعنوان «كذا أنا يا دنيا» الذي يصف الحرب من نافذة القدس فيقول إنّ من بين «حسنات» هذه الحرب أنّها حملت النّاس على الاقتصاد في كلّ شيء فاقتصر الطّعام على الخبز والعنَب والخضرة واختفى اللحم، ثمّ اختفت أيضاً وسائل التسلية والألبسة الفخمة. أمّا الخوف الذي واكب نشوب الحرب فقد انحسر وأصبح النّاس لا يكترثون لشيء بل ازدادوا شجاعةً وعنفواناً. ثمّ ينتقل وبأسلوب ساخر أيضاً إلى عالم القراءة والكتابة ليقول إنّ النّاس أضحتْ لا تقرأ سوى البرقيّات، فمعظم الصّحف المحلّيّة أغلقت أبوابها ومُنعت الصحف المصريّة من الدّخول، لذا سوف يعتاد النّاس على الأسلوب التلغرافي، الأمر الذي يعزّز فضيلة الاختصار والإيجاز في الكلام والكتابة، وهذا لربّما هو أيضاً من «حسنات» هذه الحرب.

وفي دمشق تصف «مذكّرات» خالد العظم، وهو من أسرة كانت موالية لآل عثمان، أنّه وفي سنّ الثّالثة عشرة كان هو وأترابه قد فقدوا الثّقة تماماً ببلاغات الدولة العثمانيّة العسكريّة المتلاحقة والحافلة بانتصاراتٍ وهميّة، الأمر الذي حمل النّاس على الاعتقاد أنّ الحرب ستنتهي بالهزيمة. وفي العراق الذي كان أوّل بلد عربيّ يسقط في يد الحلفاء، يصف سليمان فيضي في «مذكّراته» سقوط البصرة وكيف غيّر هذا الاحتلال أنماط السّلوك جذريّاً وكيف برزت إلى الوجود طبقات جديدة من التجّار والمتعهّدين الذين تودّدوا للمحتلّ طمعاً في الكسب فيما عمد المحتلّ إلى إبعاد كلّ من لم يتزلّف إليهم.

ومع سقوط أمبراطوريّة آل عثمان عند نهاية الحرب سقطت كذلك الهويّة العثمانيّة فأصبح من الضّروريّ إعادة صياغة هويّة تلك الولايات العربيّة ضمن تساؤلات قد نسمّيها وجوديّة: هل نحن عربٌ أم مسلمون أم سوريّون أم لبنانيّون أم فلسطينيّون أم عراقيّون أم ماذا؟

لم أذكر في هذا المقام سوى البعض القليل من المذكّرات التي عدْت إليها عند كتابة تلك المقالة، كما لم أذكر مذكّرات وذكريات الحرب العالميّة الثانية التي لم تشهد من الأهوال ما شهدتْه الحرب الأولى، لكن لا بدّ من التّنويه والإشادة بإثنتينِ من هذه المذكّرات التي هي في رأيي أوسعها فائدةً وأعمقها فكراً، ليس فقط فيما يختصّ بالحرب الأولى بل لأهمّيّتها الفائقة في كتابة تاريخ العرب الحديث. الأولى هي مذكّرات رستم حيدر البعلبكي (ت. ١٩٤٠) والثانية مذكّرات محمّد عزّت دروزة النّابلسي (ت. ١٩٨٤).

يصف رستم في بداية مذكّراته رحلةً خفيّة قام بها مع بعض أترابه من القوميّين العرب من سورية إلى الحجاز للالتحاق بثورة الهاشمّيين وعلى الأخصّ بالأمير فيصل. والغرابة في تلك المذكّرات تبدأ منذ الصفحات الأولى إذ يصف فيها رستم ما مرّوا به من مناطق وقبائل في الرّحلة من سورية إلى الحجاز وصفاً قد نسمّيه «أنثروبولوجياً» لما فيه من صورٍ للعادات وأنماط العيش والتفكير والطعام والشراب وإلى ما هنالك من أمور كأنّنا في حضرة عالِم اجتماعيّ رصين. وننتقل بسرعة إلى باريس حيث كان رستم في عداد وفد الأمير فيصل إلى مؤتمر فرساي للسّلام، وما تبع ذاك المؤتمر من محادثات ومفاوضات ومؤامرات وخيانات وإخلال بالعهود ومطامع المستعمرين الفرنسيّين والبريطانيّين فكأنّنا في بلاط أميرٍ إيطاليّ من آل بورجيا مثلاً أو آل مديتشي تملؤه الإشاعات والكذب والدّسائس والطعن بالظّهر والاغتياب. وهنا يبرز رستم كمراقب وشاهد ثاقب النّظر على الأحداث التي تدور من حوله، إذ يرى بثاقب بصيرته ما يخبّئه المستقبل لأُمّته العربيّة من تجزئة وويلات، ويرى في الوقت عينه كيف انساق فيصل تدريجيّاً إلى تنازل إثر تنازل، فتتمزّق روحه أسىً لإيمانه من جهة بصدق فيصل وصدق عروبته، وشكوكه العميقة بفهم فيصل لمغزى الأحداث من جهة أخرى. أمّا تحاليله السياسيّة لما كان يجري في أوروبّا فهي تضع القضيّة العربيّة في حلبةٍ أوروبيّة أوسع إذ يراها رستم بمنظار شبيهٍ بمنظار المؤرّخ اليونانيّ ثيوسيديدس، أي بمنظار موازين القوى بين الدول العظمى، فالدّول الضعيفة ما هي إلّا أحجار شطرنج في لعبة الموازين هذه. ولا يتّسع المجال هنا لذكر ما تحفل به هذه المذكّرات من وصفٍ حادّ الذّهن وبيّن الفطنة للّقاءات المتتالية مع ثعالب السياسة مثل لورنس البريطانيّ أو كليمنصو الفرنسيّ والعديد من أمثالهم، وما تحفل به من لمحات وتحليلات ثاقبة للأمور السياسيّة، فنحن هنا في حضرة مفكّرٍ سياسيّ عَزّ نظيره بين أصحاب المذكّرات السياسيّة العربيّة. وقد بلغني أنّ بقيّة مذكّرات رستم ما زالت مخطوطة ومخفيّة، وهذا الإغفال لها هو في رأيي جريمة بحقّ التّاريخ العربيّ الحديث.

أمّا مذكّرات محمّد عزّت دروزة بمجلّداتها الستّة، وبعموديها الإثنين على كلّ صفحة، وبسنواتها المؤرَّخة التي تقترب إلى قرنٍ من الزمن، فهي من صنف مشابه من المذكّرات. إنّها سجلّ يوميّ لما مرّ بدروزة من أحداث، فمنها السياسيّ ومنها الشخصيّ، وذلك بتفصيلٍ دقيق للغاية يكاد لا يغفل شيئاً، إذ لا يغفل كلاماً قاله أو سمعه ولا يغفل شعوراً شعر به ولا يغفل رحلةً قام بها ولا يغفل وثيقةً هامّةً مرّت أمام ناظرَيْه ولا يغفل وصف شخصيّة التقاها من الخاصّة والعامّة، ولا يغفل رسالة كتبها أو تلقّاها ولا يغفل خبراً قرأه في صحيفة ثمّ علّق عليه بإسهاب. وهذا التّكثيف الشّديد والشّامل في الوصف يقرّب دروزة إلى القارئ فيحسبه بعد حين أحد أصدقائه، فالمذكّرات تتميّز بصراحةٍ تامّة في التّعبير عن الأفكار والعواطف وتضع القارئ في صلب الحدث. ولا ينبغي للقارئ أن يجفل من مجلّداتها الستّة، إذ ما إن يبدأ المرء بقراءتها حتّى تستحوذ على اهتمامه وإعجابه الكامل. وكان دروزة قد انتمى في شبابه إلى جمعيّة «العربيّة الفتاة» السرّيّة أواخر العهد العثمانيّ وكان رفاقه فيها ينتمون إلى شتّى أرجاء الوطن العربيّ، وكانت الوحدة العربيّة من أهمّ مطالبهم بالإضافة طبعاً إلى الاستقلال. من هنا شموليّة مذكّراته التي تغطّي أخبار كافّة أقطار المشرق العربيّ، وأخبار شبكته الواسعة من الأصدقاء في جميع تلك الأقطار، ومن هنا أيضاً صلابة عقيدته القوميّة التي واكبته حتّى وفاته. فقضيّة فلسطين بالنّسبة إليه لا يمكن فصلها بتاتاً عن الأحداث في باقي الأقطار العربيّة، لذا نجد في مذكّراته عن فلسطين والعراق وسورية والأردن ومصر معلومات في غاية الأهمّيّة لتاريخ تلك الأقطار لم تُستخدم بعد بما فيه الكفاية من جانب المؤرّخين، وخصوصاً المحادثات الشخصيّة التي أجراها مع أهمّ السياسيّين العرب والتي سجّلها بأدقّ تفاصيلها. أمّا تقييمه للشخصيّات التي يرِدُ ذكرها، وهم جمٌّ غفير من فلسطينيّين وعرب، فهو متّزن إلى أبعد الحدود ونقديّ بل جارح إذا اقتضى الأمر، ومعيار التّقييم السياسيّ والأخلاقيّ عنده هو إمّا الثّبات على المبدأ أو المراوغة والعمالة للمستعمر. لكلّ هذه الأسباب وغيرها كثير، لن أتردّد في وصف مذكّرات دروزة بأنّها أهمّ مذكّرات سياسيّة عربيّة على الإطلاق في القرن العشرين.

العدد ١٧ - ٢٠١٧
ابن خلدون, إمام المؤرّخين

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.