العدد ١٤ - ربيع/صيف ٢٠١٦

منتخبات من فكر علي شريعتي

النسخة الورقية

التحليل الطبقي للأديان

«إنّ التحليل الطبقيّ لكلّ مذهب عقائديّ، أو مفكّر ما، وعلى أساس من علم الاجتماع، يعدّ أساساً علمياً مثالياً لا بد لكل إنسان أن يذعن للنتائج التي يتمخّض عنها هذا البحث...».

(سيماء محمد، ١٨)


«ومن المقرّر في علم الاجتماع، أنّ لكل طبقة لساناً ومشاعر وأفكاراً ونوازع ونفسية خاصة وحساسيّات ورغبات، وخصوصاً الآمال، ونظرة خاصة إلى العالم. ونتيجة لذلك فإنّ آلامَه وحاجاته ومِحَنه خاصة به. وفي مثل هذه الحالة، لنا أن نتساءل: كيف للدين أن يتحرّر من جميع هذه الدواعي، ويخرج من ضرورات هذه النوازع؟ إنّه لا يستطيع ولا يريد، ولا ينبغي له ذلك!».

(سيماء محمد، ٢٠)


النبي محمّد: مفرد بصيغة جمع

وبعد أن يميّز بين الأنبياء بناءً على أصولهم الطبقيّة فيرى أنّ أمثال كونفوشيوس وزارادشت عاشوا في بلاط السلاطين بسبب انتمائهم الطبقي الشريف، يتناول من سمّاهم «سلسلة الرسل من الأحناف» فيقول عنهم إنهم: «الذين ينتمون إلى أضعف طبقات مجتمعاتهم وأكثرها حرماناً وهم - في الأعمّ الأغلب - رعاة إبل أو غنم، والبعض صنعة، أوّل فنّ وحرفة (نوح نجار، وداود حداد وصانع دروع والمسيح نجار، إلخ)».

«ومحمد (صلعم)، شابّ يتيم، يرعى في القراريط أغنام أهل مكّة، يهبط من اعتكافه في غار حراء، ويعلن الحرب على تجّار قريش، وتجّار الرقيق في مكّة، وجبابرة الطائف، وكسرى الفرس وقيصر الروم. وعلى الفور، يلتفّ حوله مستضعفو مجتمعه، والغرباء، والعبيد، والمحرومون، ثم تبدأ قصة العذاب، والنفي، والتشرّد، والجهاد الدائم».

(سيماء محمد، ٢٧)


«لقد آن الأوان أن ننظر مثل هذه النظرة إلى سيماء محمد (صلعم)، آخر رسل سلسلة الرعاة... يجب أن ننظر إليه من زاوية علم النفس، والاجتماع والتاريخ، وأنْ نلقي على سيماء محمد (صلعم) نظرة جديدة».


«إنّنا نعرفه الآن، وهو حيال أسلافه، رعاة مهجولون، لقد قادوا منذ بداية تاريخ الرعي، أجيالاً لا تحصى، فشيّدوا الحضارات الكبرى في العالم، إننا لننظر إليه ونتطلّع إليه، وهو في هذا الجمع».

(سيماء محمد، ٢٨-٢٩)


«والقرآن مجموعة من الإنجيل والتوراة (...) ومحمّد أيضاً تركيب ومزيج من عيسى (عس) وموسى (عس)»


«وأبو ذرّ هذا أيضاً رجل ذو وجهين، وروح له بُعدان: رجل سيف، ورجل صلاة، رجل الوحدة ورجل المجتمع، رجل العبادة ورجل السياسة، رجل الجهاد والكفاح من أجل الحرية والعدالة والجياع، ورجل التأمّل والدراسة من أجل فهم القرآن فهماً صحيحا، ومعرفة الحقيقة وتعلّم العلوم واختزالها».

(٤٦)


«إنّ سيماء محمد (صلعم)، السيماء التي تطالع أعيننا الكلّية بعد أربعة عشر قرناً، لا ينبغي أن يُبحث عنها في سيمائه وحده فقط، بل في سيماء «الله» وسيماء القرآن، وسيماء علىّ وأبي ذرّ ووجوه أخرى صنعَها بيده. وحتى في وجوه ذلك البيت العجيب في تاريخ الإنسان، البيت الذي كان عليّ أباه، وأمُّه الزهراء، والابن الحسينَ والبنت زينب».

(سيماء محمد، ٤٧)


التشيّع أكثر التفسيرات تقدميّة للإسلام

«... وباعتراف إرنست رينان، المفكّر العظيم الذي كفّره رجال الدين المسيحي: «إنّ الإسلام هو دين الإنسان». وأنا أعتقد أنّ التشيّع ليس فرقة مذهبيّة خاصّة في مواجهة الفرق الإسلاميّة الأخرى (مثل الكاثوليكيّة والبروتستانتيّة في المسيحيّة أو السنّة والإسماعيليّة والزيديّة والأشعريّة والمعتزلة، أو السنّة والشيعة بالشكل الذي تحوّلنا إليه في الإسلام اليوم) وليس مذهباً «يحتوي على الإسلام بالإضافة إلى عناصر أخرى، أو أنّ أصول الدين فيه شيء وأصول المذهب شيء آخر. أو أنّ الإسلام ثلاثة مبادئ والتشيّع هو الإسلام بالإضافة إلى مبدأين. لا. التشيّع هو الإسلام ولا شيء آخر، التشيّع هو نوع من فهم الإسلام. أيّ فهم؟! فهم تقدّميّ مضادّ للأرستقراطية والطبقيّة وحاكميّة البشر (...) التشيّع - من الناحية الاعتقاديّة - هو أكثر التفسيرات تقدميّة في مدرسة الإسلام الفكريّة، ومن الناحية الاجتماعيّة والسياسيّة كان أكثر الأجنحة تقدميّة وجماهيريّة في تاريخ الإسلام».

(الآثار الكاملة، ٦، ١٠٧-١٠٩)


«ما حَفظَ علاقتي بالدين هو عقيدتي العلميّة ومسؤوليّتي الإنسانية فحسب، وإلّا فأنا أترزّق من الدين. إنّني اؤمن به كحقيقة لا مصلحة عمل أو مصلحة اجتماعيّة واقتصاديّة. وأنا أيضاً مفكّر مثلك اؤمن بأهداف مثل أهدافك وشعاراتك، إنّني أيضاً أهدف وأسعى إلى اجتثاث الظلم والتفرقة من جذورها، أن أضمن للإنسان حريّته، وأبحث أيضاً عن دين يقضي على الفقر والتفاوت الطبقيّ، أبحث عن مذهب يمنح البشر النجاة والحريّة في هذه الدنيا، أبحث عن مسؤوليّة تعد للجميع في الدنيا الحياة والثقافة والكمال، وأبحث عن مذهب يقيم ميزان العدالة في مجتمع اليوم وقبل الموت، ومن أجل هذا في حدّ ذاته أنا مسلم، ومن أجل هذا نفسه أنا شيعي».

(«أبي وأمّي، نحن متّهمون»، الآثار الكاملة، ٦، الترجمة العربية، ٢٠٠٢، ١٠٦)


لا لدين تبرير الفقر

«إنّ ذلك الإله الذي اؤمن به، وذلك الدين الذي أومن به، ليس دين تبرير الفقر، هو الدين الذي يعتبر الفقر جار الكفر اللاصق [كاد الفقر أن يكون كفراً] يقول أبو ذرّ أعظم ربيب لرسول الإسلام وعليّ: «عندما يدخل الفقر من باب دار، يخرج الدين من الباب الآخر». وعليّ الذي هو تجسيد للإسلام يحذّر ابنه قائلاً: «بنيّ، استعذ بالله من الفقر فإنّ الفقر منقصة من الدين ومدهشة للعقل وداعية للمقت»».

( الآثار الكاملة، ٦، ١١٤)


«إسلامي ليس هو إسلام الأثرياء، وليس دين رياضات فردية من أجل النجاة الشخصية وبعد الموت، هو إسلام أبي ذرّ وتشيّع أبي ذرّ، والذي كان يرفع شعاراته لا ضدّ نظام الكفر بل ضدّ نظام عثمان خليفة الإسلام وجامع القرآن وناشره، إنّه يثور ضده ويقاتله!! وهذا هو التشيّع، وشعاره ليس العبادة ولا هو تفسير خاصّ لهذا الكلام ولهذا المبدأ ولهذا الغرض، إنّه ضدّ الكنز، ضد رأس المال أي الرأسمالية، الكَنْز أي جمْع الذهب عن طريق استغلال الناس، هذا هو شعار تشيّع أبي ذرّ. تلي الآية ٣٤ من سورة التوبة «يا أيّها الذين آمنوا إنّ كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدّون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم»، التوبة:٣٤».

(الآثار الكاملة، ٦، ١ ١٦)


في «المَعاد»: الدنيا هي الأصل

«إنّ فلسفة «المعاد» في السلام الحقيقيّ ليست فلسفة رفض «المعاش»، وليست وسيلة في أيدي طبقة رجال الدين والأقوياء وكانزي الذهب للتغرير بالناس وصرفهم عن الحياة الماديّة وعن الاهتمام بالدنيا والمجتمع، وليست «جنّة الآخرة» في الإسلام الحقيقي أملاً واهياً من أجل تعويض «جهنّم الدنيا»، وإنّ دعوة الإسلام إلى التفكير في الحياة بعد الموت أساساً، وفي سعادة الإنسان ومتعته ورفاهيّته في العالم الآخر، لا تعني ألّا نفكّر في هذا العالم وألّا نهتمّ بالحياة قبل الموت، أو أن تكتسب عمارة الآخرة والتمتّع والنجاة في القيامة بخراب الدنيا والحرمان والذلّة في الحياة!!

الأمر على العكس تماماً، وعلى العكس من الرؤية العامّة الدينيّة الرائجة، لا يعتبر الإسلامُ المعاض والمعاد، والماديّة والروحانية، والدنيا والآخرة مفاهيم منفصلة كلّ عن الآخر ومتعارضة، بل يقدّم الدنيا في الأساس على أنها «المكان الوحيد للعمل والإنتاج والنضج والبناء واكتساب القيَم الماديّة والروحيّة والسعادة الأخرويّة»، فالحياة الدينا وسيلة لاكتساب القيَم الإلهيّة للحصول على استحقاق الجنّة. والدنيا في الأساس هي الأصل، والحياة قبل الموت هي الأصل، والآخرة فرع للدنيا، بمعنى أنّ الحياة الأخرويّة، والسعادة والنجاة الإلهيّة، والمصير النهائيّ للإنسان في المعاد، نتيجة ومعلول لسيرة الإنسان في حياته الدنيا هذه.

(...) ومن هنا فإنّ أولئك الذين يظنّون أنّ تحمّل الفقر والذلّة والعبودية والمرض والتأخّر والضعف والشقاء المفروض عليهم في حياتهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة من قبل الاستبداد والاستغلال والاستعمار... يظنّون أنّ هذا عامل تعويض وجزاء إلهيّ واكتساب للثروة والعزة في الآخرة والنجاة والعافية ودخول الجنّة، قد تجرّعوا خديعة أصحاب الدنيا الذين «استحمروهم» باسم الدين ودفعوهم إلى تحمّل مصيرهم التعس والصبر عليه، ويجيب القرآن الكريم عليهم وعلى المفكّرين العلمانيّين بالطبع، وكلاهما اعتبرا الخداع الاستعماري ديناَ، إذ يقول: «ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمي وأضلّ سبيلا»، الاسراء، ٧٢».

(الآثار الكاملة، ٦، ١٤٦-١٤٨)


التشيّع الصفوي والتشيّع العلويّ

«إنّ الشعارَين الرئيسيين اللذين يحملهما الشيعيّ في نهضته وهما الإمامة والعدل - ولكنْ بمعناهما النظريّ في التشيّع العلويّ والمطبّق عمليّاً «بواسطة» عليّ وحكومته - استقطبا أصحاب الضمائر الحيّة سواء من القطاعات المسحوقة للشعب أم من الشخصيّات الثقافيّة المسؤولة. ذلك أنّ حركة النضال البشريّ اليوم تتطلّع إلى ترسيخ مبدأي الحريّة والمساواة خصوصاً في بلدان العالم الثالث التي تعيش في خضمّ التيارات الإحيائيّة. وقد قامت الحركات والثورات فيها على أساس أيديولوجيّ يطمح إلى تحقيق هذين الهدفين الكبيرين باعتبار أنّ المعاناة الحقيقيّة لبلدانها تشتمل على الجانب السياسيّ في الحكومات الاستبداديّة والاستعماريّة، وعلى الجانب الاجتماعيّ تتجسّد تلك المعانة بأنظمة الاستغلال الطبقيّ. ومن الواضح أنّ الإمامة والعدل يحتلّان موقعاً هاماً على كلا الجانبين. غير أنّ المذاهب الأخرى وللأسف الشديد، هي ما بين مذهب غارق في عالم الروح وما وراء الطبيعة، أو مذهب تتولّاة رسمياً طبقة من رجال الدين، يحتكرون لأنفسهم مهامّ تفسير الدين ومرجعيّته، وغالباً من أجل ضمان مصالحهم الطبقيّة وتأمين مصادر ارتزاقهم من السلطات الحاكمة، ويلجأون بدلاً من ذلك إلى ترويج البعد الأخلاقيّ الفرديّ ويدعون الناس إلى الزهد بالدنيا والتعلّق بالآخرة وإهمال كلّ ما يتعلّق بهذه الدنيا الدنيّة».

(التشيّع العلوي والتشيّع الصفوي، ١٤٦-١٤٧)


«من هنا نقول لو أنّ التشيّع العلويّ الذي يساوي (الإسلام باستثناء الخلافة) وبمعنى أوسع الإيمان مضافاً إلى العدل والحثّ والاعتقاد والأخلاق والمعنويّة والخير، الإسلام المتّحد دائماً مع الإمامة والحريّة والمفنّد لجميع الأساطير والأقاويل التي يبرّر وينظّر أصحابها للجهل والفقر أو يفصلون بين الله والخبز ويعتبرون أنّهما ضدّان لا يجتمعان: الله للناس والخبز لهم!

لو أن التشيّع العلوي، مذهب الاقتداء بالإنسان الذي يقاتل ببسالة ويتعبّد بخضوع، الإنسان المفعم قلبه بالعشق الإلهي والغارق في بحر التأمّل والجمال، وقاسي القلب على جور المستبدّين وخيانة المنافقين، والعطوف على أطفال المدينة فيأتيهم بالخبز والماء بيديه الكريمتين في جوف الليل البهيم.

بلى! لو قُرئ إيمان عليّ وتشيّع عليّ ودين عليّ القائم على العدل والإمامة وفُهِم من خلال وجهِ عليّ الناصع القويم، ولو عُرض هذا الدين بسماته ومزاياه وخصائصه على ضمائر المسحوقين في البشرية قاطبة وعلى عقول المتنورين في شتّى أرجاء العالم ممّن قطعوا على أنفسهم عهداً بأن يسخّروا خدماتهم الفكريّة لصالح أممهم وشعوبهم، لو حصل كلّ ذلك فإنّ كلّ شيء سوف يتغيّر دون ريب وشكّ ولدوّى صدى اسم عليّ في الليل المظلم للقرن العشرين وعصف بكلّ أبراج الجهل والإجرام والخيانة، وزأر كالأسد في غاب البشريّة وعلا إلى عباب السماء عاصفةً تدُكّ عروش الطغاة والمستبدّين ولعاد نسيماً بارداً يلاعب أغصان الشجر ويثلج صدور طلّاب الحقيقة ويبعث في صدورهم الحياة من جديد.

نسيم أمل يزيح ظلام ليلك يفجر الحرية، ليل أنت يا من تدرك العظمة التي يمنحها الإيمان للإنسان وتستشعر الحرارة التي تنبعث في قلب العاشق من شدّة الخفقان. وتَحرّق لرؤية يوم الخلاص لأمّة أسَرَها التقديس الفارغ... أنت يا من تشمّ رائحة الخبز في يد الجياع كما تشمّ رائحة الله في المحراب. إليك أنت فقط أصرّح برغبتي العارمة بأن تعرف حقيقة ماذا يعني «عليّ».

ولكن هيهات. فرن إكسير الاستحمار الصفوي المشؤوم استطاع أن يصنع من «الدم» «ترياقاً» ومن «ثقافة الاستشهاد» «ترنيمة نوم».

جهاز الدعاوي الصفوي المتكوّن من روحانيّة كنسيّة (رهبنة) ومن روحانيين هم بمثابة أدوات لدين الدولة الرسميّ، نجح هذا الجهاز في إنجاز عملين متضادّين: أوّلاً: أنه كان مجبراً على حفظ التشيّع بل الترويج له، ليشكّل منه ركيزة لتسويق نظام حكمه بين الجماهير، ويتبع ذلّ عزلِ الشعب الإيراني عن العالم الإسلامي وزرع العداوة والكراهيّة بين الإيرانيين وغيرهم من المسلمين. وثانياً: كان عليه أن يبذل جهداً استثنائياً وحاذقاً في شلّ حركة التشيّع ومسخ حقيقتها وإحباط تأثيرها في القلوب والعقول، على نحوٍ يبقي علياً ولكن بدون أن يستلهم الشيعيّ منه الحريّة والعدالة، وتبقى كربلاء ولكن شريطة أن ينام الشيعيّ ولا ينهض ولا يتدخّل بشأن الولاة، ولا مانع من أن يُثار بحث موضوع الإمامة ولكن فقط في الاتجاه الذي يزرع الفتنة ويخلق العداوة والبغضاء والعصبيّة والنعرات القوميّة بين الفرس والترك والعرب ولا يتعرّض للسلطان الصفويّ ولا يؤثر على مواقع الخلل والانحراف والمجازر البشعة التي قام بها الشاه عباس، نعم ليبقى أصل التشيّع ولكن شرط أنْ لا يتعرّض للظالمين، وكذلك الولاية لتطرح على المنابر ولكن على النحو الذي يسبّح بولايات الجُور، وباختصار، كان على الجميع أن يصبحوا شيعة فإذا تلكؤوا لحظةً نالهم حدّ السيف، ولكن أيّ شيعة؟ شيعة يبكون طول عمرهم على الحسين ويضعون أيديهم في أيدي... ماذا أقول؟!

وبالتالي فإنّ الشيعيّ صاحب العواطف الجيّاشة والقلب الرقيق والمشاعر الثوريّة الانتقاميّة والذي يندب حظّه ليل نهار ويقول: «يا ليتنا كنّا معكم فنفوز فوزاً عظيماً!». سوف ينهض هذا الشيعيّ ساخطاً على الجور والظلم وغَصْب الحقّ وسفك دم الحسين، ويثور ويتأجّج الغضب في روحه وكيانه ويسترخص نفسه ويشهر سيفه بيده عالياً ليضرب بكلّ صلابة وعنف... رأسه!

كيف استطاعت الصفويّة أن تنتج تشيّعاً بشبه التشيّع في كلّ شيء وليس فيه شيء منه؟!

يا له من مقلب كبير!

تشيّعٌ في الظاهر هو أكثر أصالةً من التشيّع الأصلي وفي الباطن لا ينفع الناس ولا يضرّ أعداءهم!

فهل هذا ممكن؟»

(التشيّع العلويّ والتشيّع الصفويّ، ١٤٨-١٥١)

bid14-p137.jpg


من رسالة وجهها شريعتي لأحد أصدقائه


الكيمياء الصفويّة

«للوهلة الأولى، ربّما يقول قائل إنّه كان على الصفويّة أن تعتّم على حادثة كربلاء وكلّ ما يرتبط بها لتزول من الأذهان تدريجياً، وكان ينبغي لها بالمقابل أن تسلّط الضوء أكثر على موقف الإمام الحسن في الصلح مع معاوية ولن تحتاج جينئذ إلى أكثر من تحريف فلسفته وتجريدها من العمق وتحويلها إلى آله تخدير والتعاطي مع الصلح من زاوية تساوميّة محضة! غير أنّ الصفويّة لم تَقنع بهذا المستوى من التوظيف الدينيّ وسعت إلى تحقيق هدف إعجازيّ عظيم تمكّنت خلاله من الإبقاء على تشيّع الدم والشهادة والثورة والرفض وجعلت من الحسين محوراً لكلّ نشاطاتها الدعائيّة ومن عليّ شعاراً لكلّ نهضة، وحافظت على الحالة الثوريّة وعلى نزعة التمرّد والعصيان لدى الإنسان الشيعيّ، واستمرّت في شحذ الهمم وتأجيج المشاعر على مدى شهرين كل عام (محرّم وصفر) بل على مدى عام كامل وأصبح كلّ يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء. وروّجت لعليّ وشخصية عليّ وخصاله المتجسّدة في الثورة والشهادة والجهاد ورفض خلافة الجور، ولكنّها في الوقت ذاته، عملت بذكاء على توجيه المشاعر الانتقامية والعواطف الملتهبة للتيار الشيعي الرافض للاستبداد والتمييز نحو الجبهة التركية وضدّ عموم أبناء الأمّة الإسلامية!

وبغية تحقيق هذا الغرض كان على التشيّع الصفويّ أن يلجأ إلى أسلوب معقّد وشائك يجمع فيه بين تعظيم وتقزيم ائمّة الشيعة الذين قادوا نهضة المقاومة على مدى قرنين ونصف من الزمن وقد قضوا ما بين مقتول أو مسموم في هذا الطريق الجهادي الرامي إلى تخليص الناس من ممارسات الجهل والجور.

(...) فمن جهة، يجري العمل على رفع مقام ومنزلة الإمام إلى مرتبة الألوهية. ويتحّول الإمام الذي هو وصيّ النبيّ في التشيّع العلويّ وهو الأنقى والأعلم الذي يتولّى مهمّة مواصلة قيادة المسيرة بعد النبي، وهو الشخص الذي يجب أن يكون المرجع في الفهم الصحيح للقرآن والسنّة (الإسلام بمعنى آخر)، يتحوّل هذا الإمام من عبد طاهر وقائد من جنس البشر إلى موجود غير بشريّ شبيه بالآلهة الصغار الذين يَحيون بالإله الأكبر في الأساطير وفي معتقدات الأديان الوثنيّة. ولهذا الموجود خصائص إلهية كالخالق والرازق والمدبّر والمهيمن على مصائر الناس ويتمتع بولاية تكوينيّة على حدّ ولاية الله!


التشيّع الأحمر مقابل التشيّع الأسود

ومن جهة أخرى، فإن إمام الشيعة الذي يشهد له التاريخ كلّه والناس قاطبة، مؤمنهم وكافرهم، بأنه مظهر التقوى والورع والعدل والحقّ والعلم والحريّة والجدارة في قيادة النهضة ومقاومة الظلم والجهل والجور والترف والاستبداد، وهو المرآة التي تتجلى فيها مضامين الإنسانيّة والفخر والاعتزاز والفضيلة والشرف والنزاهة والوعي والصمود والتحرّر وعدم المساومة على الحقّ، شخصية بهذه المواصفات السامية يتحوّل بفعل الجهد الصفويّ إلى كائن ضعيف عاجز مساوم خائف أنانيّ انتهازيّ منعزل، يعارض منطق الشهادة ويستنكر على الناس تفكيرهم بالخروج على النظام الفاسد ومقارعة الظلم، ويدعو إلى الحفاظ على موقعية الخليفة حيال التيارات المتطرّفة حتى ما كان شيعيّاً منها. ويروّج مبدأ الرضا والتسليم للأمر الواقع ويفتي لمصلحة الجهاز الحاكم ولو كان على خلاف الشرع عملاً بالتقيّة! وهو في نهاية المطاف إنسان محتقر عديم الشأن ينطر إليه الخليفة نظرة احقتار وسوء ظنّ. وهو بالمقابل مستعدّ للقيام بأيّ شيء لمجرّد إرضاء الخليفة وتغيير نظرته إليه! يتشرّف بالانتساب إلى الخليفة ممّن يتأملون أن يجود عليهم الخليفة بالعطايا والهبات، يتشرّف بالوقوف على بوابة بلاط (أمير المؤمنين) يسبّح بالثناء عليه وتقديس موقعه والدعاء له وتسلّم الثمن.

ويغية إرساء قواعد حكم رجعي على دعائم نهج ثوري وتأسيس حكومة الزور والزيف والاستبداد السياسي والاستقلال الطبقي على دعامتي «العدل» و«الإمامة»!

وبغية تبديل ماهية «التشيّع الأحمر» - وذلك لونه على الدوام - إلى تشيّع أسود وذلك لون الموت الذي ارتدته الصفوية بحجة العزاء - ومن أجل أن يتّخذوا من «الولاية» سنداً قويّاً ومقدّساً «للخلافة» وسيفاً قاطعاً بيد «الخليفة» ومن «عاشوراء» أفيوناً مخدّراً للإيرانيين ومادةً لتأليبهم على العثمانيين!


هامش

...استطاعت بتروكيمياء الاستحمار الصفوي أن تنتج معجوناً غريب الأطوار مركّباً من العناص الثلاثة = التصوّف الإسلاميّ والقوميّة الإيرانيّة والسلطنة الصفويّة، واجتمعت بها الأضداد والنقائض، ورغم استحالة ذلك عقليّاً، فلقد تحقّق عمليّاً وجرى الاختبار بنجاح في مجتمعنا الديني على مدى ثلاثة قرون حتى اعتاد الناس عليه.

نعم! من أجل هذا وغيره كان على ماكينة السحر الأسود الصفويّ أن تنتج سائلاً يصلح لجعل الشيعي قوياً وضعيفاً في آن. (...) الشيعي بفضل هذا الإكسير الكيماوي، يستغرق الوقت ليل نهار في إنشاد الشِعر وكتابة النثر في مدح الأئمة والثناء عليهم والإشادة بخصالهم ونقل مناقبهم وكراماتهم وأفعالهم الخارقة للعادة والخصوصيات الغيبية والمعجزات التي ظهرت على أيديهم قبل الخليقة وبعدها وقبل الولادة أو أثناءها وعند الموت وفي القبر وفي عالم الرؤيا والمنام واليقظة والانتباه...»

(التشيّع العلوي والشيع الصفوي، ١٦٤-١٧٠)

العدد ١٤ - ربيع/صيف ٢٠١٦

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.