العدد ١٢ صيف / خريف ٢٠١٥

الحياة من مكان آخر

النسخة الورقية

الحياة من مكانٍ آخر. بلا رائحة زبالة على أشهر، بلا حرارة لا تطاق، كهرباءٌ بسخاء. ليست مسألة أساساً، الكهرباء. بديهية التواجد حدّ نسيانها، كالهواء النقيّ الأخضر. في هذا المتاح، الأخضر كثيف، الابتسام متوفّر. ومن مسافة كهذه، حديثة العهد نسبياً، تنتهي بعد أيامٍ قليلة، كان للمشهد انحرافٌ. ومن هذا الانحراف، أكتب.
نزول الناس إلى الشارع هو فعلٌ آسر، في ظلّ حرب الأساسيات التي يشنّها النظام الحاكم على المواطنين. وهي تُسمّى حربٌ لأن فيها مستفيدين، وهم يتمسكون بمكتسباتهم بالضرب والشتم. وجوههم سافرة أيضاً، يأتون بفوقية، لا يكترثون للمداراة. كم يحتاج المرء من عزمٍ كي يخترق الضغط الهائل المتصاعد والمستفحل، يومياً، ليمضي في أسلوب حياةٍ، ثم يتجه منه إلى الشارع المطلبيّ. والشارع المطلبيّ اليوم جريءٌ جداً. وقح حتى.
منذ تأسّس إثر الطائف، يبقي نظام الأزمة المستدامة الناس على أهبة القبول بأقلّ وأقلّ، خشيةً من الأسوأ والأسوأ. والأسوأ من حولنا دائماً يهدّدنا. لا سلام السعودية ولا سلام سورية أغرانا، فقبلنا بالكثير من أجل قليلٍ متاحٍ في الرمق. يوماً بعد يوم، تجذّرت القناعة العصبيّة كسمةٍ للعيش بين الناس. لا يمكن لمن يعيشون في شوارع لبنان وليس قصوره المنعزلة أن يستذكروا «ردحاً من الزمن» مرّ بلا أزمةٍ تشغله. حتى أن أزمات هذا النهار لا تأتي بجديدٍ في أداء الحكم، بل تكرّر سكّةً سلكها سابقاً، من أسماء المعنيين إلى مواقع الطمر. لا جديد في السلطة، لكن الجديد في الشارع. فالناس، في ظلّ الأزمات، تأقلموا مع الخشية الدائمة من مصيبةٍ أكبر، وهي كثيراً ما تحلّ. يقولون: فلنحاول أن نتفاداها. فلنلتصق باللحظة الراهنة وننقذها. الناس الخائفون ليسوا واهمين، خصوصاً في ظلّ الحروب الطاحنة، الداخلية والمجاورة والقريبة والبعيدة. الناس ليسوا واهمين، لكن المشكلة ليست بجديدة. كمّ من مرة تم إقفال باب حلّ مستدام خوفاً من أزمة، وكم من مرة لم يأت الحلّ المؤقت إلا باستفحالٍ لاحقٍ للأزمة. تجربة اليوم لا تأتي في خانة المؤقت، وإنما هي في الاستفحال. استفحلت الحال لمّا تجسّد الفساد بفداحة: طافت الزبالة على الناس. وليس سبب ذلك كامناً في قلّة كفاءة النظام، وإنما في طبيعته.
الشارع هو الجديد في صورةٍ يقرأها المرء عن بُعد. قد يكون السؤال الأسهل فيه: كيف تشكّل؟ أمّا أصعب الأسئلة فهو: إلى أين يمضي؟ وهو صعبٌ لا لخشيةٍ من الوجهة، وإنما لطزاجة المضمون. ما يجري، يجري الآن. تحليل المسارات البعيدة يشبه قراءة مستقبل ثورات الربيع العربيّ في لحظة وقوعها. كم تبدو قراءاتٌ كثيرة لها مخجلة لأصحابها اليوم، بعدما حلّت أحداث محورية وكثيفة لم «يتنبأ» بها تحليل.
فإذاً، كيف تشكّل الشارع؟
 
الدولة المتماسكة القويّة
ليس في مقاربة الحراك تحيّزٌ تامّ لمجريات الشارع، وإنما تحيّزٌ قاطعٌ لأحقية حدوثها. عن هذه المسافة، يبدو النقاش حقّا مكتسباً علانيّاً صحّياً ولو احتدّ. الإجماع هو شغل نظامٍ متشابك الفساد. الإختلاف في النقاش والمبادرة هو مساحةٌ كالحرش، تتنفس. لن يتناقض النظام، ولم يتناقض. حتى أنه استنسخ أداءه. رجلٌ تلو الآخر يقفز إلى منصةٍ في باحة بيته، ويعلن أنه أبو الحراك. رجلٌ تلو الآخر، مليء بنفسه لدرجة أنه تخيّل أن دائرته الخاصة المهلّلة لاستيقاظه كلّ صباح تعكس «الرأي العام». مليءٌ بنفسه لدرجة القول بأن الشارع ومن فيه ملكه، إنما هم من بنات أفكاره. النظام متشابك المصالح، متشارك في ملفات الفساد، ولذلك، خطابه سيبقى متماسكاً، إن في التهويل من الشيوعية والآذارية والداعشية والفوضى، أو في مصادرة الحراك. أما الشارع فناسه ليسوا كذلك. ناسه يلتقون اليوم، كلٌّ من حملة، كلّ من تجربة حزب أو ذكرى نقابة، كلٌّ من بيت وشارع، كلٌّ من خلفيّة. فيه الاختلاف بالتأكيد، وله حق الخلاف. لا خوف من الخلاف ما دام المختلفون يبقون النظام نصب أعينهم، ساعين إلى ترتيب أمور الخلاف في مجموعات متجانسين، لا تسعى إلى الانصهار وإنما تشدّ نحو التنسيق. لا ضرورة لاستجداء الوحدة أو إخراس التناقض. تلك عناصر حيوية، تلك أدلّة الحياة العامّة.
في المقابل، فإن للخلاف والاختلاف لا بدّ مخاطر، من ضمنها خطرٌ يحلو للذهن التنبّه منه: الطهارة. ادعاء الفرد أو الجماعة امتلاك طهارةٍ أو نقاءٍ «ثوريّ» يتيح لهما أن يسودا ما عداهما. طعن المختلف في رأيه، تجريد المختلفة من أحقية امتلاك رأي حتى. اتهام بميلٍ سياسيّ (الناس لم تولد اليوم)، أو بانتباه معيّن تجاه الطائفية (والطائفية جزء من هويات الناس السياسية)، أو بعنفٍ في الخطاب أو الأداء (العنف ليس تهمةً مطلقة)، أو بالجبن (وهو أيضاً ليس تهمةً مطلقة). الإحساس بامتلاك الطهارة يتيح للفرد أن يرتقي إلى برجٍ عاجيّ من «فهم الجدوى»، و«الصواب». لحسن الحظ، تنوّعات الحراك تفاجئ البلد تباعاً بوضعها المطلب العام قبل «الصواب» الخاص، ولو بقلق، ولو أحياناً بارتباك. لمّا دخل المعتصمون إلى وزارة البيئة، شعرتُ بتردّدٍ وخشية. بعد ساعاتٍ قليلة من المتابعة، صرت من المؤيدين الداعمين الغاضبين أيضاً. في تحرّك الزيتونة، ساد في نظري «الفيتيش» على المطلب، تماماً مثلما طغى إحساسُ الكرمس في تظاهرةٍ أخرى. رأس النيفة «فيتيش»، بينما الأملاك البحرية مطلب وحقّ. حملة «هذا البحر لي» لم تسقط الفرح من مجرياتها، وليس النكد هو قرين المطلب، لكن «رأس النيفة» فيتيش. ثم، من قال إن الفقراء لمّا يستردّوا مكاناً عاماً من برجوازيين سرقوه، سيملأونه بالبصل ورأس النيفة؟ هذا الربط بين الفقر والطعام المفعم بالروائح يحتاج إلى النقد، إذ تلوح فيه ترسبات طبقية (حتى ولو اعتقد تحرّك الزيتونة أنه يحارب الطبقية قبل سواها). ومع ذلك، لم أشعر برغبةٍ باللعن، لعن التحرّك، تفهّمت منطلقاته بالنسبة إلى ناسه. المشهد اختلف لي في الدالية يومها، إذ رأيت الشمس تخترق عينيّ وصدري، وانتميتُ لكلّ يدٍ قصّت السلك، ولكلّ جسدٍ ارتمى في البحر. كلّ هذه الزحمة وسواها طبعاً في ما يخصّ الحراك، اجتمعت في فكر شخصٍ واحد، فكيف بالكثرة؟ لا خطر في الاختلاف، هو واقعٌ لا يحتاج إلى من ينظّر له. هو واقعٌ، ولا يحتاج إلا إلى مَن يتعامل معه. فهذا الحراك لا يقاس بحجمه بقدر ما يقاس بتنوّع ناسه.
 
المتظاهرون والمتردّدون وما بينهما
الطوائف تحشد «الملايين»، وتلك ليست معجزة ولا مبايعة. قراءة البنى السببية التي تلمّ شمل الملايين، متاحة في كتاب الأزمة المستدامة. من الاقتصاد إلى الاجتماع، ومن الهويّات إلى العصبيّات، ومن الاستثمار إلى المكتسبات، القراءةُ متاحة. لا ضرر في قراءتها، بحيث لا يُدان الناس بالمطلق، ويُتهمون بأنهم «قطيع»، هكذا بالجملة. لمن المطالبة بالتغيير إذا كان «الناس غنم» في منظور دعاة التغيير؟ لا ضرر في المواجهة مع مؤمني الطوائف، لكن، لا مبرر لتجهيل أسبابهم لمّا كان فهمها متاحاً لنا. لن يصبحوا «قطيعاً» بمجرد قولنا عنهم هذا، لكنهم سيصبحون حكماً ضد حراكٍ يطالب بالمصلحة العامّة بمجرد قوله عنهم هذا. متظاهرو الطوائف متنوّعون في ما بينهم، بين حريصة على مكتسب ماديّ أو رمزيّ وخائفٍ من تغييرٍ وتبعاته ومتردّدة أمام جديدٍ ورافضٍ لأيّ خروجٍ عن أمان الهويات المحفورة بالدم، وسواهم. الكثير من الدوافع يشكّل «ملايين» الطوائف. وهي ليست على عداءٍ مع الحراك ككتل، وإنما الحراك شقّ فيها خطوط عداواتٍ وتأييدٍ عابرة لحدودها المعرّفة. تبعاً لدوافع المرء في الانتماء إلى «الملايين»، تراه يختار الإنصات للحراك والصبر عليه، أو الانصراف عنه ولعنه. المستفيد من النظام، سيكون ضده. الرافضة لقراءة الحال خارج العين الطائفية، ستكون ضده. وعلى فكرة، لا ضرر في العداء. لا تؤخذ الحقوق عادةً بإجماع شعبٍ. أما التردّد في المشاركة فهو مرتعٌ للتفكير.
بين المتردّدين هناك من يحتاجون إلى استقطابٍ، إقناعٍ، تطمين، ومراعاة. هؤلاء، لا بد أن يجدوا لهم صوتاً من بين الأصوات كلها يشدّهم إلى الساحة، ومن المحبّب لو صوتٌ عدائيّ يهدأ فلا يرعبهم منها. وهذا نقاشٌ يخوضه المنسّقون في ما بينهم. ولكن، هناك خشية من أن يصبح «استقطاب المتردّدين» كالأقوال المأثورة التي تُرمى في كلّ سياق لتعطي «حكمة». الاستقطاب ليس هدفاً تُرمى لأجله أهدافٌ أخرى. إذ، من يستقطب من؟ أشخاصٌ وجماعات اهترأوا في شوارع التظاهر من أجل تنظيف بلدهم من أزمة يعيشها جميع المواطنين، يُطلب منهم أن يهندسوا الذات والخطاب والتحركات والملابس بحيث لا ينتقدها المتردّدون فيحجمون عن التظاهر؟ هل يحقّ لي أن أطلب من أشخاصٍ يناضلون منذ سنوات في الحيّز العام لضمان حقوقٍ لجميع الناس، ألّا يتسببوا بنفور الجاهزين أساساً للنفور؟ هناك فئة من المتردّدين، تستدرج النقاش إليها، تصبح هي محوره، كيف ترضى عنا، كيف لا تلومنا، كيف نقنعها، كيف ندلّلها، وهي تتوقّع ــ بسوقيّة ــ من مناضلين في المحاماة والتعليم والاقتصاد والجنسانيات وحقوق المرأة وحقوق المواطنة، أن يرفعوا إليها أوراقهم، لتوافق عليها. وتلك الفئة، نادراً ما أقدمت على فعلٍ في صالحٍ عام. تلك الفئة، لا ضرر في الإنصات إلى شكواها الدائمة، وذبذبتها المستمرة كالأزمة المستدامة، لتبيان حال بعض الناس في لبنان، والاستفادة ربما من بعض النقد. لكن، أن يضعها المرء نصب عينيه لإقناعها بالجدوى، جدوى ألّا تملأ الزبالة البلد، فهذه مضيعةٌ للوقت والطاقة ومقتلٌ للاندفاع.
 
شبكة الأمان متوفّرة ومتينة
إن المتواجدين اليوم وكلّ يوم في شوارع لبنان هم مناضلات ومناضلون في سياقاتهن/م، وقد أحدثوا على مرّ السنين تغييرات في الوعي العام، في القوانين، وفي الشارع. هذا الشارع، يقطف ثمار هذه السنين، ويذهب بها إلى أبعد. عن مسافةٍ، بدأ فهمُ الحراك بما يشبه استجماع قطع «الپازل». هذا المشهد يوقظ تلك الذاكرة. وذاك يوقظ هذه، مع تعديلٍ طفيف. مع تطوّر الأيام، خرج الحراك عن طوع الذكرى. بات يصوغ قصةً تستجد فصولها. ومع ذلك، وعن بُعد، لا يجد الذهن مهرباً من افتراضٍ يقول بأن الشارع لن يذوي هكذا، بلا جهدٍ بالغٍ أو حدثٍ عظيمٍ يقتله، لأن شغل سنين طويلة ومتصاعدة الوطأة من الحملات المدنية اشتبك فيه، ضمنه، وحاك فوراً شبكة أمانٍ تمتلك شوارعه. تحركات «جنسيّتي حق لي ولأسرتي» عمرها يفوق العقد من الزمن. «اتحاد المقعدين» نجح بإصدار قانونٍ للدمج منذ أكثر من عقد، وبقي عدم تطبيقه عنوان حملات لا تكنّ. حروب «هيئة التنسيق» الطاحنة ذات العافية والصلابة والغضب، كانت عابسةً محقّة وفي صلب «المصلحة العامة». التراكم واسع. مكافحة العنصرية، حقوق العاملات المنزليات وقانون العمل، مناهضة العنف الأسريّ وخطّها التصاعديّ نحو التشهير كما الحشد غير المسبوق نسويّاً في الشارع. مسيرات العلمانية وألوانها النافضة عنها احترام النظام، إعلان الذات خارجةً عنه. سواها أيضاً، وهي حملاتٌ كثيرة ملأت الشارع بأصواتٍ مختلفة مع وعن تلك الماثلة فوق منابره المعتادة. من المستحيل إلى اليوميّ، تسلّل إحساس المخفيين قسراً في لبنان إلى النفوس. المقابر الجماعية، أتذكرون؟ كان إحساساً خانقاً. الأماكن العامة، صيحة الحدائق. الدالية، محورٌ متين، مجهّزٌ بصلابة، وبأكثر من لغة. وصولاً إلى مبادرات عفوية كقطع الطرقات بسبب الكهرباء وبسبب الخطف وبسبب المطامر، حتى حلّ الانهيار المقزّز. الأزمة المستدامة مضت بيننا من خانقٍ إلى أشدّ خنقاً، والشارع لا يكنّ، لا يستسلم، يعبّر عن تمرّدٍ نسبيّ، محكومٌ طبعاً بوجودياتٍ كثيرة، لكنه موجود. وهو يصنع خبر اليوم بجرأةٍ غير مسبوقة. بوقاحةٍ قاطعة كالألماس.
الحراك محاربٌ اليوم من السلطة وعلى عمق خطوط سطوتها ومدييها الاجتماعي والاقتصادي. وهو محاربٌ بينما يتشكّل. ما يفيده حيناً في شدّ العصب التظاهريّ، وما يضرّه حيناً لأن العود، عوده كحراكٍ راهن، طريّ في طور التشكّل. لكن، ربما، أكثر ما يدفع القلب إلى الاطمئنان هو اسمه. اسمٌ وُلد على الأرجح صدفةً، أو التقاه المرء كذلك، وإذ بالكلمات المكتوبة والمحكية تكاد تُجمع على تسميته بذلك. فكلمة «حراك» تحاكي في الذهن قول غيفارا: كونوا واقعيين واطلبوا المستحيل. ليس تحرّكاً بزمانٍ ومكانٍ ينتهي بانتهاء الدعوة إليه. ليس ثورةً ستُسقط وتُعلي وتهدّ وتبني بما يفتقر تماماً إلى واقعية. ليس انتفاضة، فهو لا ينفض عنه استحالة الحياة تحت سلطة القتل، وإنما هو يدفع مجتمعه باتجاه تخيّل واقعٍ غير ذاك الذي تحاصرنا به السلطة. هو حراكٌ. هناك في المجتمع حراكٌ. وهو تظاهرة، كما هو مقالٌ ومفكّرة. وهو محاكمة، كما هو تسريبٌ وتشهير. وهو بيان، بقدر ما هو نكتةٌ ورسمٌ وأغنيةٌ وهتاف. هو حراكٌ، له جذوره الضاربة في المجتمع المدنيّ وفي النقابات وفي الأحزاب وفي البيوت، وله طموحٌ يشدّ نحو مقوّمات حياةٍ تليق بأهل هذا البلد. وله الوقت كله، له الوقت كأمواج، بصعوده وهدوئه، بالحماسة وهدوئها. إن فاعلية الحراك تلوح من رحابة اسمه. من الواضح أنه لم يأت من عدمٍ ولا يتّجه نحوه.
ولذلك، هو حكماً مستمرّ.

العدد ١٢ صيف / خريف ٢٠١٥

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.