العددان ٨-٩ - ربيع / صيف ٢٠١٤

العرب في مطلع الألفية الثالثة

بين الهيمنة الإمبريالية والتدخل الإقليمي

النسخة الورقية

في مطلع سبعينيات القرن الماضي بدأ رصيد الأنظمة السياسية العربية التي نشأت بعد الاستقلال يتقلّص ويواجه تحديات بناء الدولة الحديثة. كانت الأولويات ما زالت في المناخ السياسي العام الرسمي والشعبي هي لتوطيد الاستقلال السياسي والاقتصادي واستكمال ما بقي من معارك تحرير الأرض العربية ولا سيما فلسطين، والانخراط في تجارب وحدوية وتعزيز التعاون بين الدول ذات التوجه القومي. وبالرغم من هزيمة ٥ حزيران/ يونيو ١٩٦٧، أخذت الأنظمة فرصة جديدة لقيادة المعركة القومية والرد على الهزيمة و«إزالة آثار العدوان»، ومثّلت حرب تشرين ١٩٧٣ ذروة هذا الدور القومي وحدوده وإمكاناته. ثم انعطفت المنطقة كلها تحت مظلة سياسة الاحتواء الامبريالية وتطويعها لمسارات اتخذت صفة «الواقعية» في ظل موازين القوى الدولية والقدرات الذاتية للأنظمة.

قبيل هذا الانعطاف الكبير كانت إرهاصات قيام حركات شعبية راديكالية تتوالد في غير بلد عربي وفي المقدمة طبعاً انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة (١٩٦٥) ثم امتداد الثورة في اليمن الجنوبي إلى سلطنة عمان، وانتفاضة الأهوار في العراق (١٩٦٨)، وصعود اليسار اللبناني في مواكبة تداعيات الحدث الفلسطيني بعد معركة الكرامة في الأردن (١٩٦٨) وإنهاء دور منظمة التحرير الفلسطينية في الأردن (١٩٧٠)، ثم الانقلاب السوداني التقدمي (١٩٧٢) الذي أحبطه التحالف المصري الليبي السوري (الوحدة الثلاثية).

بعد حرب تشرين بدأت مرحلة تصفية إرث النهوض القومي لندخل في أول محطة من محطات التصالح مع الامبريالية وحلفائها، والانسحاب من المواجهة مع إسرائيل باتفاقية كامب ديفيد (١٩٧٧ـ ١٩٧٨) وانقطاع الصلة بين مشرق العالم العربي ومغربه. وفي المقدمات لكامب ديفيد أكثر من حدث عربي نكتفي هنا بواحد مفصلي هو تفجير الحرب الأهلية اللبنانية (١٩٧٥) التي تحولت إلى حروب عربية وإقليمية شغلت كل البيئة الاستراتيجية في ما يسمى «قوس الأزمات» أي بلاد الشام والعراق. وكانت هذه الحرب آلية لتصفية الموقع اللبناني بوظيفتيه التقدمية والفلسطينية، فضلاً عن إشغال المنطقة بساحة النزاع هذه واستنزافها سياسياً وأمنياً واقتصادياً وثقافياً.

انتقل النظام المصري إلى موقع الحليف لأميركا وإلى الانخراط العضوي في السياسات الامبريالية وإلى تصفية كل المكتسبات التي حظي بها الشعب. ومن اختلال التوازن الإقليمي هذا تحوّل الاهتمام إلى دولتين هما العراق وسورية اللتان إدارتا ملفات القضايا العربية بأسوأ أشكال المخادعة والتنافس الانتهازي من أجل هدف مركزي أخذ يتقدم على ما عداه هو «الحفاظ على الأنظمة» والاحتفاظ بالسلطة، والسعي الدؤوب إلى تحصينها ضد كل محاولات تهديدها في الداخل والخارج. ومن «ميثاق العمل القومي» وجبهة «الصمود والتصدي» (١٩٧٨) إلى التآمر الانقلابي المتبادل، صار النزاع العراقي - السوري عنوان مرحلة الثمانينيات. وكانت مغامرات صدّام حسين كفيلة بتدمير العراق بعد حربه مع إيران (١٩٨٠ - ١٩٨٨) ثم اجتياحه الكويت (١٩٩٠) وجعل النظام السوري يخوض معركة البقاء بتقديم نفسه وكيلاً لمهمات أمنية وسلوك براغماتي محتفظاً لنفسه بهوية العداء لإسرائيل كأحد أهم عناصر شرعيته الشعبية والوطنية. وحين تنتهي «الوظائف الخارجية» لهذه الأنظمة تفقد توازنها وعناصر الثقة باستمرارها وتتصرف بخيارات غير محسوبة لاستدرار الدعم إلى شرعية فقدتها. ولما فرغ الأميركيون من ملفات أكثر أهمية (العراق وأفغانستان) توجهوا إلى النظام السوري لكي يستخدموه هذه المرّة وكيلاً في تصفية ذيول الحروب الأخرى، وضد الجماعات المتطرفة ولكي يستنزفوا سورية كياناً ودولة وشعباً.

الانكفاء نحو الداخل

في الثمانينيات دخل العالم العربي في مرحلة الانكفاء على الذات والتعامل مع مشكلات اقتصادية واجتماعية نتجت منها حركات احتجاج واسعة (مصر، المغرب، تونس، الجزائر، اليمن، سورية) وتزايد الطلب على «الديموقراطية» والتعددية والحريات السياسية. وأمام محاولات الاستجابة المراوغة أو القمع لهذه المطالب، ظهرت الصراعات بين مراكز القوى داخل الأنظمة وعبّرت عن نفسها بأشكال مختلفة. لكن الظاهرة الأكثر أهمية وعمومية وانتشاراً كانت صعود حركات الإسلام السياسي التي اختمرت في مناخ الكبت السياسي والثقافي والتهميش والأزمات الاقتصادية والاجتماعية.

وفي الصورة نفسها برزت إلى الضوء مسألة الأقليات القومية والإثنية وحالات التأزم في العلاقات الطائفية. (استقل إقليم كردستان في العراق عملياً منذ العام ١٩٩٠، وتبلور انفصال جنوب السودان نهاية التسعينيات، وانفجرت العلاقات الامازيغية العربية في الجزائر كذلك). كانت الولايات المتحدة ومعها الحلف الأطلسي تدير الحرب الباردة في العالم وفي الشرق الأوسط ضد الاتحاد السوفياتي من جهة وضد مشروع القومية العربية من جهة ثانية، وتسعى إلى الاحتفاظ بامتيازات سيطرتها على الثروات النفطية العربية وحماية قاعدتها الاستيطانية المتقدمة إسرائيل. وكانت حروب السبعينيات إنجازات أميركية بينما الهجمة السوفياتية التي أعقبت خسارتها مصر وبعض هيبتها في حرب تشرين ١٩٧٣ قد حملت أوهاماً (بيري أندرسون). احتلّت افغانستان وكسبت إثيوبيا وزادت تعاونها مع العراق وسورية، لكنها انتهت إلى انحسار النفوذ في جميع أرجاء المنطقة. حصلت استباحة أميركية للشرق الأوسط لم يعكّرها إلا ظهور الدور الإيراني وما بدا أنه «الإسلام الراديكالي» الذي يهدد بعدوى واسعة تشغل مكان القومية العربية. ومنذ اللحظة الأولى ساهمت أميركا بجعله عنصر منافسة للعرب وعنصر تحدٍ للإسلام السياسي السني الأكثري. وبذريعة الحدث الإيراني وتداعياته خرجت نظرية «مكافحة الإرهاب» والأصولية الإسلامية التي اكتملت عدّتها الفكرية والسياسية والعسكرية بعد أحداث ١١-٩-٢٠٠١، إلا أن بذور هذا الصدام المتجدد بين «عالم الإسلام وعالم الغرب» كانت بعد حرب تشرين وحظر النفط، وتطوير الغرب استراتيجية الإخضاع لهذه الشعوب المناهضة للهيمنة الغربية (إدوار سعيد ـ تغطية الإسلام...).

ما بعد أيلول ٢٠٠١

سجل الغرب انتصاره الكبير عام ١٩٩١ في الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفياتي بعد مقاومته وإنهاكه بسباق التسلح وفشله في تطوير نموذجه الاجتماعي والسياسي الخاص. بدأ الغرب يقضم الامبراطورية الروسية دولة تلو أخرى حتى حدود الاتحاد الروسي. وتصرف خلال عقدين (١٩٩٠ - ٢٠١٠) كمرجعية دولية وحيدة مقررة ذات شرعية تاريخية وذات رسالة لإدارة وتوحيد العالم، وواكب دور العولمة العسكرية الأميركية فكر سياسي مزيج من نسبة الإنجاز التاريخي للرأسمالية وللنموذج الأميركي بالذات. لم تطرح الولايات المتحدة نظرية انتصار الرأسمالية بل انتصار العالم الحر (أنظر: بيري اندرسون، «السياسية الاميركية الخارجية ومفكروها»، نيو ليفت ريڤيو، العدد ٨٣، سبتمبر/اكتوبر ٢٠١٣) على عالم التوتالتياريا والدكتاتوريات

شكل العمل الإرهابي الضخم في الهجوم على برجي التجارة العالمية (١١-٩-٢٠٠١،) تبريراً لغزو القوات الأميركية لافغانستان باعتبارها المكان الآمن لدور «القاعدة». ولا يخفى أن هذا الموقع مفصلي واستراتيجي في اتصاله بحدود روسيا وإيران والصين وباكستان وتأثيره على وسط آسيا. أما العراق المستنزف والمحاصر فقد كان يحتاج إلى تبرير من نوع خاص يتعلق بأسلحة الدمار الشامل وتهديده للأمن في العالم والحاجة إلى نزع أظافر الدكتاتوريات ونشر الديمقراطية لمواجهة التطرف والمغامرات العسكرية. وسيظل الاحتلال الأميركي للعراق إحدى العلامات الفارقة في مطلع الألفية الثالثة وفي تاريخ «حروب التدخل الأميركية» لأهداف امبريالية. لم تكن كلفة التدخل على الأميركيين البشرية والمادية بالقليلة وفق حسابات دول ديمقراطية تخضع السلطات فيها للمساءلة والمحاسبة. لكن نهب العراق وإزالة سلطة مشاغبة كان أثره كبيراً لصالح النفوذ الأميركي. وإذا كان هذا المشروع قد حصل بتواطؤ معلن مع إيران فقد هدف إلى التعامل مع «الأقليات» الإثنية والدينية والطائفية واستخدامها (في افغانستان والعراق) في تفخيخ وتفكيك الشرق الأوسط تمهيداً لصياغة جديدة للنظام الإقليمي.

لعب «المحافظون الجدد» دوراً كبيراً في عسكرة الدور الأميركي العالمي ودفعه إلى إنجاز مشروع «أمركة العالم» أو استثمار عصر القوة الأميركي حتى النهاية. لكن هذا التيار وهذه القوى ما لبثت أن اصطدمت بحدود القوة العسكرية والاقتصادية وبطبيعة الجدوى من سياسة التدخل المباشر حيث للامبريالية أكثر من شبكة اتصال وتأثير على مجريات الأحداث في العالم. فحين اختار الشعب الأميركي، بمختلف مكوناته وعناصر التأثير المقررة لديه، الرئيس الأميركي الجديد باراك اوباما اختار وسائل وأساليب أخرى للتعاطي في السياسة الخارجية فضلاً عن السياسة الداخلية. فالرئيس جاء بوعود عن وقف الحروب المباشرة التي يموت فيها الجنود الأميركيون. هو ينسحب من الحروب التي تأخذ بعض الأشكال التقليدية ليذهب باتجاه صراع من نوع آخر ويستخدم «القوة الناعمة». فلم تكن أميركا بحاجة إلى إثبات قوتها العسكرية في الميدان بمقدار ما هي بحاجة إلى جعل هذه القوة في حساب أي طرف آخر وفي أي نزاع، وهذا ما حصل في مسألة سورية. (بيري اندرسون ـ في معنى عدم الإنخراط في الحرب من وجهة نظر فريق اوباما).

لم تعد منطقة الشرق الأوسط تشكل تهديداً جديّاً للأمن القومي الأميركي بمفهومه الشامل، ولا حتى للمصالح الحيوية والأساسية التي تريدها أميركا من المنطقة. هذه المسألة تفسر إلى حد بعيد الانكفاء الظاهر لنشاط السياسة الأميركية أو التعامل البارد مع ملفاتها، وعلى الأقل، لم تعد المنطقة تمثل الأولوية التي كانت لها من قبل. ولأن ظاهر الحال هو كذلك هناك مقاربات مختلفة للسياسة الخارجية الأميركية تراوح بين إعلان عجزها وتداعي قوتها وتبدل اهتماماتها، وبين حديث عن تعددية قطبية وحرب باردة جديدة.

لكن كل هذه المقاربات تغفل التاريخ الفعلي للمنطقة وكيف دخلت في شبكة العلاقات الامبريالية والأميركية تحديداً، وكيف خرجت منها كل التحديات السابقة للنفوذ الاميركي والغربي. أما الصعيد الدولي فلا بدّ من إعادة فهمه في ضوء انهيار الامبراطورية السوفياتية وعوامل هذا الانهيار رغم المعطى العسكري الذي كان موجوداً والذي لم يتقدم أصلاً بموازاة القوة الأميركية والأطلسية. وفي أساس فلسفة السياسة الدولية الاميركية أنّ انتصارها هو إعادة القطب الشرقي إلى المنظومة الليبرالية (الرأسمالية) واندماجها في النظام الاقتصادي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، وهي على هذا الصعيد أنجزت هذا الهدف تجاه الطرفين النقيضين الصين أولاً وروسيا ثانياً (بيري اندرسون).

ولا نظن أن النموذج العالمي الآخر والتحدي التنافسي يتشكل الآن من حول كوريا الشمالية أو كوبا أو إيران، ولا من حول أنظمة سياسية واقتصادية تحتاج الى دراسة خصوصياتها ومستقبلها دون أي وهم أنها خارج النظام الدولي الاقتصادي والاجتماعي (تجمع دول البريكس). الفارق الكبير والتمايز السياسي الذي يشغل الفكر المعاصر هو أنّ العقد الأول من الألفية الثالثة يشهد استعصاءات فعلية لتعميم الثقافة الديمقراطية وحقوق الانسان، وإزالة الأنظمة الدكتاتورية والشمولية وخصوصاً في العالم العربي والإسلامي.

الثورات العربية، هل انتهت؟

شكلت الثورات العربية مطلع العام ٢٠١١ إيذاناً بأن العرب ليسوا خارج المسار التاريخي وأنهم ليسوا شعوباً راكدة ومستكينة. لكن الحصيلة الراهنة بعد ثلاث سنوات من هذا المخاض وهذا الحراك الهائل الانفجاري لم تبلغ نهاياتها ولا أعطت ثمارها في التحول المضمون والمؤكد نحو الديمقراطية. هناك من قال إنها «ثورات بلا ثوّار» أو بلا قيادة وتنظيم وإيديولوجيا ومشروع، وهناك من قال إنها نتاج سياسة «الفوضى الخلاقة» التي أرادتها الولايات المتحدة الأميركية بديلاً من السيطرة المباشرة. وهناك من قال بإشكالية الإسلام السياسي التي تفرض نفسها في نموذج وسياق مختلف للتطور التاريخي.

لم يكن اندلاع الثورات العربية مفاجئاً إلا من حيث حجم الاحتجاجات وشمولها فئات واسعة من الشعب وتسارع وتيرتها وانتقال عدواها من بلد إلى آخر في تتابع، بدا وكأن مرجعية كبرى تديره. لن نعود الى حركات الاحتجاج والأزمات خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين والتي يمكن من خلالها متابعة التحولات الاجتماعية والاقتصادية والديمغرافية والثقافية التي حصلت في العالم العربي. فهذا عمل تأريخي ضخم يحتاج الى مساحة كبيرة من البحث. لكننا نشير هنا إلى أن عدة مؤلفات عالجت هذه المشكلات خلال تلك الحقبة. سنكتفي هنا بالعقد الأول من الألفية الثالثة الذي شهد اختراقات واسعة لسقف الأنظمة السياسية السلطوية وإجبارها على التعامل مع مسألة الحريات العامة والتعددية والديموقراطية ولو بصورة التفافية أو مخادعة أو احتوائية. في مكان ما، أسهمت في هذا المشهد عدة عناصر، منها الحركات الشعبية الاجتماعية، المعارضات السياسية، الانفتاح الإعلامي الذي جاء بواسطة ثورة الاتصالات والمعلومات والتقنيات فوق كل الحواجز ومحاولات السيطرة. لقد أصبحت سطوح المدن العربية غابات من أجهزة التقاط القنوات القضائية في ظل أنظمة إعلام محلية مقيّدة وموجّهة. كما أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي كسلعة استهلاكية رأسمالية حديثة ظاهرة شعبية عصية على التقنين. وهذه بعض ظواهر كانت في امتداد «الانفتاح الاقتصادي» أو اللبرلة الاقتصادية رغم استمرار أنظمة الطوارئ الأمنية والتحفظ الواسع على اللبرلة السياسية. وقد انتهت الأنظمة التسلطية إلى تصفية إرث دولة الرعاية والتوجيه الاقتصادي علناً، أو أنها بحثت عن مخارج نظرية مستوحاة من التجربة الصينية تحدثت عن «اقتصاد السوق الاجتماعي».

في الكتاب الذي أصدره مركز كارنغي ونشرته دار النهار بالعربية عام ٢٠٠٨ (ما يتعدّى الواجهة) هناك رصد موثق لحركة «الإصلاح السياسي» في العالم العربي، وقد تناول الكتاب (مصر، الأردن، سورية، فلسطين، لبنان، الجزائر، المغرب، السعودية، الكويت، اليمن). وجاءت الخلاصة لتؤكد اتساع الحراك الشعبي، وضعف الاستجابة الرسمية للإصلاح السياسي، والقيود المستمرة على الحريات السياسية، كما أشارت إلى ضعف التكوينات الحزبية المعارضة وحاجتها إلى الإصلاح، وطبعاً ملاحظة الدور المتزايد لحركات الإسلام السياسي.

من المعروف أن السياسة الأميركية والغربية دعمت الدكتاتورية العربية وتعاملت معها كضامنة للاستقرار في المنطقة. وهي حين تبنّت مسألة نشر الديمقراطية كان الهمّ الأساسي لديها هو اللبرلة الاقتصادية والحريات التي تفيد هذه اللبرلة وتحتوي التيارات الراديكالية. والأسلوب الأكثر استخداماً كان دعم هيئات المجتمع المدني لتحديث الحياة العربية بصورة لا يكون من خلفها احتمال ثورة سياسية شاملة.

ومن المعروف أيضاً أنه حين انطلقت الثورات العربية مطلع العام ٢٠١١ كانت خارج سياق التوقعات وخارج كل الاستشراف في المنطقة والعالم في شكلها ومضمونها وسلوكها وشرارتها وتداعياتها. وليس لأحد أن يزعم معرفة مسبقة بتلك الأحداث التي تحولت إلى مسألة تاريخية وقد بدأت بإحراق مواطن تونسي نفسه احتجاجاً على المظلومية التي تعرض لها. أو بتظاهرات كانت تجري في مصر على مدى سنوات لأسباب عدّة ولكن تخصيصاً لرفض التوريث وإعادة إنتاج الطاقم السياسي القائم. أو من خلال مجموعة من الصبية المحتجين في درعا على نمط حياة عانى منه الشعب السوري عقوداً طويلة. وليس أدل على طبيعة المفاجأة من تعامل الأنظمة السياسية والقوى السياسية، وكذلك المجتمع الدولي، مع هذه الشرارات الاحتجاجية وعدم فهم دلالاتها.

تونس ومصر البداية

في تونس ومصر سعى النظامان إلى احتواء هذه التحركات بتقديم بعض التنازلات الشكلية مع استنفار كامل لأجهزة الأمن والقمع والتضييق والتحريض. وحين بدأت التحركات تكبر وتتسع كان الخطاب الرئيسي للأنظمة هو التنكّر لقدرة الشعب على ممارسة الديمقراطية وجرى التهويل في دور وحجم «الحركات الإسلامية» باعتبارها حركات متطرفة ومناهضة للحرية وللديمقراطية ومقلقة للغرب. ومع تصاعد حركات الاحتجاج ونجاحها في استقطاب المزيد من الفئات السياسية والاجتماعية وعجز الأنظمة عن السيطرة عليها، استنفر النظام السوري كل آلته القمعية وقرر تحويل المواجهة بصراحة ووضوح إلى مواجهة دموية وإلى سياق الحسم العسكري تحت شعار مواجهة المؤامرة.

فاوض الرئيس التونسي على تعديلات دستورية وحكومية وبعض المطالب الاجتماعية. وفاوض الرئيس المصري كذلك على تعديل دستوري وانتخابات حرّة ونزيهة، وبادر الرئيس السوري بوعود لإلغاء المادة الثامنة من الدستور التي تنص على قيادة حزب البعث للدولة والمجتمع كما على الاعتراف بالتعددية السياسية وإجراء إصلاحات اجتماعية، ثم قدم تنازلات مباشرة للخارج نافضاً اليد من عرقلة أي تسوية سياسية يقبل بها الفلسطينيون. ورفع شعار مكافحة الإرهاب والتطرف وأطلق على حركة الإخوان المسلمين «الإخوان الشياطين».

لم يكن المتغيّر العربي حادثاً داخلياً هامشي التأثير على البيئة الجيوسياسية وبالتالي على النظام الدولي. لذلك استنفرت كل القوى الفاعلة إقليمياً ودولياً لاحتواء هذا الحدث والسيطرة على مفاعيله ونتائجه. دخل الأميركيون مباشرة على خط الوضع التونسي والمصري خصوصاً، وكذلك دول الخليج العربي وتركيا وإيران. ظهرت حركة الإخوان المسلمين بطابعها الدولي كقوة فاعلة أساسية وقدمت نفسها كمشروع إقليمي كبير.

كان «الإخوان» على علاقة حوار وتعاون وثيق مع الأميركيين وعلى تفاهم وتعاون مع تركيا. اندفعوا بقوة نحو السيطرة على السلطة والانفراد بها وإقصاء الشركاء الأساسيين في الثورة، وأعلنوا عن مشروعهم وبرنامجهم لأسلمة الدولة ولمصالحة كاملة مع الغرب ولقبول غير مشروط بكل الآثار الناجمة عن وجود إسرائيل وموقعها ودورها في المنطقة. وهم إلى ذلك، رغم حوارهم السابق مع إيران، لم يظهروا رؤية للتعاون بين دول الإقليم وحل المشاكل السياسية العالقة.

إن مقاومة الشعب المصري لسلطة «الإخوان» مثَّلت أكبر حدث سياسي في المنطقة. سقط المشروع الدولي لتحالف بين الإخوان والأميركيين يشمل المنطقة فيجدد الأنظمة السياسية ويشحنها بطاقة إيديولوجية على حساب حل مشكلاتها الاجتماعية والاقتصادية. ولا شك أن إسقاط هذا المشروع احتاج إلى تدخل فاعل من أجهزة ومؤسسات الدولة المصرية ولا سيّما الجيش. ففي لحظة من التأزم السياسي بدت مصر على أبواب حرب أهلية. ولقد كان واضحاً منذ انطلاق الموجات الثورية الثلاث بين ٢٠١١ و٢٠١٤ أن القوى المنظمة هي التي تتحكم في نتائج الأحداث ولو لم تكن هي التي أطلقتها. وكانت جماهير الثورة المصرية لا تملك إطارات حزبية منظمة غير «الإخوان» ولا تستطيع المنافسة في معركة بهذا الحجم مع قوى لديها إمكانات مادية هائلة سواء من خلال التنظيم الإخواني التاريخي وفاعلياته الاقتصادية أو المؤسسة العسكرية وفاعليتها الاقتصادية أو حزب النظام والقوى الاقتصادية التي يتشكل منها أصلاً. وفي مكان ما، ضغطت الأوضاع الاجتماعية والخدماتية والمالية ومديونية الدولة على الحراك الشعبي وعلى جمهوره، وزادت من الحاجة إلى الخروج من «الفوضى» ومن العنف الذي لجأ إليه الإخوان ترهيباً للشارع.

ماذا عن سوريا؟

لم تكن الثورات متروكة لتقرير مصيرها بنفسها وفق الأوضاع الداخلية الخاصة بكل بلد. في اليمن والبحرين حضر التدخل السعودي المباشر كما الإيراني. وفي ليبيا تولت جامعة الدول العربية تغطية تدخل الحلف الأطلسي نيابة عن دول خليجية مدّت الحركات المسلحة بالسلاح والمال. وفي مصر كانت جماعات الإسلام السياسي المختلفة (الإخوان، السلفيون، المسلمون الليبراليون...) تتلقى دعماً خليجياً مباشراً ولو في تنافس معروف. أما الثورة السورية فقد استبقها استنفار واسع لكل القوى الإقليمية والتيارات السياسية التي كانت على تماس مع «المسألة السورية»، سواء إيران أو تركيا أو الخليج العربي أو حركة الإخوان المسلمين وفرعها الفلسطيني. فقد كانت سورية منذ احتلال الأميركيين للعراق في مرمى مداخلات إقليمية ودولية متعددة ولا سيّما من دول الجوار (إيران ـ العراق ـ تركيا ـ الأردن ـ لبنان). في سورية كان البُعد الجيوسياسي الأكثر وطأة على مجريات الأحداث. وقد كان هذا البُعد مؤثراً في خيارات الشعب السوري والرأي العام عموماً كما في موقف القوى الإقليمية المتدخلة. وكان هذا البُعد حاسماً في تعاطي النظام مع مطالب الثورة نفسها وكيفية إدارته للصراع. لقد حسم أمره منذ اللحظة الأولى باتخاذ خيار الحسم العسكري تدعمه في ذلك قوى داخلية وخارجية. لن ندخل هنا في تقديرات وفرضيات عن شعبية النظام وجمهوره ولا عن طبيعة قوى الثورة والتغيير، ولا عن الاحتمالات والمشاهد المختلفة خارج عمليات التدخل التي شاركت فيها دول متعارضة ومتناقضة وبأية وسائل وإمكانات وأية ظروف، فهذه كلها لا تؤثر في الواقع الذي تظهَّر بسرعة عن تقاطع الحرب الداخلية مع الحرب الخارجية. لقد كانت الأمور منذ بداياتها تشبه المسار اللبناني للحروب اللبنانية والإقليمية المركبة.

نجح الرئيس السوري في أن يحوّل المواجهة إلى صراع إقليمي ودولي بعد المواجهة العسكرية مع من صوّرهم منذ اللحظة الأولى بالإرهابيين والعصابات المسلحة. وضع سورية والشعب السوري أمام خيارات الاستسلام أمام بطش النظام أو الحرب الأهلية المديدة التي تفتح احتمالات تفكك سورية وتقسيمها. ولم تكن المعارضة بعد موجات متتالية من القمع وتصفية كوادرها أو تهجيرهم قادرة على إدارة معركة داخلية منظمة وناجحة. فقد أدّت الفوضى إلى طغيان العنف من جهة وإلى استدراج كل الجماعات المتطرفة والمرتبطة بدول الإقليم لكي تتولى المواجهة المسلحة.

أحجمت أميركا عن التدخل المباشر في الأزمة السورية. فقد جاء الرئيس الأميركي اوباما تحت شعار وقف حروب التدخل الأميركية فضلاً عن وعوده بالخروج من العراق وافغانستان وحاجته إلى انسحاب هادئ وآمن لإيران وروسيا دور فيه. وكان الغرب (الحلف الأطلسي) قد تصرف باستقلال كامل في ترتيب الحل الانتقالي في اليمن وفي اسقاط نظام معمر القذافي، كما في دعم حركات الإسلام السياسي في كل من تونس ومصر. الأمر الذي زاد من قلق الروس والصينيين على مصير مصالحهم في وسط آسيا وشمالي افريقيا ولا سيّما خارطة اقتسام موارد الطاقة الكبرى - النفط والغاز ٠ وإنهاء آخر معاقل روسيا في الشرق الأوسط وقاعدتها العسكرية في سورية. لذلك استخدمت روسيا والصين موقعهما في مجلس الأمن بممارسة حق النقض على قرارات تعطي شرعية دولية لعمليات عسكرية ضد سورية. أوجد التوازن الدولي الجديد حول سورية فرصة إضافية للنظام وحلفائه في استكمال العمليات العسكرية لضرب المعارضة المسلحة والجماعات الوافدة من الخارج المدعومة من أنظمة الخليج العربي، كما سمح لإيران بأن تزيد من أشكال تدخلها العسكري المباشر ومن خلال ذراعيها في لبنان (حزب الله) والعراق (فيلق أبو الفضل العباس) وطبعاً التسهيلات التي يقدمها النظام العراقي نفسه بواسطة رئيس الحكومة نوري المالكي. أصبح التوازن العسكري ملائماً جداً لما يسمّى محور الممانعة من طهران إلى بيروت عبر العراق وسوريا، فضلاً عن تدخل أوسع لإيران في البحرين واليمن عبر دعمها لجماعة الحوثيين في الشمال وحركة الانفصال في الجنوب. وتحولت الدول الداعمة للمعارضة السورية إلى موقف دفاعي من الخليج وفي تركيا والأردن ولبنان.

أنجزت أميركا مطلبين حاسمين، الأول هو السيطرة على أسلحة الدمار الشامل (النووي الإيراني والكيماوي السوري) والثاني هو استنزاف مديد لمحور الممانعة بما في ذلك تجويف سورية الدولة والكيان. وخلافاً لكل الدعاءات عن تشكل نظام إقليمي جديد «ممانع» دخلت المنطقة تحت جناحي الأمبريالية وفقدت المزيد من عناصر قوتها وسيادتها.

العددان ٨-٩ - ربيع / صيف ٢٠١٤
بين الهيمنة الإمبريالية والتدخل الإقليمي

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.