العدد ٣٦ - ٢٠٢٣

عن شعرٍ في كنف المستقبل المستحيل

محاورة فادي العبد الله وعلي شمس الدين

فادي العبد الله وعلي شمس الدين شاعران مقيمان في بريطانيا وهولندا ينشران، في لبنان، خلال النصف الثاني من عام ٢٠٢٢، مجموعتين شعريّتين. هنا محاورة عن بُعد بينهما، عن إمكانية الكتابة الشعرية، بين الخارج والداخل، وعن مغزاها، في ظلّ انهيارات كبرى لما كان اجتماعًا ولغةً وما كان يقبل التصوّر، وفي ظلّ مستقبلٍ لا تلوح منه إلا استحالتُه.

«الألفة» والغربة

ف. ع: أودّ أن أبدأ معك من عنوان المجموعة «نزول الألفة»، وقد كانت لي مجموعة شعرية بعنوان «يد الألفة». أليست الألفة من مفردات بسام حجار الذي تذكره أيضًا في مقالك الأخير عن الشعر واستحالاته؟ هل يمكن القول بأنني أبحث عن الألفة في حين أنّك تنعاها وبالتالي وبرغم اشتراكنا في تجربة الغربة، يبدو لي أنك أكثر تعلّقًا بالمكان (سورية، لبنان، هما قسما كتابك) مني؟

بكلامٍ آخر، أفترضُ أننا في عالمٍ تتسارع هجنته وتغريبه لنا، ولكن في حين قررتُ منذ زمن أنني مواطن العالم الذي لا يحتمل نجاته من بلادنا وقررتُ أن أحمل معي ما أحبّ ومن أحبّ إلى حاضرٍ متطاول، بحسب قراءتك لي، في حين أنك قرّرت مساءلة انعدام المستقبل في تلك البلاد ومواجهة ذلك الانعدام في حين أنك، كملاك بول كلي، تطير مبتعدًا عنه محمولًا بعاصفة التاريخ؟

ع. ش: بسام حجار كان يبحث عن الألفة في العزلات، وأحسب أن هذا الاسم هو ما نبحث عنه كبشر، هو جزء من طبيعتنا. كيفما كنا ومن أية مشارب جئنا وأين نقيم وأقمنا. نحن ميمكائنات نبحث عن حرارة هذا الاسم الدال على تقاطعات من الأحاسيس الإيجابية كالحب، الأمان، الوداعة، الانسجام، الوئام، المودّة، المؤانسة، المعاشرة وغيرها. «نزول الألفة» كتب في فترتين زمنيتين مختلفتين ويحمل اسم قصيدة في القسم الثاني من الكتاب، وهذا القسم كتب في خضم المقتلة السورية والقصائد فيه هي نوع من مرافقة آنية للموتى مرافقة مستعجلة لدخولهم في الجوف العضوي، عودتهم إلى الطبيعة الخام، إلى أصل الأصول. مرافقة تصحبهم قليلًا عبر كلام فيه نوع من اشتباك مع اللغة التي أظهرت عجزها الكلي في أن تنصفهم او ترافقهم.

بدا لي الأمر كأنه موت التراجيديا، موت إمكانية هذا السند اللغوي التاريخي الذي نحيل إليه عجزنا ونفصّل منه قيمًا عظمى نوظّفها في استلهام رفعة في المعنى أكان هذا أملًا واستشرافًا أم سِيَرًا وأساطير نرفعها مثالًا على رفعة رمزيتها لتساعدنا على تحمل الانكسار. النصوص هذه أرادت أن تصنع لهؤلاء زمنًا لإعطائهم بعض الوقت قبل أن يبدأوا تحولهم، هذا الوقت القليل الذي حرموا منه حتى عند مقتلهم، ولشدة سرعة موتهم وغزارته وانتفاء القدرة على تأبينهم والحداد عليهم ووضعهم في أكفان أو قبور لائقة، ولتيقني أيضًا أنهم سيصبحون فرائس النسيان، ستنساهم الذاكرة وستكون صعبة استعادتهم في ذاكرة المستقبل بكليتهم. لم يكن باديًا على موتهم أنه سيتمكن من تأسيس أسطورة لهم. لذلك أحسست آنذاك أن الجوف العضوي الخام هو أكثر مكان يمكنني أن أقدمه في اللغة لمن يرحلون هكذا وأكثر مكان آمن يمكنه أن يحميهم من توحش الإخوة وموت التراجيديا واستحالة الأسطورة. وإعطاء اسم الكتاب عنوان تلك القصيدة هو إحالة إلى أننا ما زلنا نعيش هذا الموت، نحن نعيش في اتساعه وتمدّده ولم نعد نعرف، نحن الناجين، كيف نعيش من بعده، إذ يبدو أن هذا المكان قد أسس سرير احتضار وبات صعبًا علينا نحن الناجين المغتربين أن نتذكر ماذا نأخذ معنا إلى حياة النجاة هذه. يدهمني دائمًا هذا العجز في جوهرة التذكر، ماذا أتذكر؟ من نحن؟ من كنّا؟ ماذا فعلنا؟ ماذا أنجزنا وخسرناه؟ مُضنٍ هذا المسار في التذكّر، حتى لو كان ما أستطيع تذكّره يصلح ليكون سرًا. القصائد في القسم الأول تنطلق من هذه النظرة إلى الموت المستمر وإلى الاستحالات التي ولدنا فيها وفي المكان الذي تركناه وفيه تساؤل عن معنى المغادرات في هذا المقام.

لم أفكر في ملاك بول كلي التاريخي وعلاقته بما كتبتُ ولكن يستوقفني تعريف فالتر بنيامين لسياقه، خاصة أن العاصفة التي دهمته هي عاصفة التطور آتية من الجنة. القسم الأول من الكتاب هو كتابة في الحاضر الذي لا يبدو لي أبدًا أنه جنّة بل مشقة وهي مفردة أخرى من مفردات بسام. فنحن في الشتات مواطنون «in transit» في البلاد التي هاجرنا إليها في حالاتنا المتعددة. أي أننا مواطنون غير مكتملي المراسم، مواطنون بسِمة رسمية فقط، مواطنون لأننا ندفع الضرائب، ونمتثل للقانون، ولكننا خزائن اجتماعية مقفلة، تعيش المشقّات. نحن أنفس خالٍ وفاض ما كانت عليه. وهنا أودّ أن أسألك، ماذا حملت معك لتبقيه وما الذي تركته خلفك وخسرته. ماذا تتذكر وعلى ماذا تتحسر؟ كيف تستعمل ما احتفظت به وبماذا توظّفه في هويتك الجديدة، كيف يمكنك أن تكون مواطن العالم؟

وظيفة اللغة والكتابة

ف. ع: هل على اللغة أن تُنصف ضحايا مقتلة أو عليها أن تؤسطر القضايا كما فعل محمود درويش بقضيته؟ لست أرى في ذلك ضرورة للغة، بل كما ذكرت أنت يمكنها ربما أن تكون استحالة، فأسطرة القضايا تحوّلها إلى مستحيل، بينما استحالة الكلام ربما تفتح مجالات أخرى للتفكّر، لتحويل الركام إلى طلل بحسب فكرة وليد صادق المشروطة بعمل حداد طويل وصامت. مثل هذه الكتابة عليها أن تصمت.

هل يمكن اللجوء إلى كتابة أخرى؟ أحسب أن ردي (وهو ديوان البياض الباقي المنشور حديثًا) هو بنعم. أعني كتابة تسعى ربما إلى البحث عن أثر المقتلة والصمت والعنف وأمور أخرى كثيرة داخل نسيج الحب والصداقات والفن، بهذا فإن القصائد ليست مجموعة على غير نظام، بل متداخلة، كما هو العيش، كما هو أن تتجول في برلين مشمسةً وهانئة وفي يدك الهاتف الذي ينقل إليك آخر أخبار المجازر المحلية في البلاد التي قدمت منها. البياض يتخلل اللوحة، والملح حاضر في الحب، والعنف في السياحة والدم يطاردنا.

نحن ناجون محظوظون، لم نجتز بحرًا في قارب متهالك ولا نسعى إلى بيع مظلوميتنا أو اضطهادنا رغم أن زملاء لنا قُتلوا وأقرانًا قضوا نحبهم في سجون أوسع من الفضاء. ناجون تمنعنا نزاهتنا الأخلاقية أولًا من الاحتفاء بالنجاة، ويمنعنا الخوف من العنف المتمادي على عائلاتنا ومدننا وأحبابنا من أن نسقط في هوة النسيان كشرط كي ينفتح لنا المستقبل.

أحسب أنّ كتابتك مواكبة كما قلت لعودة الجثمان إلى التراب العضوي، هدهدة أخيرة تقول امتناع الغناء. لكني أحسب أن لا مفر من الغناء ما دام المرء يتنفس، فاحتباسه مؤقت لكن الشعر في رأيي يستطيع أن يقول حضور الاحتباس في الصوت المنطلق. هذه ربما إحدى وظائف الشعر على ما أرى، التقاط الاختلاط الذي ينسرب في حياتنا ويجعلنا نحيا في أزمنة وأمكنة وأمزجة مختلفة في آن واحد، بالضبط بسبب قدرة الشعر على التكثيف والتركيز.

هل تكتب الكتابة تجربة المواطن العابر كهواء المطارات هذه؟ ربما. لكني أجد من الأولى مساءلة المواطنة نفسها كهوية. في جذر الإشكال هو اعتباري الهوية وهمًا، مريحًا أحيانًا لكنه يظل وهمًا، والمواطنة القانونية، أي الانتماء بالأوراق إلى بلد ما، لا تختلف عن ذلك: ضرورة عملانية للوجود في مكان ما لأن الحظ لم يخدمنا بأن نكون من الغجر. لدي تفضيلات شخصية بالطبع، للمطبخ اللبناني على سبيل المثال، لكن حبي للموسيقى كمثال آخر يمتزج فيه أثر لبناني مع آثار مصرية وعراقية وشامية مع علاقة خاصة بالباروك وسترافنسكي...إلخ، فأين هي الهوية إن لم تكن مجرد اسم آخر للتفضيلات الشخصية؟ حتى اللغة التي أكتب بها، في الأغلب، أي العربية، هي عربيتي التي أتجاوزها أحيانًا إلى نصوص تكتب بالفرنسية (رواية غير منشورة) أو الإنكليزية (نادرًا) وهي في كل الأحوال لا تشابه الكتابة المصرية ولا السورية. هي أيضًا عربية، كما بسام حجار، تسعى إلى الدفاع عن المعاجم كخزنة تجارب تاريخية، وليس عن العربية تحديدًا.

هل أخسر إذن إن قلت إني مواطن من العالم؟ لا أظن ذلك، فباستثناء تجربة البقاء مع الأصدقاء الذين يعيشون في يومهم وساعاتهم انهيار وظائف وأجهزة البلد اللبناني، فإني أحمل معي هاتيك البلاد لا كلعنةٍ بل كجزء من تجربتي في العالم. هو موقف فرداني متشدد ربما، لكن من زاوية أخرى فإن الإقامة – في – العالم تعني أيضًا التخلي عن أوهام انفصال القضايا: لا إمكانية لحل أي شيء على مستوى الدولة أو حتى الدولة – الأمة بأيٍ من مظاهرها. أحمل نجاتي وأنتمي إلى العالم الذي فيه أوكسجين وماء وأشعر أن من حق أي إنسان أن ينتمي إلى العالم، وأعلم أنه امتياز نادر: مشاكل البشر اليوم عالمية ولا حل لها إلا بشعور بانتماء عالمي سيتأخر بالضرورة عن موعده، لذا فالمستقبل قاتم ومهول.

ما هي قدرة الكتابة في مواجهة الاستحالة التي لا مفر من أن البشر بقوة الحياة فحسب سيستمرون برغمها؟ وما هي وظيفة الكتابة في مثل هذا التوقيت؟ أسأل نفسي وأسألك.

اللغة في حضرة الموت والنجاة

ع. ش: أنا ما زلت لا أعرف كيف أكون مواطن العالم لأنني مُطالب كل يوم بأن أقدم سيرتي لهذا العالم. ليس لأن ذلك مهم عمليًا بل لأن سياسات الهوية ما زالت تسيطر على منطلقات التصنيف والفهم. العالم يتفحصك ليصنّفك. تقسيم الهوية إلى أحياز ووجوه كالهِوايات، وأنواع المهن، والجندرة والموضة، والمطبخ وما إلى ذلك لا يلغي أنه يقع على كاهلنا أن نبرز اعترافًا ما عن ماضينا، أن يكون لك قصة نجاة تسردها على مسمع مُحاورك. التفكير في هذا السؤال هو ما أظن أنه بقي منّا. ماذا باستطاعتنا أن نقدم عن أنفسنا بصفتنا لبنانيين، ماذا نتذكر في هذا التقديم وماذا ننسى، سؤالي انطلق من هذه النقطة. غير أنه كما تقول أنت، لا يمكننا أن نواظب على إنتاج صورنا بوصفنا ضحايا أو احتفاءً بالنجاة، ولكن أيضًا أرى أنه لا يمكننا أن نعيد إنتاج صورنا كعرض لغوي أو عبر المعاجم.

الناجون يقيمون في «الما بين» دائمًا، غير أنه في حالتنا هذه فإن الشطر المتأخر من هويتنا قد ذهب إلى غير رجعة «كجزيرة غبها المحيط». وهذا الاختفاء هو انتفاء قدرة هذا المكان أن يصنع قصة ما تصمد، أو أن يضيف معنى ما إن كان في ماضيه أو مستقبله. فموت السوريين بهذه الطريقة وما جاء بعد هذا الموت كان بالنسبة لي إشارة إلى موتنا جميعًا واختفاءنا عن الخرائط. والعضوي و«الأولي» في القسم الثاني من القصائد كما ذكرت سابقًا يقيم في هذا الانتفاء، انتفاء ما كنا عليه وكيف كنا ننظر إلى أنفسنا ونقدمها واستحالة تعريف أنفسنا في الراهن. الموت بـ«السارين» وصوره وكيف تناولته الألسن والأقلام وكاميرات الموتى يصورون موتهم كان لحظة عجزت فيها اللغة ومعها الموسيقى والفنون والصحافة أن تصنع قولًا، وهي لحظة ممتدة إلى راهننا. بدا لي آنذاك أن العنف قد حوّل اللغة، التي تحاول الاعتراض على الموت، إلى لغة أصولية ظلّت تحمل إشاراتٍ ومعاني وإحالاتٍ من زمن ما قبل هذا الموت، أي من زمن الورثة الثقافية العاجز أصلًا. فكان لا بد من إيقاف هذه اللغة في تلك اللحظة وإعطاء الموتى لغة يفهمونها في نزولهم، لغةٍ تأتي من خارج سلالم الأسطرة. العضوي هنا هو رفض حتى للحداد والإقامة فيه لانعدام جدواه.

أما في النجاة، فأجد أن الراهن طاحن ومتطلب جدًا، ولا يتيح صناعة زمن فسيح للغة لنبني صورًا ونحتفظ بها، أي لنطيل لحظة التقاطها ونعطيها وقتًا شعريًا وانطباعيًا ونتغنى بها – أوليس هذا نوعًا من إخضاع هذه اللحظات للأسطرة؟

الأماكن في عالم النجاة بالنسبة لي هي أماكن متطلبة ومنهِكة. وأثاث هذا العالم ومعالمه لا تصلح كنقطة وساطة مع الفقد. هذا الواقع الجديد له اقتصاده اللغوي الخاص. فالعيش في المدن الحديثة الطاحنة لا يتيح بناء أحياز شعرية تصمد طويلًا، فالنصوص الأولى في «نزول الألفة» هي تحول من العضوي والخام والنهائي إلى نوع من الإقامة في حضرة الوقت أي في النسيان وسطوته. ففي هذا العالم أجد صعوبة في إقامة مراسم تامة للحظة الشعرية، نهر التايمز ليس متنزه العشاق، وحانات لندن يرتادها المنهكون الذين يشربون لينسوا عسف النهار، والوقت فيها ليس وقتًا يتيح بناء الألفة، والحميمية فيها لا تؤخذ إلا تلصصًا واستراقًا من نهم المشاغل والمهن وسطوة النظام. الحب فيها لا يأتي معطرًا وأنيقًا. وفي هذا بدا لي أن الجسم والحب والأماكن لا يحتمل أي نوع من الأسطرة، لا يحتمل التغني به واستذكار خفته وإطالة اللحظ عليه لأنه يذوب سريعًا في عسف الوقت ووهج الحركة. نحن تقيم في اللغط وأجسامنا ضعيفة لا تقوى على التوقف والتنعم بالانطباع. ألا ترى أنه في هذه الحال يكون الشعر قد استثمر الأحاسيس في المتخيل والرمزي اللذين في حالة عالمنا الحالي لا يستطيعان مقاومة همجية الواقع؟ كيف نكتب شعرًا في هذا الواقع؟

عن مغزى الشعر وإمكانياته

ف. ع: أعتقد أنك تمس قلب المشكلة، عن مغزى الشعر نفسه، عندما تسأل (في استفهام إنكاري؟) كيف نكتب، فأنت لا تقصد بالطبع تقنية الكتابة، بل كيف يمكن لها أن تظل متاحة في هذه الشروط. لكن قبل ذلك، أريد أن أتوقف عند نقطة أنك مُطالب بتقديم سيرتك لهذا العالم، في ظل هيمنة سياسات الهوية. هل هذا محصور بك أو بنا؟ أليس بنات وأبناء الدول التي نحن فيها أيضاً مطالبين بذلك (نساء، وملونون، ومثليون وعابرون بأطياف التنوع الجندري)، إلا إذا كانوا من هم بلا صيرورة بحسب وصف دولوز، أي الرجال البيض الغيريين المسيحيين، ولكن حتى هؤلاء بات مطلوبًا منهم تقديم سيرة، وإنْ سيرة استنكارية على الأقل: هل نددت كفاية بهذه الاعتداءات أو تلك الجرائم أو اعتذرت عن هذه الإبادة أو ذلك التاريخ المشين؟ أقصد أننا لا ننفرد عنهم في البحث عن قصة أو سيرة نرويها، والمطالِب علينا جزء من سياسات أوسع تستحق نقاشًا أطول ليس هذا مجاله.

أما الشعر فأرى أن علينا أن نبحث بالضبط عن إمكانيته، تقول في مواضع مختلفة إن على الشعر أن يقول استحالات كثيرة (استحالة البلد، استحالة اللغة أمام فظاعات الجرائم، استحالة المستقبل)، وإن (شطرًا من) كتابك يبحث عن لغة تقولها للنازلين في قبورٍ مرتجلة، لكن أليست هذه أيضًا أسطرة للشعر بافتراض أنّ بإمكانه أن يتحدث إلى النازلين الأموات؟ في (شطر من كتابي) قلت إنّي أقل من أن أحمل قصصهم، لكني لم أفترض أصلًا إمكانية الحديث إليهم أو ضرورة البحث عن لغة لذلك، لأن اللغة في رأيي قد تنطق عن الأموات لكن ليس إليهم، قد تختزن خبراتهم وحيواتهم وقصصهم، لكني لا أؤسطر موتهم، فكل موت «ضربٌ من القتل» وتاريخ المنطقة والعالم مليء بفظائع هائلة لا تقلّ عن «السارين» ولم يتوقف البشر بعدها لا عن الأكل ولا التكاثر ولا الضحك ولا الكتابة. على الكتابة بعد الجرائم أن تحمل آثارها، لا أن تنهار وهو ما أرى انه نتيجة حتمية بعد إعلان الاستحالات أي أن تصبح الكتابة نفسها مستحيلة. على الكتابة بعد الجرائم أن تتقصّى أثر الجرم في الصمت وفي البياض وفي لحظات المتع وفي زمن الوئام وفي مخيلة التاريخ وفي حمولة الكلمات. هذا التقصي لا يستنفد الكتابة في كل هذه المجالات، لكنه يوضح كيف أن استمرار العيش، وهو محتوم، يكون عندها بالضرورة مضمّخًا بدماء وملطخًا بعنف، لكنه يستمر، وكذلك الشعر.

باستثناء الموتى، لم يتوقف أحد عن التنفس ومحاولة الحداد بحثًا عن العودة إلى التنعّم غير الهانئ. على الشعر، بالنسبة لي، مسؤولية في هذا بالضبط، أي في مواكبة من لم يتوقفوا عن التنفس نحو مساحة من عيش متجدد وممزق، وفي هذا يمكن للشعر أن يستعير من الحنين ومن التاريخ كما يمكن له أن يستعير من الوصف ومن الحاضر، ومن الأمل والمستقبل، ومن مخزون اللغات والتجارب ومن حروق الجسد ولذّات حواسّه، ما يمكن له أن يولّفه في نشيد ساخط وحانٍ معًا.

وإلّا فما تكون الكتابة بعد أن نعلن استحالة كل شيء، بما في ذلك استحالة الحداد واللغة والمستقبل غير وقوفٍ متكررٍ في ألمٍ مستعادٍ حتى الخَدَر؟

ع. ش: طبعًا هذا الموت الذي أتكلم عنه ليس جديدًا على البشرية، ولكن بعد كل موت من هذا النوع تتغير اللغة، تعتمل لتجد طريقًا يربطها بالمعاني الإنسانية والكونية ولتجد منطقًا جديدًا لتعريف هذه القيم. وهذا الاتصال وإعادة التعريف هو ما نبحث فيه. نزول الألفة ليس أسطرة للحظات الموت بل عكسها تمامًا، محاولة للقول إنه لا يمكننا أن نتوقف كثيرًا عنده لأنه موت عابر رغم فجاعته وهوله، ولهذا كنت أدعوهم للنزول بسرعة محاولًا استبيان كيف يحوِّل الموت هذا الذين قضوا وإلى ماذا يحوّلهم دون أن أستطيع التقاط هذا التحول، وجدتهم يعودون إلى العضوي ووجدت أن لغتي تقيم في استحالة صنع معنى وصدى لهذا الموت ولهذا أقول إن أسطرتهم فشلت.

أنا أتكلم عن الشعر بكل ما يحمل، والسؤال هنا عن ماذا نقول في الشعر وكيف نقوله. هل ما زال باستطاعتنا التغنّي بالجمال على النحو الذي ألفناه سابقًا؟ فالموت قتلًا أو طبيعيًا يبدو موتًا عاديًا، والأبنية الأثرية باتت عبئًا إيكولوجيًا وماديًا ومحيطها يدفع كلفة عالية لاحتضانها، والأنهر في المدينة ملوثة، والطبيعة بكاملها تلفظ حيواتنا بازدراء وبصلف، والمدن الكبرى هي عبارة عن أكوم من البنى التحتية الهادرة، والحمام ينقل الأمراض، والأحصنة هي أدوات رياضة باذخة أو مطايا إستاتيكية والموسيقى باتت صنو العزلات في اليومي والمعيش.

في كل هذا ينتابني شعور أن التسلّح بقيم الحب والجمال المجرّدة لا يولد شعرًا يصمد ويقول، ولا أعتقد أن الاعتداد باستمرار قدرتنا على الغناء والحب هو المحرك هنا، هذا يشبه «لسه الأغاني ممكنة» ولا يفضي إلى قول مغاير في ما نحن عليه.

وبهذا أجدني أقول إنه لا يكفي أن نعيد التذكير ببديهية الحب، علينا إعادة تعريف الحب لنقيم الاتصال معه، لا يمكننا فقط التغني ببرهات الجسد المتعطر والمسترخي في السرير بانتظار المتع، المتع صعبة وتحقّقها معقد ومضن، نريد الشعر أن يتكلم عن طريقة الوصول وليس فقط عن التقاط المشهدية وأسطرة اللحظة. صناعة انطباع عن سيرنا في الشوارع وسماع الموسيقى والإحالات المتولدة من مرورنا أمام صروح تاريخية لا تكفيني وأنا أكتب الشعر. أشعر أن المشقّة هي بوابة للدخول إلى مكونات هذه اللحظة وديناميتها وأعبائها. فعندما نتغنى بصرح نصبه أحدهم في التاريخ نحن نقف كسياح أمامه اقتنصنا الفرص للإحساس بالوقت الفائض لأنّ أيامنا العادية هي أيام عمل وكدّ وغربة.

ليست الإشارة إلى الاستحالة دعوة لترك الشعر بل دعوة للبحث في اقتصاد هذه اللحظة، ألا ترى أن تداعيات هذه اللحظة على أجسادنا وأوقاتنا وهوياتنا وظلها المتعِب هي باب لإعادة التقاط الأحاسيس من خلالها؟

أيّ تغيير منشود لأيّ شعر؟

ف. ع: تتركني كلماتك مترددًا. كل من كتب شعرًا ادّعى أنه يأتي بجديدٍ ما في التقاط الأحاسيس أو في ابتكار اللغة. ولستُ أنا استثناءً في هذا. لكن ما دمنا قد أوضحنا أن الاستحالة ليست استحالة الكتابة، بل هي استحالة تكرار ما سبق، فعلينا ربما أن نغوص أكثر في القضية، أي تغيير منشود لأي شعر؟ الاعتراض وحده لا يكفي، رغم أنه الأكثر قدرة على إثارة الاعجاب والترحاب.

في رأيي، إن نجاح قصيدتك البديعة، أي قدرتها على إثارة المشاعر على اختلافاتها في قارئها، إنما هو دلالة على نجاحك في أسطرة العضوي. ليس من مجال في تقديري للفرار من ذلك: الكتابة الشعرية عدسة مكبّرة لما تلتقطه، وما تختزنه في كلماتٍ قليلة، وهذا بلا شك يحيل موضوعها إلى أسطورة: أسطورة الحب عند العذريين، أسطورة البطولة عند المتنبّي، أسطورة فلسطين عند [محمود] درويش، أسطورة العراق عند [بدر شاكر] السيّاب، أساطير لبنانية كثيرة (الجنوب، اليوميّ، سعيد عقل)، وصولًا إلى أسطرة الألم العراقي الحديث (كاظم خنجر). ربما كان اهتمامنا أنت وأنا بموضوع المقتلة السورية مثيرًا للتساؤل عن سبب غياب شعر سوري! وربما ليست الأسطرة بالسوء الذي ندّعيه.

لا مفرّ من الأثر المكبّر للشعر، ولا أحسب أن بمستطاع أفراد أن يعيدوا ابتكار وظيفة الشعر، وظيفته تتحدد اجتماعيًا وتاريخيًا وما آل إليه في عصرنا هو الأفق الذي نراه. فإذ أوافقك على أننا لا يمكن أن نركن إلى تعريفات موروثة للحب والموت والطبيعة والتاريخ والحداثة، غير أنني أشعر بأن البرنامج الذي تقترحه على الشعر غير متطابق مع قدراته ومجاله. على الشعر أن يظل فسحة لصناعة جمالية، وهذا أراه في قصيدتك نفسها، إعلاء العضوي، مخاطبة النازل إلى قبره، تقصّي أثر المقتلة في اللغة، كل هذه صناعات جمالية، جديدة لكنها تظل فسحة للوقوف خارج العادي واليوميّ والكدّ والسعي، لصناعة لحظة خارج الزمن، أو لحظة هي نفسها زمنها. لكن «نريد الشعر أن يتكلم عن طريقة الوصول» فهذا في رأيي خارج على منطق الشعر، التكثيفي، الذي يلتقط في قصيدة ما يحتاج إلى مجلدات من الكلام، ما يسائل اللغة عن طريقة الكلام نفسها ولا يتخذها مطيّة إستاتيكية.

في مثل هذا الشعر وهذا الزمن، لا مفرّ أيضاً من البحث ليس فقط عن تعريفات جديدة، بل أيضًا عن الأثر الذي نعيش في ظله، أثر الماضي وليس فقط الحاضر. التعريفات السابقة لا تنتهي ولا تختفي بل تستمر في إلقاء ألوانها على عيشنا وأجسادنا وأحلامنا. الشعر أيضًا تقصي كل ذلك في الحاضر وفي المخيلة. برأيي إن افتراض قطيعة ناجزة مستحيل، لغويًا (لحمولة اللغة المستمرة) وجسديًا (لتربية الجسد المترسخة) وخيالًا (لتأثير الماضي والمعروف والمُشتهى والمُكبّر مسبقاً عليه). أخيرًا، في حسباني وبعد الانحسار القديم لشعر الخطابات، فإن الشعر أيضًا من أشغال القسوة والعزلات كالموسيقى، أي أن عليه أن ينحت في جبل العيش مغارات صغيرة، خلايا مفرّغة، كي يستطيع الشاعر والقارئ أن يتنفسا فيها، حرفيًا أن يلتقطا أنفاسهما. لهذه المغارات ربما أسماء كثيرة: الحب، الجمال، البهت، الطرب، الصداقة، الحداد... حفاوة كل قصيدة بإحداها هي إعادة نحت لها.

في المحصلة، يبدو لي أن الشعر كالعيش طبقات كثيرة وعليه أن يعكس، في كثرته (ولهذا أحب فكرة الديوان فوق فكرة القصيدة أو مجموعاتها) هذه الطبقات: تقصّي آثار العنف في الصمت وفي الصوت، تقصي آثار التاريخ في الحاضر وفي الخيال، تقصي آثار الأفكار في الأجساد والمشاعر، الدفاع عن خُبرات اللغة وعن خبرات المرء (وما افترضته أنت في مطلع النقاش أنه من طبيعة البشر، أي البحث عن الوئام والمودّة والألفة) وعما لا يرغب في أن يراه ناقصًا عند رحيله، نحت الكلام المقبل (لا الصراخ الأبكم) والإيقاع المقبل للتنفس ـ ولم لا للجمال! ـ في عالم ينهار ولا ينقصه الروائيون ومنظّرو الاجتماع والساسة وتجّار الهتافات والأديان محترفو الصراخ والتكرار. ولستُ أحسب أننا بعيدان في المنظور، لكن ما أدراني؟

bid36_p169.jpg

شمس الدين، علي، نزول الألفة، دار النهضة العربية، بيروت، ٢٠٢٢، ٢٧ صفحة.

شمس الدين، علي، نزول الألفة، دار النهضة العربية، بيروت، ٢٠٢٢، ٢٧ صفحة.

الأسطرة والشعر

ع. ش: أثرت الكثير من النقاط الهامة هنا وفيها، ما أوافقك عليه وما لي فيها رأي مغاير.

كتابة الشعر هي محاولة قول شيء يخرج من ذاتية ما، وبهذا هو محاولة لتناول العالم أو لحظة منه بطريقة مغايرة. وهو تبعًا لهذا اعتراض دائم لتأسيس إمكانية قول مغاير، وفي المغايرة هذه يُعيد الشعر إنتاج أنساقه واختلافاتها. والأسطرة، وقد توقفنا عندها طويلًا، ليست كل الشعر إنما هي إحدى خصائصه، واعتراضي على إعلاء الأسطرة في الشعر يضمر رفضًا مني لاستعمالها كبناء كليّ دائم وكملجأ للشاعر في صناعة الجمال في قصيدته (انا أؤسطر إذًا أنا أكتب الشعر، إذًا أنا أصنع الجمال). وهذا الرفض يأتي من رؤيتي لفداحة الراهن الممتدّ ولانتفاء قدرة الأسطرة على إنتاج التقاط واقعي للمعيش، ما يبقيها إستاتيكية، غناء، وخارج الواقع، متحفية وبعيدة عن وطأة اليومي الذي يدفعنا كل يوم لنفسره في فداحة التحولات التي تعيشها حواسنا وأجسادنا.

وهذا بالظبط ما أعترض عليه، إذ أحسب أن الشعر الذي يتوسل الأسطرة كمنطلق كلّي يتحول إلى فن أكاديمي متكلف بعيد عن اللحظة. فأسطرة العضوي كما تحب أن تصف «نزول الألفة» هي أسطرة سلبية. أو بمعنى آخر، هي محاولة بحث عن أثر وشكل ومعنى لتكبيره. ولكنها محاولة فشلت، فصار النص على تماس مع الوصول إلى العدم في اللغة وهو شعور مربك، إذا ما كنت تستيقظ كل يوم لتذهب إلى عملك وتتسلح بالأمل لكي يحظى من تحبهم بمستقبل جيّد. ولهذا كانت النصوص الأولى في الكتاب بعد عشر سنوات من نصوص الألفة تقف عند هذا التحول لتتحسس النسيان، إذ بدا لي أن النسيان هو ما يغلفنا بعيدًا عن التعريف الأكاديمي للشعر ولأهدافه وأدواره.

وافتراقي عن نظرتك هذه مردّه شعوري أن هذا التعريف يقيم في كنف تمثيل ثابت لقيم تتغير، ولزمن جديد ليس له أي تعريف ناجز. وبرأيي، على الشعر أن يُنصت للتغيير ويقول ما يرى بدلًا من أن يتنبأ. هذا بالرغم من أن الأسطرة هي إحدى خصائصه، وهذا بزعمي، باب من أبواب الاستحالة.

ليس ما تقدم تبخيسًا مني بالشعر بوصفه أداة اعتراض وبوح، بل إشارة إلى التغيير الحاصل لمستوى الأحاسيس وارتباطها بالقيم الكونية، أي إلى تغيير المساحة الفاصلة بين الكوني وكيفية الوصول إليه. وهذا ما أعنيه بـ«باقتصاد اللحظة». فتناول الشعر كعمل نقيّ ومستقلّ تبعًا لمنطق ثقافي داخلي خاص به، هو ما أراه مناقضًا لمنطق الشعر وتطوره. في الخراب لا شيء يبقى من معان فقدت رفعتها، ومن أشكال وأطر تهدمت. وعليه، فإن أي عمل «جميل» برأيي ملزم بأن يتناسق مع اللحظة – أن تكون في مركب نوح لن يمكنك التغني بجمالية الطوفان بل يمكنك أن تتكلم عن الرعب من الغرق أو اليأس أو الصلاة.

وبالتالي فإن الإبقاء على اسم القيمة في تناولنا لها لا يعرفها في جديدها، إن كان انقطاعًا أم تحولًا، أم استمرارية بشكل آخر، ولا يولّد أي اكتشاف للحظة، بل يصنع النوستالجيا بما هي تدوير استخدام المواضيع بشكل تداولي بناءً على تصور مسبق ومثبت. أظن أن علينا أن نسائل موضوعاتنا ونعاين ما طرأ عليها أولًا، وهذا ما أعنيه بطريق الوصول. ما هو الحب في هذا الزمن؟ وما هو الجسم؟ ما هو الوقت، وما هو الموت؟ ما كل هذا الذي نريد للشعر أن يلتقطه وكيف وأين نلتقطه؟ وهذه أسئلة ترافقنا نحن البشر منذ زمن، غير أن تصدّي الشعر لها، وما يصير الشعر معها وما يقوله من خلال ذلك يختلف باختلاف الأزمنة، وبالتالي تعريفها يصبح مختلفًا. (شعراء الجاهلية، أبو نواس، الحمداني، المتنبي) وبالتالي فإن الشعر لا يغيره ولا يحدده المجتمع، بل من يكتبه. وفي هذا أقول إن كتابة الشعر في الراهن ليست منطلقًا من تعريفه بالدرجة الأولى كما تقول كوسيلة فنية، بل أكثر كأداة قول ومحادثات وتواصل، أي في وضعيته كنقطة عمليات منطقية تعتمل في حقل مصطلحات ثقافية طارئة، تلغي الحدود التي تفصل بين النقدي والخلاّق. وبهذا فإن طبيعة الشعر تتغير، وتتغير تبعًا لتغيرها عملية النقد وماهيته. وعليه تصبح الثقافة التي يتصل فيها هذا الشعر طورًا أو يشكل مندرجاتها طورًا آخر، هي عبارة عن حزم من التحديدات لتناقضات الواقع واستحالاته.

ومن هذه التناقضات أريد العودة إلى لحظة الراهن والانطلاق منها في كتابة الشعر. هذه اللحظة التقنية بامتياز في جديدها، أي في اعتمالها في عنف يقيم بين حدي ليس الآن، واستحالة حدوث ما نريد. هذه اللحظة هي لحظة أجسامنا في الحب وفي الجنس والمتع والصفاء والخوف من المجهول، وما يترتب علينا من معاينة أنفسنا في هذا اللاتحقق، حيث يحدث الكثير ونجد أنفسنا مكبّلين بلحظة انقضاء، دون أن نعي ما حدث، أي أنها تأسرنا في ما قبلها وما بعدها وتضعنا في منزلة النسيان الذي يعتمل بين لحظة تأجيل الفعل والصحو بعد الحدث.

وهنا أودّ القول إن شعر الحداثة نزف كثيرًا من نقطة انطلاقه إلى المعاصرة المتمددة، حيث أصبح يعتمل في لا توازن كبير بين نقطتي التوتر اللتين يقيم فيهما عادة، أي بين الشاعر وموضوعه وبين الشاعر وقارئه. فالعلاقة بين الشاعر والقراء ذوت كثيرًا، ووجد الشاعر نفسه ينشغل بمادته في قلق مبالغ، مع ركون مطبق إلى ثلاثية الأسطرة والميثولوجيا والنبوءة، أي إلى جعل النص نصًا تبشيريًا مدّعيًا تعريفاتٍ جديدة للقيم، وسط طوفان يأخذه ويأخذ اللغة إلى مجاهل جديدة، ويدعم نصه بصور انطباعية خارج الواقع، ولكن لقرّاء غير موجودين، أو لنقل لقراء أخذتهم التقانة إلى مكان آخر.

ومن هنا أود ملاقاتك في ملاحظتك عن مقترحات الشعر السوري وعلاقته بالمقتلة، إذ أظن أن تساؤلك مهم ومصيب، ولكني أظن أن حدوث المقتلة في لحظة الراهن التقنية هذه بدد إمكانية أسطرة الموت هذا. فكما أشرت سابقًا، أظن أن الانهيار في بنائنا الثقافي وانكشاف موروثنا على خوائه لم يعد يستطيع أن يؤسس للحظة متينة تحمل الأسطرة وترفعها لتقاوم امتحان الزمن-الطوفان، وبهذا يجد الأحياء السوريون أنفسهم يقيمون في النسيان وفي الجانب المعتم من اللحظة التي لا يخرج منها صوت. وبالتالي فإن خلوّ الشعر السوري من أسطرة المقتلة هو نتيجة واقعية لطبيعة اللحظة التي نعيشها، أي أنها لحظة استحالة أن تقول في المقتلة نسقًا مستلًا من الشعر الذي عرفناه في محنتنا العربية على مدى الثمانين سنة الماضية، أي من لغتك بمحاولاتها في الاختبارات التاريخية السابقة. السوريون لا يستطيعون أن يؤسطروا سورية كما فعل سعيد عقل بلبنانه ودرويش بفلسطينه، ولا أن يؤسطروا التجربة كما فعل سعدي يوسف، ولا أن يؤسطروا التاريخ واللغة كما فعل أدونيس، ولا أن يهربوا من الدم إلى أسطرة الجسد كما فعل أنسي الحاج. ويبدو أن هذا الشلل عميق إذ يبدو أنهم لم يستطيعوا إعمال بريختية الماغوط والانتقال بها إلى ما بعد المقتلة. أي أنهم وجدوا أنفسهم بلا سورية. المقتلة كانت نقطة مكاشفة ومصارحة، نبّهتهم إلى أنهم أقاموا لعقود في اللاشيء والآن يقيمون في اللامعنى. ومن هذا الباب أجد نفسي سوريًا هنا، أي إني أتشارك معهم في العجز هذا، والإقامة معهم في مسار التحول مما كنت تظنه يومًا وطنًا وهوية، إلى الانسلاخ الكلي دون إمكانية أسطرته أو إعلائه، ولانتفائه عنك في حاضرك ومستقبلك. ومن هنا كان سؤالي لك سابقًا ما الذي نحمله معنا وما الذي ندفنه؟

ومن هنا يبدو لي التقاط اللحظة بواقعية هو ما يمكنني فعله، دون اللجوء إلى تعاريف كونية للقيم، أو للقول إني أصنع الجمال لأن الرمزي والمتخيل «مرتجّان» بفعل الانهيار في مستويات تعريفنا لأنفسنا وماضينا وانهيار موروثنا وثقافتنا. هذا بالإضافة إلى إقامتنا في لحظة تقانة سحبتنا من العالم الذي كنا نعرفه، أو كما يستنتج صديقنا بلال خبيز من «العالم وهو يهجرنا». وبذلك لا أرى في الشعر متنًا يمكنني البناء عليه إلا عبر الواقعي ومحاولة قراءته باستكشاف لا بنبوءة، وهذا أيضًا ممر شائك، لأن هذا الواقع هو أيضًا مؤسطر وملغّز بفعل التقانة. وبالتالي يصبح الشعر في موضع ثقيل، أنؤسطر المؤسطر أم نقول ما نشاهده كمراقبين يتساءلون عن المعنى عوضا عن تعريف القيم؟

وفي كل هذا أجد أني أتكلم وأشير لما كتبته في «نزول الألفة» وفي كتابات لم أنشرها بعد. وهو ما ينبّهني إلى أنني أحيل هنا إلى نصوص لم تُقرأ بعد، وهي في مرحلة التحضير للنشر. ربما مع هذه النصوص الجديدة تصبح الصورة أوضح في كتابة الشعر انطلاقًا من الواقع لفهمه.

ثلاثية الأسطرة والميثولوجيا والنبوءة

ف.ع: ألحظ عددًا من المفارقات المثيرة للاهتمام في مداخلتك الأخيرة هذه، إذ يبدو لي أنك تربطني بتعريف أكاديمي للشعر لا أجد نفسي فيه لأنه يقيم «في كنفٍ ثابتٍ» على حد قولك، بل أجدني في ما كتبته في حوارنا هذا أقرب إليك في التساؤلات عما هو الحب والجسم والوقت والموت، وهو بحكم وجودي في الزمن تساؤل عن ماهيتها المتعيّنة في زمني ومن خلال تجربتي في البحث عما يسع الشعر قوله أو لا يسعه قوله (بحسب عنوان إحدى قصائدي) أو «ما كل هذا الذي نريد للشعر أن يلتقطه» بحسب قولك.

المفارقة الثانية أنك إذ تهاجم مُحقًا ثلاثية الأسطرة والميثولوجيا والنبوءة، أي «جعل النص نصًا تبشيريًا مدّعيًا تعريفاتٍ جديدة للقيم» لا تبدو لي مستعدًا للتخلي عن القيم، إذا اعتبرت أن إطلاق أسماء جديدة على القديم يستحق خطابًا نقديًا بهذا العمق، أو إذا كنت تعتبر أن تقديم تعريفات جديدة ليس في الحقيقة ابتكارًا لقيم جديدة. حين نعيد تعريف «الجمال» أو «الموت» فإننا نقدم، تحت الاسم نفسه، مسمّيات جديدة حتمًا، لكنها مسميات من خلال امتداد الاسم (أي من خلال اللغة التي لا نملك حديثًا ولا كتابة إلا بها) تدخل في حوار جدّي وعمليات فهم وإساءة فهم متعمدة وغير متعمدة مع الإرث الذي نودّ خلخلته والخروج منه إلى لحظة متناسقة مع زمننا.

المفارقة الثالثة ربما تنبع من أننا، أنت وأنا، نستعمل كلمة الأسطرة بمعانٍ مختلفة. بالنسبة لي، كل «تكبير» (بحسب المفردة التي استعملتها) لأي تفصيل هو أسطرة، أي هو رفع هذا التفصيل إلى مرتبة ما يستحق النظر إليه بمفرده. سواء كان درويش يتحدث عن الزيتون أو كان زياد الرحباني يتحدث عن الليمون أو كان سعيد عقل يتخيل صخرته الشاهقة. الأسطرة هي بهذا المعنى مختلفة جذريًا عن الميثولوجيا التي هي، على العكس، إدراج كل تفصيل في سردية كونية تسعى إلى ضمان فهمٍ له ولجذوره من خلال البنية الشاملة للسردية الكونية وهي بالتالي تغييب لهذا «التكبير». أما النبوءة الشعرية، بالنسبة لي، فمحض هذر يحاول إلقاء الهوامات الشخصية على الآخرين وكأنها استشراف التاريخ الآتي. بالمعنى الذي أقصده فإن الأسطرة منافية للنبوءة وللميثولوجيا، لكنها لا تنفصل عن عمل الشعر واللغة، إذ مادة الشعر هي المفردات، أي ما يفرد، وما يتم الإمساك به من معانٍ بواسطتها. لهذا لطالما (بعد سنوات المراهقة حتمًا) نفرتُ من الإنشاد الشعري، المطولات الغنائية التي تدّعي النبوءة أو التي ترسم ميثولوجيا، فمثل هذه المطولات هي التي تغطي دوماً سجون المعتقلات الشمولية وتغطي على صمت الحداد المطلوب بأهازيج تفرض معنى مسبقاً بدل أن ينبع المعنى من الصمت والتحلّق حول الجثة، بعبارة صديقنا وليد صادق. الأسطرة عندي لا تتطلب جهدًا شعريًا خاصًا، عدا جهد تفادي الوقوع في المثيولوجيا والنبوءة، هي تأثير حتمي للمفعول المكبّر للمفردات. لذا فاعتراضًا على اتهامك الضمني بتبني موقفٍ يقول «أنا أؤسطر إذًا أنا أكتب الشعر، إذًا أنا أصنع الجمال»، ربما أقول «أنا اكتب الشعر إذًا أنا أؤسطر، إذًا أنا أصنع ماهيةً للجمال، للجسم، للموت، للحب، متسائلًا عما يختزنه الصمت والبياض منهم».

أعتقد أن النقطة التي وصلنا إليها أخيرًا ترتبط بوظيفة الشعر نفسه، إذ حين ترفض أن يكون وسيلة فنية، أي حين تنفي تاريخ الشعر عن راهنيته، لست أدري ما الذي يبرر آنذاك كتابته كمحض انعكاس لـ«لحظة» الواقع، أو «التقاط الواقع» كما تقول إذ نعلم منذ زمن بعيد أن القصدية هي التي تشكّل وتحدد إمكانية التقاط الواقع نفسه، أي أن «الواقع في ذاته» غير موجود من دون تعاملي معه (بالتالي من دون التجربة والتاريخ واللغة) كذلك نعلم من [جيل] دولوز أن الواقع والافتراضي لا ينفصمان. لذا، ومع موافقتي لك على مشكلة انفصال الشاعر عن قرائه وهي مشكلة تتعلق بالمساحة المتاحة للفنون في حياة الناس أصلًا وبمشاكل الوسط الثقافي والنقد واستعمالات اللغة...الخ، إلا أنني لا أستطيع القول بأن هدف الشعر هو أن يكون «كأداة قول ومحادثات وتواصل». الناس لا ينتظرون الشعراء كي يتواصلوا، ولا يتحادثون بالشعر إلا في وصفه اختزالًا لحكمة أو بالضبط «أسطرة» لتجربة.

في رأيي إن وظيفة الشعر، بعد أن تخلينا عن تجارب كاذبة في تفجير اللغة وعن تجارب التأتأة والايقاعات الفارغة (التي انتقلت إلى الراب ربما)، متعددة الأطر: محاولة الإمساك بواقع متغيّر عبر اللغة المثقلة بتاريخها أي تسليط حياة الشاعر على الكلمات لمحاولة انتزاع معنى جديد منها، محاولة الدفاع عن اللغة نفسها ـ أي عما اختزنته من إمساك بوقائع سابقة تبرّر إمكانية الاستمرار في استخدامها لئلا تموت في لامبالاة عارمة، محاولة الخروج من الحياة بـ«عالمٍ لا يكون أفتقر» حين نغادره على ما عنونتُ احدى قصائدي أيضًا، ومحاولة اقتراح ما يمكن للفرد فيه (سواء الشاعر أو القارئ) أن يرى فيه مبرّرًا للحياة يتجاوز البقاء الغريزيّ. هذا الاقتراح ربما أسمّيه الجمال في وصف الجمال هو المعبر الأساسي، منذ سقراط، بين عالم الوقائع وعالم المجرّدات (سواء سمّيتها قيمًا أو أفكارًا) أو قد أسمّيه «الروعة» وهي على ما تعرف تجمع البديع الرائع بالمهول المروّع.

إذا عدنا إلى مثال سفينة نوح الذي ذكرته، لن يتغزل أحد، صادقًا، بجمالية الطوفان، لكن أي كتابة عن الرعب من الغرق أو اليأس، أي صلاة، لن تنفصل عن تاريخٍ فني علّم الناس كيف يكتبون وبأي نغمٍ يرددون صلاتهم، وإذا تخيلنا منشدًا حسن الصوت عليها، فربما تكون صلاته عندئذ مسموعةً ويكون لنا في روعة الغناء ملاذ أخير في مواجهة طوفان لا قدرة لنا على الوقوف في وجهه، مثلما يحلم كثيرون بموسيقى معشوقة ووجوه حبيبة ترافقهم في لحظاتهم الأخيرة.

التقاط الواقع

ع. ش: أود أن أختم أولًا بشكرك على اقتراح النقاش وعلى دفعنا للخوض في الحديث عن الشعر في زمن مازال هناك من الشعراء من يقيم في مقارنة بين العمودي والموزون والنثر. أحسب أنني في ما كتبته هنا أحاول القول إن الشعر الذي أعرفه والذي في مكان ما يختزن تجارب ثقافتنا وتاريخها كما قلت أنت لم يعد بالنسبة لي قادرًا، إذا ما أردت كتابة على أنساقه التي نعرفها، أن يصلني بما أريد قوله عن الراهن والمستقبل.

لدي إحساس عارم أن قدرة هذا الشعر واللغة التي تصنعه على الاستعادة والمؤالفة صارت ضعيفة، وأنا من هنا أبحث فيه عن مساحة قول في التغرّب والمفاجأة تلتقط هذا «الواقع» كمحاولة لتحيينه وللنظر إلى المستقبل. وهنا مفارقة أيضًا في هذا، إذ كما قلت أنت إن الشعر عادة ما ينظر إلى الراهن والماضي ويحاول أن يبني جيب تنفس لنا، إذ أوافقك على هذا غير إني أيضًا أشعر بأنّ تحيين اللحظة والقول في المستقبل هو ما ينقصه الشعر، ولكن أيضًا دون نبوة. وقد تبدو هذه مفارقة أخرى، إني أبحث هنا عن سبل كتابة الشعر في راهن يتمدد ويتغير بسرعة كبيرة، إذ تبدو أنها لحظة لا تلتئم. وفي هذا ما قد يبدو استحالة ويقيم في المفارقات التي ذكرت بعضًا منها. ومن هنا يخرج اعتراضي على الأسطرة والميثولوجيا والنبوة في الشعر. إذ إني اتفق معك في رؤيتك عن الميثولوجيا والنبوة غير أني مازلت أبحث في الأسطرة الشعرية، إذ أرى في ردك لها إلى تكبير للإضاءة بحاجة إلى نقاش أوسع أو ربما كتابة شعر يأخذ هذا التكبير إلى مكان آخر.

أوافقك في أن التكبير هو سمة الشعر غير أنني ما زلت أبحث عما أُكَبِر وعما أتجاوز هنا. وفي هذا أرى أن اليومي الضاغط هو في حد ذاته مكبر ومرمّز وبهذا الاستواء المضاعف للمعنى أظن أن كتابة الشعر يمكنها أن تكون أداة مخَففة للمحادثة والتواصل في هذا التعقيد، أداة يمكنها أن تقيم في الذي نعجز أن نقوله في اللحظة التي تفارقنا في عنفها وسرعتها، في نقطة انقضائها وتحولها، دون أن نتنعم بها، ولكننا عندما نقول هذا لا نكون أنبياء بل ربما مجرد مقتفي أثر. وسؤالي أو بحثي هنا ربما يضارع إمكانية أن نجد في الراهن «كما هو» أداة للتواصل والبوح تكون خارج اقتصاد التكبير الذي يبدو لك (ولي) في أصل الشعر.

العدد ٣٦ - ٢٠٢٣
محاورة فادي العبد الله وعلي شمس الدين

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.