العدد ٣٦ - ٢٠٢٣

طعم الحديد في فمي

لم أعد أذكر المكان أو في أيّ عامٍ بالتحديد كان ذلك، لكنّي أذكر الصوت المدوّي جيّدًا.

دخل صديقنا طارق في الثانوية علينا وصفق الطاولة بدفتر أسود.

نظرنا أنا وعلي إلى الدفتر، ثم نظرنا إليه بانتظار استفهام محتواه. ربما تكون هذه الحادثة قد وقعت بعد عام ١٩٩٥ حين منعت السلطة اللبنانية أيّ تداول بموسيقى «الميتال»، إثر ادّعائها أنّ تلك الموسيقى تدعو شباب لبنان إلى عبادة الشيطان والانتحار.

بعدما قرأ لنا طارق ما يحتويه الدفتر الأسود، قرّرنا السفر من بيروت، عاصمة الحرّية والانفتاح، إلى دمشق، مدينة الأسد الأب، المدينة حيث لا مفرّ من عينيه المعلّقتين فوق كلّ حائط.

ماذا تعني المراهقة بعد سنوات الحرب؟

«كروم» دمشق

في أيّام الثانويّة وبعد طفولة قضت بالحرب، كنّا، من دون أن ندري، قد انخرطنا في بحثٍ عن مفرداتٍ تناسب توصيف حالنا.

من أين لنا كلّ هذا الموت؟

كان ثمّة شيءٌ في موسيقى «الميتال» يفي بالإجابة عمّا لم يكن بإمكاننا أن نبوح به.

كانت أعمال إعادة تحطيم بيروت بالديناميت بدل القذائف ومسْح مخلّفات الحرب قد انتهت. أطلق رفيق الحريري وصحبُه أعمالَ إعادة الإعمار، لتبدأ المدينة إطلاق أصوات جديدة. اعتقدنا أنّ هدير آلات الحَفر وصرير صاروخ التلحيم أصواتٌ راهنة، لكنها سرعان ما أصبحت من مفرداتنا اليومية حتى يومنا هذا. في تلك الأيّام الزرقاء، كان خطرًا على النظام أن يتلفّظ جيلٌ صاعدٌ بكلمات تختلف عمّا يريده رجال الدولة الصاعدة: الإعمار، ثم صار كل شيء على ما يرام، ثم الإعمار.

أدخل رجالُ الحرب أجسامهم في بزّات العمل داخل البرلمان والوزارات واستملكوا المدينة، ثم قرّروا امتلاك كلّ ما نحمله في أجسادنا المراهقة من وشوم وكلمات ونوبات ذعر. جمعوا كلّ أنواع موسيقى الروك المشاغبة – «ميتال»، «پانك»، «غرانج» وحتّى «جون أيري بون جوفي» – في العلبة نفسها (أحيانًا، أتخيّل «بون جوفي» يتوسّل بوزير الداخلية اللبناني في وقتها لإخراجه من العلبة لأنّ أوزي أوزبرن يصرّ على تسميته «براين أدامز»). جمعوا الكلّ في هذه العلبة ودمغوها بمصطلحات مثل «تعاويذ شيطانية» فأصبحت جميعها موسيقى خطرة وشاذّة. كيف يمكن لأيّ مراهق مثلنا ألّا يرى في هذا انتصارًا له؟

لا أذكر شيئًا من الرحلة إلى سورية سوى مكان شراء الكاسيتات والقلق على الحدود اللبنانية- السورية ذهابًا وإيابًا. في طريقنا نحو دمشق، كان القلق يزيد بقدر حجم صورة الأب التي بدأت تكبر شيئًا فشيئًا طوال الرحلة؛ من بورتريه صغير معلّق أمام سائق التاكسي مثل أيقونة دينية، إلى صور ملصقة على زجاج سيارات متجهة معنا نحو سورية، ثم جداريات على حيطان معابر الحدود، وأخيرًا تماثيل ضخمة في ساحات دمشق.

نزلنا درجًا طويلاً ثم دخلنا مستودعًا واسعًا يحوي آلاف الكاسيتات. لم نعرف ما الذي كنا سنفعله أمام هذا العدد الكبير من الأغنيات، وما لبث أن خفّف الموظّفُ من حيرتنا وقال إنّ في المتجر صنفٌ من الكاسيتات اسمه «كروم» هو بجودةٍ أعلى من الكاسيت العادي، ثمّ أشار إلى عدد من الرفوف. أذكر كم كان الانصياع لإصبعه مريحًا. خرجنا من المتجر بعدما أخذنا ما طاب لنا ولمحتُ على زجاج المتجر ملصقًا كُتب عليه «يا أخي، ليس لدينا هاني شاكر».

إيابًا، كان الخوف كالعرق البارد لأنّ بحوزتنا عددًا لا يستهان به من المواد الخطرة والممنوعة. كاسيتات تحمل على ظهرها صورًا لشياطين وملائكة متحوّرة من كلّ شكل ودين. ولكي تزداد الأمور سوءًا، كان طارق ما زال يحمل معه الدفتر الأسود، وهو الدفتر الرسمي للمتجر الذي زرناه وفيه أسماء كلّ المخزون الموسيقي المتوفّر فيه، ومنها أسماء كلّ الفرق المغضوب عليها كما عدد كبير من الفرق غير المعروفة لدى وزارة الداخلية اللبنانية.

كنّا محظوظين عندما قررت الدولة أنّنا نحمل الشيطان كلّ يوم داخل كاسيتات الموسيقى التي نتناقلها بين صفوف المدرسة. كان لذلك أثر عميق في تعيين ما قد تحمله أغنيةٌ من خطورة. منْع موسيقى «الميتال» وأخواتها كان انتصارًا لنا وهزيمةً في آن؛ انتصار في إعلان الدولة أنّنا نحمل في ذوقنا ما هو أخطر من الدِّين والقانون، لكن هزيمة أيضًا لأنّ ذاك المنع كان بدايةَ طحن أيّ قدرة حقيقية على النطق لدى جيلٍ أمضى سنواته الأولى يستمع إلى انفجار قذيفة أو صراخ. حينها، أصبحت الأغنية سلاحنا فيما كان صوت المدينة سلاحهم.

شتوكهاوزن الضائع وكريستيان الصامت

كان غاضبًا من كلّ شيء. يحرّك فكّه الأسفل يمنةً ويسرة بينما يراقب حركة السيارات التي تمرّ بجانب المقهى في آخر النهار. في كلّ فيلم أصنعه، أضع صوت سيارات مشابهًا لتلك التي كانت تمرّ بجانب كرسيّه، ربّما لأنها من الأصوات الدافئة القليلة التي أعطتني إياها المدينة، أو ربّما لأنني أريد الجلوس بجانبه، بطريقةٍ ما. جلس في المقهى محاطًا بالشبّان يحدّثني كيف التقى بكريس ماركر وجوريس إيفانس في باريس وكيف ضرب مؤلّفي كتاب «دفاتر باريس» خلال شجار حول ماو تسي تونغ. حين حاولت معرفة سبب تخلّيه عن تروتسكي قال: أتعلم ما هي الثورة الدائمة؟ إنها الشمس!

من وقتٍ إلى آخر، كان كريستيان يحرّك فكّه الأسفل يمينًا ثم يسارًا لكي يعيد وجبة أسنانه إلى مكانها. يتنقّل لسانُه ببطء في فمه وتُمسك يدُه بجمجمته. لكنّ شيئًا ما في عينيه كان يتحرّى عن أمورٍ أكثر خطورة، كما لو أنّ انفلات الوجبة من فكّه كان يذكّره بانفلات الزمن من حياته: بعد حصار بيروت عام ١٩٨٢، قرّر التوقف عن صنع الأفلام ثم التوقف عن العمل والجلوس في المقهى بعدما حرق شبّانٌ مرتزقة كلّ أفلامه وكتبه عام ١٩٨٦.

عام ٢٠٠٢، قرّر الوزير الياس المرّ الذي ورث وزارة الداخلية من أبيه الوزير ميشال، شنّ حملة ثانية على «الميتال» في لبنان. توجهتُ مرّة أخرى إلى سورية التي ورث رئاستها بشار الأسد من والده حافظ. لم أبحث هذه المرّة عن الملائكة والشياطين، بل ذهبتُ مع صديقي رائد من أجل كريستيان. بعد انتظار ستة أشهر، هاتفَنا صديقُنا باسل من سورية لينبئنا أنه وجد نسخةً قد تكون الوحيدة المتبقية من فيلم كريستيان غازي «مئة وجه ليوم واحد» ترقد في أرشيف المؤسسة العامة للسينما في سورية. عُرض الفيلم في دمشق ضمن مهرجان السينما البديلة عام ١٩٧٢ ثمّ أصدرت السلطة السورية قرارًا بمصادرته ومنع عرضه وتوزيعه ليختفي بعدها. فيلم شيوعي خطر، هكذا، وببساطة انتهت حياة ما قد يكون أهمّ عمل طليعي سياسي في السينما العربيّة. وقفنا في استوديو «المؤسسة العامة للسينما» أمام آلة نقل الأفلام لنشهد على عمليّة نقل فيلم كريستيان غازي الوحيد من النسخة السينمائية إلى شريط فيديو.

بدأت الأسماء تظهر على الشاشة ونحن في انتظار اسم واحد: شتوكهاوزن. لقد أخبرنا كريستيان أنّه كان صديقه وقد طلب منه استخدام قطعة «همنن». لكن حين ظهر اسم شتوكهاوزن تنبّهنا أن لا إمكانيّة لسماع صوت الفيلم وأنّ كلّ ما باستطاعتنا فعله هو التحديق بإبرة ماكينة الصوت للتأكّد من حُسن عملية نقل الصوت.

صورة الأب وابنه فوقنا ونحن نشاهد أهمّ تجربة صوت في السينما العربيّة بصمت. لم يكن باستطاعتنا المطالبة بشيء، فنحن بالكاد كنّا نصدّق أنّنا نحصل على نسخةٍ من الفيلم المحجوز الذي وُجد مقبورًا بين الغبار أسفلَ قاعة الأرشيف. هكذا كان حالنا دائمًا مع تاريخٍ يبعد عنّا بضعة عقود لكن مغيّبٌ كأنّه من العصور الغابرة. نبحث عن موسيقانا وأفلامنا كمنقّبي الآثار وننقلها مثل اللصوص. نسرق تأريخَ سرقةِ التاريخ.

عندما أحضرنا الفيلم معنا إلى بيروت جلس كريستيان يشاهده للمرة الأولى منذ ١٩٧٢، ويحرّك فكّه يمنةً ويسرة. ترى ماذا تَذكّر عندما نظر إلى تلك الصور بعد ثلاثين عامًا؟ انتهى العرض ولم يقل شيئًا. يحرّك فكّه الأسفل يمنةً ويسرة بإيقاعٍ يشبه حركة السيارات التي تمرّ بجانب المقهى في آخر النهار. ربّما لهذا السبب لا يمكنني إلّا أن أضع صوت تلك السيارات في كل فيلم أصنعه، ربما أحاول دائمًا العودة إلى فكّيه.

رائحة الحديد الصدئ

في ليلةٍ من ليالي تمّوز/يوليو ٢٠٠٦، شققتُ النافذة قليلاً ووضعتُ على زجاجها ظفرَ أصبعي الذي لم أقصّ منذ أشهر. قوّصت ظهري قليلاً كي تقترب أذني من شقّ النافذة ومن ظفري. تحسّستُ الزجاج لأقارن بين صوت سقوط الصواريخ الإسرائيلية على ضاحية المدينة والذي يتسلّل من شقّ النافذة وصوت ارتجاج الزجاج على ظفري الفامبيريّ.

أصل كلمة صاروخ بالعربيّة هو صراخ، والعامّة كانت تسمّي مزمار القصب العالي الصوت «الصاروخة»، والصاروخ يحمل صراخًا قبل سقوطه وصراخًا آخرَ بعده. آلة تلحيم الحديد التي احتلّ صريرُها المدينة بعد كلّ حرب تسمّى صاروخًا أيضًا. هكذا نحن في هذه المدينة، نتنقّل من صاروخ إلى آخر ونحمل صراخنا معنا.

جررتُ بيدي الأخرى النافذة الزجاجيّة بأكملها، ووقفتُ أمام النافذة المفتوحة عاري الصدر أشتمّ رائحة الأصوات الهدّامة. في لحظات كهذه، عندما تشتدّ ليلاً أصوات القذائف، أو المفرقعات أو الموسيقى في حفل سفلي شاذ، يشتدّ عمى الألوان في عيوني. في تلك الليلة، أصبحت بيروت تلالاً رمادية والصواريخ صارت ثلجًا يهبط من دون هدوئه المعتاد ويلمع على الأرض.

بعد ليلة تمّوز تلك، صارت بيروت مدينة نظامية تستيقظ على نعيق صواريخ الحديد يعلو صوتها طوال النهار مطاردًا سكّانها من كلّ شارع نحو البحر أو المطار. لم يكن باستطاعتي الترجّل فيها من دون بعض السموم في عروقي. وحين تصمت المدينة قليلاً ارتيابًا من لحظات قلق سياسي، تنفجر فيها سيّارةٌ من شدّة الضجر.

في الليل تظهر مدينة أخرى. يسكنها الذين سرق العمل نومهم. يعودون إلى منازلهم محمّلين بالتعب والشتائم، يتلمّسون طريقهم بنور اللوحات الإعلانية الوهّاج إذ يسقط على زفت الطريق.

في كلّ هذا الرماد، قررتُ بناء حديقتي. هنا أضع الكاميرا بجانب الطريق، أسجّل تحركات الأجسام و ظلالها.

كيف يمكن للكاميرا أن ترى ما أراه؟ أحوّر ميكانيكيّة التسجيل نحو تقنيّة الـslow shutter speed فتبدو حركةُ الأجسام متقطّعة كما لو أنّ صدعًا يخلق بين اللحظة والأخرى. بين كلّ صورة وأخرى صدع disjoints يفكّك الزمن في مدينة الأطياف الرماديّة.

كيف يمكن للسينما محاربة الوقت؟ هل لهذا الوسيط الممتلئ بالزمان القدرة على مقاومة ثقل كل لحظة؟ بصدعٍ يليه صدع. بعد أيّام من التسجيل، تراكمت الصدوع وصارت جسمًا أفقيًّا من الغياب. مساحة مفتوحة من الظلام تصلح أن تكون حديقة ليليّة كتلك الحدائق العامّة التي كنّا نزورها أنا وصديقي رائد في آخر الليل. دعوتُ ريّا إلى التصوير وطلبتُ منها الغناء خلف الكاميرا بينما يدور التسجيل، كان عليها أن تكون حاضرة في لحظة خلف الحديقة لمنحها رائحةً تليق بها. تسجّل الكاميرا كلّ هذا الغياب، ريّا تسقينا البوب والبوست بانك وأنا أتذوّق الدمَ الفاسد في ثلاثة أفلامٍ وسخة أمام كلّ هذا الضجيج.

ماذا أضع في فمي؟

أليس جميلاً حين يقوم موظّف بيروقراطي بتمتمة أغنيةٍ ما بينما يمارس عمله المقيت؟ ينشل نفسه من الموت اليومي بالقليل من جورج وسّوف؟ ينتظم الكثيرُ ممّا قيل عن الفن كفعل مقاومة في حركة الشفاه تلك. في لهو الموظّف كرغبة انتقاميّة من الدولة.

عندما تنظر ممثّلة إلى الكاميرا وتبدأ بالغناء، تخلع السينما عنها رداء الحكواتي لتعود راقصة تعرّ. يتحرّر الممثّل من عمله كوسيط للرغبات ليصبح هو الرغبة بالمعنى الأيروسي والسياسي.

عليَّ أن أكون أكثر دقّةً في تشخيص هذا التلامس.

في فيلم «أرض مجهولة» (٢٠٠٥) للمخرج غسّان سلهب، يلعب الكاتب والفنّان اللبناني وليد صادق دور المهندس نديم الذي يُعيد بناء المدينة التي يعيش فيها بشكل افتراضي على شاشة الحاسوب. في معظم الفيلم، نشاهد شبح وليد صادق يتصنّع أنّه نديم الغافل عنه وجودُنا كجمهور، إلّا أنه في مشهدٍ وحيد يجلس داخل بارٍ بجانب صديق، ينظر إلى الكاميرا ويغنّي وصلة هزليّة ساخرة من أغنية وطنيّة. يمكن في هذه اللحظة رؤية شبح وليد يتحدّى سلطويّة السرد ليخرق بنظرته الشاشة من دون نديم الغافل ويحدّق في عيوننا، جاعلاً منّا أشباحًا. في هذا التحدّي العفريتيّ للسرد الفيلمي وللوطنية، يفضح المخرج غسان سلهب والمؤدّي وليد صادق السمات المخفية للوجه في السينما كمساحة سياسيّة يحتكّ فيها النص الفيلميّ مع التمرّد الطيفي.

بعد ثلاثة أفلام رماديّة رمليّة متّسخة ضدّ كلّ هذا الضجيج، قرّرتُ الابتعاد عن التجريب غير القصصي لصناعة أفلام غنائيّة سرديّة بدءًا بفيلم من بطولة زياد شكرون وساندي شمعون يجتمع فيه الاثنان ضمن مشاهد غنائيّة شبه عجائبيّة. أردتُ للغناء أن يكون لحظةَ إعلان حبّ تبدو كسقوطٍ للأبديّة في الزمن، كما يصنّفها ألان باديو في كتابه «في مديح الحب»، بشكل مشابه للحظات النشوة عند المشاركة في فعل سياسي ثوري. تتغلّب الشخصيات على مؤامرات يُحيكها واقعهما ضدّ حياتهما من خلال الغناء والحبّ كشذرات معجزات سياسية.

مشيتُ في أنحاء المدينة ليلاً نهارًا أختلس المشاهد في كلّ مكان، وصرتُ أرى زياد وساندي في كلّ بارٍ أدخله، أسمع صوتهما في كلّ أغنية حبّ- حتى في الأغاني المسيحية الرديئة التي أحبّ سماعها حين أقود ليلاً- وأرى جسمَيهما يتعانقان داخل كلّ سيّارة تمرّ في التغييرات الضوئية لأنفاق بيروت.

في ظهر يوم صيفي حارّ، وبينما كنت أنتظر مرور سيارة أجرة على زاوية الطريق، نظرتُ عاليًا نحو لوحة إعلانية عن مبيد حشرات وصراصير. من شدّة الحرّ، تصبّب العرق على جبيني وبدأ ينزل إلى عيوني فأحسستُ بغشاوةٍ أفقدتني القليل من البصر. حينها، ظهر وجه زياد على اللوحة بابتسامته الملائكيّة، وفتح فمه مغنّيًا «حلف القمر» لجورج وسّوف. بدأتُ بدوري أتمتم الأغنية بنفسٍ لاهث، فمرّت شاحنة بيضاء ضخمة من أمامي وأطلقت بوقًا حادًّا مزّق أذني اليسرى كالزجاج مثلما مزّق ضوءُ مصابيحها عينيّ. من شدة الألم، وضعتُ يدي على أذني واليدَ الأخرى على الأرض وركعتُ باكيًا خوفًا من فقدان السمع بسبب حدّة الصوت.

ظلّت أذني تئنّ لأسبوعٍ كامل. وحين هدأت، وكي يزول عنّي الخوف، قرّرتُ ألّا أخرج من البيت خلال النهار من دون وضع سدّادات أذن. اكتشفتُ حينها أنّ صمّ الآذان يسبّب انخفاض شدّة حرّ الصيف، وأنّ الغلاف في أذني لا يحميني فقط من صوت المدينة بل من عنفها الأمني أيضًا. منذ ذلك اليوم، لم تنفجر أيّ سيارة في بيروت.

بدأتُ أيضًا أسمع دعسات قدمي على الطرقات وهي تمرّ في جسدي من الحذاء صعودًا إلى السدّادات حتى في أكثر الأحياء ضجيجًا، ممّا جعل تخيّل موسيقى فيلمي الجديد مسليًّا مع نبضات إلكترونيّة متكرّرة كالتي أصنعها مع كلّ دعسة، ومازحت نفسي وصرتُ أفكّر أنّ المدينة توافقني على قرار تأليف نسخ «سينث بوب» للفيلم من موسيقى جورج وسّوف ومنى مرعشلي.

اكتملت النسخة الأولى من سيناريو الفيلم، وما إن كاد العمل يبدأ مع الموسيقيين على تأليف الموسيقى حتى توالت الأحداث بين ٢٠١٩ و٢٠٢٠ وتوقّف العمل، إلّا أنّ الهتافات التي غلّفت التظاهرات أظهرت أنّ شيئًا في الغناء لا بدّ منه، واستمررت في رؤية زياد وساندي يغنّيان ويقعان في الغرام في كلّ مكان.

في ٤ آب/ أغسطس ٢٠٢٠، سقط لوح زجاج على جسد زياد فمزّق ظهره، ودخل صوت إلى كلّ بيت من بيوت بيروت أخرس الجميع. منذ ذلك المغيب، وكلّما ظهر في مخيّلتي مشهدٌ من الفيلم، أرى زياد وساندي يقفان أمامي جنبًا إلى جنب من دون حركة. تفتح ساندي فمها من دون أن يخرج منه صوت، ثم تمدّ يدها لتمسك يد زياد الذي يفتح فمه من دون لسان داخله. يقفان على أسفلت أسود أحرقته أشعّة الشمس مع ثقبين أسودين في وجهيهما بدل الفمّ. يبدو الثقبان مثل عينين والزفتُ يرسم فمًا أفقيًّا محروقًا، ينظر إليّ هذا الوجه الجديد منتظرًا أغنية.

وينتظر.

العدد ٣٦ - ٢٠٢٣

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.