العدد ٢٢ - ٢٠١٩

ردّاً على ليلى الداخلي

فرادة تونس لا تنفي انتماءها العربي

النسخة الورقية

فشل مراجعة ليلى الداخلي لكتاب تونس: فرادة عربيّة في أن تشير ولو إشارة خجولةً إلى اعتمادها على قراءةٍ شاملة ودقيقة للكتاب. فهي بدلاً من ذلك تشي بقراءة عفويّة أو قراءة خاطئة مغرضة. ويتمثّل تأكيد الداخلي الفاضح أكثر من غيره في قولها إنّ خلاصةً أساسيّة من الكتاب تفيد بأنّ سائر العالم العربيّ محكومٌ عليه بمستقبلٍ من القهر لأنّه لا يشاطر تونس وضعها، وإنّ تفسير الكتاب للديمقراطيّة التونسيّة يكمن في أنّها ليست عربيّة بالكامل، ما يجعل افتراض أن العالم العربيّ لا يستطيع تحقيق الديمقراطيّة افتراضاً سليماً. هذا الاستنتاج السطحيّ والمضلِّل في شكل خطير يجانب الفكرة الأساسيّة من وراء الكتاب: أنّ تونس توفّر إلهاماً لباقي العالم العربيّ وتقدّم دروساً قيّمة حول أهمّيّة أدوار التعليم والمجتمع المدنيّ والتمسّك بالمبادئ الدستوريّة وحقوق المرأة والاعتدال في الدين في مساعدة المجتمعات على التحوّل نحو الديمقراطيّة. فهذه المكوِّنات مفقودةٌ في شكلٍ مروّع في باقي العالم العربيّ، ما يجعل من تونس الحالة الاستثنائيّة التي هي عليها. يجادل الكتاب بأنّ استثنائيّة تونس متجذّرة بعمق في تقاليد تعود إلى القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وتشمل التمسّك بالمبادئ الدستوريّة، والتعليم العلمانيّ، والعقلانيّة، وهي مبادئ استفادت من قيادةٍ سياسيّة وفكريّة مستنيرة، خلال فترة الاستقلال الذاتيّ في ظلّ الإمبراطوريّة العثمانيّة ثمّ الاستعمار الفرنسيّ. ووسّع الحبيب بورقيبة، على الرغم من طُرُقِه الأوتوقراطيّة، هذه الإصلاحات - ولاسيّما في مجالات التعليم وحقوق المرأة والدين. وتونس ديمقراطيّةٌ اليوم، وسائر العالم العربيّ ليس كذلك، وهذا يرجع إلى هذه الاستثنائيّة، وليس إلى الادعاء المنافي للعقل الذي تُدلي به الداخلي بأنّ الكتاب يقول - وهو لا يفعل، لا مباشرةً ولا في شكلٍ غير مباشر - إنّ تونس ديمقراطيّة لأنّها ليست «عربيّة» وإنّ العالم العربيّ لا يستطيع بالتالي التوصّل إلى الديمقراطيّة. وجرى تعليم التونسيّين التفكير النقديّوالنقاش، وهناك مجتمع مدنيّ نابضٌ بالحياة أدّى دوراً رئيسيّاً في صون المكاسب الديمقراطيّة، واعتمدت البلاد دستوراً تقدميّاً خالياً من الشريعة ويحمي حرّيّة الضمير، وتُعتبَر النساء جزءاً نشطاً من المجتمع منذ عقود، وهنّ يتمتّعن بحقوقٍ أكبر بكثير من نظيراتهنّ العربيّات، ولطالما كانت تونس دولة علمانيّة، حيث يوجد دور معتدلٌ وخاصّ للدِّين في المجتمع. كذلك ساعد غياب الطائفيّة، أو الجيش الكبير، أو التدخّل الأجنبيّ، أو لعنة الموارد، تونس في سلوكها نحو طريق الديمقراطيّة. والكتاب مكرَّسٌ كلّيّاً للتعرّف على قوّة العوامل التي منحت الديمقراطيّة التونسيّة قوةً ولتأطير استثنائيّتها حولها، في الوقت الذي يُظهِر فيه بدقّة ندرةَ هذه العوامل في باقي العالم العربي (التعليم: الصفحات ١٣، ١٤٦ - ١٥٠، ١٥٩ - ١٦٠،٢٤٨، ٢٥٩ - ٢٧٩، ٢٨٨ - ٢٩٠؛ والمجتمع المدنيّ: الصفحات ٥٩، ٦٨، ٢٦٩؛ والتمسّك بالمبادئ الدستوريّة: ٥٩ - ٦٢، ٦٨، ٢٦٩ - ٢٧٠، وحقوق المرأة: ٢٢٨ - ٢٣٣، والدين: ٦١ - ٦٢، ٢٥٤، ٢٥٩ - ٢٦٣، ٢٦٧ - ٢٧٤، ٢٧٦ - ٢٧٧). وإذا اخترنا الاستمرار في تجاهل هذه النواقص، كما تقترح الداخلي على ما يبدو، فستكون على حقّ، وسيكون العالم العربيّ محكوماً عليه بأن يغوص أعمق في توعّكه. وتدلي ليلى الداخلي بعددٍ من الادّعاءات مفادُها بأنّ الكتاب لا يتناول مواضيع معيّنة، ولاسيّما الفصول المظلمة في تاريخ تونس في ظلّ الحكم الاستبداديّ الذي يقوّض في رأيها الاستثناء التونسيّ، في حين أن هذه المواضيع تتكرّر في الواقع. بدايةً، تشير الداخلي إلى أنّ الكتاب يقدّم صورةً متحيّزة لبورقيبة كمُصلحٍ مستنير ورؤيويّ، من دون أن يعطي استبداده وقمعه الوحشيّ للمعارضين تغطيةً مناسبة. غير أنّ استبداد بورقيبة هو طرحٌ مستمرّ في كلّ أنحاء الكتاب (وليس في صفحات قليلة تبدأ في الصفحة ٢١٦، كما تريدنا الداخلي أن نصدّق). ففي مرحلةٍ مبكّرة من الكتاب، في مقدّمته الصفحة (xxxi)، يُقدَّم بورقيبة كمستبدّ «أمسك بالسلطة من خلال المحاباة الحزبيّة وتركيز السلطة التنفيذيّة في الرئاسة. وغالباً ما كانت قبضته القويّة على شؤون البلاد تعني انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان امتدّت من قمع الحرّيّات إلى الشرطة وأجهزة الأمن الاستبداديّة». ويتتبّع الكتاب إبطالَ بورقيبة للحرّيّات التي مُنِحت للصحافة والنقابات والقضاء في الأيّام الأولى للجمهوريّة، وكيف تصاعد تعريف المعارضين السياسيّين ليشمل النشطاء الطلّاب، ولاسّيما الشيوعيّين، الذين تعرّضوا إلى تعذيبٍ وحشيٍّ وعمَّمت الدولة قضاياهم كتحذيرات (الصفحات ٢٢ - ٢٣، ٢١٦ - ٢١٧). وتدّعي الداخلي بخفّةٍ بأنّالمعارضة السياسيّة وقمعها غائبان عن هذه «الرواية السعيدة». ويجب على المرء أن يتساءل بصدق عمّا إذا قرأت ليلى الداخلي الكتاب بالفعل. فالكتاب يغطي ازدراء بورقيبة للعروبة (الصفحات ٩، ١٨٨، ٢٠٠ - ٢٠٥، ٢١٦)، وحملته العنيفة على صلاح بن يوسف وأتباعه العروبيّين (الصفحات١٨٨، ٢١٥ - ٢١٦)، بالإضافة إلى قمعه الوحشيّ للاتّحاد العام التونسيّ للشّغْل (الصفحات ٨ - ٩، ٢٤ - ٢٦، ١٨٧ - ١٨٨، ١٩٧، ٢١٤ - ٢١٩). وعن القمع العنيف للإسلاميّين، يصف الكتاب كيف أمر بورقيبة باعتقالهم جماعيّاً في الثمانينيّات، وكيف سارعت محكمة أمن الدولة إلى الحكم على عشرات المعتقَلين بالإعدام (الصفحتان 25 - 26)، وكذلك قمع بن علي للحركة (الصفحات ٢٧ - ٣٢، ٢٤٠). وينال استبداد بن علي تغطيةً وافية في كلّ أرجاء الكتاب (الصفحات ١٩، ٢٧ - ٤٤، ٨٥ ــ٨٧، ٢٤٠، ٢٨١، ٢٨٧).

 

الدين، المرأة، بن علي

بالنسبة إلى ادّعاء ليلى الداخلي المُنافي للمنطق بأنّ الدين وعلاقته بالدولة لا يحظيان بمعالجةٍ كافية، ربّما لا موضوع آخر، باستثناء التعليم، عُولِج من كلّ جوانبه في شكلٍ وافٍ مثل الدين، فثمّة فصلان كاملان (الفصلان ٧ و١٢) مخصّصان له. وتدّعي الداخلي أيضاً أنّ بن علي غائب عن هذه الصورة. في الواقع، يُقدَّم بن علي في الصفحتين ٨٥ - ٨٦ بأنّه ذهب «إلى أبعد ممّا فعله بورقيبة يوماً، واستخدم إجراءاتٍ صارمة لفرض العلمانيّة». وهدفت استراتيجيّة بن علي المزدوجة المتمثّلة بالظهور كرئيسٍ مؤمن (الصفحة ٢٧) بينما كان يعلْمن الدولة بالقوّة (الصفحات ١٩، ٣١ - ٣٢، ٨٥ - ٨٦،٢٤٠) إلى درء خطر الإسلاميّين.

وتدّعي الداخلي أيضاً أنّ الأخطاء المرتبطة بتحرير المرأة التونسيّة قد جرى تجاهلها. أوّلاً وقبل كلّ شيء، من الأهمّيّة بمكان ملاحظة أنّ اعتماد قانون الأحوال الشخصيّة، في العام ١٩٥٦، أعطى المرأة التونسيّة حقوقاً أكثر ممّا تتمتّع به المرأة اليوم في أيّ بلد عربي آخر (الصفحات ١١، ٢٧، ٢٢٢،٢٢٨ - ٢٣٥)، وأنّ القانون بقي يخضع لتعديلات (الصفحات ٢٧، ٢٢٧، ٢٢٩، ٢٣٢). ومع ذلك جرى الإقرار باستمرار الهرميّة البطريركيّة في الصفحة ٢٢٩، وبأنّ القانون حافظ على نبرة متحفّظةٍ في الصفحة ٢٣١. كذلك يقرّ الكتاب بأنّ النسويّة والنهوض بحقوق المرأة فُرِضا من القمّة وأنّ«ثورة المرأة» لم تكن ثورةً ولم تقدْها المرأة، لقد كانت قراراً للحبيب بورقيبة جرى تخطيطه وتنفيذه بعناية (الصفحة ٢٢٧). ويتناول الكتاب أيضاًظهور الحركات النسويّة قبل الاستقلال، مشيراً إلى أنّ «النسويّة التونسيّة بدأت تتشكّل في عشرينيّات القرن العشرين» (الصفحة ١٧٦) وبدأت تتّخذ طابعاً رسميّاً في الثلاثينيّات والأربعينيّات (الصفحتان ١٧٦ - ١٧٧)، واحتشد العديد من المنظّمات النسائيّة وراء القضيّة القوميّة وجرى دمجها فيما بعد في جهاز الدولة (الصفحات ١٨٤، ٢٣٣ - ٢٣٤)، وبالتالي جرى قمع جهودها على المستوى الشعبيّ.

وفي مجال التعليم، من المحيّر تماماً أنْ تدّعي الداخلي أنّني «نسيت» أن أذكر محاولة تعريب المناهج الدراسيّة، مع تخصيص جزءٍ من الفصل ١٣ للدفع من أجل التعريب - بقيادة محمّد مزالي وإدريس قيقة، اللذيَن عملا كوزيرين للتعليم في سبعينيّات القرن العشرين - والتخلّي عن المشروع في العام ١٩٨٢ (الصفحات ٢٥٦ - ٢٥٨، ٢٦٤). ومرّةً أخرى، يتساءل المرء عن مدى دقّة قراءة الداخلي للكتاب. ومثال آخر على ذلك هو أنّها تستحضر، كما لو في نزوة، الدعوة الشهيرة للناس إلى الوقوف في وجه القمع في قصيدة أبو القاسم الشابّي المشهورة، متناسيةً أنّ عنوان القصيدة هو عنوان الفصل الثالث، وأنّ أبياتها مذكورة ومشروحة في الصفحتين ٤٥ - ٤٦. من الواضح أنّ ليلى الداخلي إمّا فوّتت الحجَج والحقائق المهمّة، أو اختارت أن تسيء تفسيرها. ومن دون قراءة الكتاب بعنايةٍ، يبدو أنّها توصّلتْ عن طريق الإهمال إلى إصرار متحيّزٍ، وقدّمت استنتاجاً تبسيطيّاًومختزلاً ومشوّهاً حول الفرضيّة الرئيسيّة للكتاب.

العدد ٢٢ - ٢٠١٩
فرادة تونس لا تنفي انتماءها العربي

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.