العددان ٢٠-٢١ - ٢٠١٨

الحركة السورياليّة في بيروت الثلاثينيّات

«دخلنا الفنّ من باب المطبخ»

هذه ليست ورقة أكاديميّة. إنّما هي مقدّمة لقصّة كنت أحاول إعادة تركيبها منذ سنوات عديدة، كهاوٍ لا كباحثٍ صارم، محاولاً ملء فجوات المادّة الأرشيفيّة مستعيناً بذكريات العائلة والأصدقاء.

إنّها قصّة خمسة شبّان في بيروت خلال حقبة الانتداب الفرنسيّ، ومواجهتهم غير المعقولة مع الطليعة الحديثة.

إنّها قصّة منسيّة، وتشكّل جزءاً من الانتفاضات الثقافيّة، والسياسيّة، والاجتماعيّة الراديكاليّة التي عمّت هذه المنطقة خلال النّصف الأوّل من القرن العشرين، منذ سقوط الإمبراطوريّة العثمانيّة حتى صعود الحركات القوميّة في الخمسينيّات.

بدأ كلّ شيء في حديقة: غوطة دمشق، الواحة التي رسمها نهر بردى، الذي يفصل المدينة عن المروج الجافّة المتاخمة للبادية السوريّة. اعتاد أربعة شبّان السفر مرّةً كلّ شهر من بيروت بالقطار لزيارة صديقهم الأكبر سنّاً الذي استقرّت عائلته في دمشق منذ سنوات عدّة. خمسة شبّان تلاقوا في مدرسة الفرير - إخوة المدارس المسيحيّة في بيروت وباتوا أصدقاء متلازمين دوماً.

كانوا أنطون تابت، أبي، الذي كان يدرس الهندسة ويحلم بالرسم والعمارة، جورج شحادة وأنطوان موراني اللذين كانا يدرسان الحقوق ويحلمان بالشعر، إسكندر أبو شعر الذي أراد أن يصبح رسّاماً ونعمة إدّه، أكبر الأصدقاء سنّاً، الذي أنهى دراسة الحقوق وكانت عائلته تقيم في دمشق. خمسة شبّان دخلوا الفنّ «من باب المطبخ» كما كتب جورج شحادة في إحدى قصائده الأولى.

كان لبنان وسورية آنذاك تحت حكم الانتداب الفرنسيّ. بعد هزيمة العثمانيّين عام ١٩١٨ وما تبعها من تفكّك الإمبراطوريّة العثمانيّة، أطلقت معاهدة سيفر وقبلها مؤتمر سان ريمو بداية الانتداب البريطانيّ في فلسطين والانتداب الفرنسيّ في لبنان وسورية، بحسب اتفاق سايكس - بيكو الذي وقّعته القوّتان الأوروبيّتان. في أيلول / سبتمبر ١٩٢٠، أعلن الجنرال غورو تأسيس دولة لبنان الكبير وعاصمتها بيروت، وقد مُنحت المنطقة الجديدة علماً يتكوّن من العلم الفرنسيّ مع إضافة الأرزة اللبنانيّة.

لكنّ هذه المستعمرة التي فرضتها القوى الأوروبيّة واجهت معارضة قطاعات كبيرة من المجتمع. في آب / أغسطس ١٩٢٥، دعا الزعيم الدرزيّ سلطان باشا الأطرش الجماعات الإثنيّة والدينيّة المتنوّعة في سورية إلى معارضة الهيمنة الأجنبيّة على أراضيهم. ومع أنّ الثورة السوريّة الكبرى أخفقت في تحرير سورية من الانتداب الفرنسيّ، إلّا أنّها مثّلت أحد أكبر وأطول عصيان شعبيّ في المشرق العربيّ في مرحلة ما بين الحربين العالميّتين، وكان لها أثر عميق في انتشار الأفكار القوميّة والمناهضة للاستعمار.

في هذه الأثناء، سرَّع قيامُ الانتداب الفرنسيّ سيرورةَ التحديث التي كانت التنظيمات في جميع أرجاء الإمبراطوريّة العثمانيّة قد أطلقت شرارتها منذ منتصف القرن التّاسع عشر. وكان أقصى تجلّيات هذه السيرورة في بيروت التي أصبحت عاصمة دولة لبنان الكبير، مقرّ الإدارة المركزيّة للانتداب وواجهة فرنسا في المشرق. ومن خلال انتزاع الملكيّات وتهديمها عملت السّلطات الفرنسيّة على تجديد وسط مدينة بيروت، وافتتحتْ شوارع جديدة تحمل أسماء المنتصرين (شارع الجنرال أللنبي، جادّة المارشال فوش، شارع المارشال ويغان، إلخ.)، وأُزيل النّسيج المدينيّ القديم ليفسح في المجال لمخطّطات جديدة، صُمّمت بالتوافق مع مبادئ الفنون الجميلة.

 

الفرسان الخمسة

على الصعيد الثقافيّ، كان المسؤولون الفرنسيّون يناصرون الحركة الفينيقيّة وترويجها لهويّة لبنانيّة منفصلة عن هويّة البلدان الشرق أوسطيّة المجاورة. كانت مجلة شارل قرم المجلة الفينيقيّة تصدر في فرنسا، وقد اجتذبت النخبة المسيحيّة المثقّفة اللبنانيّة.

كان الرسّامون الأكاديميّون ميّالين إلى البورتريهات واللوحات الفولكلوريّة، وهيمنت الإحالات الاستشراقيّة والثيمات الدينيّة على المشهد الفنيّ، بمعجم يتأرجح بين النيو-كلاسيكيّة والرومانتيكيّة المُلطَّفة.

في هذا الجوّ بالذّات كان «الفرسان» الخمسة، كما كانوا يسمّون أنفسهم١، يتجوّلون بين بيروت ودمشق والمنتجعات الصيفيّة المجاورة في جبال لبنان: بحمدون، بلدة عائلة تابت وبكفيّا حيث كانت عائلة شحادة تستأجر بيتاً صيفيّاً.

كان «فرساننا» الشّبان كلّهم فرنسيّي الثقافة، ومع أنّهم كانوا يتحدّثون العربيّة، إلّا أنّ الفرنسيّة كانت لغة الثقافة بالنسبة إليهم. وفي مطلق الأحوال، كانوا يشعرون بعدم ارتياح إزاء البيئة التقليديّة المحافظة التي كانت تسم مجتمع بيروت في ظلّ الانتداب الفرنسيّ، الذي يميّزه مزيج من الريفيّة والأبّهة الطنّانة.

كتب جورج شحادة لأنطوان موراني عام ١٩٢٦: «عزيزي أنطوان، الأمور كلّها جيدة في بيروت، نشعر بالملل، نشعر بالملل. ... جاءتني هديّة منذ أسبوعين هي مسدّس براوننغ دوّار، يتّسع لستّ رصاصات أو سبع. ها قد حانت فرصة عظيمة كي تقتلني حين يؤون الأوان... لديّ ثلاث رصاصات، سأترك لك واحدة».

جاء الخلاص من ... برشلونة. كان غابرييل بونور، مدير المعهد الفرنسيّ في العاصمة الكتالونيّة، قد عُيّن مفتّشاً للتعليم الثانويّ في سورية ولبنان عام 1923، ومن ثمّ بات القنصل الثقافيّ الفرنسيّ عام 1928. وعلاوةً على كونه مريداً مقرّباً من أندريه سواريز، كان بونور ناقداً للشعر في مجلة نوفيل روفو فرانسيز [المجلة الفرنسيّة الجديدة]، حيث كان مهتماً على الأخصّ بالحركة السورياليّة وساعد في ترويج أعمال ماكس ياكوب، مارسيل جواندو، أونري ميشو، رينيه شار، بيير جان جوف، وآخرين.

في ذلك الوقت، كانت الحركة السورياليّة قد رسّخت نفسها في المشهد الثقافيّ في أوروبا. بدأت مجلة ريفولوسيون سورياليست [الثورة السورياليّة]إصدار أعدادها عام ١٩٢٥، كما نُظّم أوّل معرض للفنّ السورياليّ على يد أندريه بروتون وروبير دسنوس في باريس في العام نفسه.

لا نعرف تماماً كيف التقى بونور بفرساننا. وعلى أيّة حال، سرعان ما ترسّخت علاقة وطيدة فتحتْ آفاقاً جديدة للشبّان الخمسة.

 

اللقاء بسورياليّي باريس

حدثت نقطة فاصلة عام ١٩٢٧ حين سافر أنطون تابت إلى باريس لـ«يتخصّص» في العمارة بعدما نال شهادته في الهندسة٢. قدّمه بونور إلى أندريه لوت، الرسّام الفرنسيّ المشرف على الرسم السورياليّ في مجلّة نوفيل روفو فرانسيز وإلى أوغوستو بيريه، مروّج عمارة الإسمنت المسلّح في فرنسا آنذاك.

من خلال هذه العلاقات، التقى تابت بسورياليّي باريس واكتشف الاهتمامات الفنيّة والسياسيّة التي تعتنقها الحركة السورياليّة. كانت تلك فترةً تشهد فيها السورياليّة تحوّلاً في موقعها من حركة سياسيّة ترفض الانضواء تحت أيديولوجيا محدَّدة، إلى تحالف مع الماركسيّة واعتناق لخطاب مناهض للكولونياليّة تبدّى بوضوح في الموقف الراديكاليّ الذي اعتنقوه حيال حرب الريف في المغرب.

عام ١٩٢٩، إثر عودة تابت إلى بيروت، لاحتْ فرصة جديدة للشلّة على يد جورج نقّاش، الصحافيّ الشهير الذي يرأس تحرير جريدة لوريان، أهمّ الجرائد الناطقة بالفرنسيّة في بيروت. في ١٦ حزيران / يونيو من ذلك العام، صدر ملحق أدبيّ ضمّ تقديماً لجورج نقّاش، وقصائد لجورج شحادة وأخته لوريس، ومجموعة «جثث مُتقَنة»٣ لأنطوان موراني، وتأريخاً عمرانيّاً غير تقليديّ لأنطون تابت.

كان من المفترض أن يكون ملحق لوريان ليتيرير إصداراً شهريّاً. وفي الواقع، لم يصدر منه إلّا عدد واحد. وكما قال لي أبي، كان السبب هو البغض القويّ بين الشلّة وبين رسّام كان مشهوراً آنذاك، هو جورج داوود قرم، الذي كان يشجب علناً الماركسيّة، والتحليل النفسيّ، والسورياليّة وأشكال الفنّ الحديث قاطبةً، مُسبّحاً بحمد إحياء النهضة الكلاسيكيّة. كان من المفترض أن يضمّ العدد الثاني من الملحق لوحةًتمثّل قدماً تحمل فرشاة رسم بعنوان «الرسّام جورج قرم»، وقد كان معناها الضمنيّ يشير إلى تعبير فرنسيّ يعني أنّ قرم رسّام فاشل «يرسم مثل قدم» (Il peint comme un pied).

لم يكن ممكناً قبول مثل هذا الموقف الاستفزازيّ في جريدة برجوازيّة مثل لوريان، لذا توقّف الإصدار، ما تركنا أمام عدد وحيد من الملحق الأدبيّ.

في السنوات الأولى من العقد الجديد، أثّرت أحداث متلاحقة في الشلّة. فيما توظَّف جورج شحادة على يد غابرييل بونور كمساعد له في خدمات التعليم العام التي أنشأتها سلطات الانتداب، عمل أنطوان موراني في مكاتب شركة الخطوط الحديديّة «دمشق، حماه، وتوابعها» وعمل نعمة إدّه محامياً في شركة محاماة كبيرة في دمشق بينما افتتح أنطون تابت مكتبه الخاص لهندسة العمارة، ليصبح بسرعة رائد العمارة الحديثة في لبنان وسورية.

وبحلول عام ١٩٣٣، سافر شحادة بدوره إلى باريس حيث تقرّب من شاعر شابّ من الإسكندريّة، هنري القيّم وصديقته مارته كازال، التي ستلهم شخصيّة جوستين في رباعيّة الإسكندريّة للورنس داريل. برفقة صديقيه الجديدين، زار شحادة أندريه لوت، وسان جون بيرس، وجان بولان، وماكس جاكوب، كما نشر قصائده الأولى في نوفيل روفو فرانسيز.

وبعد عودة شحادة إلى بيروت، توسّعت الشلّة بضمّ قادمين جدد: جورج سير، رسّام فرنسيّ جاء إلى بيروت عام 1934 وجلب معه تأثير الحركات الحداثيّة في باريس. وصار مشغله في عين المريسة، حيث كان يدرّب أجيالاً شابّة من الرسّامين، مكان لقاء الشلّة.

كان القادم الجديد الآخر الذي انضمّ إلى الشلّة هي روزماري أولييه، شاعرة فرنسيّة باتت مساعدة بونور المقرّبة، ومن ثمّ عفويّاً حبيبة أنطون تابت.

ثمّة لوحة أهداها جورج سير لأبي مؤرّخة في عام 1936 تُصوِّر «غداءً على العشب» في مرتفعات تلّة الخيّاط، حيث يبدو بيت الرسّام اللبنانيّ عمر الأنسي في الواجهة. وبإيحاء رمزيّ، نجد مواضع الشخوص المختلفين في المشهد في دائرة حول غابرييل بونور، الذي يقف وحيداًفي مركز اللوحة.

ومن الفترة ذاتها، هناك صورتان شخصيّتان لجورج شحادة رسمهما سير وتابت، بورتريه لتابت رسمه سير، حيث يحمل باقة كبيرة من الأزهار ملفوفةً بالجريدة الشيوعيّة الفرنسيّة لومانيتيه، وقصيدة لجورج شحادة بعنوان «أنطون تابت، معماريّ»، كُتبت أوائل الثلاثينيّات ونُشرت للمرّة الأولى عام ١٩٥٠ في باريس عن دار GLM.

 

السورياليّون في السياسة الدوليّة

لكنّ أواسط الثلاثينيّات شهدتْ أيضاً أحداثاً كبرى لعبت دوراً ملموساً في إعادة تعريف الانتماءات السياسيّة ضمن الشلّة. في تشرين الأول / أكتوبر ١٩٣٥، اجتاح موسوليني إثيوبيا منتهكاً بوضوح المادّة العاشرة من ميثاق عصبة الأمم. منحت المملكة المتّحدة وفرنسا لإيطاليا حريّة التصرّف كي تضمن حياد إيطاليا في حال نشوب نزاع مع ألمانيا. وقد تسبّبت السّمة الكولونياليّة للحرب واستخدام الأسلحة الكيميائيّة على يد القوّات الإيطاليّة بردود أفعال متباينة لدى الرأي العام العالميّ. فبينما أصدرت حفنة من المثقّفين اليمينيّين الفرنسيّين بياناً يمتدحون فيه تفوّق الغرب وحقّه في «إدخال التحضُّر إلى البلدان المتخلّفة»، صدر بيان مضادّ يدعو إلى احترام القانون الدوليّ وقّعه كتّاب وفنّانون أوروبيّون، كانت للحركة السورياليّة فيه مشاركةٌ فعّالة.

اجتذب الصعود المتسارع للفاشيّة الإيطاليّة والنازيّة الألمانيّة بعض المقلّدين في لبنان وسورية. إثر حضوره في الألعاب الأولمبيّة الصيفيّة في ميونخ عام ١٩٣٦، أسّس بيار الجميّل حزب الكتائب اللبنانيّة، وهو تنظيم يمينيّ مسيحيّ شبه عسكريّ. كما تبدّى صعود الأيديولوجيّات الشموليّة أيضاً في تأسيس أنطون سعادة للحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ الذي يهدف إلى توحيد المنطقة التي سمّاها «سوريا الطبيعيّة»، وتبدّى أيضاً في تأسيس حزب النجّادة، وهو تنظيم قوميّ عربيّ انتشر بين شباب المسلمين السنّة، أسّسه محيي الدين النصّولي وعدنان الحكيم، وكلاهما من المعجبين المتحمّسين بأدولف هتلر وبنيتو موسوليني.

في أيار / مايو ١٩٣٦، أُعلن عن تأسيس الحركة المناهضة للفاشيّة في سورية ولبنان من خلال بيان كتبه أنطون تابت. وفي المجال الثقافيّوالفنيّ، امتدح البيانُ الفنَّ الثوريَّ الذي يلعب دوراً في الصراع ضد الفاشيّة. وبعد انتخابه رئيساً للمنظّمة الجديدة، تقرَّب تابت من الحزب الشيوعيّ وبات منخرطاً أكثر فأكثر في النّشاطات السياسيّة.

ومع أنّ أصدقاءه لم يقتفوا خطاه في هذا الدّرب، إلّا أنّ علاقتهم لم تنقطع وواصلت الشلّة لقاءاتها بانتظام. لكنّ تبايُن المواقف السياسيّة تفاقمَ بعدما تزوّجت شقيقة جورج شحادة من الدبلوماسيّ الإيطاليّ جيورجيو بنتسوني الذي كان يمثّل النظام الفاشيّ في بولندا ويوغوسلافيا.

ثمّة إهداء كتبه شحادة عام ١٩٣٧ على الصفحة الأولى من مجموعة قصائد مكتوبة على الآلة الكاتبة قدّمها إلى تابت، يبدو أنّه يشير إلى أنّ تلك الفترة شهدت سجالات محتدمة بين الصديقين:

«إلى مدير أعمالي الشعريّ أنطون (...) برغم الديمقراطيّات والدكتاتوريّات كلّها»

وسوف يخلق اندلاع الحرب العالميّة الثانية وضعاً جديداً تماماً. فبعد استسلام فرنسا في حزيران / يونيو ١٩٤٠، باتت سورية ولبنان تحت حُكم حكومة فيشي. حُظرت الحركة المناهضة للفاشيّة وسُجن تابت لفترة قصيرة. ولكن في أيار / مايو ١٩٤١، وبعد انقلابٍ أسهمَ في سيطرة رشيد عالي الكيلاني المناصر لدول المحور على مقاليد الحكم في العراق، أعادت بريطانيا احتلال العراق وشنّت حملة عسكريّة بدعم من قوى فرنسا الحرة للسيطرة على سورية ولبنان.

لكنّ هزيمة جيش المشرق التابع لحكومة فيشي لم تُسهم بطبيعة الحال في إنهاء خطر حملة مضادّة على يد قوّات المحور. في نيسان / أبريل١٩٤٢، كان فيلق أفريقيا التابع لرومل على مسافة أقلّ من ١٥٠ ميلاً من القاهرة، ما شكّل تهديداً على قناة السويس وحقول النّفط الشرق أوسطيّة والفارسيّة. ولم ينقلب مسار حملة شمال أفريقيا إلّا في تشرين الثاني / نوفمبر من العام ذاته بفضل معجزة انتصار البريطانيّين في معركة العَلَمين.

وفي سورية ولبنان، تعزّزت البروباغندا المناصرة للفاشيّة حينما فرّ الزعيمان الحاج أمين الحسيني ورشيد الكيلاني إلى برلين. كان بونور، وأولييه، وسير قد انضمّوا إلى قوّات فرنسا الحرّة من البداية وأبدوا نشاطاً فعّالاً في تنظيم الحملة الأيديولوجيّة المضادّة.

تغيّر اسم «الحركة المناهضة للفاشيّة» ليصبح «الحركة المناهضة للفاشيّة والنازيّة» التي واصلت نشاطها، فيما ساهم تابت، مع مثقّفين بارزين مثل عمر فاخوري، ورئيف خوري، والشاعرة والمناضلة النسويّة إميلي فارس إبراهيم في تأسيس مجلّة «الطريق» الثقافيّة الناطقة بالعربيّة، التي كانت تهدف إلى ربط النّضال ضدّ الفاشيّة بالنّضال من أجل الحريّة والاستقلال الوطنيّ.

وفي حقيقة الأمر، ومنذ انتصار قوّات فرنسا الحرّة على جيش فيشي، أعلن الجنرال جورج كاترو، المندوب المفوَّض من الجنرال ديغول، استقلال لبنان بالنّيابة عن حكومته. ومع ذلك، واصل الفرنسيّون الإمساك بمقاليد السلطة الفعليّة حتى تشرين الثاني / نوفمبر ١٩٤٣، حينما أدّت الاحتجاجات الشعبيّة والضغط الدوليّ إلى استقلال لبنان. وفي هذه الأثناء، باتت بيروت مركز لقاء لعدد من المثقّفين الفرنسيّين، من كتّاب وفنّانين هربوا من نظام فيشي الرجعيّ. كما قدّمت العاصمة اللبنانيّة ملاذاً آمناً نسبيّاً للمناضلين ضدّ الفاشيّة وللّاجئين اليهود.

 

مؤسّسات ثقافيّة جديدة

تحت إدارة أونري سيريغ ودانييل شلومبرجيه، أصبح المعهد الفرنسيّ للآثار الشرقيّة، الموجود في قصر الأمير عبد القادر الجزائريّ القديم قرب حيّ الزيتونة، منتدى للسّجالات والنّقاشات المحتدمة بشأن الصّلات بين الثقافة والسّياسة. كما كان مكتب أنطون تابت في منطقة المعرض يستضيف، في الخميس الأوّل من كلّ شهر، محاضرات عامّة عن الماركسيّة يلقيها المستشرق اليهوديّ الفرنسيّ مكسيم رودنسون. وكان أفراد الشلّة يشاركون بفاعليّة في هذه النّشاطات الثقافيّة.

وعلى نحو عفويّ، باتت العلاقات بين أفراد الشلّة أمتن أكثر بعد زواج أنطون تابت وأنطوان موراني بشقيقتَيْ نعمة إدّه ماري وسارة. وفي الوقت ذاته، تلاشى سوء الفهم السياسيّ الذي أثَّر سلباً على هذه العلاقات بعد إقدام النظام الفاشيّ على اعتقال صهر شحادة، الدبلوماسيّالإيطاليّ جيورجيو بنتسوني، بسبب معارضته للتحالف بين موسوليني وهتلر.

وفعليّاً، كانت السنوات الأولى التي تلت استقلال لبنان ثريّة في المشهد الثقافيّ على الأخصّ. عام ١٩٤٤، أسّس غابرييل بونور في بيروت المدرسة العليا للآداب، وهي معهد تعليم عالٍ للآداب والعلوم الإنسانيّة، عُيّن شحادة سكرتيراً عامّاً له. وتأسّست الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون الجميلة في العام ذاته، حيث تُقدّم دورات تعليميّة في العمارة، والرسم، والنحت، والموسيقى. ومع مرور السنوات، حقّق الفنّالحديث أولى انتصاراته وصار مقبولاً على نطاق كبير في المجتمع اللبنانيّ.

مخترقين للحدود الوطنيّة، بدأ الفنّانون الحديثون تعزيز علاقاتهم بنظرائهم في البلدان المجاورة. دعت جماعة الفنّ والحريّة المصريّة فنّانين عدّةً من لبنان ليشاركوا في «المعرض الثالث للفنّ المستقلّ» الذي افتُتح في فندق الكونتيننتال في القاهرة. وإلى جانب جورج سير وأنطون تابت، شارك فنّانان فرنسيّان يعملان في لبنان (أونري بيير فورتييه وجانفييف مورون) والفنّان اللبنانيّ عمر الأنسي في هذا المعرض.

إنّ تحديد الموعد الدّقيق لافتتاح المعرض يثير إشكاليّات دائمة. تشير معظم الإحالات إلى أيار / مايو ١٩٤٢، وهذا صعب التّصديق بما أنّرومل كان على مشارف القاهرة في ربيع ذلك العام. وقد اكتشفتُ لاحقاً ملاحظةً صغيرةً أرسلها جورج سير لأبي يتحدّث فيها عن أيار / مايو١٩٤٣، وهذا التاريخ أكثر ترجيحاً، مع أخذ الوضع العسكريّ والسياسيّ آنذاك بالاعتبار.

ومع أنّ جماعة «الفنّ والحريّة» كانت حركةً سورياليّة أساساً، فمن الواضح أنّ الأعمال التي أُرسلت من لبنان ذات صلة ضئيلة بالسورياليّة. وبذلك يمكن تأويل سبب إرسال الدعوات إلى فنّانين من لبنان بكونها محاولةً من الجماعة المصريّة لبناء علاقات إقليميّة إلى جانب العلاقات التي توطّدت مع رموز الحركة السورياليّة العالميّة.

وتوسّعت هذه المحاولة لتكوين شبكة فنيّة إقليميّة على نحو أكبر ذلك العام مع افتتاح معرض كبير في متحف بَصَلْئِيل اليهوديّ في القدس بعنوان «الفنّ الحديث في لبنان». نُظّم المعرض على يد غابرييل بونور، وروزماري أولييه، وجورج سير الممثّلين للّجنة العامّة لفرنسا المُحارِبة في لبنان.

اتّسعت جماعة الفنّانين الذين شاركوا في معرض الفنّ والحريّة لتضمّ فنّانين ومعماريّين آخرين ليعبّروا بشكل أفضل عن مظاهر الفنّالحديث المتنوّعة في لبنان.

امتدّ المعرض الذي ضمّ ٧٢ عملاً فنيّاً من ١٢ كانون الأوّل / ديسمبر ١٩٤٣ حتى ٤ كانون الثاني / يناير ١٩٤٤ بمشاركة ٧ رسّامين ونحّاتين ومعماريّين لبنانيّين وفرنسيّين مقيمين يمثّلون التيّارات الفنيّة الحديثة في لبنان. وكان من المفترض افتتاح معرض بعنوان الفنّ الحديث في فلسطين في بيروت في وقت لاحق من عام ١٩٤٤ ولكن لم يُفتَتح هذا المعرض لأسبابٍ مجهولة.

تكشف المراسلات المحفوظة في أرشيف متحف بصلئيل اليهوديّ عن تباين آمال الأشخاص المتعدّدين الذين شاركوا في هذا الحدث الفنّيّ. فبينما سلطات فرنسا الحرّة تعدّ معرض القدس حدثاً سياسيّاً يعبّر عن عودة فرنسيّة في منطقة تسيطر عليها بريطانيا، كان الفنّانون المشاركون في المعرض يتوقون في المقام الأوّل لتقوية العلاقات مع المشهد الفنّيّ الفلسطينيّ، بهدف خلق تآزرات ثقافيّة على الصعيد الإقليميّ.

ومن جهة أخرى، تعبّر المراسلات المتبادلة بين مدير متحف بصلئيل اليهوديّ، مردخاي نركيس، والمنظّمة الصهيونيّة العالميّة عن النيّة المُضمَرة في أن يكون المعرض خطوةً أولى باتّجاه الاعتراف بالحركة الصهيونيّة في لبنان وسورية. وقد تكون هذه الآمال المتناقضة هي السبب في أنّ محاولة تكوين علاقات دائمة بين الفنّانين الحديثين في لبنان وفلسطين، وعلى الصعيد الإقليميّ على نحو أوسع، قد باءت بالفشل.

 

نكبة فلسطين والانقلابات

على النّقيض من جوّ الانتشاء الذي ساد بعد الانتصار على الفاشيّة وفي السنوات بعد الاستقلال، أمسى الوضع السياسيّ قاتماً أكثر ممّا كان عليه في أواخر الأربعينيّات. تسبّبت الحرب العربيّة - الإسرائيليّة بنكبة فلسطين وبإحداث تغيّرات هائلة في أنحاء الشرق الأوسط.

استقرّ اللاجئون الفلسطينيّون في مخيّمات لجوء في جميع أرجاء العالم العربيّ فيما بدأت الجماعات اليهوديّة بمغادرة البلدان العربيّة والهجرة إلى دولة إسرائيل حديثة الولادة علاوةً على أوروبا والولايات المتّحدة.

وأشعلت الهزيمة العربيّة سلسلة من الانتقاضات التي هزّت المنطقة العربيّة. شهدت سورية ومصر انقلابات عسكريّة غيّرت التوازنات السابقة واعتنقت أجندة قوميّة صارمة مناهضة للإمبرياليّة، تبدّت عبر خطاب وطنيّ حماسيّ. أمّا الحرب الباردة التي حلّت محلّ التعاون الدوليّ في فترة ما بعد الحرب فقد طرحت استقطابات جديدة إضافةً إلى توتّرات سياسيّة وعسكريّة انعكست على وضعٍ إقليميّ غير مستقرّ.

وأفضت الظّروف الجديدة التي انبثقت من هذه التحوّلات الراديكاليّة إلى تقلّص قدرة الثقافات المحليّة على التواصل مع الثقافات الأخرى وإلى نكوصها نحو مواقف منصاعة ضيّقة. وتشوّهت الحداثة بفعل خطاب قوميّ سياسيّ تمحور حول تأويلات تبسيطيّة أحاديّة لأفكار التقدّم، والنّماء، والازدهار أو التطوّر. وبالتالي، فإنّ محاولات الطليعة الثقافيّة العربيّة في التّحريض على كسر الحواجز الوطنيّة من أجل المشاركة في مشروع حداثة راديكاليّة علاوةً على التزامها بثقافةٍ ذات سمة عالميّة بدت عتيقة الطّراز مقارنةً بهذه الوقائع المحليّة الجديدة.

أُرهقت الأزمنة بفعل وطأة قضايا ومشاغل أثّرت على العلاقات بين أفراد الشلّة اللبنانيّة. بالرّغم من مواجهات جرت أحياناً، مثل الكتابة الجماعيّة لمسرحيّة شحادة «سهرة الأمثال» عام ١٩٥٣ أو معارضة الحملة التي أطلقتها دوائر عسكريّة فرنسيّة حين عُرضت مسرحيّته «حكاية فاسكو» على مسرح «أوديون» عام ١٩٥٨، تشرذمت الشلّة إلى مصائر منفصلة، تروي قصصاً فرديّة.

 

تشتّت ومصائر فرديّة منفصلة

غادرت روزماري أولييه لبنان عام ١٩٤٧ وعُيّنت في منصب ملحق ثقافيّ في السفارة الفرنسيّة في أستراليا. وهنا، أُلقي القبض عليها في عمليّة جاسوسيّة غامضة. بعدما اتُّهمت بإفشاء معلومات للاستخبارات السوفياتيّة - كي جي بي عن الخطط العسكريّة الفرنسيّة في الهند الصينيّة، نالت براءتها إثر محاكمة طويلة ولكنّها باتت تعاني من البارانويا.

حين زرتها في باريس عام ١٩٦٨، استقبلتْني في غرفة خدم صغيرة لأنّها كانت تجزم بأنّ شقّتها في جادّة بوردونيه تعجّ بأجهزة التنصّت التي دسّتها السي آي إيه. وقد فارقت الحياة في باريس أواخر السبعينيّات.

غادر غابرييل بونور لبنان عام ١٩٥٢، حينما نشرت مجلّةٌ رسالةً شخصيّة كان قد أرسلها إلى صديق مصريّ، هو الفيلسوف عبد الرحمن بدوي، ينتقد فيها سياسة فرنسا في الجزائر والمغرب. وبعدما استدعتْه الكي دورسيه [وزارة الخارجيّة الفرنسيّة] ليتبرّأ من كلامه، رفض واستقال من المؤسّسة الفرنسيّة. سافر إلى مصر حيث رأس قسم الأدب الفرنسيّ في جامعة عين شمس، ومن ثمّ إلى جامعة الرّباط عام ١٩٥٩. تقاعد عام ١٩٦٥ وعاد إلى قريته مسقط رأسه في بريتاني حيث فارق الحياة عام ١٩٦٨. ومع نهاية الأربعينيّات، قاسى جورج سير أزمةًوجوديّةً، حيث بات يتشكّك في مكانته في المشهد الفنيّ المعاصر. وبعدما وقع أسير حوار عسير مع ما بعد التكعيبيّة، بقي منقسماً بين ارتباطه القويّ بالحياة الثقافيّة اللبنانيّة ورغبته في أن يُعترَف به في المشهد الفنيّ الباريسيّ. توفّي في بيروت عام ١٩٦٤. وقد انتقلت مجموعته الفنيّة، بحسب وصيّته، إلى كلٍّ من مدبّرة منزله وإلى زوجة جورج شحادة، بريجيت كوليريه.

جرّب أنطوان موراني ونعمة إدّه فتح شركة للاستيراد والتصدير خلال الخمسينيّات. وللأسف، لم يكن ذهناهما تجارياً أو ربّما كانا شغوفين بالشعر أكثر من الإدارة. عانيا من الإفلاس مرّات عديدة، وكان تابت يسدّد ديون صديقيه القديمين. وسافر نعمة إدّه إلى باريس بعد اندلاع الحرب اللبنانيّة. وقد عانى من مرض ألزهايمر في سنواته الأخيرة، وكان يردّد قصائد شحادة الأولى طوال اليوم.

صار أنطون تابت أحد أهمّ رموز حركة العمارة اللبنانيّة الحديثة خلال الخمسينيّات وبات منغمساً في السياسة أكثر فأكثر. كان عضواً في مجلس السِّلم العالميّ، وهو منظّمة دوليّة قريبة من الحزب الشيوعيّ شاركت بفاعليّة في ولادة وتطوّر حركة عدم الانحياز في آسيا وأفريقيا، وقد نال جائزة لينين للسلام مع فيديل كاسترو عام ١٩٦١. توفّي تابت في بيروت عام ١٩٦٤. وبعد عدّة سنوات من وفاته، وجدتْعائلته رسائل وصوراً متعلّقة بشلّة الأصدقاء، في دُرجٍ سريّ مُقفل.

جورج شحادة صار ... شحادة. نُشرت قصائده على نطاق واسع وتُرجمت إلى لغات عديدة، وعُرضت مسرحيّاته في جميع العواصم الأوروبيّة. بعد اندلاع الحرب اللبنانيّة، غادر إلى باريس عام ١٩٧٦ وتوفّي فيها عام ١٩٨٩. يقول زوّاره إنّه، في سنواته الأخيرة، كان دائماً ما يستذكر قصص شلّة الفرسان، مستعيداً ذكرى أصدقائه القدامى.

 

إلى أنطون تابت، معمارياً
جورج شحادة

 

في هذا المنزل الجنوبي

حيث تفسد حبّات الفستق،

كنتَ تبحث عن الممحاة

لتمحو خطاياك.

 

لا شك بأن عالِم الفِراسة

سوف يستسلم إذا كان عليه أن ينتظرك

طفلة نجلاء العينين

تحت سَدْل / كُمّة المصباح، طاقيةِ حَبر الفاتيكان الأعظم.

 

إنك تتنهّد عند كل درجة مئويّة:

القطن ثلج البلدان الحارّة!

وفي رأس المرسى

يلتمع بطن البواخر.

 

إنك تدخّن غلايين من الكلوروفورم

على طبقة أرضيّة من الكبّاد،

وهناك الحدائق طافحة

بلحى عَنزٍ ووَرد.

 

القاطراتٌ تتماسك بالأيدي

لتتجوّل في الجبل،

وأشجار الكينا على الطريق

تذكّرك بألسنة «ايزوب».

 

تريدُ لعِظامك أن تتمرّى

في الأحواض التي تكشف البَخت،

وفي مساءات الأمطار العظيمة

ندرك كم عبثية هي زخّات المياه!

bid2021_images_nounwalkalam_image004_rgb.jpg


تفاصيل من لوحة لجورج سير، ١٩٣٦

  • ١. الظروف الجديدة التي انبثقت من هذه التحولات
  • ٢. تعليق جانبيّ على موضوع التواريخ وسنوات الميلاد. في ذلك الوقت، نادراً ما كانت تواريخ الولادة المُسجَّلة في الأوراق الرسميّة دقيقةً. إذا اعتاد الناس على الكذب بشأنها كي يساعدوا الفتيات على إيجاد أزواج، وكذلك من أجل تأجيل اللحظة التي يُرغَم فيها الشبّان على الالتحاق بالخدمة العسكريّة. وكمثال على هذا، فإنّ تاريخ ولادة أنطون تابت بحسب السجلّات الرسميّة هو ١٩٠٧. ولكنّنا نعرف بأنّ تابت تخرّج من كليّة الهندسة عام 1926، بحيث يكون قد تخرج وهو في التاسعة عشرة، وهو عمر غير معقول، بخاصة ونحن نعلم أنّ معظم المدارس والكليّات كانت مغلقة لعدة سنوات خلال الحرب العالميّة الأولى.
  • ٣. الجثّة الفاتنة cadavre exquis : أسلوب سورياليّ في الكتابة والرسم يتشكّل فيه العمل من خلال تراكب كلمات أو صور، تبدأ الثانية من حيث انتهت الأولى، بحيث تكون علاقة التراكب منطقيّة من دون أن يكون النّتاج الأخير منطقياً بالضرورة.
العددان ٢٠-٢١ - ٢٠١٨
«دخلنا الفنّ من باب المطبخ»

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.