العدد ١١ - ربيع ٢٠١٥

أميركا بين إيران والسعودية

ضبط الصراع الإقليمي

النسخة الورقية

يتصدّر الصراع بين السعودية وإيران رأس قائمة الصراعات الإقليمية منذ عقد من الزمان، بحيث أصبح هذا الصراع علَماً على ساحات المنطقة الساخنة والمشتعلة بالوكالة من العراق شمالاً وحتى اليمن جنوباً، ومن البحرين شرقاً حتى لبنان غرباً. تعدّدت أسباب الصراعات الداخلية في كل بلد، لكنّ الناظم لها في سلسلة الصراع الأكبر والرئيس ظل واحداً: المصالح المتضاربة لطهران والرياض. تغطّى البلَدان اليمينيان بامتياز ــ من حيث نظام الدولة وتوجهات الحكم والانحيازات الاجتماعية ــ بعباءة المذهب، فشاع الحديث عن «المعسكر الشيعي» و«المعسكر السنّي» للدلالة على المحور الذي تقوده إيران والآخر الذي تقوده السعودية. وبمرور الوقت لم يعد التمييز السياسي في منطقتنا قائماً على أساس الفرز بين اليمين واليسار مثل باقي المجتمعات، وإنما على أساس الانتماء المذهبي وفي الخلفية راعيتاه الإقليميتان.

مع اندلاع الانتفاضات الشعبية العربية انتعشت الآمال في الانتقال بالحراكات السياسية إلى آفاق أكثر رحابة من تلك المذهبية الضيّقة، لكنّ فورة الأحلام انتهت في المرحلة الأولى من الربيع العربي، إذ عاد بعدها الصراع السعودي ــ الإيراني، أو السنّي ــ الشيعي، ليحتل موقعه كمحدِّد أساس لصراعات المنطقة. راهناً ترتفع راية الصراع الإقليمي الرئيس فوق المبارزات والحراكات والصراعات المحلية: في العراق واليمن ولبنان، كما تتغطى الحرب في اليمن، مع التسليم بمسبباتها المحلية، بالغطاء المذهبي الإقليمي ذاته. باختصار غير مخلّ، تبدو العلاقات السعودية ــ الإيرانية مجسّدة وملخّصة لتوازنات المنطقة، إذ يُعدّ تقليب النظر في طبيعتها مؤشراً دقيقاً على مآلات الصراعات المحلية وارتباطاتها وتقلباتها بعضها ببعض. ولأن سباق فرسَي الرهان الإقليمي يتبلور مع استمرار هيمنة الولايات المتحدة الأميركية على النظام الدولي الراهن، تبدو مقاربة علاقة كل منهما مع واشنطن حاكمة إلى حد كبير في تقدير سيرورة هذا الصراع ومآلاته. على ذلك تنشغل السطور المقبلة بتسليط الضوء على تصورات إدارة أوباما لتوازنات الشرق الأوسط وقابليتها لتحقيق مصالح واشنطن في المنطقة، ثم أبعاد علاقة كل من السعودية وإيران بالولايات المتحدة الأميركية، وفي النهاية خلاصة أولية.

 

تصوّرات أوباما لتوازنات الشرق الأوسط

ارتكزت واشنطن طيلة فترة الحرب الباردة وحتى أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ على تصور أساسي لتوازنات الشرق الأوسط الكبير يقوم على ثلاث بؤر استقطابية، لتمرير مصالحها في المنطقة ولتصريف فوائض القوة الإقليمية لدى الأطراف في مواجهة بعضها بعضاً، وليس في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية. كانت هذه البؤر الاستقطابية الثلاث هي التالية: الهند في مواجهة باكستان، وإيران في مواجهة العراق، وإسرائيل في مواجهة دول الطوق العربية. انهار التوازن الهندي ــ الباكستاني في أعقاب احتلال أفغانستان وضمور الأدوار الباكستانية واشتعال تناقضاتها الداخلية والعرقية، كما أن احتلال العراق في العام ٢٠٠٣ أطاح التوازن القائم بين العراق وإيران، حتى تدحرج الأمر وصولاً إلى تمكّن إيران من مفاصل القوة العراقية، في تعديل صارخ لنتيجة الحرب العراقية ــ الإيرانية بأثر رجعي. ومن الواضح أن انهيار البؤرة الاستقطابية الثالثة أي التوازن العربي ــ الإسرائيلي في ظل استمرار الصراع على المستوى الرمزي، مع غياب تسوية سياسية للقضية الفلسطينية، جعل فكرة التوازنات المهندَسة أميركياً في الشرق الأوسط طوال أكثر من خمسة عقود ضرباً من الماضي.

تبدو المصالح الأميركية الأعمق في الشرق الأوسط راهناً متمثلة في حماية النفط من الأقطاب المنافسة وخصوصاً الصين، فضلاً عن ضمان أمن إسرائيل وإعادة تشكيل التوازن والخرائط بما يضمن ويرسّخ هذا الهدف ومعه أمن الحلفاء الإقليميين الآخرين. من هذا المنظور يبدو التقدّم الذي حققه المحور الإيراني خلال السنوات الأخيرة على كامل الساحة الممتدة من العراق مروراً بسورية وحتى لبنان، مزعجاً للتوازن المرغوب أميركياً. من المنطقي إذاً أن الغرض الأساسي من المخاض الإقليمي الراهن سيتمثل على الأرجح في تغيير المعادلات المحلّية في المنطقة وأزماتها المشتعلة سواء في العراق أو سورية على الأرض، قبل الشروع بحلول سياسية تترجم هذا التغير إلى معادلات إقليمية وتوازنات جديدة، تضمن في النهاية المصالح الأميركية في المنطقة ضماناً أكثر نجاعة. وكل ذلك سيستغرق وقتاً. على ذلك، ليس المطلوب أميركياً القضاء على المحور الذي تقوده إيران، أو الانتصار للمحور الذي تقوده السعودية، وإنما دفع الطرفين، كلّ إلى تحجيم الآخر. ومردّ ذلك أن الصراع السني ــ الشيعي الذي تقوده كل من السعودية وإيران يشكّل مركز الدائرة التي سيدور عليها التوازن الإقليمي الجديد والمطلوب أميركياً، ويستجيب لحاجة إسرائيلية في تبديل هوية الصراعات المركزية في المنطقة إلى طائفية ومذهبية. باختصار غير مخلّ، المطلوب أميركياً من الحراكات الجارية في المنطقة ضبط التناقضات البنيوية والعداوات التاريخية بشكل أكثر مناسَبَة لواشنطن، وليس اجتراح تسويات تاريخية شاملة أو تعديلات بنيوية جذرية بين القوتين المتصارعتين. على ذلك، يبدو الفارق شاسعاً وضخماً بين التواطؤ مع أحد فرسَي السباق بغرض عرقلة الآخر أو حتى الانتصار لأي منهما، وإنما إعادة تشكيل موازين القوى لمصلحة ما تهندسه أميركا من توازنات.

السعودية وأميركا

فردَت بريطانيا مظلة حمايتها على السعودية في مواجهة الأتراك منذ بدايات القرن العشرين، واستمر ذلك الأمر قائما حتى تغيّرت موازين القوى الدولية مع صعود الولايات المتحدة الأميركية زعيمةً للعالم الغربي. وعلى الرغم من أنّ اعتراف أميركا بحكم آل سعود جاء في العام ١٩٣١ مترافقاً مع أول عمليات التنقيب الأميركية في السعودية (حصلت شركة ستاندارد أويل أوف كاليفورنيا على حق التنقيب في المنطقة الشرقية)، فقد تطوّرت العلاقات إلى مصاف التحالف الاستراتيجي في نهايات الحرب العالمية الثانية مع إعلان الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت بسْط الحماية الأميركية على السعودية بقوله: «الدفاع عن السعودية هو مصلحة حيوية للدفاع عن الولايات المتحدة الأميركية». ومنذ اللقاء الشهير الذي جمع الزعيمين على ظهر الفرقاطة توينسي في شباط/فبراير من العام ١٩٤٥ في البحيرات المرة المصرية، يشكّل التحالف مع الولايات المتحدة الأميركية، والاعتماد عليها في حماية أمنها القومي عمود خيمة المصالح الدولية للرياض، بمعنى آخر، أرسيَ أساس العلاقة بين الطرفين وفقاً لمعادلة «النفط مقابل الأمن».

ومع احتدام الحرب الباردة أخذت السعودية موقعها بوضوح ضمن الاصطفاف الغربي، واعتمدت واشنطن باضطراد على الموارد النفطية السعودية بصفتها أحد روافد زعامتها العالمية. وعند إعلان الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون فك ارتباط الدولار الأميركي بالذهب وفقاً لاتفاقية «بريتون وودز»، لم يسقط الدولار الأميركي في الأسواق العالمية ولم تتراجع المكانة الأميركية، والسبب واضح، أنّ سوق النفط العالمية تقيّم بالدولار وأنّ فوائض النفط تصبّ في النهاية في المصارف الأميركية، ما حفظ للدولار مكانته في العالم.

عزّزت السعودية مكانتها الإقليمية والدولية في أعقاب حرب أكتوبر/تشرين الأول ١٩٧٣، إذ سمح ارتفاع أسعار النفط في الفترة القليلة التي تلت تلك الحرب بفوائض مالية لم تعرفها السعودية في تاريخها، ما سمح لها بترسيخٍ أعمق لتحالفها مع الولايات المتحدة الأميركية. وبالرغم من الحرب الطاحنة التي دامت ثماني سنوات بين البلدين النفطيين الجارين العراق وإيران، وتعذّر التصدير منهما إلى العالم، فقد ظل سعر النفط متدنياً بشدّة (دار وقتها حول عشرة دولارات للبرميل الواحد) بفضل قدرة السعودية على الإنتاج وزيادة المعروض النفطي في العالم.

ترسم السعودية سياساتها النفطية في سوق الطاقة العالمية (تُصدّر ١٠ ملايين برميل نفط يومياً) بالتنسيق الكامل مع الولايات المتحدة الأميركية، كما تستثمر السعودية فوائضها النفطية، بالأخص في أميركا، بحجم استثمارات يقدّر بتريليونات الدولارات (التريليون يساوي ألف مليار). تقول التجربة التاريخية إنّ السعودية ساهمت في إسقاط الاتحاد السوفياتي السابق عندما رفعت إنتاجها اليومي من مليونَي برميل إلى خمسة ملايين برميل خلال الثمانينيات من القرن المنصرم، ما هبط بأسعار النفط بقسوة، وأثّر سلباً بالتالي في عوائد موسكو من النفط. وذلك بالتوازي مع ضغوط جيو-سياسية أميركية، قادت بالنهاية، ضمن عوامل أخرى، إلى سقوط الاتحاد السوفياتي.

ويشرح جايمس نورمان ذلك بسلاسة في كتابه المعنون: «ورقة النفط: الحرب الاقتصادية العالمية في القرن الحادي والعشرين»، كيف أمكن للسعودية المساهمة في تشكيل موازين القوى العالمية باستخدام ورقة النفط. وبالإضافة إلى ذلك، تستورد السعودية عتادها العسكري في غالبيته الواضحة من الشركات الأميركية، فتكون قد ضمنت بذلك تأثيراً غير قابل للنكران على مكوّنات النواة الصلبة لصنع القرار الأميركي: (اللوبي المالي) حيث الإيداعات السعودية الضخمة في المصارف والبنوك الأميركية، والتنسيق في سوق النفط من حيث الكميات والأسعار (لوبي النفط)، وليس انتهاءً بالمجمع الصناعي ــ العسكري الأميركي عبر مشتريات السلاح.

وعرفت العلاقات الثنائية السعودية ــ الأميركية فترة ازدهار نوعية مع رئاسة جورج بوش الأب للولايات المتحدة، وارتباطاته التاريخية مع لوبي النفط، والأدوار الاستثنائية التي قام بها الأمير بندر بن سلطان في تعزيز العلاقة بين آل سعود وآل بوش. ثم تغير الحال مع هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، حين اهتزّت صورة المملكة في أميركا، ما دفع السعودية إلى القيام بحملات مكثفة للعلاقات العامة كلّفت الكثير من المال، لعقد مؤتمرات «حوار الأديان»، وتدشين حملات الدبلوماسية العامة لتعميم صورتها باعتبارها الشريك الذي يُعتمد عليه في الشرق الأوسط وسوق الطاقة العالمية. ومع احتلال العراق عام ٢٠٠٣، تبدّلت موازين القوى في المنطقة لمصلحة إيران، بالتوازي مع ظهور عدم قدرة السعودية على رص اصطفاف إقليمي قوي في مواجهة طهران وطموحاتها الإقليمية.

تحيط مصادر التهديد بالسعودية من كل اتجاهات جوارها الجغرافي، سواء من أقصى الشمال حيث الوضع في سورية المتحالفة مع إيران، أو من الشمال الشرقي حيث العراق بتركيبته السياسية الجديدة بعد ٢٠٠٣، أو من الشرق في الخليج حيث البحرين. ومن الجنوب الغربي حيث عدم الاستقرار في اليمن والمعارك الطاحنة التي تدور فيه مع الحوثيين لحظة كتابة هذه السطور. كل مصادر التهديد هذه تحمل ــ من المنظور السعودي ــ طابعاً إيرانياً إلى الحد الذي أصبحت فيه الأخيرة التهديد الرقم واحد للسعودية.

شعارات مناهضة للولايات المتحدة الأميركية على جدار السفارة الأميركية المغلقة في طهران (تصوير فيليب مايوولد)

تقليدياً، تكمن المصالح الإقليمية للسعودية في معاداة التغيير وتفضيل إبقاء التوازنات الإقليمية على حالها، أو بعبارة أخرى، تدافع السعودية بضراوة عن استمرار الوضع القائم، الأمر الذي يمثل نقطة ضعفها الأساسية. وذلك لاضطرارها للتموضع في موقع الدفاع أمام أية قوة في المنطقة، تطرح مشروعاً إقليمياً يتجاوز حدودها. لكل ذلك تعمل السعودية بدأب على تعزيز ورعاية الاتجاهات المحافظة السياسية والدينية في المنطقة، فتفلح من ناحية في كبح الاتجاهات الليبرالية، إلا أنها من ناحية أخرى تدفع ثمناً سياسياً كبيراً لظهور اتجاهات راديكالية ومغرقة في المحافظة بالعقدين الأخيرين.

لا بديل أمام السعودية عن الاستمرار في التحالف مع واشنطن لحماية أمنها ومصالحها، في حين يملك أوباما بالمقابل مروحة أوسع من البدائل.

لا بديل أمام السعودية عن الاستمرار في التحالف مع واشنطن لحماية أمنها ومصالحها، في حين يملك أوباما بالمقابل مروحة أوسع من البدائل. انتعشت آمال أوباما في تشكيل اصطفاف جديد في المنطقة مكوّن من دول «الربيع العربي» وتركيا إلى جوار محور السعودية ومحور إيران لتعظيم الشركاء والبدائل، لكن هذه الآمال عادت للانتكاس من جراء إطاحة حكم جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر العام ٢٠١٣. لذلك، أرسى أوباما تفضيلاته لتصميمات الشرق الأوسط على محورين أساسيين: محور إيران مع تشذيبه وكبحه بنعومة، ومحور السعودية مع تصليبه في منطقة جواره الجغرافي، بالتوازي مع إبقاء تركيا وإسرائيل حليفين جاهزين للتدخل لصالح أحد المحورين في حال تطلبت المصالح الأميركية ذلك. في هذا السياق التصميماتي الجديد، أيّدت واشنطن عملية «عاصفة الحزم» وسهّلت صدور القرار ٢٢١٦ من مجلس الأمن، لمساعدة السعودية على مواصلة السباق الإقليمي في مواجهة إيران.

راهنت إيران على فوز أوباما في الانتخابات الرئاسية الأميركية، متخلّية عن إرث تاريخي ربط موضوعياً مصالح إيران بذلك القسم من اللوبي النفطي في أميركا، والذي يظاهر تقليدياً الجمهوريين. وتنطبق هذه الحقيقة على إيران زمان الشاه، مثلما على جمهورية إيران الإسلامية. والدليل الأوضح على ذلك أزمة الرهائن الأميركيين في طهران نهاية العام ١٩٧٩، والذين أطلقت إيران سراحهم بالتزامن مع أداء الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان القسَم الرئاسي مطلع العام ١٩٨١ إثر فوزه على الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر، الذي امتنعت إيران عن مساعدته في حل الأزمة طوال السباق الانتخابي لتخرج المنافسة بينهما بنتيجتها المعلومة. في الانتخابات الأميركية ٢٠٠٩ و٢٠١٣ انحازت المصالح الإيرانية لأول مرة إلى المرشح الديمقراطي باراك أوباما، وبدا واضحاً أن غالبية كبيرة من الأميركيين ذوي الأصول الإيرانية (يزيد عددهم على مليون أميركي) صوّتت لمصلحته، على الرغم من معارضتهم لسياسات النظام الإيراني خوفاً على بلادهم من ضربة عسكرية قد يوجهها المرشحون الجمهوريون في حال انتخابهم. وفي المقابل، أبدى أوباما قدراً واضحاً من الصمود أمام الضغوط الصهيونية في ما يخص توجيه ضربة عسكرية إلى إيران.

تعود أهمية انتخاب أوباما إيرانياً إلى أنّ مروحة الاحتمالات تنفتح معه على احتمالات شتى، تبدأ من حوار أميركي ــ إيراني يقنن بالنهاية دور إيران الإقليمي، وحتى توجيه ضربة عسكرية إلى منشآت إيران النووية. وبالرغم من تقدّم المفاوضات النووية بين إيران وأميركا والتوقعات العالية بنجاح البلدين في إبرام اتفاق شامل هذا العام، مازالت إيران تشكل معضلة أميركية لعدة أسباب. أولها أن تقنين دور إيران الإقليمي يعني بالضرورة الاعتراف لها بما حققته من نفوذ في المنطقة خلال العقد الأخير، وبدوره، يعني هذا الاعتراف تأثيراً سلبياً في علاقات واشنطن بكل من تل أبيب والعواصم الخليجية وأنقرة. كما أن توجيه ضربة عسكرية سيعني ــ بافتراض نجاحها في إنجاز أهدافها السياسية ــ أنّ المنطقة سيلزمها ترتيب إقليمي جديد بما يملأ الفراغ الذي ستتركه، وهنا ستكون التداعيات فادحة بسبب الدخول المرجّح لقوى من خارج المنطقة إلى قلب توازناتها لملء الفراغ (الهند في الخليج وروسيا في شمال إيران)، وهو ما يتناقض مع التصورات والتصاميم الأميركية لمصالحها في الشرق الأوسط. بكلمات أخرى، يقول المنطق الداخلي للعلاقات الأميركية ــ الإيرانية إنها عابرة للبعد الثنائي ومتخطية له إلى البعد الإقليمي، سواء عند الحوار أو المواجهة العسكرية.

يعتقد أوباما أن الاتفاق الإيراني ــ الأميركي حول الملف النووي سيعبّد الطريق أمام رفع العقوبات الاقتصادية تدريجياً عن إيران، ولكنه سيعني في الوقت نفسه تبدّل موازين القوى داخل إيران لمصلحة رموز الاعتدال الإيراني، رفسنجاني وروحاني. كذلك إبرام الاتفاق الشامل سيعني على الأرجح تراجع مواقع المؤسسة الأمنية الإيرانية بقيادة الحرس الثوري في إدارة الملفات الإقليمية لصالح روحاني ومن خلفه رفسنجاني، وهي نتيجة جيدة لواشنطن. ستكون إيران في حاجة إلى بعض الوقت والكثير من النجاح في إدارة الملفات والمآزق الاقتصادية كي تبدأ في جني ثمار رفع العقوبات، وحتى ذلك الحين سيكون الانتباه الإيراني مركّزاً نحو الداخل وتكريس توازنات جديدة في مفاصل الدولة الإيرانية، وبالتالي فالفرصة متاحة أمام واشنطن للتحكّم بالإيقاع الإيراني في الإقليم مهما بدت الصورة محتدمة في ملفات المنطقة راهناً. يراهن أوباما أساساً على قدرات بلاده في التأثير على معادلات إيران الداخلية عبر الشبكات الدولية العابرة للجنسيات، تلك التي ستستفيد من فتح الاقتصاد الإيراني أمام التجارة الدولية وتتغلغل فيه لفترات طويلة مقبلة، كما حدث مع تجارب شبيهة سابقة (حالة مصر السبعينيات مثالاً).

من ناحيتها، تعلم طهران جيداً أن طموحها التاريخي المتجدد للعب دور إقليمي في المنطقة لن يجد اعترافاً دولياً به سوى على مائدة المفاوضات مع واشنطن، أما المهارة والمداورة التي أظهرتها في طول المنطقة وعرضها على مدى السنوات العشر الماضية، فكانت الشرط اللازم لإجبار واشنطن على الجلوس إلى مائدة المفاوضات. وهكذا ارتقت أولويات طهران من مجرد حماية نفسها من ضربة أميركية محتملة، إلى حصد الأوراق الإقليمية ورعايتها انتظاراً للحظة الجلوس إلى طاولة المفاوضات التي أتت ولن تدعها إيران تفلت. لنتأمل القصور الذاتي والمبرمج للتصعيد في الملف النووي الإيراني ومدى مطابقته للمصالح الأميركية في المنطقة، ما يفسّر رغبة أوباما في حلّه سلمياً لحفظ المصالح الأميركية وليس انحيازاً لإيران أو رهبة من قدراتها. كلما امتنعت إيران عن الاستجابة لطلبات الدول الست الكبرى بخصوص برنامجها النووي، شددت أميركا والدول الأوروبية العقوبات الاقتصادية عليها بضغط من إسرائيل واللوبي الصهيوني في واشنطن. وبالنتيجة كلما اشتدت العقوبات الاقتصادية على طهران كي ترضخ تفاوضياً، مضت إيران أبعد في مشروعها النووي برفع نسبة التخصيب، بغرض مقايضة الرجوع عن نسبة التخصيب المرتفعة برفع العقوبات الإضافية الجديدة، وهكذا دواليك.

باختصار، كلما زادت العقوبات على إيران زادت الأخيرة من نسبة تخصيب اليورانيوم واقتربت من الخط الأحمر الأميركي، وهو أمر لا يمكن أن يستمر كذلك طويلاً لأنه سيكون على أميركا أن تقبل بإيران نووية في النهاية، أو توجيه ضربة عسكرية إليها. وكلاهما أمران لا يرغب أوباما في رؤية أي منهما يتحقق، ومردّ ذلك أن إيران نووية ستخرج عن التصميم الإقليمي المرسوم وتهدد التوازنات المهندَسة أميركياً، كما أنّ توجيه ضربة عسكرية لإيران سيشرع أبواب المنطقة لقوى إقليمية من خارجها، منها مثل الهند وروسيا مثلاً، للنفاذ إليها بغرض تعبئة الفراغ الناتج من الضربة العسكرية، وهي نتيجة لا ترغب واشنطن بالطبع فيها. لذلك السبب فشلت تل أبيب في تحريضها المتكرر على ضربة عسكرية لمنشآت إيران النووية، ويعود هذا الفشل إلى أن الهدف السياسي المتوخّى من الضربات غير مضمون التحقق، كما أن التداعيات الإقليمية للضربة ستكون غير مواتية لواشنطن، وليس لأن تل أبيب عديمة التأثير في واشنطن.

يبدو الصراع السني ــ الشيعي في المنطقة بالقيادتين السعودية والإيرانية أمراً مواتياً للمصالح الأميركية، ومن البديهي أن استمرار الصراع يعني حكماً عدم تمكّن أحد طرفيه من القضاء على الآخر. ولأن إيران تملك تفوّقاً نسبياً على السعودية في ساحات الصراع الإقليمي بالوكالة في العراق وسورية ولبنان، سيستلزم الأمر تشذيب الأطراف الإيرانية في المنطقة بالوسائل الناعمة. ويتيح الاقتصاد الإيراني المتطلع إلى الاستثمارات الأجنبية والانفتاح على الأسواق العالمية أفضل الفرص لواشنطن للتغلغل عبر شركاتها الكبرى والعابرة للقارات في مفاصله، وصولاً إلى التأثير في قرار إيران السياسي والإقليمي بما يضمن بقاء التوازنات المهندَسة أميركياً للإقليم في مكانها. حتى ذلك الحين ستتعاون واشنطن مع فرسَي الرهان الإقليمي في كل الملفات العالقة دون الانحياز لطرف على حساب آخر، ولعلّ أبلغ دلالة على ذلك تعاونها مع السعودية جواً في مواجهة «داعش» ومع إيران براً في مواجهة ذات التنظيم أيضاً. وفي النهاية، من الخطأ توصيف أوباما بالتوصيفات المذهبية الرائجة في المنطقة، إذ إن الرجل ليس سنياً أو شيعياً، وإنما أميركي يسعى إلى تحقيق مصالح بلاده، وضبط حراكات المنطقة على قياس المصالح الأميركية وقيافتها.

العدد ١١ - ربيع ٢٠١٥
ضبط الصراع الإقليمي

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.