العدد السابع - شتاء ٢٠١٤

العراق مثالاً وحنا بطاطو دليلاً [٣]

من الاجتماع العسكري إلى الدولة الحزبية

النسخة الورقية

تاريخ العراق الحديث، في مرآة جامع حنا بطاطو، يشكو، إلى شكواه، كثرة الجماعات وتفرق مقوماتها ومُسْكاتها، عمق الانقسامات وبُعد الهوة في الجماعات كلها، وفي الجماعة الواحدة، وثقل ريع المكانة في توزيع العوائد، وعلاقات التوزيع الغالبة. فإذا كانت العوائد والريوع، وهي الغالبة غلبة ساحقة على «الإنتاج»، تبعاً لمكانة الجماعة (العشائرية والمذهبية والاجتماعية المختلطة أو المشتركة: كبير العشير، ملاك الأرض من السادات أو الموظف الشريفي...) وأعيانها، لم يفضِ ذلك إلى لجم الاستقطاب الثنائي بين الحكام وبين المحكومين في الجماعة الواحدة، القرابية أو السكنية. فغلبة الريع، والدَّيْن به إلى المكانة، تدعو أهل القوة والسلطان في الجماعة الواحدة إلى حمل المكانة والعوائد على حق خاص، شخصي فردي وجماعي معاً، لا يتجزأ، وإلى اعتبار توزيع العوائد داخل الجماعة، وفي محكوميها، أجراً يجزي طاعة أهل المكانة ويكافئ على التعصب لهم. وينبّه الأمر إلى مخالطة علاقة قنانة وعبودية بُنية العلاقات الاجتماعية بين أهل القوة وبين أهل الضعف، أو بين «طبقة» المسيطرين وبين «طبقة» الخاضعين، في الجماعة الواحدة، قومية أو عشائرية قبلية. (يخمِّن بطاطو في تحدّر أحوال الفلاحين الكُرد العاملين في أراضي الأغوار، التركمان، أولاً والكرد من بَعدهم، بكردستان العراق من قنانة غير بعيدة زمناً، ج ١، فصل ٤، ص ٦٦- ٦٧، وفصل ٦، ص ٨٩ – ٩٠ ٩٦- ٩٧، «الغوران» أو «الرعية» أو «كيلو سبي» تشبه أحوالهم أحوال العبيد الزنوج في جزر الهند الغربية؛ وفي شأن الخزاعل والزبيد بالفرات الأوسط ودجلة الأوسط وسلطان الأوائل على آل الشبل وعلى الغزالات وخفاجة من غير الخزاعل، ص ٩٥ – ٩٦).
وما يصدق في علاقة المرتبة الغالبة بالمرتبة المغلوبة أو المنقادة في إطار العشير الواحد، أو دائرة الإقامة الواحدة التي تفترض على الدوام حبلاً أو رابطة، قد يصدق في دائرة عريضة تجمع بلاداً واسعة. فيتولى الفرق أو الاختلاف المذهبي بين الحاكم والمحكوم توسيع الهوة بين المرتبتين أو الحالين، ويرسي هذه، وتقسيمَ العمل الاجتماعي الذي يسوغها ويجدد عواملها ومفاعيلها، على علل وأهواء تجمع البداهة إلى الحرارة. وعليه، كان في الثلث الأول من القرن العشرين، كبار ملاك الأرض في لواء البصرة سُنّةً، والعمال في أراضي الملاك السنة شيعة، يستثنى شيخ المحمّرة من الترتيب (ج١، فصل ٤، ص ٦٥ وما يليها). وغلب تجار سنة «دهاة من نجد»، على أسواق الجنوب المنصوبة على الترع في الصحراء القريبة، بينما فلاحو المنتفق، وآل السعدون السنّة أعيانه غير منازعين، شيعة إماميون اثنا عشريون. ويتقدم هزاع بن محمد، شيخ مشايخ المعامرة، من حلف زبيد و«كونفيديراليتهم» القبلية، بيوت أهل الحلة، والعمال في أراضيه الشاسعة التي آلت إليه وإلى آبائه من قبل من قانون ١٨٥٨ العثماني العتيد ومن قوانين ١٩٣٢- ١٩٣٨ من بعد، هم شيعة. والحال التي استقرت في الأرض وملكها وزراعتها، وتحدرت إلى «أهل» العراق ودولته من حال سبقت اجتماع العراقيين في دولة هي سيطرة عشائر «أهل الإبل» السنة على «أهل الضأن» والغنم ورعاتها من الشيعة، غلبت على مؤسسات القوة في الدولة: فمعظم ضباط القوات المسلحة كانوا سنة ومأموروهم الأنفار والرتباء وضباط الصف كانوا شيعة.

انقسامات اجتماعية وانقسامات عرقية ودينية

ويحل في بلاد الشمال محل الرسم المذهبي المرتبي رسم قومي (أقوامي) لا يقل مرتبية، ويتولى شبك الفرق الاجتماعي بحاجز «طبيعي»، دموي ونسبي، سميك. فعاد مِلك ٤٥ قرية بأربيل وريفها القريب، من ٦٥ قرية، إلى ملاك واحد تركماني. وكثرة أثرياء أربيل، وثراؤهم مادته الأرض، هم من التركمان. ويبلغ الكرد من السكان ثلاثة أرباعهم، وهم الفقراء. ويشخص أهل القوة من تركمان أربيل رجحان كفتهم في ميزان الاجتماع، فينزلون (على) قمة رابية تعلو الأرض السهلة أو قدم الرابية وسفحها، ٥٠ متراً. ويقيم الفلاحون بالسفح (ص ٦٠). وأثرياء كركوك إما تركمان وإما كرد «ينتسبون إلى التركمان»، ويرعى عرب مواشي هؤلاء وأولئك في مراع يعود ملكها إلى الفريقين. وإذا ملك الأرض بالموصل عربٌ مسلمون تولى العمل فيها آراميون مسيحيون. وفي بلاد الكرد، ملاك الأرض أغوات يحوطهم وكلاء ومحاربون عشائريون، وفلاحوهم «رعية» و«مساكين»، على ما يسمون كناية عن انتفائهم من النسب العشائري الذي يلحمهم إلى أمثالهم ويخوّلهم حمل السلاح والقتال والاقتتال. ويفترض التخمين، وهو مرّ أعلاه، أن الفلاحين هم من أهل الجبال الرُحّل الذين غلبوا القوم الأصليين واستولوا على أرضهم و«عليهم» وعلى عملهم عنوة.
وعليه، فليست الانقسامات العرقية والدينية المزمنة على علاقة «مطابقة» بالانقسامات الاجتماعية (ج 3، فصل ٩، ص ١٧٩) وحسب. وبعبارة أدق، المطابقة وجه إنشائي أو بنيوي من وجوه السيرورات الاجتماعية والتاريخية التي نظمت العمران العراقي الوطني الحديث ورتبته على مراتبه وعلى (منطق) نزاعاته. وإذا أماطت «حوادث» الموصل في شتاء ١٩٥٩ (حين انفجر خلاف العارفيين الناصريين العروبيين والشيوعيين القاسميين والعراقويين على مسألة الاصلاح الزراعي) الغطاء عن القوى الأهلية والاجتماعية و«عرّت» المجتمع العراقي – فقام الكرد والأيزيديون على العرب، والأشوريون والآراميون المسيحيون على المسلمين (العرب والكرد والتركمان)، واقتتلت قبيلة البومتيوت من العرب وأهل الزَّرع وشَمَّر من أهل «الإبل والحرب»، وأغار الكركرية الكرد الفلاحون على البومتيوت العرب الفلاحين، وثار جنود اللواء الخامس الشيعية على ضباطهم السنّة في معظمهم، ونهض فلاحو ريف الموصل وضواحيها على المدينة الحاضرة والكرسي السياسي والاداري ....- تضافر الوجهان أو البابان، الوجه العصبي الأهلي والوجه الاجتماعي الطبقي والسياسي (السلطوي)، على صوغ الانفجار والنزاعات أو إخراجه على النحو الذي خرج عليه وتصور. وتبدو «المطابقة»، أو فكرتها، في هذا المعرض ضعيفة وغير وافية. فالمذاهب والأقوام والمراتب القبلية، وتفرق «الطبقات» من أهل القوة وأهل الضعف عليها، ليست مذاهب هؤلاء أو أولئك اتفاقاً أو مصادفة، فهي في صلب تقسيم السلطة والأدوار والعوائد، وعامل إنشائي في تعريفاته طبائع هذه (السلطة...) أو مادة علاقاتها ونزاعاتها.

الحرب ركناً اجتماعياً - سياسياً

وعلى رغم أن «الواقعة» «افتراض»، على ما يكتب الكاتب، وتخمين، على ما مر القول، فالذهاب إلى أن فلاحي كردستان العراق ينسبون إلى «العرق» الكردي اصطلاحاً (إذا جازت العبارة) وليس وضعاً طبعاً، وأنهم أُدخلوا في هذا النسب في وقت يعود إلى نحو ١٨٢٠ حين استولت قبائل جبلية رحَّل على البلاد وأهلها، وأخضعتهم بالقوة وملكت عليهم، فحملتهم على نسبها هي، الكردي، وأبطلت رابطة أو لحمةَ نسب في ما بينهم فأثبتتهم «رعية» أو «مساكين»، منفيين مما يتماسكون به غير مغلوبيتهم - المذهب هذا يكني على وجه أسطوري تاريخي عن صدارة الحرب والاستيلاء العصبي وأثرهما في مصائر الجماعات ومجتمعاتها ودولها. فالحرب سوغت نسباً «طبيعياً» أو دموياً، وصاغت في لغة الأنساب والأعراق ومبانيها المرتبية العملية والإجرائية، قطبية حادة باعدت بين المنتصرين المستولين والمغلوبين الضعفاء. ولكن تنسيب المغلوبين، وهم على مغلوبيتهم ودنوّ مرتبتهم، إلى عرق المنتصرين الأسياد «يدجّن» سيادة هؤلاء وولايتهم، ويصبغها بصبغة داخلية وذاتية وأهلية. فلا فكاك منها ولا خلاص إلا بالحرب... الأهلية، وصرمها الأرحام والأصلاب، وعدوان «الأخ» على «أخيه» وقيامه عليه. (ولعل إشهار صدام حسين نسباً علوياً، إلى علي بن أبي طالب، غداة إجلائه عن الكويت وثورة الجنوب الشيعي الإمامي عليه، وعلى جيشه وحرسه، من ذيول صوغ الحرب والفتح الاستيلاءَ في لغة الأنساب ومبانيها، وصدى من أصدائه القوية والمقيمة، وربما المزمنة). والانتقال أو التحول من مذهب إلى مذهب، غالباً من مذهب أهل السنّة إلى التشيع الإمامي، أو انقسام الجماعة النسبية الواحدة جماعتين فرعيتين مذهبيتين، هما من مفاعيل الحرب، على معنى الغلبة والاستيلاء. فشمَّر جربة (أو جربا، على ما تكتب كذلك) وشمَّر طوقة، كلتاهما من شمَّر نجد، كانت الأولى تنزل بالموصل والجزيرة بين الفرات ودجلة والثانية بجنوب بغداد على دجلة، وأقامت الأولى على مذهب أهل السنّة وتشيعت الثانية. وهي حال آل فتلة من الديلم، والجبور ومشايخ الزبير وبني تميم. وتعليل الأمر هو قيام العشائر على الحكومة السنية، وقتالهم إياها. وهجرة المغلوبين الى بلاد تخالف السلطان على معتقده وفقهه (ج ١، فصل ٣، ص ٦١- ٦٢).

ونفَذَ استثناءُ الخلافات العشـائرية من القانون الجنائي والمدني العام، والإقرار لأعراف العشائر وتقـاليدها بقوة الإلزام، ووصفها بــ «قـانون البــلاد الطبيعـي»

ويُثْبت حنا بطاطو الحربَ، على صورة الاستيلاء على شطر من موارد الأرض والحِرَف والتجارة والانتقال و«العمل» والمكانة، ركن الاجتماع والعمران العراقيين. ودوائر السكن والإقامة، أو جغرافيا السكان، كانت إلى ١٩٢٠ واحتلال القوات البريطانية العراق كله وتمليك فيصل بن الحسين على بلاد الرافدين – هي نفسها دوائر العشائر والقبائل ومنازلها المضطربة والمتنازعة، بين السليمانية وبلاد ما بين ديالى والزاب الصغير فالزاب الأعلى، شمالاً، المنتفق والغراف والفرات الأسفل، جنوباً. وإذا استقر عمران أو استيطان زراعي كثيف بين كركوك وأربيل والموصل، وهي طريق البريد إلى إستانبول، وعلى شط العرب جنوباً. وانتشرت في المدن النهرية وحولها بلدات مزارع وبساتين نخل. وحف ريف زرع أخضر مواطن الإقامة المتمكنة في الجبال التي يرويها المطر؛ لم ينفك الاستقرار والانتشار والتمكن غنيمة انتزعت في حروب مزمنة من «دائرة البداوة القلقة» (ص ٩٠). والجماعات القبلية، العربية والكردية والتركمانية، تأتلف الواحدة منها من أحلاف. وتشق الحلف الواحد منازعات وخلافات. وتنشب في الحلف حروب دامية وغزوات وتنحية أمراء. فتتحد الكلمة إما على غزوة مشتركة أو على مدافعة غزوة يشنّها خصم قوي وداهم. فـ«الحرب والدفاع عن النفس هما علة (الاتحاد)». ويخلص الكاتب من هذا إلى أن «التنظيم الاجتماعي» (العراقي) في الدوائر المتخللة معظم البلاد العراقية «عسكري أولاً» (ص ٩٤). وتعود الرئاسة السياسية حكماً إلى من يجمعون المِراس الحربي إلى التحدّر من أصل أو نسب واحد، «ضاوٍ»، على ما كتب ابن خلدون.

وغلبت هذه الحال إلى ١٩١٧- ١٩١٩، على ما ينبّه بطاطو في مواضع كثيرة. وهو يعزو إلى القوات البريطانية المحتلة بقاء البلاد العراقية «واحدة»، أو، على وجه الدقة، تفاديها الانفجار في ختام انتفاضة ١٩٢٠. فحروب العشائر والديرات، وحروب العشائر والمدن، وبعض هذه وتلك هي حروب أهلية أو حروب مذاهب وأقوام، قلما تؤدي إلى غلبة ثابتة على بلاد عريضة، وعلى «أهل» مختلطين نسباً ومعاشاً. وهذا الضرب من الغلبة أو السيطرة محال على بلاد واسعة ومتنوعة السكان والجماعات، شأن البلاد العراقية التي كانت تتقاسمها قبل الاحتلال البريطاني ولايات عثمانية كبيرة (البصرة وبغداد والموصل والكرك) ومشيخات وإمارات محلية كثيرة. وهذا على خلاف نجد القريبة التي وسّع أمير الدرعية فيها، في العقدين الأولين من القرن العشرين، جمع واحاتها وبلداتها وديراتها في سلطنة واحدة وملحقات قبل ضم الحجاز إليها، وإنشاء «مملكة عربية سعودية». فـ«التنظيم الاجتماعي العسكري»، والقبلي، يناهض استتباب الأمر لقوة مركزية متغلبة وثابتة، تتولاها عصبية واحدة، على المثال العربي و«الإسلامي» المعروف. فالجماعات المتفرقة التي (لا) ينتظم منها هذا الضرب من العمران لا تأمن انقلاب السيادة أو الولاية إلى حيازة العصبية المستولية وحدها على «أسباب» السلطان، واستعبادها «الرعية» و«الغوران» و«الكيلوسبي» (أصحاب القلنسوات البيض، بالكردية) و«الرَّدّ» و«الموالي»، وحلها عرى الجماعات الضعيفة والمستتبعة وأنسابها في أسماء أهل العصبية المستولية والمتسلطة وحملها على صيد السمك، وفلاحة الأرض، ورعي الجاموس، وحياكة الحصر. وينزع منها، بديهة، السلاح «زينة الرجال»، على شاكلة المغلوبين في «سيرة الزير بوليلى المهلهل» أو أهل الذمة، ولا يُزوَّجون ولا يتزوجون إلا في أهلهم...

Line_4_1.psd 4 Line_4_1.psd
Line_4_1.psd من الاجتماع العسكري إلى «الدولة» الحزبية Line_4_1.psd

وعلى هذا، ولدت دولة عراقية «واحدة» على يد قوات عسكرية أجنبية غالبة، خولها تفوقها العسكري والتقني الكاسح السيطرة على البلاد والسكان والموارد والعلاقات الاجتماعية والسياسية. وقضت العلاقات الدولية ومعاييرها السائرة، في عهدة أوروبية قديمة وأميركية مستجدة وسوفياتية منازِعة، بانتداب القوى المنتصرة إلى إنشاء دول وطنية، على مثال إداري وعسكري وأهلي – شعبي وإقليمي متعارَف. وافترض هذا توحيد «طبقة» حاكمة ومسيطرة مجتمعة أو واحدة في حضانة مَلَكية شريفية تتمتع بمشروعية غير منازعة ما أمكن، سندها دالة معنوية وتاريخية (نسبية) متصدرة، وتملك موارد ومصالح تتماسك السياسة العامة بها. وتجيز لها ترجيح قراراتها وكفتها غير المنازعة، وتقود قوات عسكرية وأمنية تأتمر بأمرها وتُنفذ كلمتها عنوة وبالعنف إذا اقتضت الحال إعمال العنوة والعنف. وخالفت هذه المقتضيات الوقائع السياسية والاجتماعية القائمة، على نحو ما ناقضت معاييرها وموازينها معايير الجماعات الأهلية والعصبية، منفردة أو مجتمعة في إطار «جامعة» سياسية واسعة مثل السلطنة العثمانية، وموازينها. فالفروق الحادة بين الكتل السكانية الكبيرة، ولعل أبرزها وأعرضها الفرق بين أهالي المدن النهرية والمستوطنات الزراعية الثابتة وبين أهالي الأرياف والديرات والبوادي، وداخل الكتل نفسها، وغلبة «التنظيم العسكري» ودواعي الحرب على علاقات الجماعات بعضها ببعض، هذه الفروق بعثت عداءً عاماً للدولة، ولشكلها الإداري القانوني والهرمي المركزي وفرعيها العسكري (التجنيد) والمالي (الجباية)، واستفزت مدافَعَة أو رفضاً لها لا يقارنان إلا بقوة النازع العصبي القريب و«الحميم» والتمسك المستميت بحِدثه وفرادته وحقوقه المتوارثة.
والكلام على شكل الدولة لا يعني وحدانية هذا الشكل المعيارية. ويُقصد به ما اشتركت فيه السلطنة العثمانية والنمسا – المجر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، على سبيل المثل. وهما اشتركتا، على رغم إسلامية الأولى وكاثوليكية الثانية، في النازع المعلن إلى إدارة واحدة، هرمية وقانونية، ورغبتا رغبة قوية في تجنيد الشبان الأصحاء من رعاياهما وفي جباية الميسورين وربما المعسورين من هؤلاء. فلا مدخل لـ«مضمون» الدولة، الاعتقادي أو القومي، في الأمر، ولا «إقحام» الدولة على وقائع اجتماعية وثقافية وتاريخية مخالفة أو مباينة. فالسعي «الداخلي» في الاستيلاء والسيطرة باسم الدين أو باسم «حق الغلبة»، بعث على الدوام المدافعة والرفض اللذين مرّ الكلام فيهما.

تغليب «الطبقة»

وتصدرت القوة البريطانية المنتدبة في وقت ضائقة مالية حادة وعصر نفقات، إلى إنشاء «طبقة» حاكمة وطنية أو واحدة متماسكة من خليط «طبقات» أهلية متباينة تبايناً شديداً، ومتربعة في سدة أو سدات جماعات متنافرة ومتقاتلة إلى أمس قريب، وتفصل بينها وبين عوامها المحكومين هوة عميقة، ولم يسبق لها أن تحالفت في ما بينها حلفاً يتعدى الحرب وظروفها الآنية العابرة، ولم تدن بالولاء للسلطنة وولاتها وباشواتها إلا على شروطها هي: لا يفترض ولاؤها القتال تحت راية غير رايتها ولا تؤدي فريضاً أو مالاً (وهذا ما قصده بعض العرب قبل الإسلام وبعده حين قالوا في أنفسهم «نحن قوم لَقاح»، لا سيادة لغيرهم عليهم).
وإلى ملاك الأرض الأغوات وشيوخ العشائر والسادة الحضريين والعلماء ورؤساء المذاهب والطرق الصوفية والأعيان والمضاربين والتجار والصيارفة والصناعيين، طرأت جماعة أو فئة جديدة من الضباط الشريفيين الذين نشأوا وشبّوا ودرسوا في إستانبول، وقاتلوا في صفوف الجيش العثماني. وقدم هؤلاء العراق في ركاب فيصل، الأول عراقياً ولاحقاً، وكانوا «جهازه» السياسي، هو العاري من كل جهاز غير نسبه الهاشمي الشريف ومَيل والده، شريف مكة، إلى البريطانيين واستجابته طلبهم إعلان الثورة على جيش السلطان ومواصلاته في شبه جزيرة العرب (إلى «وسامته»، على زعم ماسينيون غامزاً من لورنس، ومثليته). ومعظم هؤلاء الضباط من أصول متواضعة أو متوسطة. ودراستهم العسكرية، قبل انخراطهم في القتال وانتسابهم إلى جمعيات عربية سرية أبرزها «العهد»، كانت طريقهم إلى ارتقاء وظيفي سلكي وسياسي يدين به أولاد من سماهم محمد جابر آل صفا، مؤرخ جبل عامل اللبناني، «وجهاء الصف الثاني» - كناية عن ذرية موظفي الإدارة العثمانية في الولايات وملتزمي الجباية في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، وعلى الضد من «رؤساء العشائر» وشيوخها - إلى «التنظيمات» وسعيها في اصطفاء طبقة إدارية عثمانية، إستانبولية إذا جاز القول، تتقدم أواصرها بكرسي السلطنة وهيئاتها روابطَها الأهلية.
وإذا صدق أن الإدارة البريطانية الانتدابية رغبت في توسيط طبقة حاكمة وطنية بينها وبين العراقيين، أو سكان البلاد العراقية، وهذا ما لم تكن مخيّرة فيه وهو وجه ملزم من «روح العصر» وتثمينه الإدارة الذاتية في الأمور كلها. فتتولى أكلاف «بناء الدولة» وأكثر المادية والمعنوية وتُجزي الدولة المنتدبة ورعاياها من عوائد التجارة التفضيلية والأسواق المفتوحة والخامات الرخيصة ومن الانقياد إلى المصالح البريطانية الاستراتيجية في إقليم حيوي، فالحق أن الأمر في العراق بلغ من التعقيد مبلغاً امتحن الخبرة البريطانية الاستعمارية، وأرهقها. فعمد جهاز الانتداب إلى ما يشبه توحيد «طبقة» حاكمة زراعية، أو زراعية – أرضية في عبارة أدق، دمج فيها مصادر الملاكين المتفرقة – شيوخ العشائر والأعيان والسادة وكبار الموظفين والعلماء والضباط والمتصوفة... وسوّى بينهم على موقع مشترك من علاقات «الإنتاج» أو الريع الخالص في هذه الحال. فنشأت طبقة ملاكين زراعيين هرمية مقلوبة: 1,1 في المئة منهم حازوا 55،1 في المئة من الأرض، بعضهم ملك فوق 100 ألف دونم (الدونم العراقي ٢٥٠٠ متر مربع)، على حين حاز 72.9 في المئة من أصحاب الحيازات الفقيرة 3.2 في المئة من الأرض. وملكت (في 1958) 49 عائلة فوق 5.41 ملايين دونم هي 16.8 في المئة من الأرض المزروعة. وبقي 4 أخماس العراقيين، ومعظمهم يومها أهل أرياف، صفر الأيدي من ملك أرض (ج1، ف 5، ص 77- 80). وتباينت أحوال الأرض وأحوال مالكيها، بحسب تباين مواقعها وريّها ونوع محاصيلها ونظام المزارعين فيها (عمل مزارعين أحرار وملاكين، عمل مشاركين من العشائر نفسها، عمل «مَوال» و«رد»...). ولكن الإدارة المنتدبة لم تشأ إنجاز دمج فعلي، عصيّ بل ممتنعٍ في الأحوال كلها. فأرجأت توزيع شطر كبير من الأرض، من طريق «اللزمة» أو عودة الأرض المشاع أو الأميرية إلى الدولة إذا لم يستثمرها مالكها، إلى 1932 و1938، غداة انسحابها من الإدارة السياسية الداخلية المباشرة، وغداة وفاة فيصل الأول، وهو حليف وخصم معاً. وسلطت على فيصل حلفاً نيابياً تهدَّدَه، حين تحفظ عن الإجراءات البريطانية، بـ«الجمهورية». وأيدت شقاقاً مُدُنياً – عشائرياً، في 1925، رجح كفة أحكام قانونية وقضائية حديثة في الخلافات على الأرض والري والطرق الزراعية.
ولعل التراخي البريطاني في إنشاء قوة عسكرية متماسكة وراجحة بإزاء «الجيوش» الخاصة العشائرية في المرتبة الأولى، قرينة قوية على تردد عميق وغير خفي في العشائر القوية – في السليمانية، وبلاد ما بين الزابين، والجبال إلى الشمال وشمال شرق الموصل، وضفة ديالى الشرقية، وضفتي دجلة جنوب بغداد، والفرات الأوسط، والمنتفق، والغراف والفرات الأسفل، وشمال الحلة وجنوبها... - أجسامٌ عسكرية، على ما تقدم القول. وكانت توكل «الزلم» المسلحين بمراقبة الفلاحين وإنفاذ أحكام رؤسائها فيهم. وأدى ضعف الروابط العشائرية التقليدية، وهو بدوره نجم عن نظام المُلكية و«الطابو» والمزاودة عند التلزيم قبل حمل الأرض على سلعة تجارية، إلى تنصيب «دول إقطاعيات»، على حسب ملاحظة تقرير بريطاني إلى عصبة الأمم في 1931 (ج1، ف6، ص 107)، يتصدرها شيخ تحلل من كثير من إلزامات العرف والسنن، ويعول في المرتبة الأولى على «حوشيته» المسلحين، وهم مجندون من غير العشيرة، ويدينون للشيخ بولاء شخصي ومباشر، ويتسلطون في خدمته، وعن أمره، على عمال زراعيين أغراب أو أفراد من عشائر «موالٍ». وبعضهم قتلة ومجرمون هاربون من القانون ولائذون بصاحب «عملهم». وبلغ عدد حوشية أمير ربيعة 250 خيالاً (في عشيرة عدّت 2200- 2300 رجل في 1917)، وعدد حوشية محمد العرَبي، شيخ البو محمد، 552 مسلحاً (عشيرته 5 آلاف رجل في 1944). واستعمل علي الشعلان، شيخ الخزاعل، 98 مسلحاً (وكان على رأس عشيرة من 4 آلاف رجل في 1958). فاجتمعت ظاهرتان في وقت واحد: تعاظمَ تسلطُ رؤساء العشائر وغَلُظ حين ضعفت دالتهم على عشائرهم، وآلت أبنية هذه التقليدية وتسويغُها ولايةَ الشيخ وصدارته إلى التصدع، على خلاف بروز عدد من المشايخ النواب و«المقاولين» التجار، على غير صفتهم العشائرية البنيوية. ففشا العنف، وقامت عشائر على مشايخها وقتلتهم، وأحصت التقارير 3 حوادث من هذا الصنف في عام واحد، 1931.
وفي هذا الوقت، على منعطف عقد العشرين إلى عقد الثلاثين وتحولاته الريفية الاجتماعية والاقتصادية العميقة، تحقق ضعف قوة الدولة العسكرية قياساً على قوة «الشعب»، أي بعض الحلقات الغالبة في المراتب صاحبة المكانة والنفوذ، أو «المجتمع»، في مصطلح يحتكم إلى معيار احتكار الدولة العنف المشروع. ففي 1933، عام سيطرة العراقيين على شؤونهم الداخلية، بلغ عدد البنادق «الأهلية» 100 ألف بندقية، وعدد البنادق الحكومية 15 ألفاً (ج1، ف 2، ص 44). والبنادق الأهلية هي تلك التي وزعت عمداً على حواشي المشايخ والأغوات (ف6، ص 117). وكان الانتداب البريطاني، في الأثناء، قد قلص عديد قواته من 33 كتيبة (1921) إلى 3 كتائب (1926)، ومن 6 سرايا هندسة وألغام إلى سرية واحدة، لقاء زيادة عدد أسراب سلاح الجو من 4 إلى 8 أسراب (ف 6، ص 115- 116). ومثال السياسة البريطانية العسكرية أو الأمنية في العراق هو إقامة «موازنة بين القوى السياسية الداخلية»، والتحكيم الموضعي في خلافاتها بالقوة أو اللين مع ميل صريح إلى ترجيح سيطرة كبار ملاكي الأرض الاجتماعية على «المجتمعات» الريفية والسياسية التنفيذية والوزارية والإدارية، والنفخ في الانقسام على الملكية.

جند الدولة/ جند المشايخ

والخلاف على الجيش، أي على سبل التجنيد وعلى العديد والتسليح والإعداد والترفيع إلى المراتب القيادية، كان أحد أبواب الخلاف البارزة بين فيصل والإدارة الانتدابية. فتعمدت هذه تأخير التجنيد الإلزامي إلى 1934، و«تغافلت» عن تلبية احتياجات الجيش، حين رأى فيصل إلى الجيش نواة «بناء الأمة – الدولة». وهو كان قد ذهب، في مذكرة سرية، إلى أنه «في اعتقاد(ه) لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد كتلات بشرية خيالية خالية من أي فكرة وطنية متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة (وهم) مستعدون دائماً للانتفاض على أي حكومة كانت» (ص 44). وما يصدق في الجيش يصدق مثله في التعليم والإدارة والمواصلات والتمدين. وانتهجت الإدارة المنتدبة في المسألة سياسة صريحة: فأصرت على اقتصار التجنيد على متطوعين وعلى مساعدين محليين، «مجندي العراق»، معظمهم من قلة عرقية ودينية هي القلة أو الأقلية الأثورية. وإلى 1925، فاق عدد «المجندين» عديد القوات النظامية. وخولت معاهدة 1922 القائد العام البريطاني الحق في تفتيش الجيش متى رأى التفتيش ضرورياً. وبلغ عديد القوات النظامية 3618، في 1922، وبلغ 5772 في 1924، و7500 في 1925. واستقر على هذا في الأعوام الثمانية التالية. وتوسلت الإدارة البريطانية إلى ردع السعي في زيادة عديد الجيش، والإلحاح فيه، بتعظيم أكلافه وإغداق مرتبات عالية وخدمات باهظة على ضباطه، وإرهاق الخزينة بها. فبلغت نفقاته في ختام العقد الأول، 1922 – 1932، 23- 26 في المئة من جملة نفقات الخزينة، على رغم العديد القليل.
واستأنف الجيش، بعد وفاة فيصل في 1933 وفي عهد ابنه وخالفه غازي، التجنيد. فمن عديد 7500 الذي استقر عليه طوال الأعوام الثمانية المنصرمة، ازداد إلى 11500. وفي 1936، تولى 800 ضابط قيادة 19500 جندي ورتيب وضابط صف. وحرص غازي حرص فيصل قبله على تقليص النفقات وتسويغ التجنيد. وشأن البريطانيين، أوجس نوري السعيد، الشريفي وأوسع السياسيين العراقيين نفوذاً في فصول العهد الملكي، وعبد الإله، الوصي النافذ على العرش ثم على فيصل الثاني إلى 1958، شراً من تعاظم قوة الجيش المسلح. وانصب سعيهما على شق ضباطه إلى موالين لهما ومناصرين، من وجه، وإلى خصوم ومناوئين يوالون ياسين طه الهاشمي، أبرز الضباط العرب العثمانيين المحترفين وأقواهم مكانة ونفوذاً سياسيين، من وجه آخر. ونوري السعيد وعبد الإله كانا يصدران، في نهجهما هذا، عن دواع المحاماة عن نفوذهما، ودورهما على رأس الحكم العراقي والدولة وانفرادهما بشطر راجح ومقرر من النفوذ. فهما توقعا الانقلابات العسكرية أو سيطرة القوات المسلحة على السلطة على مثال تركي وإيراني قريب، وخشيا انتقال «عدواها» أو عواملها إلى العراق، على ما حصل طوال 1936- 1941 وانقلاباتها الأربعة ( 1936، 1937، 1938، 1941).
ولكنهما مالا كذلك إلى مصالح الأغوات والشيوخ. فالتجنيد حرم هؤلاء خيرة رجالهم، وأضعف عصبياتهم، وآذن باقتحام الطبقات الوسطى المتعلمة، الريفية والمدينية، دائرة الحكم والنظام الضيقة والمقتصرة على البريطانيين والملك وكبار الضباط الشريفيين وكبار ملاكي الأرض، وبلورتها الطبقات الوسطى «عصبية دولة». وندد ملاكو الأرض وأعيان العصبيات بالتجنيد الإلزامي أو الإجباري حين اقترحه فيصل في 1928، وسعى في إقراره في مجلس نيابي لم يتكتم رؤساء كتله على كراهتهم له. فهم لم يفتهم أنهم، مجتمعين ومسلحين، أقوى من الملك بنحو 6- 7 مرات (قياساً على نسبة عدد بنادقهم، 100 ألف، إلى عدد بنادق الجيش، 15 ألفاً، يومها. فجادل عبد العباس الفرهود، من بني ربيعة، فيصل في إقرار التجنيد وحذره من أن المضي على الإقرار يدعوه إلى الالتحاق، و3 آلاف من ربيعة، «بابن سعود». وردد منشد الحبيّب، أحد المشايخ الغزيين، التهديد نفسه. فتقوية الجيش الوطني، وتمكين الملك، أحد أطراف «الحلف» الحاكم، من إنفاذ أمره في جهاز القوة الكبير، يخل إخلالاً حاداً بميزان قوى سياسي واجتماعي يرجح كفة الرئاسات والمباني العشائرية والريفية على كفة الدولة والاجتماع المديني، وعامته المتوسطة، ومرافقه الجديدة. فمدافعة إنشاء جيش متماسك وقوي، وعامي اجتماعياً حكماً، وجه من وجوه مدافعة بروز قطب سياسي مستقل عن أثقال «الطبقات» الاجتماعية المحافظة والمباشرة.

الرابطة العصبية فوق الدولة

وجمعت هذه المدافعة أو المقاومة «الطبقات القديمة»، على ما يسميها بطاطو، وبعضها متجدد، جمعت الاحتلال وشطراً من الدولة نفسها أو من الطاقم السياسي المولود من تمليك الشريف فيصل الحجازي وأسرته من بعده. وعن هذا النهج نفَذَ استثناء الخلافات العشائرية من القانون الجنائي والمدني العام، والإقرار لأعراف العشائر وتقاليدها بقوة الإلزام، ووصفها بـ«قانون البلاد الطبيعي». فأوكل الفصل 40 من النزاعات الجنائية والمدنية العشائرية السلطةَ الإدارية، المدنية (على معنى غير الأهلية)، بإنفاذ حكم عشائري يقضي بإخراج ابن مدينة غير مرغوب فيه مقيم بدائرة سكن عشائرية من هذه الدائرة، ونفيه منها، ونقله إلى دائرة سكن أخرى. وأجيز لـ«القضاء» العشائري بتطاول إدارته إلى مقيمين بدوائر سكن غير عشائرية، مدنية وإدارية، والحكم بنقل إقامتهم منها (ج1، ف 6، ص 119- 121). وعهدت الإدارة إلى الشيخ القبلي الريفي، مالك الأرض ومضيف المضافة والقاضي في الخلافات ودعاوى الدم وآمر الحوشية المسلحة، والنائب في البرلمان، والنافذ الكلمة في التعيينات الإدارية – عهدت إليه بجباية الاتاوات والفرائض. وتردّت حصة الضرائب على الزراعة والأرض من الجباية الضريبية العامة من 27.6 في المئة (1921) إلى 11.7 (1930). وبادرت إلى حمايته من مشاقة بعض رعيته عليه: فدمرت القوات البريطانية قرية فخذ من عشيرة الجريّان عصى شيخُه شيخ مشايخ العشيرة، عداي الجريان، في 1918. وفي 1926، قصفت الطائرات (البريطانية) بلاداً قام أهلها على شيخهم الشمَّري، عجيل الياور، أحد 6 إلى 7 ملكوا فوق 300 ألف دونم (في 1958) وأرسوا «مُلكاً» مطلقاً على أرض ورعية. وعزز مكانة المشيخة تركُ الحكومة إعمالَ قانون اللزمة، وإغضاؤها عن ضم أراضي المشاع والميري، وتحكيمُ العرف العشائري في وراثة الوارث الأول، وعودُ الزراعة الحديثة والمروية على كبار الملاكين في سنجار وشط الغراف وشط الحلة بعوائد «رأسمالية»، بينما تتآكل قواعد المشيخة التقليدية. وتوج الإجراءات القانونية الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية والادارية إجراء سياسي هو إجازة انتخاب الشيخ إلى البرلمان. فتحدر 34 نائباً من 99 نائباً إلى الجمعية التأسيسية العراقية في 1924 (على خلاف «مجلس المبعوثان» العثماني والإصلاحي: من 34 نائباً عراقياً من المشايخ والأغوات إلى المجلس العتيد كان نائب واحد من أصل عشائري وهو ابن مدينة مولداً). وفي الأثناء (إلى 1927) أعفي رؤساء العشائر من ضريبة العقارات المبنية. ووهبوا منحاً نقدية لقاء حمايتهم طرقاً أو حدوداً يتهددونها هم بالقطع والغارة. واستوفى أحد مشايخ شمَّر خوَّةً على قوافل وسيارات غير محروسة تقصد سوريا. ورخصت الحكومة للحلفين القبليين الكبيرين، عنَزة وشمَّر، بالإغارة واحدهما على الآخر، حفاظاً على مكانة شيخيهما الكبيرين، وعلى تماسكهما، وتفادياً لالتحاقهما بسوريا «الفرنسية»، حيث كانت الجماعات المذهبية والدموية تحظى بالاعتراف والقبول. وأدت إجازة الغارات إلى «حروب» و«أيام» دامية في صيف 1925 (ج1، ف6، 121- 128، وبعض الوقائع منقول من مواضع متفرقة ومتباعدة فتركت الإحالة للتخفيف ).

تسلط الخصوصي على العمومي

ومقارنة هذه السياقات، وُجمَل الوقائع، بعضها ببعضها الآخر، وقياسها بعضها على بعضها الآخر، في ضوء مصيرها إلى ما صارت إليه في 1958 ثم في 1968 – 1980 (فاتحة «حروب صدام حسين»)، تدعو إلى ملاحظة انقلاب تاريخ العراق، أي أحد محاوره الراجحة، وهو محور علاقة الدولة بالمجتمع على وجهيها، من سيطرة «المجتمع» على «الدولة» على نحو ساحق إلى سيطرة «الدولة» على «المجتمع» من غير بقية.
وفي ضوء ما تقدم، وما تناول منه أطوار المشيخة العشائرية والأرياف والأرض على الخصوص، يُفهم التحفظ عن استعمال اللفظتين وعن دلالاتهما على مدلولاتهما السائرة. فليست المشيخة الكثيرة الأوجه جزءاً بنيوياً من الحكم، ومن هيئات «الدولة» وحسب، وعاملاً بارزاً من عوامل رفعِ مباني هذه الهيئات على الأشكال التي رفعت عليها مراتبها وقوانينها وكتلها، بل هي عمدة الهيئات والمباني والمصدر الأول من مصادر التحكيم والفصل في منازعات المصالح وترجحها. ولكن المشيخة، من وجه آخر، تُقحِم على «الدولة» الوطنية الناشئة، وتُحمَل بقوة الاستيلاء العسكري البريطاني على إقحام سننها وأعرافها ومصالحها «الخاصة» جداً (على صفتها الاجتماعية أي المشتركة) عليها.
والقرينة الصريحة على تسليط المشيخة العشائرية مصالحها الخاصة أو الفئوية على مباني الدولة العمومية، ومباشرتها الحكم والإجراء والتدبير وهي على صفتها الخصوصية، هي سياستها العسكرية. فمدافعة المشيخة العشائرية «الجديدة» تجنيداً يحرمها حوشيتها المسلحة القوية، وينتزع منها السيطرة على خير رجالها ويقيد تحكّمها فيهم، ويرتّب عليها نفقات كبيرة وربما باهظة، ويرهص بحرمانها مقومات اللحمة العشائرية وعواملها، ويقوض حِدتَها العرفية والقانونية ويدمجها، على سبيل المثال والأفق، في مجتمع مشترك ترعاه قوانين الدولة ومساواتها بين المواطنين، وفي بلاد متصلة حدودها سياسية وليست أهلية – مدافعة التجنيد ومترتباته السياسية والاجتماعية يشهر على الملأ فراغ (يد) المشيخة العشائرية الريفية، وهي قمة البنيان الاجتماعي والسياسي العراقي، من مؤهلات بناء الدولة («السياسية» وعلى خلاف «الدولة» الأهلية) ومرافقها الهيكلية، وانتفاء أهليتها لمثل هذه المهمة. فكان من المحال على من يحسبون أنهم وحدهم حريّون بالحكم والرأي والتدبير، وأنهم وحدهم «مصدر الدخل (و) مصالح الدولة تخصنا نحن وعشائرنا في المرتبة الأولى» فلا يجوز تأمين أو توزير غيرهم من العامة والتجار مثلاً، على قولهم منكرين تعيين ضباط شريفيين متصرفي محافظات وألوية في 1922 أو توزير التاجر جعفر أبي التمَّن – من المحال على هؤلاء الاضطلاع بإنشاء دولة «حديثة» تفترض ضمناً وحكماً مثالاً المواطَنة والمواطنين. فهم يدينون بدين المراتب الثابتة والمتوارثة، ويوقنون، اعتقاداً وعملاً، بأن «أصحاب العراقة نسباً ومولداً مقدّمون على غيرهم. وهذا ليس بعيداً من عرقية أو عنصرية دموية ونسبية «قومية»، مصدرها على الأرجح رسو سيطرة الأسياد المقاتلين على الغلبة والنسب والمعتقد والمرتبة معاً، على ما مر القول. وعلى هذا، أنكروا أشد الإنكار جواز التعويض عن إجحاف يلحق بالفلاحين، ورفضوا فكرة حق يعود للفلاحين ويترتّب عليه إقرار من المالك أو التزام، أو حق يعود إلى المواطنين من ضرائب تجبيها الدولة من عوائد المشايخ ومُلّاك الأرض. وحملوا وحدة أراضي الدولة الوطنية على انتهاك «الحريات العشائرية» الثابتة التي أولاها العشائرَ اللهُ نفسه يوم أوجد الخليقة.
وتتوسط الانعطاف من سيطرة «المجتمع على الدولة» إلى سيطرة «الدولة» على «المجتمع»، على الصورة التي تجلت عليها في تموز 1958 ومذذاك، حادثتان بارزتان: انتفاضات العشائر في 1935 و 1936، والحقبة الانقلابية العسكرية التي دامت من 1936 إلى 1941- وكانت فاتحتها قضاء بكر صدقي، أحد قادة الانقلاب الأول، وسلاح الجو في إمرته، على الانتفاضات هذه «بيسر». وتلحق بالحادثتين، وهما سياقتا حوادث كثيرة، حادثة ثالثة، من صنف السياقة كذلك، هي تعاقب سلسلة انتفاضات أو حركات مدينية في 1943 و 1948 (الوثبة) و1952 و1956، وتوجتها على نحو معّقد وملتبِس «حركة» 1958. ويكتب حنا بطاطو أن قمع بكر صدقي، على رأس الجيش العراقي المكروه، الانتفاضات العشائرية «(آذن) بختام عهد المشايخ»، وبانقلاب العراق جملةً من تاريخ مشيخي إلى تاريخ بغدادي (ج1، ف6، ص 147). وجاءت حركات المدن وانتفاضاتها صدى عميقاً ومتطاولاً لطيّ الصفحة المشيخية على يد حركات عسكرية عامية قام بها ضباط يتحدر معظمهم من العامة، من غير المشايخ وغير الأشراف، وهم من شقت إصلاحات السلطنة العثمانية الطريق إلى «ارتقائهم»، أو إصعادهم في مراتب فوق المرتبة التي ولدوا فيها واشتراكهم في رسم مصائر الحياة العامة في جماعاتهم وأوطانهم ودولهم (وهو المعنى الجديد أو العامي للارتقاء). وبين قيام العامة العثمانية المسلحة أو العسكرية على أهل القوة من مشايخ العشائر وملاكي الأرض على طبقاتهم المتفرقة (صغار أهل مرتبة المشايخ وضعفاؤها هم مادة انتفاضات 1935 – 1936)، وقمع العامة أهل القوة، وبين قيام عامة المدن وعلى الخصوص بغداد على أهل «الدولة»، وبعضهم من الشريفيين السابقين ومن حلفاء المشايخ البريطانيين الغلاة – بعض المناسبة والتوارد. والكلام على مناسبة وتوارد، في معالجة تاريخية مثل تلك التي تولاها حنا بطاطو ونهض بها، ضربٌ من التجديف وانحراف عن «آداب» التأريخ على مذهب صاحبنا. فهذه «الآداب» تقضي باستيلاد الحوادث والوقائع، الظرفية والجزئية على رغم جواز حملها على أبنية مديدة تهيمن على جملة حوادث، (من) حوادث ووقائع مثلها ويُقتضى تأريخها زماناً ومكاناً وفعلاً وانفعالاً. والحق أن استجابة المقتضى هذا تطيل المقالة فوق ما يحق لها، وهي طالت فوق ما يطيق محل نشرها. فتقتصر تتمتها على ربط بعض الخيوط، على سبيل المناسبة والتوارد اللذين تقدم ذمهما والطعن عليهما.

مدينة «الدولة»

والواقعة الاجتماعية الراجحة والمباشرة، في ضوء النزاع على التجنيد، هو تعاظم التحضّر أو التمدين. فبغداد الكبرى كانت تعدّ 200 ألف في 1922، وهو رقم كبير. وفي غضون ربع قرن، في 1947، بلغ عدد سكانها 515459، أي زاد ضعفين ونصف ضعف. وفي ختام عقد بعدها بلغ 791183 نفساً. وزاد عدد سكان البصرة، في الجنوب، وأصاب الركود الموصل، في الشمال. وبعد هذا التاريخ (1957) بسنة واحدة، بلغ عدد العراقيين 6.5 ملايين عراقي. ومصدر زيادة سكان المدن على هذا النحو، عشية تشخيص سَبَقِ الزيادة السكانية نسبةَ النمو الاقتصادي (ثم الناتج الداخلي الإجمالي) سمةً من سمات «التخلف»، هو هجرة فلاحين وعمال أرض من أهل العشائر لا مثيل لها في تاريخ العراق أو البلدان التي يشبهها.
وأهل المدن العراقية الجدد قصدوها «استجابة لندائها»، على ما سمى جاك بيرك هذا الصنف من الهجرات العارمة التي فاقت وتائرها وتائر التصنيع أو حتى وتائر الإقامة المستقرة في قلب المدن (على خلاف ضواحيها). فهاجر إلى بغداد وحدها في العقد الذي سبق «الثورة»، 1947 - 1957، 205765 عراقياً من المحافظات، شطر كبير منهم من العمارة. وفي 1957، كان 29 في المئة من سكان لواء بغداد قد ولدوا خارج اللواء، و30 في المئة من المقيمين غير البغداديين مولداً قدموا من منطقة العمارة. وفي 1956، انتشرت ببغداد الكبرى 164135 صريفة (مسكن من الطين والقصب، نظير الصفيح). فمرافق العمل التي اقترحتها المدن، والعاصمة على الخصوص، على المهاجرين من الأرياف وديراتها وقراها وبلداتها ومدنها الصغيرة، معظمها في الأجهزة الحكومية، المدنية والإدارية والعسكرية. وبلغ عدد موظفي الدولة العراقية في 1920 نحو 3143 موظفاً إدارياً. وزاد العدد 3 أضعاف، ليبلغ 9740 موظفاً إدارياً، بعد أقل من عقدين (في 1937)، و20013 في 1958. وعدّ رجال الشرطة 2470 في 1920، وقفز إلى 12221 في 1948، فإلى 23383 في 1958 (فيهم 8368 ضابطاً ورجلاً في قوة خاصة سميت «القوة المتحركة»). وتوسع مرفق التعليم طرداً: فاقتصر عدد تلاميذ المدارس الابتدائية في عام 1920 – 1921 الدراسي على 8 آلاف تلميذ وتلميذ واحد. ولكنه تعاظم 11 ضعفاً في أثناء عقدين، وبلغ 89482 في 1939- 1940. والثانويون (الطلاب) الذين كانوا قلة ضئيلة في ابتداء تاريخ العراق الحديث، فلم يتعدوا الـ110 طلاب زادوا 139 ضعفاً ونصف الضعف ليبلغ عددهم في 1939- 1940، 13959 طالباً ثانوياً.
وشأن الثانويين لم يزد عدد طلاب الكليات عن 99 في 1921- 1922، فصار 1218 في 1945 - 1946، و8568 في 1958- 1959. وفي 1941 – 1942 عد الجيش العراقي (وهو كان في 1936 يعد 800 ضابط و19500 جندي ورتيب... على ما تقدم) 44217 جندياً و1745 ضابطاً. (وسرح في 1948 وحدها 1095 ضابطاً من الخدمة قبل بلوغهم سن التقاعد، قرينة على استحكام الشك والخشية بين الجيش وبين القصر، ورجله الأول نوري السعيد. وأمارة ثانية على هذا الاستحكام حرص القصر على إبقاء الوحدات الضاربة من غير ذخيرة وبعيدة من العاصمة ). وتبدو زيادة عدد العاملين في السكة الحديد، قياساً على نظيرها الإداري والتعليمي والعسكري، متواضعة: فهم كانوا، عمالاً وموظفين إداريين، 1639 في عام 1927، ثم 1738 في 1937، و3872 في 1957.
ومطلع عقد الخمسينات منعطف في معظم جُمَل الإحصاءات التي مرت للتو. وتعليل الأمر هو إنتاج النفط، وعودته على الدولة بإيرادات بدلت أدوارها في التوظيف والتمويل والتوزيع، وموقعها من «المجتمع». فالانقلاب من محل العالة على «المجتمع» – وعلى أكثر طبقاته جماعاته ثراءً، وأعلاها مكانة وأشدها تحفظاً عن تولي الدولة الوطنية خلخلة المراتب الجوهرية وتمهيدها، وهي ربما أضعف الطبقات والجماعات عن قيادة إنشاء الدولة على أركان سياسية وطنية غير أهلية ولا عصبية – الانقلاب من المحل هذا إلى إعالة «المجتمع»، وتعظيم موارد الإعالة، جرَّ تغييراً عميقاً وثورياً تطاول إلى أركان السياسة وبنيانها.
فزيادة إيرادات الدولة من النفط، تبعاً لزيادة الشركات الإنتاج، «تشبه» زيادات عديد الإجهزة العسكرية والأمنية والتعليمية والإدارية. فهذه الإيرادات كانت 1،5 مليون جنيه إسترليني في 1948. وبعد 9 أعوام بلغت 5،6 ملايين جنيه. وفي 3 أعوام أو أربعة (1953) قفزت حرفياً إلى 58،3 مليوناً، وإلى 79،8 مليوناً في 1958، عام «الثورة». وبلغت نسبتها من جملة إيرادات الدولة 61،7 في المئة. ولم يقتصر الإنفاق الحكومي «الكريم» على فتح أبواب الإدارة والوظيفة والتعليم والجيش والشرطة، واستقبال عشرات آلاف المتعلمين في هذه المرافق، وفي المدن، فامتدت الطرق المعبدة من 500 ميل في 1944 إلى نحو 1600 في 1955، معظمها في الأجزاء الوسطى (البغدادية) والشمالية (الموصلية) من البلاد، ومنطلقها بغداد والموصل وكركوك، المدن الإدارية والسنية الكبيرة. وبقيت الطرق في الجنوب ترابية، شأن مثيلها في المناطق الزراعية الداخلية. وافتقرت إلى وصلات بالخطوط المحورية. وربط الهاتف الآلي بغداد والبصرة والواحدة بالأخرى. وأنشئت محطة إذاعية لاسلكية، ومحطة تلفزيون. وأنشأت الحكومة، في 1956، سدود ري في وادي الثرثار والحبّاينة. وروت الترع بلاداً تسكنها أسر شيعية. وهذا، أي شمل الشيعة العراقيين بمنافع الإنفاق العام، من القرائن على اضطلاع الدولة الريعية النفطية بـ«دمج» الجماعات المتفرقة والمختلفة (و«المخالفة» الجماعات المتصدرة) في إطار وطني مضطرب المضمون («الولاء القومي» مترجح بين عراقي وعربي، فيرفضه الكرد، وضعيف في صفوف الشيعة، و«يفتقر إلى أخلاقيات معيارية، وإلى خصوصية دافئة، (افتقاره) إلى الالتزام العاطفي القوي والثابت الذي صبغ الولاءات القديمة»، ج 1، ف 3، ص 55). وتماشي الظاهرة هذه «ارتقاء» الشيعة في الوسط والجنوب، وتسنم 4 من سياسييهم رئاسة الوزارة، بين 1947 – 1958. وفي العام الأخير، 1958، كان 6 من كبار ملاكي الأرض الـ7 الذين يفوق ما يملكونه 100 ألف دونم، من الشيعة، و23 من الأسر الـ49 التي تفوق ما تملكه الواحدة 3 آلاف دونم، شيعية.
ونشأت عن اجتماع الظواهر والعوامل هذه «طبقة وسطى»، قياساً على غير المتعلمين وهم الكثرة الكاثرة (6 عراقيين من 7 كانوا أميين في 1958)، من غير دخل الطبقة الوسطى المفترض. فنجم عن الأمر انفصام حاد هو من مصادر القلق والعنف واستحكامهما. وعلى حين تآكلت الولاءات القديمة، وشبكت المدن عراقيين من مصادر بلدانية واجتماعية ومذهبية وقومية متفرقة، وفكت المواصلات والاتصلات الداخلية عزلة الديرات والبلدات والمدن وأنشأت روابط داخلية على خلاف الروابط الإقليمية واستقطاباتها القديمة والقوية - قربت هجرات الفلاحين العريضة إلى المدن بين الجماعات العراقية، ولكنها ولدت منازعات حادة في صفوفها. فجماهير المهاجرين أقامت على تحكيم أعرافها وسننها في شؤونها العامة والخاصة. وبعضها حطت به الهجرة إلى دركات أو مستويات من العزلة والفقر والهشاشة تولت الأبنية الأهلية في الديرات والأرياف الحؤول بينها وبين إعمال براثنها في الأهالي.
فاتسعت الهوة، الواسعة من قبل، بين الفئات والجماعات حين أقامت بعضها في جوار بعض، وخسرت بعض «حماياتها» الأليفة والموروثة. وتصدرت جماهير المدن، وهذه حالها، «انتلجنستيا مفرطة اليسارية أو غالية في وطنيتها، وثيقة الحلف (بهذه الجماهير)، وتتمتع بمعقل في الجيش، على ما ظهر في ما بعد» (ج1، ف6، ص129). وعلى شاكلة الانشقاقات القومية والمذهبية والمحلية والسلكية (المهنية) في صفوف الطبقات «القديمة» الحاكمة، غلبت على الجماعات والكتل و«الطبقات» المدينية العريضة فروق لم تقل عن الانشقاقات حدة وعمقاً ودواماً. فلم يضعِف الاجتماع والعمران المدينيان، وتعاظمُ دور أجهزة الدولة في مرافق التنظيم والوصل والتوزيع، ولا أضعفت ولادة طبقة من المزارعين المتوسطين وفئاتٍ وسطى متعلمة وجماعاتٍ مهنية عمالية أثرَ الانقسام المذهبي السني - الشيعي أو أثر الانقسام القومي الكردي - العربي في تبلور المنازع والميول السياسية الداخلية والإقليمية. فبقي عاملا الانقسام هذان بؤرتي منازعات واستقطابات أهلية (داخل دائرة الأهل الواحد أو الجماعات الواحدة ) متضافرة.

التحاجز

فترفّد الفَرق أو الحاجز الاجتماعي الناجم عن تقسيم عمل متقلب، أو ميزان قوى متبدل، بفرق أو حاجز قومي (إثني) أو نَسَبي مرتبي و«سياسي»، أو بحاجز ديني مذهبي. وقد ترفده، على ما حصل ويحصل غالباً، بحواجز كثيرة معاً. فتتصلب المنازعات والخلافات، ويقيم أهلها أو أصحابها على تحاجز مزمن، ويجنحون إلى دلالات وعبارات قصية أو متطرفة. فلم يتخلص الشيوعيون العراقيون من بعض الاستقطاب الشيعي الإمامي، ومن رجحان كفة الأهل الشيعة في ميزان المناشئ أو المصادر الاجتماعية (السوسيولوجية) على المناشئ والمصادر الأخرى. وعلى رغم ضعف تعليل حنا بطاطو أطوارَ التوارد بين التشيع وبين الشيوعية واقتصاره على إثباته، وسكوته عن دلالة انتساب عدد من القادة الحزبيين إلى أسر سادة، ينهض الأمران، التوارد والانتساب، قرينة مفهومة على ميل المراتب الدنيا، الطرفية والحديثة العهد بالسيطرة والتدبير والمتكاثرة عدداً، إلى الانخراط في أجسام سياسية «ثورية».
وهذا من قبيل غلبة منطق بنيان مجتمع الجماعات المشترك، أو «دولتها»، وهما «دولة» ومجتمع مذهبيان وقوميان وأهليان، على أجزاء هذا البنيان. فلا ينفك المذهب والمعتقد الدينيان، ورابطتهما، عاملاً في انتساب طوعي وتلقائي مخالف. ولا تملك الحركة السياسية، المدنية والعلمانية المشارب والاجتماعية العلل والبواعث، مدافعة الجاذبية المذهبية، معتقداً واجتماعاً. ويثقل المعتقد والاجتماع، شأن العصبية القومية في حال الكرد، على الحركة السياسية، ويقيدانها بقيود الحواجز والفروق التي تفصل الجماعات المتنازعة بعضها عن بعض، ويلزمانها بتبعات الانقسام الاجمالي التي تترتب على الحاجز المذهبي الديني. وقاد هذا البعثَ البكري – الصدامي، على ما تقدم في الجزء الأول من المقالة، إلى «التحصن» في الخنادق السنية الخالية من العمائم والمعتقدات والشعائر. وانقلب على هذا البعث، في صيغته الضامرة والهزيلة، جمهور شيعي نسج أواصره من نتائج إقصائه وإفراده وتحطيم هيئاته الذاتية والتفاوت الكبير في توزيع الموارد الريعية المشتركة أو العامة.
ومن وجه آخر قريب، اشتملت الجماعات المتفرقة كلها على كتل أو أجنحة غالية في المحاماة عن فرادتها وانكفائها وحقوقها الذاتية أو الخاصة بإزاء «الدولة»، دولة الأهل الغالب والمستولي. ويترتب على النازع الانشقاقي والغالي هذا اضطرار الجماعات كلها، على قدر أو آخر، و(اضطرار) تياراتها وأجنحتها الغالبة، إذا مالت إلى «الائتلافية» والمساومة الوطنية، إلى النزول عن شطر متفاوت من «ائتلافيتها» ومن سعيها في إجماع مركب ومضطرب، إلى الجماعة أو الجماعات الغالية والانشقاقية. فتتمتع هذه بحق نقض فعلي على السياسات الائتلافية، إذا قيض لها من يدعو إليها وينهض بها. ويرمي تنصلها وتنديدها بظلال شم قاتمة على المنازع الائتلافية، الوطنية والسياسية. فهذه تفترض حكماً تخليص الجماعات، وحركاتها وأحزابها وكتلها، من عوامل تعريف هوياتها وأدوارها «العميقة» والصلبة، وأولها العوامل الاعتقادية أو القومية العصبية. فإذا لم تلجم الجماعات، أو حركاتها ومنظماتها وهيئاتها، جموح عوامل تعريفها هذه، استفز بعضها بعضاً، وأقامت علاقاتها على تبادل التحدي والتشكك والتلويح بالقطيعة والرفض. ويصف هذا سيرة أو سير الأحزاب العراقية الليبرالية أو المعتدلة بين الحربين العالميتين، وغداة الحرب الثانية إلى المنعطف الانقلابي والأهلي و«القومي»، على رواية بطاطو المحيطة.
وصبغ العاملان هذان، رَجَحان المذهب أو القوم في التعريف السياسي واستدخال الجناح المتطرف السياسةَ الائتلافية، بصبغتيهما الحياة والعمل السياسيين الوطنيين. ولم تقتصر الصبغة على الأفكار والاتجاهات والميول، فتعدّتها إلى محل السياسة كلاً وجميعاً من أبنية مجتمع الجماعات و«الدولة». فأحلت السياسةَ محلَّ جهاز خارجي يتسلط على الجماعة، وعلى مجتمعها و«دولتها»، ويسعى سعياً مريراً في توحيدها ورصها عصبية واحدة تعتاش من سطوها على الريوع العامة والخاصة، ومن استخدام بيروقراطية منصاعة، في شقيها المدني والعسكري. وحملت القسوة والفظاظة اللتان غلَّبهما البريطانيون والشريفيون وشيوخ العشائر والأغوات على مباشرتهم السلطة، معاً أو تباعاً، الحركات السياسية والاجتماعية، وهي المولودة من هوة غائرة بين أهل القوة الغالبين وبين أهل الضعف المغلوبين في الجماعات نفسها، حملتا الحركات على طلب القوة والغلبة المجردتين من تسويغ السلطة، ونصبتا الاستيلاء وأجهزته وآلاته غاية في نفسها. فإذا زهدت حركة في مثل هذا الاستيلاء، على شاكلة الحزب الوطني الديموقراطي وغيره من الأحزاب «الليبرالية» قادها زهدها إلى العزوف والاضمحلال. وإذا امتنع الاستيلاء – وهي حال الحزب الشيوعي حين استتب الأمر لعبد الكريم قاسم، وانفجرت إرهاصات حرب أهلية عروبية وعراقية، وقرَّت السياسة السوفياتية على نهج تفادت به الطلاق من جمال عبد الناصر وتعهدَ أو إعالةَ نظام شيوعي على حدود تركيا وإيران وسوريا، معاً - أفضى الامتناع إلى تصدع البنيان الحزبي والسياسي وآل إلى سقوطه. وليس معنى القول أن الحزب الشيوعي العراقي كان في مستطاعه خوض الحرب الأهلية والانتصار فيها، فهذا شأن آخر ومبناه على تخمين وليس على تقرير أو تأريخ. وحصول ما حصل يصدِّق الوصف الذي تقدم ويحققه. وترتب على هذا اضطرار الحركات السياسية إما إلى الاستيلاء على جهاز القوة العسكري وإما إلى التصدع والتخلي عن الشراكة في الحياة السياسية وفي الحياة العامة على وجوهها.

العدد السابع - شتاء ٢٠١٤
من الاجتماع العسكري إلى الدولة الحزبية

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.