العدد السابع - شتاء ٢٠١٤

الاجتماع السياسي اللبناني أمام خيارات حاسمة

من المارونية السياسية إلى الشيعية السياسية

النسخة الورقية

يكرر اللبنانيون التناوب على الغلبة منذ انتقلوا من التجاور إلى التعايش كجماعات تحت سلطة مركزية واحدة. كلما تضافرت معطيات اجتماعية على إشعار طائفة بعناصر القوة والتمكين، نزعت إلى السيطرة على «المجال اللبناني» كله وإخضاعه لمنظومة قيمها وأفكارها ومشروعها السياسي. لأسباب تاريخية متعدّدة، تشكل الكيان اللبناني حول نواة مارونية جبل لبنانية، ومسيحية أرثوذكسية وكاثوليكية مدينية بيروتية، وملحقات إسلامية من شمال البلاد وبقاعها وجنوبها. لم يخلُ هذا المسار من عنف أهلي طائفي توّج انقلاباً اجتماعياً كبيراً في جبل لبنان منتصف القرن التاسع عشر، فكان التوسع الماروني الأفقي في جغرافية الجبل، والصعود الاقتصادي والسياسي والديمغرافي، عناصر في هذا الانقلاب الذي رفدته ظروف دولية مواتية غربية على حساب تراجع قوة السلطنة العثمانية ومناعتها.

إنّ عنف الدروز والموارنة انتهى إلى سقوط نظام الإمارة ومعها سلطة الإقطاع الدرزي وعلاقات القوة لمصلحة مبدأ الحرية والمساواة السياسية وهيمنة الطرف الأكثر تقدماً اقتصادياً وثقافياً. ولأن الطرف الماروني كان يملك أرجحيات الهيمنة، امتلك لاحقاً الدور الأكبر في المفاوضة على حدود لبنان الكبير (١٩٢٠) ونجح في تحقيق معظم مطالبه خلافاً لنزعات الملحقات الضعيفة. أنشأ موارنة الجبل وروم المدن والسواحل نموذجهم السياسي والاجتماعي بصورة أكثر حرية منذ الاستقلال (١٩٤٣). سبق هذا الإنجاز المسالم دورة عنف التحقت خلالها بعض الجهات المسيحية «بجيش الشرق الخاص» التابع لفرنسا، الدولة المنتدبة، الذي واجه المعارضة والمقاومة الإسلامية عموماً والدرزية والشيعية خاصة في الملحقات التي طلبت الالتحاق بسورية وشاركت في الثورة على الانتداب. ولسنا هنا في معرض المقارنة والتشبيه بين أوضاع تاريخية مختلفة. لكننا نود الإشارة إلى ملازمة أشكال من العنف أي تحول اجتماعي وسياسي، وخاصة في هذا «التاريخ اللبناني» الذي يكاد يختصر بهذه النزاعات الأهلية والتسويات الناتجة منها. أقام المسيحيون بقيادة الموارنة دولة من طراز مختلف عن سائر الدول العربية. دولة جمهورية دستورية برلمانية ديمقراطية وليبرالية سياسياً واقتصادياً.

تجاوز الموارنة تحفظات كانوا قد أدلوا بها على حدود لبنان الكبير والتوازنات الديمغرافية الطائفية. سعوا بجهد حثيث واضح إلى بناء منظومة فكرية سياسية تلائم هذه المعطيات الجديدة. طوّعوا مشروعهم لبناء لبنان بهوية مسيحية، وهذا ما سعت إليه نخبة وازنة منهم في القرن التاسع عشر، ليكون لبنان بهوية ثنائية مسيحية – إسلامية، وابتدعوا نظرية العيش المشترك والجناحين اللذين يحلق بهما لبنان. ثم ذهبوا أبعد من ذلك على أثر أحداث ١٩٥٨ وموجة القومية العربية، فأنتجوا نظرية القومية اللبنانية بمسوغاتها التاريخية والثقافية، وانتهوا إلى القول بدولة - أمة؛ «فحيث تكون الدولة تكون أمة». والأمة اللبنانية مزيج من السلالات والثقافات والتلاقح بينها والتاريخ المشترك وإرادة العيش معاً.
هذه «الإديولوجية اللبنانية» واكبتها حركة إصلاحية قوية تمثلت بالتجربة الشهابية التي قامت على تحديث الدولة ومؤسساتها وتوسيع مشاركة نخب الملحقات ذات الطابع الإسلامي في هذه المؤسسات لتقوية «الولاء الوطني للبنان»، الذي شابته ثُغَر كشفت عنها أحداث ١٩٥٨. لكن المارونية السياسية والمسيحية السياسية عموماً أضحت في ستينيات القرن الماضي محورية جاذبة لشرائح من مختلف الطوائف. وهي إذا لم تنجز «الاندماج» الاجتماعي الكامل، فقد أنجزت مستوى متقدماً من القيم والمثالات المشتركة، ومن التداخل الفعلي على مستوى المجتمع المدني الاقتصاد ومرافق التعليم والخدمات والنقابات والمؤسسات السياسية الرسمية والشعبية (الأحزاب). وإذا كان المسلمون قد ظلوا يعترضون على حجم شراكتهم في القرار السياسي والوطني، فإن معظم الشرائح المدنية المتقدمة انخرطت في مشروع الدولة برضى وحرية، وقبلت طوعاً التحديث المجتمعي الذي قاده المسيحيون على المستويات كافة. تحولت الأرجحية المسيحية هذه إلى «هيمنة» بمفهوم أنطونيو غرامشي، أي ثقافة سائدة لسلطة مقبولة من مواطنيها ورعاياها. سلطة تقوم «على الاقتناع لا الإخضاع». بل إن هذا الاقتناع تحول إلى مصدر جذب قوي لمحيطه العربي والإسلامي بوصفه نموذجاً متقدماً من حيث وجود طبقة وسطى قوية واسعة الانتشار، وفرص الترقّي الاجتماعي المفتوحة، والحريات الشخصية والعامة الموفورة إلى حد بعيد، والتداول السلمي للسلطة.
 
تحديات ثلاثة
واجهت هذا النموذجَ ثلاثةُ تحديات في سبعينيات القرن الماضي فشل النظام السياسي في التعامل معها. الأول توسيع نطاق المشاركة في السلطة التي طالب بها الإسلام السياسي. الثاني المحافظة على سياسة خارجية عربية أكثر انسجاماً مع معسكر المواجهة لإسرائيل والغرب. الثالث الاستجابة إلى حاجات اجتماعية تنموية جديدة وتطوير المكتسبات السابقة وشمولها فئات أوسع فرضتها المعطيات الاقتصادية والديمغرافية وانفتاح لبنان على تيارات الفكر السياسي الحديث. طوّرت المارونية السياسية خيارات رافضة لأي تعديل أو إصلاح بذرائع شتى كالخطر الداهم العربي والإسلامي واليسار الدولي، وحياد لبنان بين الشرق والغرب، وعجز لبنان عن تحمّل أية أعباء لسياسة دفاع وطنية، والخوف من التغيير الديمغرافي واختلال التوازن الطائفي والدفاع عن مجموعة امتيازات للنخب المسيحية بوصفها ضمانات لحرية المسيحيين. لكن ذلك كله صدر عن حسابات سياسية اعتقدت أن الغرب ما زال يدعم الدور المسيحي المميز في المنطقة، وهزيمة العرب في حرب ١٩٦٧، وانتصار إسرائيل كمثال للدولة الدينية الصغيرة والقوية. هذه الحسابات التي أثبتت الحرب الأهلية خطأها، كانت حرباً تدميرية للنموذج اللبناني ومكتسباته.
توقف المسيحيون خلال عقدين عن متابعة دور التحديث الذي أدوه، ودور تنمية الفكرة الوطنية وجنحوا إلى الانقلاب على هذا الدور، وخاصة على المستوى السياسي ليرفعوا شعار المراجعة النقدية لهذا المسار، ساعين إلى الانكفاء نحو النواة الصلبة الجغرافية والديمغرافية الخاصة بهم، أي جبل لبنان.
ذهبت النخبة المارونية إلى اعتبار مشروع لبنان الكبير «مأساة نصف قرن»؛ لأن المسلمين لم يندمجوا كما يجب في الولاء للبنان. هكذا، سار النزاع في وجهة عنيفة، واستطال لمدة عقدين عرف موجات عدة من المشاريع والقوى. فبعد أن كان الوجود الفلسطيني نقطة تقاطع بين مطالب الطوائف الإسلامية مجتمعة واليسار، (قوى العروبة)، انتقل مع انفراط هذه الجبهة لمصلحة مشاريع طائفية إسلامية مختلفة. وإذا كانت تسوية «الطائف ١٩٨٩» قد أعطت المسلمين نصيباً وافراً من السلطة في جزء منه على حساب المسيحيين، فإن النزاع لم يتوقف عند هذا الحد. عرفت الطائفة الشيعية ذات الوجود الطرفي (الجنوب والبقاع) حركة خاصة بها تمثلت في قيادة عروبية مع الدور الفلسطيني، ثم في قيادة طائفية مع حركة أمل، وانتهت إلى قيادة حزب ديني استوحى مشروعه من صعود الدور الإيراني في المنطقة ومن الثقافة التي صدّرها إلى الطائفة الشيعية. تحولت مظلومية الشيعة من حركة مطالبة بحقوق سياسية واجتماعية إلى مزيج مركب من بعد تاريخي ديني في ظل الدولة الإسلامية السنية ومن بعد لبناني جعلها في هامش النظام، ومن مرحلة اتفاق «الطائف» التي لم تقدم لها صيغة مشاركة في السلطة كما تشتهي، ولا شاركتها في مهمة الدفاع عن وجودها في الجنوب خلال الاحتلال الإسرائيلي حتى عام ٢٠٠٠.
خلال السبعينيات من القرن الماضي حصل تطور عميق في أوضاع الشيعة أسس لهم مساراً صاعداً. فالنمو الديمغرافي والتوسع في الجغرافية اللبنانية والمدينية بسبب النزوح إلى بيروت ومدن الساحل، والهجرة إلى الخارج، والكد والعمل والتحصيل العلمي الذي أفاد من الإصلاحات الشهابية وتوسيع التعليم الرسمي، وخاصة الجامعي، كل ذلك أعطاهم دينامية تشبه دينامية الموارنة في القرن التاسع عشر. أسهم الشيعة في شطر من الحرب الأهلية تحت قيادة اليسار والحركة الوطنية بأحزابها العلمانية والقومية، ثم حدثت قطيعة بينهم وبين الفلسطينيين بسبب عبء القضية جنوباً، فشكلوا إطارهم السياسي الطائفي الخاص بقيادة حركة أمل. لكن الثورة الإيرانية قدمت لهم فرصة تاريخية جديدة بما رفدتهم من دعم، بدءاً من عام ١٩٨٢ والاجتياح الإسرائيلي ونشوء المقاومة. استثمرت إيران في شيعة لبنان دوراً إقليمياً، واستثمر الشيعة في لبنان دور إيران لتحصيل قوة فاقت أي تجربة سابقة لأي طائفة أخرى.
تحول الشيعة إلى طائفة حربية بامتياز، وكوّن «حزب الله» موقعاً متقدماً لسياسة إيران وسورية في المنطقة. وتوافرت له إمكانات عسكرية جعلته جيشاً حقيقياً في جذور شعبية عميقة. كذلك أنشأ مؤسسات خدماتية ورعائية وتنموية، ومدّ شبكة نفوذه إلى كل دوائر المجتمع الشيعي، واقتطع لنفسه حصة محفوظة سعى إلى زيادتها في مؤسسات الدولة. اقتحم «حزب الله» بعد تحرير الجنوب عام ٢٠٠٠ المجال اللبناني كله بشراكة مع حركة أمل، فأطبقا معاً على القرار الشيعي وصادراه في وجه أي اختراق سياسي أو تعددية. وتعاون الطرفان على أخذ وكالة حصرية لنفوذ إيران وسورية، وتصديا معاً في حركة ما يعرف «الثامن من آذار» ٢٠٠٥ لأخذ إرث النفوذ السوري المديد، وتحولا إلى قطب المواجهة لمشروع فريق «الرابع عشر من آذار» ومطالبه الاستقلالية عن سورية والتحرر من عبء نفوذها وصياغة سلطة جديدة ذات أرجحية سنية تدعمها شرائح كبيرة من الطوائف المسيحية ومن الدروز.
 
انقلاب سياسي
في نهاية عام ٢٠٠٤ تهيأ لبنان لانقلاب سياسي تزامن مع موعد الانتخابات الرئاسية، وكان الرئيس السوري بشّار الأسد يستجمع قواه وسلطته على سورية بخلافة والده عام ٢٠٠٠، ويواجه ضغوطاً دولية بهدف سلخه عن التحالف مع إيران. انطلقت في لبنان حركة بدأت مسيحية في «لقاء قرنة شهوان» تحت رعاية البطريرك الماروني تطالب بخروج القوات السورية من لبنان تطبيقاً لاتفاق الطائف المعلق منذ عام ١٩٨٩، وبعد خروج قوات الاحتلال الإسرائيلي من الجنوب. ثم جاء القرار الدولي ١٥٥٩ أوائل أيلول عام ٢٠٠٤ لينشئ حبكة سياسية جديدة انضم إليها رئيس الحكومة رفيق الحريري، وتواصلت مع فريق من القيادة السورية (عبد الحليم خدام، حكمت الشهابي، غازي كنعان) لإحداث تغيير يشمل لبنان وسورية، ويضع حداً لتفرّد عائلة الأسد، ومعها بيئتها الطائفية والحزبية والنخبة البيروقراطية والعسكرية في السيطرة على القرار السياسي لإقليم بلاد الشام.
بدا هذا الحراك مستهدفاً كذلك للطرف الشيعي الذي يستمد فائض قوته من حلفه الإقليمي. كذلك بدا أي تغيير مخلخلاً قوياً لسلطة الأسد وفريقه، ويفتح الباب لمعادلة جديدة يحكمها طاقم سياسي في لبنان وسورية أكثر ارتباطاً بالغرب وبمعسكر الخليج العربي «ومحور الاعتدال» كما كان يسمّى. حفّز القرار الدولي رغبة لبنانية شعبية واسعة وشاملة مختلف الطوائف، ولو بتفاوت، من أجل التخلّص من نظام الوصاية السورية الأمني والاقتصادي بما فرضه على لبنان من تسلّط سياسي، ومن اقتطاع لجزء مهم من الموارد الاقتصادية، ومن تشويه للحياة الوطنية.
تصدّى «حزب الله الشيعي» لهذه الحركة، واختار النظام السوري وحلفاؤه التعامل معها أمنياً. فانسحب الجيش السوري من لبنان (٢٦ نيسان ٢٠٠٥) بعد أن وقعت جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وكرّت سلسلة تفجيرات واغتيالات هدفها إخضاع لبنان مجدداً لنمط سابق من العلاقات ومن توازنات القوى ومن الخيارات. في مكان ما، كان اغتيال الحريري وجهاً من وجوه الصراع «السني الشيعي»، ومن نزاع محورين ارتسما في المنطقة، الأول بقيادة إيران والثاني بقيادة المملكة السعودية. وفي شكل من أشكال خلط الأوراق وإعادة بلورة المواجهة على المستوى الإقليمي، أقدم «حزب الله» على عملية أسر الجنديين الإسرائيليين في ١٢ تموز ٢٠٠٦، وفتح بذلك مواجهة مع إسرائيل غيّرت المناخ السياسي السائد المطالب بنزع سلاح الحزب، أو بسط سلطة الدولة الكاملة في الجنوب، واحتواء الظاهرة الشيعية الخاصة داخل الكيانية اللبنانية.

في مكان ما كان اغتيال الحريري وجهاً من وجوه الصراع «السـني الشـيعي»، ومن نزاع محورين ارتسما في المنطقة، الأول بقيادة إيران والثـاني بقيادة المملكة السعودية

نجح «حزب الله» في احتواء الحرب الإسرائيلية عليه وتثبيت شرعيته كقوة دفاع عن لبنان في وجه إسرائيل، وفي جعل سلاحه عميق الارتباط بكرامة الطائفة وأمنها ودورها وموقعها لبنانياً وإقليمياً. انتقل الحزب بعد القرار ١٧٠١ من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم في العمق اللبناني، وصاغ من قوته هذه معادلة للشراكة في السلطة لها حق النقض على القرارات الأساسية، وأجبر خصومه على الإقرار له بمرتكزات لسياسة لبنان الدفاعية تقوم على: «الشعب والجيش والمقاومة». وشرّع بذلك السلاح خارج سلطة الدولة، وأنشأ حالة دولة موازية، ووضع في جدول الأعمال السياسي صيغة جديدة لإدارة لبنان خارج أحكام الدستور وقواعد النظام وكل ما يعتبر أعرافاً سابقة هيمنت على آليات الحكم منذ الطائف (١٩٨٩). وذهب أبعد في الحديث عن نظرية «الديمقراطية التوافقية»، «والثلث المعطل في الحكومة»، وأخيراً الدعوة «لمؤتمر تأسيسي» يعيد بناء النظام والسلطة في لبنان بمقاييس جديدة.
استطاع «حزب الله» أن يفتح ثغرة واسعة في النظام بعد أحداث ٧ أيار ٢٠٠٨ ومؤتمر «الدوحة» وصفقة التوافق على اقتسام السلطة. كرّس «حزب الله» صيغة الحكومة التوافقية وتمثيل مكونات المجلس النيابي فيها، متجاوزاً كل آليات النظام البرلماني الديمقراطي حيث الحكم للأكثرية النيابية. وحين انفجرت الأزمة السورية، بادر الحزب إلى نشر قواته على الحدود اللبنانية دعماً للنظام السوري، ثم شارك في العمليات العسكرية أكثر فأكثر، أولاً بذريعة حماية بعض القرى اللبنانية الشيعية والمقامات الدينية، ولاحقاً بمقاومة التكفيريين، وأخيراً لكونه جزءاً من تحالف إقليمي يواجه تحالفاً آخر.
 
من المقاومة إلى المواجهة الداخلية
تظهّرت الصورة المذهبية للحزب أكثر، وتراجعت صورته كطرف مقاوم، وقد أدى ذلك إلى انكشاف الحزب سياسياً وزيادة المطالبة له للانضواء في مشروع الدولة. تعاملت القوى اللبنانية مع «حزب الله» كطرف مقاوم ضد الاحتلال الإسرائيلي، قبل أن يصبح قوة طائفية في عقيدة دينية مذهبية تسعى إلى فرض خياراتها وتوجيهاتها على الدولة اللبنانية. حدث ذلك تحت ذريعة المقاومة التي يجب احتضانها وطنياً. حقق الحزب مجموعة امتيازات أخصّها التنسيق مع أجهزة الدولة الأمنية وغير الأمنية، والتأثير في تكوين هذه الأجهزة وعناصرها. أنشأ مناطق أمنية خاصة أو مربعات تجاوزت حدود وجود قيادة المقاومة إلى جميع الأراضي اللبنانية. وفرض وجود مراكز عسكرية وأمنية ومجموعات لحاجات ما سمّاه الدفاع الوطني (سرايا المقاومة). ثم بدأت تظهر حركة شراء الأراضي، ما أدى إلى الحذر في مختلف الأوساط الطائفية الأخرى. ولكون الحزب صار قوة تفوق قوة الدولة، ولأنه يقوم بتعبئة طائفية، فقد أخذ جمهوره بنشوة هذه القوة، فذهب في التصرف فوق القانون والدولة، بما في ذلك السيطرة على مشاعات القرى والبلدات، وتشييد الأبنية المخالفة. ودرج الحزب على تعميم نمط حياة في مناطق نفوذه تنطلق من التحريمات الدينية التي يؤمن بها. وحيث كان هناك اختلاط سكاني أو تماس بين المجموعات والسلوكيات المختلفة حصلت احتكاكات بين الطرفين.

منذ إعلان وثيقة التفاهم بين الحزب والتيار الوطني الحر في شباط (٢٠٠٥) قام توازن سياسي يحقق فاعلية أكبر داخل النظام. من حق الشيعة وفق منطق النظام الطائفي أن يكونوا شركاء أقوياء في هذا النظام، والتعبير عن هذه القوة من خلال السلطة التنفيذية. بعد التعديلات الدستورية التي جرت في اتفاق الطائف أصبح مجلس الوزراء السلطة التنفيذية مجتمعاً. وكان الطائف يفترض أن هناك جملة إصلاحات تؤدي إلى تعزيز النظام البرلماني، وتأكيد الفصل بين السلطات، وتقوية مشاركة الجماعات الطائفية، لكي يصار إلى تجاوز النظام الطائفي. لكن ذلك لم يحصل في الممارسة العملية وفي الأعراف التي تكرست وأظهرت بشكل أو بآخر سلطة أوسع لرئيس الحكومة. فإذا ما ظل النظام الطائفي على ما هو عليه والتنافس قائماً بين الجماعات الطائفية، فإن الشيعة يريدون تعديلاً فعلياً يؤكد ما يشبه الثنائية أو التقاسم بينهم وبين السنّة. لا نعرف بالضبط كيف يمكن تجسيد ذلك في الصلاحيات الدستورية؛ لأن الطروحات المتداولة لا تحدّد هذه المطالب، وصولاً إلى طريقة تأليف الحكومة. لكن الإشكالية تتصل بكون الشيعة يملكون امتيازاً في كونهم طائفة مسلَّحة. وهم لا يقايضون هذا السلاح وسلطته بحصة لهم في الدولة أكبر، ولا يقبلون الخضوع لأحكام الدولة، بل لمشروعهم السياسي الواسع في المدى الإقليمي.
لا تقف إشكالية «حزب الله» عند الارتباط السياسي بمحور إقليمي واتباع سياسات تتجاوز الدولة والكيان وتفرض على سائر اللبنانيين خيارات ليسوا شركاء فيها ولا هي تتفق مع مصالحهم. «فحزب الله» حزب يلتزم إيديولوجية دينية تسعى إلى بناء «مجتمع نقيض». لم يشارك الحزب خلال تجربته في السلطة بأي مبادرة إصلاحية، ولم يتقدم بأي مشروع هدفه تطوير الأوضاع الاقتصادية، أو في مكافحة الفساد، أو تعديل وجهة الإنفاق، أو من أجل التنمية، أو لمكافحة الغلاء، أو توسيع الخدمات العامة، وتحديث الإدارة والقوانين. خاض معركة واحدة هي معركة قانون الانتخاب، وشارك في السعي إلى إقرار قانون يلائم نفوذه وزيادة هذا النفوذ، لا في إقرار إصلاحات لتصحيح التمثيل الشعبي وتفعيل الممارسة الديمقراطية.
يفرض الحزب جدول أعمال مختلفاً عن حاجات اللبنانيين وتطلعاتهم إلى العيش في استقرار وسلام، وإلى إدارة شؤونهم من أجل حل المشكلات الاجتماعية الموروثة والمتفاقمة، تحقيق العدالة الاجتماعية وتطوير الديمقراطية السياسية التي هي ملازمة لعيشهم معاً ولمشاركتهم السياسة ولحرياتهم، فهو يحيط سلوكه بهالة القداسة الدينية ويعتبر قضيته ومشروعه أمراً خارج النقاش. ويبذل الحزب جهوداً هائلة وأموالاً طائلة لخلق جماعات موالية له ومدافعة عنه في البيئات الطائفية الأخرى، ويقوم على تسليحها وحمايتها. بل هو يشارك في تغطية وحماية واستخدام الاقتصاد غير الشرعي أو الخفي وما فيه من مخالفات تحت ذريعة الحاجات الخاصة بالمقاومة. ففي شكل أو آخر، يحاول خلق «اقتصاد موازٍ». أسهمت هذه السياسات كلها بخلق ردود فعل مناقضة في الجماعات الطائفية الأخرى، ليس أقلّها قيام حركات متشددة دينية تكفيرية وجهادية، كما في إشعار الجماعات بالقلق على مصيرها أمام القوة الهائلة لهذا الحزب والممارسات التهديدية له، وبعض التوترات والصدامات التي وقعت وتقع في مناطق مختلفة.
 
أيّ نموذج يريد؟
يكرر الحزب في خطابه السياسي أنه الطرف الأقوى في وجه اللبنانيين. يهدد باستخدام القوة إذا ما تشكلت حكومة لا تتفق مع رغباته. يعلن عدم التزامه في حدود الدولة ودستورها وكيانها ونظامها «ولا يريد تغطية من أحد» لممارسة تدخله العسكري في سورية. في شكل أو آخر، نجح الحزب في تسليط الاهتمام على ممارسة الجماعات التكفيرية الدينية (السنّة) المتطرفة وأخطارها وتهديدها للآخرين. ينضم الحزب كما حلفاؤه الإقليميون إلى المعركة ضد «الإرهاب». لا يمارس الحزب وضوحاً في شأن النموذج الذي يريد أن يقدمه إذا ما حقق المزيد من السلطة.
تجاوز الحزب وثيقته الأصلية التأسيسية (١٩٨٥) التي أعلن فيها التزامه مشروع الدولة الإسلامية في لبنان. في وثيقة التفاهم مع التيار الوطني الحر (شباط ٢٠٠٥)، أعلن التزامه «الديمقراطية التوافقية»، أي نظام المشاركة الطائفية. يعني بذلك إبقاء لبنان فيدرالية طائفية. يمارس الحزب نفوذه على الأقل داخل مجاله الطائفي لفرض نمط سلوك ديني خاص. سلطة الحزب هنا سياسية ودينية، ولا انفصال بينهما. يُسهم في تغذية اتجاهات سياسية دينية مقابلة في الجماعات الطائفية الأخرى ويدعوه الآخرين لفصل المسألة السياسية عن المسألة الدينية، ولعدم إثارة النزاع المذهبي السني الشيعي. لكنه لا يستطيع إقناع الآخرين بذلك. ما يمارسه من توكيد لتراثه المذهبي وما ينطوي عليه من نزاع مع الطرف الآخر لا يسمح بقبول هذا التوجه. حين انخرط الحزب عسكرياً في الحرب السورية دعماً للنظام، تبلورت أكثر الصفة المذهبية لمشروع الحزب. لم يكن الحزب وحده بالطبع مَنْ تدخل مادياً في النزاع السوري، لكنه يتمتع بقوة ناتجة من امتيازات حصل عليها في لبنان لا يتمتع بها سواه. فهو يملك تسهيلات استثنائية نتيجة دوره في المقاومة.
لا يمكن هذه المعطيات أن تسمح بتكوين دولة مركزية في لبنان على نحو ما عرفناه في العقود الماضية. يستحيل على الحزب أن يشكل محور النظام اللبناني كما كان الموارنة من قبل، أو كما كانت الثنائية المارونية – السنية. هناك جسم له مشروع ديني يمثل حالة من صعوبة الاندماج. في ورقة التفاهم المشتركة التي وقعها الحزب مع التيار الوطني الحر جاء ما يأتي:
«إن الديمقراطية التوافقية تبقى القاعدة الأساس للحكم في لبنان، لأنها التجسيد الفعلي لروح الدستور، ولجوهر ميثاق العيش المشترك، من هنا فإن أي مقاربة للمسائل الوطنية وفق معادلة الأكثرية والأقلية تبقى رهن تحقيق الشروط التاريخية والاجتماعية للممارسة الديمقراطية الفعلية التي يصبح فيها المواطن قيمة بحدِّ ذاته».
وفي الوثيقة السياسية للحزب التي أذاعها في آخر تشرين الثاني ٢٠٠٩، أكد الصيغة نفسها حرفياً تحت عنوان الدولة والنظام السياسي. يترجم الحزب «الديمقراطية التوافقية» في رفض قبول صيغة الأكثرية والأقلية في البرلمان. يطالب بحكومة من جميع مكونات البرلمان بحسب أحجامها. يجعل الحكومة مجلساً نيابياً مصغَّراً ويلغي القاعدة البرلمانية. تتحول الحكومة إلى مجلس فيدرالي لتمثيل الطوائف. يصبح تأليف الحكومة مجرد عملية حسابية للكتل النيابية الطائفية التي تختار ممثليها وغالباً مراكز تمثيلها حين تقتسم الطوائف الكبرى الثلاث ما يسمَّى الوزارات السيادية. عملياً نحن أمام تقاليد مناقضة للنصوص الدستورية ولآليات تشكيل الحكومات.
يقول الحزب إن ذلك «من روح الدستور وجوهر ميثاق العيش المشترك». هناك فهم مناقض «لميثاق العيش المشترك» أو الميثاق الوطني الذي صار في مقدمة الدستور. فهذه المبادئ بالتأكيد لا تعطي أي جماعة حق التصرف بحرية مطلقة في تقرير سياسة لبنان الخارجية أو الدفاعية أو الأمنية، ولا تعطيها حق إلزام اللبنانيين بنمط عيش أو ثقافة معينة خاصة بهذه الجماعة. قام النظام السياسي اللبناني أصلاً على أحكام دستورية تعترف صراحة بأنّ «للمواطن قيمة بحد ذاته». لكنها حفظت للجماعات حصصاً في السلطة السياسية لمنع وقوع أي طغيان أو افتئات أو حصول أي عزل أو غبن أو حرمان.
في ما خلا ذلك، أعطى الدستور المواطن الكثير من الحقوق والحريات على أساس مدني. فلم يكن لبنان يوماً دولة دينية أو ثيوقراطية، بل هو دولة تعتمد نظاماً مركباً من حقوق الأفراد وضمانات الجماعات كاستدراك مؤقت لتجاوز الحال الطائفية. بل إن التعديلات الدستورية التي جرت بعد اتفاق الطائف حددت آليات واضحة لحصر الدور الطائفي، ومن ثم التمهيد لتجاوزه. من حق أي طرف أن يسعى إلى تعديل النظام السياسي وتغييره، لكننا أمام تمويه على المطالب الحقيقية والأهداف السياسية. إننا أمام قوى سياسية لا تؤمن بفكرة الدولة بوصفها الهوية المشتركة لجميع اللبنانيين، ولا هي بالتالي تحصر فعلها السياسي ومشروعها داخل الكيان اللبناني.
إزاء كل الدعوات لمعالجة مسألة سلاح «حزب الله» خارج سلطة الدولة، ما زال الحزب يردد: «إن هذا الدور (للسلاح) وهذه الوظيفة ضرورة وطنية دائمة دوام التهديد الإسرائيلي، ودوام أطماع العدو في أرضنا ومياهنا، ودوام غياب الدولة القوية القادرة، وفي ظل الخلل في موازين القوى ما بين الدولة والعدو» (وثيقة ٢٠٠٩).
ربط الحزب بوضوح وجود سلاحه على نحو ما هو عليه باحتمالات غير ممكنة التحديد، وعلى مدى تاريخي طويل. وفي زمن آخر انتقل السلاح للمشاركة بالصراع الإقليمي. ولا ننسى طبعاً عقيدة الحزب الدينية التي تدمج الدين بالسياسة، ومفاهيم الدولة والوطن والقانون والدستور والسياسة كلها مرهونة لمرجعية الجماعة الدينية، ما ينقض احتمالات قيام اجتماع سياسي واحد مسالم ومستقر ومقنن في دائرة منظومة واحدة اسمها الدولة المركزية.

العدد السابع - شتاء ٢٠١٤
من المارونية السياسية إلى الشيعية السياسية

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.