العدد ٢٥ - ٢٠٢٠

علم الاجتماع وتصنيف الدولة اللبنانيّة

يربط عالم الاجتماع بين ظروف نشوء الدولة اللبنانيّة مستفيداً من الدراسات التاريخيّة للظروف الزمانيّة والمكانيّة التي حكمتْ تَشكُّل المجتمع اللبنانيّ الذي تدرّجَ اندماجُه، على امتداد قرون، مع مجتمعاتٍ متشابهةٍ في نطاق الإمبراطوريّة العثمانيّة وتشريعها الإسلامي لنظام الاقتصاد الريعيّ القائم على ملكيّة الدولة للأرض التي يتعاقبُ على جَمْع ريوعِها لصالح الدولة «مقاطعجيّون» لا يتملّكونها بخلاف مفهوم ودَور الإقطاع المتملّك للأرض ومَن عليها في التشريع الرومانيّ للإمبراطوريّة البيزنطيّة. وقد رعى هذا النظامُ العثمانيّ الريعيُّ، على امتداد قرونٍ، ترَكّز نموٍّ لبعضٍ من قدرات مناطقها وقطاعاتها شكّلتْ جزءاً ممّا يسمّيه بيار بورديو، عالِمُ الاجتماع الفرنسيّ، «رساميل الدولة» (أي رأس المال الاقتصادي والثقافي والاجتماعي والدفاعي أو العسكري) وهي رساميلُ تتراكم وتتركّز في ظلّ نموّ ما يُسمّيه بورديو «رأس المال الاعتباري أو الرمزي» لحضور الدولة وهَيبتها1.

إلّا أنّ مثلَ هذا التركز الجزئي للقدرات أو الرساميل ما كان ليَبنيَ دولةً في جبال لبنانَ التي كانتْ جزءاً من احدى ولايات الدولة العثمانيّة. وقد تدرّجَ الحكمُ العثمانيّ إلى الإقرارِ عام ١٨٦١ بما سُمّي «نظام المتصرفيّة» في جبل لبنان. وهو نظامٌ ضغطتْ من أجل اقامته ستُّ دوَل أوروبيّة يُؤهّلها تطوُّرها الرأسماليّ للتوسّع باتّجاه المشرق العربيّ وأسواقه تحت ذريعة حمايةِ المسيحيّين وهي: فرنسا وبريطانيا وبروسيا وروسيا والنمسا وإيطاليا. ولهذا فَرضتْ على الدولة العثمانيّة إشراكَها بإنْهاء الفتَن الطائفيّة في جبل لبنان التي كان قد ساهَمَ الفريقان بإشعالِها. وتركّز الاهتمامُ الفرنسيّ من بينها على تَقاسُم النفوذ مع الإنكليز بعد هزيمة الدولة العثمانيّة في الحرب العالميّة الأولى في المشرق العربيّ وعلى التفرّد بحكم سورية ولبنان وذلك بالتوافق مع البابويّة الكاثوليكيّة في روما. وقد كانت خصائصُ الموقع الجيوسياسيّ للبنان وجَبَله وتركيبُه الطائفيّ الأقلّويّ تُشكّل مزايا تُمكّن الانتدابَ الفرنسيَّ من التوسّع إلى سورية والمشرق بعدما تفرّدَ بالتحكّم بالإسلام المغاربيّ وموارده في حروبه الاستعماريّة خارجَ شمال أفريقيا. وقد صادَرَ تَوسّعُه فرَص تَراكُم النموّ التكامليّ لمَوارد وقُدرات البلاد وترَكّزها لتتحوّل إلى رساميلَ تُديُرها الدولةُ في تقدّم المجتمع.

لقد أُنشئتْ دولة لبنان الكبير عام ١٩٢٠ وتقاطَعت في نشوئها البنيويّ التاريخيّ تطلّعاتٌ استراتيجيّة فرنسيّة سياسيّة اقتصاديّةٌ توافقتْ مع تطلّعاتٍ طائفيّة وبرجوازيّةٍ طَرْفيّة داخليّة تَجهد للتحكّم في نموّ اقتصاده ودَوره الخدماتيّ الإقليمي وفي توجيه الحكم التوافقيّ لزعماء الطوائف ممّن يحرّضون على تعدّد مراجع دعْمهم السياسيّ والاقتصاديّ الخارجيّ حرصاً على تجديد تزَعّمهم في إدارة البلاد. لكنّ هذا التوافُقَ السلاليّ الطوائفيّ التخارُجيّ في الحكم دَعّم من نفوذ نخَب الطوائف الحاكِمة من خلال تعزيز أدوارِ الجامعات الأميركيّة واليسوعيّة التي ما زالت تتصدّرُ مراكزَ التكوين الثقافيّ العلميّ لهذه النُّخب ومن وصولها إلى مراكزِ القرار في الإدارة وفي سياسة الحكومات اللبنانيّة، وصولاً سبَقَ تأسيسَ الجامعة اللبنانيّة الحكوميّة بحوالي قرنٍ ونصف القرن.

إنّ هذه الخصوصيّةَ في ظروف نهوضِ وتدَرّج الرأسمال الثقافيّ متعدّدِ الميول السياسيّة في تركّزاته لدى النخَب المختلفة المُوالية لزعاماتِ الطوائف، وفي توجيه الحكوماتِ متعاقبة التوافُقات الداخليّة - الخارجية، هي خصوصيّةٌ لا تقارَن بتدرّج التركّزات المختلفة للرساميل الثقافيّة في الدول الصناعيّة الرأسماليّة المتطوّرة التي شكّلتْ على امتداد قرونٍ عديدة من استقلالٍ نهضويٍّ واختلافِ ظروفٍ وتركّزات رساميلها الثقافيّة مقرونة باختلاف ظروف نهوض وتركُّزات رساميلها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والدفاعيّة. وإذا كانتْ مجتمعاتُ هذه الدول المتطوّرة قد باتتْ، بفعل أنماط نهوضها التنمويّة الخاصّة وبفعل بُلوغها مستوياتِ العالميّة في اندماجها بالأسواق المعولَمة، تنتظمُ لحماية ثرواتها وأسواقها في تكتّلاتٍ عالميّةٍ اقتصاديّة وعسكريّةٍ إقليميّة وعالميّة واتّحادات جمركيّة (الاتّحاد الأوروبيّ، منظّمة الدول الأميركيّة، رابطة جنوب شرق آسيا، ومنطقة التجارة الحرّة لأميركا الشماليّة، إلخ.) هي كلّها قابلةٌ للتصنيف في نموذجٍ عالميّ للرأسماليّة الليبراليّة المضطرّة إلى الدفع باتّجاه المزيد من ليبراليّتها وبهذا المستوى من التوسّع المتقارب أصبحتْ تُشكّل عالَماً اقتصاديّاً متفاوتَ التعارُضات شبهَ موحّدٍ في تعامُله مع الرأسماليّات الطرفيّة التابعةِ لها تعاملاً يزدادُ تعويقاً للنموّ مُتكاملِ التركّز لقدُراتها أو رساميلها.

المنهجيّة وعلاقتُها بالبيئة الاجتماعيّة

يستند عالم الاجتماع في اختيار منهجه إلى مقاربة ظاهرةٍ لافتة في حقلٍ اجتماعيّ ما إلى نوعين من الفهم المُفترَض لخصوصيّة التحليل في علم الاجتماع:

- فَهمٌ يرى فيه علماً يقوم على المقاربة الماكرو - اجتماعيّة للظاهرة لا يختلفُ عن باقي العلوم في شرحِ وقياس ظواهرِ عَيش وعلاقات الجماعات والأفراد في المجتمع، وعلى الحياديّة المفترَضة للباحث كما في العلوم الاختباريّة التي تفرضُ عليه أنْ يقرأ الظواهرَ الاجتماعيّةَ موضوع البحث بعيداً عن هواجسه الذاتيّة،

- وفهمٌ يعتبره علماً يقومُ على المقاربة الميكرو - اجتماعيّة ينشغلُ بمقتضاهُ الباحثُ بشرحِ أوضاع العيش المحلّيّ للجماعات والأفراد منطلِقاً من ملاحظة اختلالٍ يبرز في ظاهرةٍ اجتماعيّةٍ متعدّدةِ الأبعاد تتمثّل على سبيل المثال بالتعصّب. وبهذا يجدُ الباحث السوسيولوجيّ نفسه «مأخوذاً بهاجسٍ ذاتيٍّ يُواجه فيه اختلالاً محوريّاً يرى أنّه ناجمٌ عن خلل رئيسيٍّ في توزع الثروةِ والسلطة متمثّلٍ باللامساواة»2. اختلال ينعكس تأزّماً في تفاصيل حياةِ الناس يمكن قياسُه إحصائيّاً لكن يستعصي على التعرّف، عن طريق هذا القياس الكمّيّ، على أشكال التكيّف النفسانيّ - الثقافيّ الضامنة لتقبلٍ معلَن أو مضمَرٍ لهذه اللامساواة. ولهذا تُصبح الترصّدات الميدانيّة - من خلال تقنيّات الملاحَظة والمعاشَرة المعتمَدتين في منهج الميكرو-سوسيولوجيا النقديّة - هي الترصّدات لتفاعليّة الأفراد فيما بينهم. وهي الأكثر نفاذاً لفهم حدود تأثيرات ظاهرةِ اللامساواة على العلاقات والأنظمة الناظمة للمجتمع لكونها ظاهرةً اجتماعيّةً متعدّدةَ الأبعاد. وفي المقابل، يحرص الفهمُ السلطويُّ المحافظُ على تمويه المساواة في تَوزّع الثروة والسلطة من خلال إبراز أولويّةِ ظواهرَ عديدةٍ أخرى كاللامساواة بين الجنسين وبين الإثنيّات وظاهرة العنف بين الهويّات الدينيّة. وهي ظواهرُ تبتدع السلطاتُ طرقاً لشرعنتها من اجل تأمين تجدّد سلطانها مع أنّها في الواقع ليستْ إلّا ظواهرَ ثانويّةً متأتّية عن ظاهرة اللامساواة الرئيسيّة السائدة. ولذلك لا ينطلقُ بيار بورديو منها ولا يُؤسِّس عليها في منهج الميكرو - سوسيولوجيا النقديّ الذي يعتمدُه في أبحاثه السوسيولوجيّة.

وإذا كان التحليلُ الذي يعتمد منهجَ هذا العلم ينطلق من شرط توافر البيئة الديمقراطيّة التي تستثير فضولَ الباحث، فإنّ انطلاقَه منهجيّاً من ظاهرة اللامساواة المحوريّة في البيئة الديمقراطيّة في المجتمعات الليبراليّة المتطوّرة، يُمكِّنه من ربْط ظاهرة التمييز في اللامساواة بما ينجمُ عنها ويتمحورُ حولها من ظواهر تمييزٍ أخرى تركّز ثقافةَ السلطة والمحافظين على شرعَنتها عبر التعليم والإعلام والأجهزة الإيديولوجيّة الأخرى.

البيئة الديمقراطيّة ووعي اللامساواة

هنا لا بدّ من التوقّف أمام استعصاء توفّر البيئة الديمقراطيّة في المجتمعات الطرفيّة الفقيرة وتعذّر وجود الشفافية كشرطٍ لوعي الفرق بين أشكال الارتباط النظاميّ بين اللامساواة المحوريّة على الصعد الاجتماعيّة - الاقتصادية والسياسية من جهة، وما تُشرعنُه من جهة أخرى الثقافةُ المحافظة من أنواع اللامساواة المرتبطةِ بها أو المتفرّعة عنها التي يتقبّلها الفقراء ويتكيّفون معها بفعل أخلاقيّات التديّن ونفوذ السلطات القَرابيّة والأهليّة المحافِظة. ويصبح من الضروريّ التذكيرُ بأنّ الثقافةَ في البيئات الشعبيّة تقوم غالباً على الإيمان والتعبئة والتوصيل لا على النقاش والتواصُل. وأنّ غالبيّة النّخَب المعنيّة مبدئيّاً بأخلاق التواصل تصبح أكثرَ تواطؤاً على العلاقات الزبائنيّة مع زعامات السلطة من أجل الحصول على فرص عملٍ تكاد تقتصرُ أحياناً كثيرةً على دوائر الدولة أو من أجل الارتقاء في مراتب التهيّب السلطويّ كشرطٍ لاستثمار ولاءاتهم وتجييرِها للزعامات.

لا ريب في أنّ الحقلَ الاجتماعيَّ ينفتحُ على كل باحثٍ وفقاً لتنظيره السوسيولوجيّ المهجوسِ بأولويّة قيَمِه. وهو تنظير ينعكس على اختيار التقنيات الميدانيّة التي يعتمدُها في منهجه وعلى خلاصاتِه التي تذهب بصورةٍ مباشرةٍ أو غيرِ مباشرة لصالح هذه أو تلك من الفئات المكوّنة لبيئة البحث. وفي هذا السياق الميدانيّ للبحث ينتقل الباحثُ بالضرورة من هواجس علم اجتماع التغيّر، الهادف إلى فهم منطق تشكُّل المجتمع، إلى هواجس علم اجتماع التغيير المُشيرةِ إلى إمكانيات تعديلٍ في تشكيل السلطة وإلزامِها بتوجّهاتٍ جديدة. وفي هذا السياق لا بدّ من أن يخلطَ الناسُ في الحقل بين عالِم الاجتماع الباحثِ القادم إليهم، المتدخّل في تفاصيل مشكلاتِهم وحاجاتهم، وبين صاحبِ القرار في الإدارة والتمويل واعتبارِه قادراً على توزيع المغانمِ المترتّبة على دراسته. وفي مثل هذا العمل الميدانيّ المُلمِّح إلى إمكانيّات التغيير ينتقلُ الباحث:

- من اعتبار المجتمع محافظاً يعمل على تجدّد نظامه فيميلُ إلى تقنيات استقصاء الاختلالات الماكرويّة الناجمة عن سوء توزيع المواردِ والنفوذ وإلى معالجة النزاعات الضيّقة التي تعوّقُ توازنَ الهرَميّة المحلّيّة المألوفةِ وهي معالجةٍ تبقى في نطاق منهجِ التنظيم والخدمة الاجتماعيّين.

- إلى خرْق النظاميّة المرئيّة للمجتمع المدروس باتّجاه التناقضات والتوتّرات المحلّيّة المموّهة محليّاّ بلغة وثقافةِ التوافق المَرعيّ سلطويّاً. ولا بدّ للباحث من توصيف الآليّات المحليّة للاستغلال وتعويق النموّ واستنطاق الثقافة المموِّهة لهما والمهيمنة محليّاً فتبرزُ في بحثه الميدانيّ أشكالُ الترابط بين آليّات الاستغلال المحليّة من جهةٍ وبين الآليّات الاقتصاديّة والسياسيّة التي تحكُم النظامَ في المجتمع الكبير. وهي آليّاتٌ غالباً ما تقوم في المجتمع المحلّيّ الفقير على الإلغاء المتبادَل بين الأفراد الفاعلين المتنافسين على احتكار السلطة داخلَ العصبيّات وبينها. ولا تقومُ كما في البلدان الصناعيّة المتطوّرة على التعارضات بين رُؤى التكنوقراطيّين من جهةٍ وبين مصالح كلٍّ من رجال الأعمال ورجالِ السياسة من جهةٍ ثانية.

وإذا ما قصَرَ الباحثُ تركيزَ مقاربته على أفعال الأفراد في المجتمع المحلّيّ سواءٌ من خلال تفاعلاتهم ضمن ما يُسمّى بديناميّة التفاعل التشبيكيّ داخلَ الجماعة (Interactionnisme) أو من خلال الميكرو - ثقافة أو الثقافة المحلّيّة، ضمنَ ما يُسمّى بالإتنو - ميتودولوجيا أو من خلال التركيز على أولويّة فعل الفرد (Homo sociologicus) في تحديد ميوله وأوضاعِه في ما يُسمّى منظورَ الفردانيّة الممنهَجة أو - (Individualisme méthodologique) فإنّه لا بدّ من أنْ يخلُصَ إلى دور القيادات المحلّيّة ومسؤوليّاتها سواءٌ في دورها السلبي في التعويق أو في دورها الإيجابيّ في المبادأة والريادة في تنمية مواردِ مجتمعها المحلّيّ كأساسٍ لتقدّمه الاجتماعي.

غير أنّ هذه الخلاصةَ، الناتجة من منظور تفاعُليّة الأفراد داخلَ زُمَرهم وتشبيكاتهم المحليّة وفي إطار ما يُسمّى بالميكرو - سوسيولوجيا، أو بعلم الاجتماع النقديّ المعاصِر، تقود الباحثً بالضرورة إلى المحدّدات الماكرويّة والسياسيّة المتحكّمة بتفاعلات القيادات المحليّة للجماعات. هذه القيادات التي تعمل على تحصين مواقعها أو مراكزها المحليّة داخلَ هرميّة السلطة العامّة المشرعَنة بالثقافة المهيمِنة والتركيبات التشريعيّة في المجتمع الكبير. وفي هذا السياق من المقاربة، يكون الباحثُ قد دخل في نطاق علم اجتماعِ التغيير أو علم اجتماع التنمية بفعل ابتعاده عن تفكيك خطاب أهل السلطة الماكرو - تنمويّ وخطاب غالبيّة القيادات المحليّة المتواطئة معها المعوّقين للتنمية المحليّة.

من التنمية إلى تخفيف الفقر

لقد تزايدتْ إرباكاتُ الباحثين الاجتماعيّين مروّجي الخطاب الماكرو - تنموي المحافِظ خلال الثمانينيّات مع تزايد الضغوط لفرض التحوّلات الهيكليّة في التوجّهات الحكوميّة المرصودة تحت مراقبة المراكز الماليّة الدوليّة. بدأ التراجعُ مذّاك عن نظريّات اقتصاد التنمية القائمِ على الاستثمار الحكوميّ لتنمية القطاعات والمناطق. واقترنَ ذلك بتراجع العروض الدوليّة التمويليّة والتقنيّة التي تتطّلبها برامجُ التنمية. وتحوّلَ معها المانحون ومعهم المنظّماتُ الدوليّة إلى الاهتمام بما يُسمّى برامج تخفيـف الفقـر والحَدّ من البطالة عن طريق التمويل لتنفيذ برامجَ للتدريب المهنيّ والإقراض الصغير وخَلق المشاريع العائليّة تحت تسمية التنمية المحليّة وإشراك الناس. وزادَ في ترويج تمويل المانحين لمثل هذه البرامج أنّها تُنفَّذ وفق ما يُسمى «منهج الديمقراطية المباشرة» في التنمية بذريعة أنّه منهجٌ مناهض للإدارة المركزيّة البيروقراطيّة الفاسدة في التعامل مع أوضاع الجماعات المحليّة وفي التحسّس بمسؤوليّاتها عن فقر هذه الجماعات في ظلّ حكوماتٍ باتتْ مديونةً وعاجزةً عن التدخّل في حماية أسواقها بعد تورّطها في فتحها على الاستيراد الإغراقيّ .

وفي هذا السياق جاء تعليقُ المديرِ الأسبق في البنك الدوليّ جايمس وولفنسون على هذا التراجع بالغِ الدلالة عندما أشار إلى «أنّ انخفاض فاعليّة الدعم الماليّ والتقنيّ التي كان يقدّمها خبراءُ البنك التقنو - اقتصاديّون إلى الإدارات الحكوميّة في البلدان النامية كانت قليلةَ الجدوى في تحقيق معدّلات النموّ المطلوبة سواءٌ بسبب الإدارة الفاسدة أو بسبب غياب الأبعاد الاجتماعيّة - الثقافيّة عن الدراسات التشخيصيّة لأوضاع تلك البلدان، مضيفاً أنّه «حيثما تطوّرتْ بلدانٌ على وجه السرعة كانت أهمّ العواملِ هي السياسات والمؤسّسـات وأنظمة الإدارة في البلدان نفسها. وأنّ المساعدات الإنمائيّة لا يمكن أن تحلّ محلَّ الالتزام المحليّ، لكن حيثما ساندَت المعوناتُ البلدانَ الملتزمةَ النامية، فإنّها ساهمت بشكلٍ ملحوظٍ في تقدّم التنمية كما وردَ في التقرير السنوي الصادر عن البنك الدوليّ3.

كان الفهمُ والمقاربة الماكرو - بنيويّين يقودان السلطات إلى وضع سيناريوهات مركزيّة في التخطيط والبرمجة لتنمية المجتمعات متفاوتةِ النموّ ومختلفةِ الثقافات داخلَ مجتمع الدولة. وظلّ الترويج لاعتماد الفهم الماكرو - بنيويّ للمجتمع ومقاربته سائدين حتى ثلاثينيّات القرن الماضي إلى أن ظهرَت المدارسُ الميكرو - سوسيولوجيّة، التي أشرنا إليها أعلاه، والداعيةُ إلى مقاربةٍ ميكرو - بنيويّة قائمةٍ على التمييز بين ديناميّاتِ تشكُّل وتحوُّل المجتمعات الفرعيّة والجماعات المحلّيّة داخلَ ديناميّات المجتمع الكبير أو مجتمع الدولة. عزّزَ من ظهور هذه المدارس بعد الانهيار السوﭭياتي الترويجُ الذي قامت به المنظّماتُ الدوليّة العاملةُ في أبحاث التنمية المحليّة ومنها خاصةً «برنامجُ الأمم المتّحدة الإنمائيّ UNDP» منذ مطلع التسعينيّات. هذا الترويجُ الذي يقوم على مقاربةٍ مركّبةٍ تُتيح للباحث تفسيرَ تجانسِ المعوّقات أو الإمكانات الماكرو - بنيويّة للتنمية في أكثر من بلدٍ، وذلك باستناده إلى التجانس المفترَض بين الديناميّات والسياسات المعتمَدة فيها، كما وتُتيح للباحث في مقاربةٍ ميكرو - بنيويّة مُكمّلة تستند إلى التجانس المزعوم بين الديناميّات في المجتمعات المحليّة في البلدان الفقيرة دون مراعاةٍ لاختلافات خصائصها العائدة لاختلافٍ في ظروف نموّ مَواردها أو في الثقافة أو لأسبابٍ خارجيّة.

سبَقَ للمقاربات الميكرو - سوسيولوجيّة أن لاقتْ قبولاً في المجتمعات الصناعيّة لدى الفئات المتوسّطة مع ترسُّخ دولة الرعاية خلال العقدين اللذين أعقبا الحرب العالميّة الثانية على حدّ تقدير أرفين غوفم. وذلك في ظلّ الدولة الليبرالية التي «توحي رعايتُها بإمكانات الحراك المحلّيّ وتجاوُز التصنيفات الطبقيّة الماكرو - بنيوية حيث يصبح التلفزيونُ هو الذي يحكم تشكّلَ الواقع يرپن نيكولا4 لا سيّما بعدما أخذت «الثورة الإعلاميّة تعتمد لغةَ التواصل بحيث باتتْ تختلط في تعابيرها، الموجّهة إلى المجتمع المحلي، مدلولاتُ المفاهيم الدينيّة (الشراكة والتكافل والمشورة) مع البداهات الحداثية المروّجة بفعل التنشئة التواصليّة على حدّ تعبير يورغن هابرماس5 (وكانت أكثر المقاربات الميكرو - سوسيولوجيّة بروزاً، مع أفول النهج الكلّيّاني القائل بالحتميّة البنيويّة التاريخيّة، قد ظهرتْ في مدرسة شيكاغو مع تبلور الاتّجاه الوظائفيّ الذي روّجَ له تلكوت بارسونز في كتابه «النظام الاجتماعيّ»، وأيضا بفضل المدارس الميكر - وثقافيّة التي تدعو إلى التوقف أمام المدلولات الملاحظة مباشرة في التعبيرات والممارسات اليوميّة المتعلّقة بالدين والرأة والسلطة وفي تجارب الأفراد وذلك في إطار ما يُسمّى بالسوسيولوجيا الفينومينولوجيّة. وقد تبلورتْ، هذه المدارسُ الميكرو - سوسيولوجيّة في ما سُمّي لاحقاً بالإتنو - ميتودولوجيا القائمة على النفاذ عبر التعبيرات الثقافيّة الخاصّة باللغة المحلّيّة للوصول إلى فهم النظام الاجتماعي الكامن في لاوعي الجماعة.

وذهب روّاد هذه المدرسة، وأبرزُهم آرون شيكوريل وهارولد غارفنكل، إلى تجاوز الستاتيكيّة الوظائفيّة في مفهوم النظام، القائلةِ بديناميّة توازُنه الداخلي التلقائيّ عن طريق إتاحته لفرصِ الحراك الاجتماعي أمام الأفراد. فخالفوا إميل دوركهايم في اعتبار الظواهر الاجتماعيّة أموراً خارجةً عن إرادة الأفراد. لا بل دعا الإتنو - ميتودولوجيّون إلى حصر التحليل في النطاق الميكرو - ثقافي المحلّي (Community) وإلى التركيز على الإتنوغرافيا أي على الطرق الشعبيّة الرائجةِ في التعبير لدى الجماعة. وعملوا على استكشاف جذور العقلانيّة المحلّيّة سواءٌ للتعرّف على الممارسات العاديّة للحياة اليوميّة وتعبيرات التواصل أو لفهم الأمور المستغرَبة، كما في أعمال جورج لاپاساد6.

المقاربات الماكرو - ثقافويّة في التقارير الدوليّة

إنّ رجحانَ المنظور الوظائفيّ الثقافويّ في التعريف السياسيّ للمواطَنة جعل المقارباتِ ذات المرامي الليبرالية في «التقرير الوطني للتنمية البشرية في لبنان» ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، مقاربةُ الخبيرة مديرةِ مشروع التقرير «نحو دولة المواطن - لبنان ٢٠٠٨ - ٢٠٠٩» (التقرير السنوي للتنمية UNDP 2008 - 2009)7 ومقاربة كاتب آخر في نصٍّ بعنوان «المواطنة والدولة الطائفيّة»، يربطان الميول والظواهرَ والسلوكيّات والممارساتِ المهيمِنة ثقافيّاً (Dominants) في لبنان بالآليّات الرأسماليّة الطرفيّة المحدّدة (Déterminants) تاريخيّاً، بأشكالٍ غير مباشرة أو مباشرة أحياناً، لمواقع وثقافات الجماعات المستفيدةِ منها من جهة، والمحدّدة لمواقع وثقافات الجماعات الأخرى المذعِنة لهذه الآليّات والمتضرّرة منها من جهة أخرى. تميل هذه المقارباتُ إلى حصر تفسير تعبيرات تلك الظواهـر والسلوكيات المهيمنة في حدود نظام وكيان الليبرالية اللبنانيّة. وهو تفسيرٌ يُخرج الحالةَ اللبنانيّةَ عن سياق تَكيُّفها التاريخيّ مع الظروف العالميّة والإقليميّة لتشكّلات وتحوّلات الدور الإقليميّ للاقتصاد والسياسة في لبنان، ويجعل منها حالةً عصيّةً على الفهم إلّا من خلال ما يهيمن داخلَ نظامها من تعدّديّةٍ نفسانيّةٍ - ثقافيّة تقفُ الخبيرةُ عند مظاهرها فترى أنّ اللبنانيّين يتنقّلون معها من حالات «الفخر بحيويّة وتعدّد ثقافاتها إلى حالات الابتلاء بحروبها وغموضها السياسيّ الحادّ» ومن حالات «التضافر لتحقيق تغيير سياسيٍّ كبيرٍ عبر طرقٍ سلميّةٍ نسبيّاً إلى انقساماتٍ وأحقادٍ طائفيّةٍ واشتباكاتٍ متكرّرة... ما دفعَها إلى شفيِر حربٍ أهليّة جديدة».

صحيحٌ أنّ قدم التعاشر بين جماعاتٍ مختلفةِ الأديان والمذاهب في لبنانَ مثلاً قد أسس ابتداءً من الفتح الإسلاميّ، وعلى امتداد ما لا يقلّ عن ١٤ قرناً، لنمطٍ من العيش المشترك. هو نمطٌ من الاجتماع الضروريّ والاضطراريّ يترسّخ بالاحتكاكات العفويّة الظاهرة في الحياة اليوميّة للمجموعات المتآلفة إذا ما رُصِدتْ من خلال مقاربةِ ما يُسمّى بـ«علم اجتماع الحياة اليوميّة» أو «علم اجتماع الحياة التفاعليّة والسلوكيّة والإراديّة للأفراد» في نظر أصحابِ نظريّة «الفردانيّة المنهجيّة» (Individualisme méthodologique) وهو علمٌ لا يميل إلى اعتماد التفسير بواسطة الحتميّات الاجتماعيّة والتاريخيّة المحدِّدة للظواهر الاجتماعيّة، خصوصاً وقد تشكّلتْ في ظلّ هذا النمط من العيش المشترك لغة للتواصل والتفاعل تزدوج فيها معاني الكلام لدى الأفراد للتكيّف مع تغيّر الظروف التعبويّة السياسيّة - الطائفيّة التي يتحكّم بتبدّلها توافقُ زعامات الطوائف اللبنانيّة أو تصارعُها. وهذا ما يرسّخ الطبيعة الوظائفيّة للوعي المتغيّر تبعاً للظرف: فيكوّن وعياً منفتحاً في ظرف التوافق حيث يميل عفويّاً إلى إرساء العلاقات اليوميّة والمبادلات وإلى الاندماج المتوسّع مع أبناء الجماعات الأخرى بعيداً عن الحدود والضغوط المفروضة عليه. وينقلب هذا الوعي الانفتاحيُّ المعيشيّ لدى العوام المتعاشرة يوميّاً إلى وعيٍ جماعيٍّ شبهِ انغلاقيّ في فترات التعبئة العصبويّة يقْصر حدودَ التفاعل الاندماجيّ للأفراد على الجماعة التي ينتسبون إليها. ولا يعود هذا الوعيُ شبهُ الانغلاقيّ إلى الانفتاح ولو بسرعاتٍ متفاوتةٍ إلّا بعد تصالُح الزعماء الذين غالباً ما لا تنفصل أهداف تعبئتهم لعوامهم في لبنان عن أهداف تحالفاتهم الإقليميّة التي تقرر حدود علاقاتهم. هذا ما عوّق ثقافة الاندماج المواطنيّ المدنيّ لصالح ثقافة الاندماج شبه العصبويّ التي يعزّزها الإعلامُ السياسيّ المرئـيّ منه خصوصاً والمتعارض طيلة العقود الأربعة الأخيرة تاركاً لجماهيره الاشتباهَ المتبادَلَ بالنوايا وإطلاق الشائعات.

 

 


شهادة للكاتب حول فعالية مفهوم الشراكة في التنمية المحلية في الريف اللبناني


كل مرّة توجّهتُ فيها إلى حقل اجتماعيّ ريفيٍّ ما، في لبنان أو في بلدان عربية، في مهمّة دراسيّةٍ يُراد منها أن تكون مهمّة خبيرٍ لتصميم أو لتقييم مشروعٍ تنمويّ محلّيّ ما، كنت أعيشها مهمّةً بحثيّة. وبهذا المعنى تصبح هذه المهمّة بمثابة فرصة اختبارٍ لنفاذيّة منظومـة مفاهيم وطرائق أعتمِدها في حينه للتعرّف على منطق التشكّل والتحوّل والتفاعل الاجتماعيّ داخلَ الحقل الاجتماعيّ المستهدَف وللتعرّف على منطق انفعال هذا الحقل على أيّ متدخّلٍ خارجيّ «ينتهك حرمةَ نظاميّته الأهليّة الوظائفيّة».

وفي كلّ مرّة كنت أواجه فيها ضرورة تعيين حدود التطابق والتفارق بين منظور علم اجتماع التغُّير من جهةٍ ومنظور علم اجتماع التغيير الهادف إلى تنمية الموارد، أو ما يمكن أن نسمّيَه علم اجتماع التنمية من جهةٍ أخرى، كنت أشعرُ بأنّي ذاهبٌ إلى مسرحٍ جديد للمغالبة بين تصوّرٍ تَشكّلَ عندي مما تيسّرَ لي من معارفَ عن الخصائص الاقتصاديّة والثقافيّة الماكرويّة التي أظنّ أنّها تحْكم منطقَ الحقلِ وأيضاً من معارفَ عن التكيّفات الثقافيّة المحلّيّة التي أظنّ أنّها تميّز الحقلَ المستهدَفَ من غيره من الحقول. وتجدر الإشارةُ إلى أنّ كلّ مشهدٍ من المشاهد المتعاقبة على مسرح المغالَبة كان ينتهي إلى ضرورة تعديل العدّة الثقافيّة والمهنيّة لديّ، مثَلي في ذلك هو مثلُ أيّ دارسٍ يتدخّل لفهم التجادل الذي يحصل يوميّاً في القرية أو الجماعة المحلّيّة بين نظامٍ لفهم أوضاعها يرجّحُه الدارسُ من جهةٍ باعتباره دارساً مختصّاً، وبين أنظمةٍ متنافرةٍ لفهم الاًوضاعِ المحلّيّة عينِها. هذه الأوضاُع التي يرغب القادة النافذون محلّياً أن يتقبّلها الدارسُ المتدخّل باعتباره خبيراً يجب أن يأخذ كالعادة بأخبارهم لقاءَ تسهيل مهمّته الدراسيّة خلال المدّة المحدَّدة له في بنود عقد تكليفه بإنجازها.

كنت أعرف دائماً ومسبقاً أنّ ما أعرفه عن أيّ حقلٍ ريفيٍّ قبل الدخول إليه لا يعدو كَونَه معرفةً مؤقّتةً تختزله وستكون موضعَ استثارةٍ لانفعالاتِ جماعاته. انفعالات تبدأ ملطّفةً في جوّ الاستقبال والاحتكاكات الأولى ثمّ لا تلبث مع الأيّام أن تذهبَ في اتّجاهات ثلاثة هي: اتّجاه أوّل لفعاليّاتٍ موالية للسلطة تُشير على الباحث، اتّجاه ثانٍ معارِض يُعدّد يائساً الشواهدَ عن تواطؤ أخصامه الموالين، واتّجاه ثالثٌ يراوح عبثاً بين الاتّجاهين.

العدد ٢٥ - ٢٠٢٠

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.