العدد ١٣ - شتاء ٢٠١٦

أن نرسم بيروت من روايات مستأجريها

النسخة الورقية

منذ إقرار قانون الإيجارات في نيسان ٢٠١٤ والنقاشات التي تلته، بدا واضحاً أن هناك أزمة حقيقية للسكن في لبنان، وفي بيروت تحديداً. كما ظهرت إلى العلن المعاناة التي يعيشها سكان بيروت وضواحيها في الوصول إلى السكن الكريم، وذلك جرّاء السياسات الإسكانية المتعاقبة منذ أوائل سنوات التسعينيات.

بالرغم من هذه الأزمة، ظل النقاش حول قضية الإيجارات القديمة والقانون الجديد يتمحور حول ثنائية المستأجرين مقابل المالكين، في حين يُخفى دور السلطات العامة في نشوء هذه الأزمة وفي مسؤوليتها لضمان حق السكن من خلال وضع سياسات إسكانية تأخذ بعين الحسبان أوضاع السكان كافّةً.

غير أنّ السياسات العامّة التي تبنّتها السلطة اللبنانية والقائمة على السوق والاستثمار العقاري، تسبّبت في تشكيل مستقبلٍ مدينيٍ لا يراعي القاطنين في المدينة على اختلاف قدراتهم وتنوّع حاجاتهم، وأدّت إلى الحدّ من إمكانية السكن في بيروت، وإلى إخلاء العديد من الأسر منخفضة ومتوسّطة الدّخل، من البيوت والأحياء التي لطالما عاشت فيها واستمدّت سبل العيش منها. وتمّ الترويج لفكرة أنّ السوق قادر على تأمين السكن للجميع، فاختزلت الدولة «سياسة الإسكان» وحوّلتها إلى زمرة محدودة من الوسائل القائمة على السوق، مثل القروض السكنية المصرفية وغيرها من التسهيلات من القطاع الخاص، علماً أنّ العرض السكني الموجود في السوق، إن كان للإيجار أو التملّك، غير متاح لأكثر من ٧٠٪ من العائلات اللبنانية، وهذه لا يتجاوز معدّل دخلها السنوي ١٠ آلاف دولار (أرقام تستند إليها وزارة المالية في دراسة لها عن عجز الخزينة في تسديد بدل الإيجار المثل للمستفيدين من الصندوق المزمع إنشاؤه مع إقرار قانون الإيجارات الجديد). كما أنّ هناك «تحوّلاً للمصارف التجارية اللبنانية إلى الموقع المتشدّد في إعطاء القروض السكنية، وذلك من منطلق زيادة عدد حالات عدم القدرة على دفع المُستحقات» (جريدة النهار، صفحة الاقتصاد، موريس متى «أفق القطاع العقاري ضبابيّة في غياب السياسة الضريبية» ٢١ تشرين الأول ٢٠١٥).

ضمن هذا السياق، تمّ تطوير مشروع «أن نرسم بيروت من روايات مستأجريها» والذي نحن بصدد العمل عليه. يمثّل المشروع مبادرةً لمناقشة إمكانات السكن في بيروت، وفهمها ضمن سياقها التاريخي والاجتماعي. فيه، نركّز على تجارب المستأجرين القدامى في تأمين السكن، وعلى المحاولات المستمرّة لإخلائهم. يهدف المشروع إلى إعادة صياغة النقاش حول قوانين الإيجار والسكن، وطرح وجهات نظرٍ جديدةٍ انطلاقاً من مفهوم الحقّ في المدينة، من أجل مواجهة الضغوطات القائمة، وإيجاد مساحةٍ لمناهضة السياسات الحالية.

استمددنا العنوان الأساسي لهذا المشروع – الإيجار – من الأهمية التي نجدها في بلورة مفهوم للسكن وللحق في البيئة المبنية والطبيعية لا يتطابق بالضرورة مع المفهوم الحصري للملكية الفردية والذي أيضاً لا يستطيع أن يؤمّن حاجة الناس، على اختلافهم، إلى السكن اللائق.

منهجيّة المشروع تعتمد على إشراك الشباب والطلاب من مختلف الأحياء والجامعات، في عمليات البحث والتفكير والإنتاج، من خلال ورش عمل عن عدة أحياء سكنية في بيروت، تمّ اختيارها بسبب كثافة المستأجرين القدامى فيها ولكونها أحياء «شعبية»، أي أنّ سكّانها من الطبقات الوسطى أو دون الوسطى سكنوا أحياءها وبيوتها باستمرار على مرّ ثلاثة عقود على الأقل. هذه الأحياء تتغير جذريّاً، لكن ما زال يوجد فيها نسيج عمرانيّ واجتماعيّ متّصل بتاريخها، غير أنه معرّض أيضاً إلى تغيّرات عنيفة. ورش العمل تتوزّع على الباشورة، الطريق الجديدة، البدوي، المصيطبة، مار مخائيل/الروم، الشياح، وكتل سكنية متفرقة (في أحياء المدوّر، راس بيروت، عين التينة، الناصرة، المزرعة والبسطة). نعرض هنا بعض نتائج ورش العمل التي تم إنجازها: الباشورة، الطريق الجديدة، البدوي والمصيطبة.

حيّ الروم / مار مخايل

تكوّنت منطقة الرميل، الممتدّة من هضبة الأشرفية الى شارع مار مخايل، وشهدت نموّاً عمرانيّاً وسكانيّاً في وقت متأخّر، وذلك مقارنةً مع الأحياء «البرجوازية» القديمة الأخرى الكائنة في محيط وسط بيروت التاريخي. عموماً، ظلّت هذه المنطقة ذات أراضٍ زراعيّة حتى فترة الانتداب الفرنسي، باستثناء الحيّ المحيط بمستشفى السان جورج والمنطقة السفلى، وذلك عقب تأسيس السكك الحديدية ومحطّة قطار مار مخايل في العام ١٨٩١. وأدّى نشاط الإرساليات الفرنسية كالمدارس والمستشفى والكنائس فيها إلى جذب الكثير من سكان المناطق المجاورة إليها، أضف لجوء الأرمن من مخيم الكرنتينا إلى الحيّ. ومع إنشاء محطّة الترامواي في أول شارع مار مخايل، شهد الشارع خلال سنوات العشرينيات تصاعداً كبيراً في وتيرة التوسع العمراني. بعد الاستقلال في سنوات الأربعينيات، وتحديداً بعدما تحوّل شارع مار مخايل إلى شارع تجاريّ وحرفيّ بامتياز، وبعدما انتقلت إليه الكثير من العائلات منخفضة الدخل والعمال للاستفادة من الحركة التجاريّة، عمد بعض مالكي الأراضي الموازية للشارع (معظمهم من الروم الأرثوذكس) إلى بيع أراضيهم أو إخلاء بيوتهم وتأجيرها للقادمين الجدد من الأرياف. وهؤلاء بدورهم أخذوا يشترون الأراضي وينتقلون إلى التلال المحاذية في الأشرفية، مثال حيّ الروم. وهكذا أصبحت مار مخايل منطقة سكنية للفئات الاجتماعية متوسطة الدخل والفقيرة. لكنّ تلة حيّ الروم بدورها ــ وبعدما كانت مصيفاً للعائلات الثرية ــ استقبلت أيضاً الوافدين الجدد إلى المدينة، وذلك ابتداءً من سنوات الثلاثينيات عندما قدم إليها عمّال سكة الحديد أو العاملون في المرفأ أو موظفو شركة كهرباء لبنان ومعمل البيرة حتى سنوات الخمسينيات والستينيات عندما بدأت «الروم» تشهد زيادة قويّة في عدد السكان، ونقصاً في الخدمات العامة الأساسية. اليوم عدد كبير من مبانيها يعاني من انعدام الصيانة ويعاني السكان من عدم الاستقرار والتهديد بالإخلاء بسبب موجة الاستثمار العقاري والخدماتي التي حصلت في شارع مار مخايل خلال السنوات العشر الماضية. وتشير دراسات إلى أنّ ٧٥٪ من سكان الرميل هم من المستأجرين، كما أنّهم من أصحاب الدخل المتدني. وعلى الرغم من بعض التحوّلات في الملكية، ما زال حيّ الروم تحديداً محافظاً على نسيجه السكاني والعمراني. وبسبب قلّة المساحات العامّة فيه تاريخياً، يتميّز بكثرة الفسحات المشتركة بين الأبنية، الأمر الذي أدّى إلى خلق نوع آخر من المساحات العامّة تتمثّل بالممرّات والشوارع الضيّقة والأدراج العامّة، فتشكلت فسحات عامّة للّقاء والتسامر على هذه الأدراج.

المصيطبة

إنّ المنطقة التي تسمى اليوم المصيطبة كانت امتداداً صخرياً لما كان يُسمّى البريّة. وينحرف اسمها من كلمة «مصطبة»، فقد كانت ــ كما حالها اليوم ــ مرتفعة عن مستوى المدينة القديمة وبعيدة عن بحرها. تشير المصادر إلى أنّ المماليك حوّلوها إلى قاعدة عسكرية لمحاربة الصليبيّين في العام ١٢٩١، وضمّت أبراجاً عديدة عسكرية ومدنية سُميّت بأسماء عائلات للدفاع عن بيروت: برج أبي حيدر، برج بيّهم، برج سلام.

قبل أعمال التنظيم وشقّ الطرقات التي نفّذتها سلطات الانتداب الفرنسي، كانت المصيطبة عبارة عن أراضٍ كبيرة من الصبار. وبعد فتح سور بيروت القديمة وخروج العديد من العائلات منها خلال سنوات العشرينيات والثلاثينيات، أخذت العمارة تنطلق في قرية المصيطبة من مساكن وبيوت في الأراضي المحيطة بأطرافها. كانت المصيطبة وبرج أبي حيدر مصيفاً للعائلات البيروتية من رأس بيروت وأحياء أخرى لكونها منطقة مرتفعة مشجّرة ولأن مناخها معتدل.

وكانت العائلات المسيحية تشكل جزءاً كبيراً من مالكي الأراضي والسكان. أرثوذكس المصيطبة هم، عموماً، ملّاكو عقارات وسطى وكبرى. تملّكهم للأراضي بدأ مع بداية سنوات العشرينيات عندما قامت وهبت سلطات الانتداب الفرنسي الأراضي إلى عائلات الروم الأرثوذكس في منطقة المزرعة. أمّا السريان، فخلال سنوات العشرينيات أتت عائلات سريانية من تركيا هرباً من المجازر، وسكنوا في المصيطبة حيث قدمت لهم السلطات الفرنسية أراضٍي وأسسوا مدرسة مار سواريوس وكنيسة مار بطرس وبولس.

القسم الشمالي من المصيطبة معروف بمنطقة «آل سلام»، العائلة التي كانت تملك معظم العقارات والأملاك في المنطقة. كانت منطقة ذات بيوت تشبه القصور، وتملكها عائلات سنّية من بيروت، وحولها مساحات من البساتين. كانت تلك العائلات السنية متوسّطة الدخل، ويعمل معظم أفرادها موظفين في مرفأ بيروت وشركتي الكهرباء والمياه. وكان قسم منها يملك إصطبلات في حي العانوتي القريب من قصر سلام، لتربية البغال المستعملة في نقل البضائع والخشب من المرفأ إلى سوق النجّارين والأسواق التجارية الأخرى.

في بداية الخمسينيات، ترك العديد من العائلات قراهم في الجنوب ونزلوا إلى بيروت، بعد خسارة فلسطين التي كانوا يقصدونها للعمل. أتوا إلى بيروت وعملوا في المرفأ وفي أعمال البناء وعمال نفايات في بلدية بيروت. اختاروا المصيطبة لأنه كان فيها ما يسمى ببيوت «الدار» التي يتكوّن الطابق الأرضيّ الرمليّ فيها من غرف متعدّدة كان بإمكانهم استئجارها بشكل تشاركي بين عائلات عدّة.

هذه العوامل جعلت من المصيطبة منطقةً متنوّعة وذات تلاحم سكني اجتماعي، إلّا أنّه لم يستمرّ من دون تحدّيات، لا سيما بعد شقّ طريق سليم سلام في العام ١٩٧٢ ثمّ تأثير سنوات الحرب الأهليّة.

الطريق الجديدة

تُعرّف الطريق الجديدة تاريخياً على أنها المنطقة الممتدّة من ثانوية المقاصد في الحرج من جهة الشمال حتى آخر شارع صبرا من جهة الجنوب. قبل أن تعرف العمران منذ نحو نصف قرن، كانت تسمّى تلة زريق نسبةً إلى إحدى العائلات المسيحية المعروفة بآل زريق التي كانت تملك مساحة كبيرة من التلّة المحاذية لمنطقة المزرعة والتي كانت تعرف من قبل باسم مزرعة العرب. وبسبب اتّساع هذه الهضبة الرمليّة وخلوّها من السكّان والعمران، كان البيروتيون يتّخذونها متنزّهاً ويقصدونها مع عائلاتهم لقضاء عطلهم الأسبوعية. بدأت عمليّات البناء والسكن في منطقة الطريق الجديدة في أوائل القرن العشرين، تحديداً مع بداية مرحلة الانتداب الفرنسي عندما انتقلت إليها عائلات من المدينة القديمة. في ذلك الوقت، كان يغلب الطابع الزراعي على المنطقة وكانت تستخدم لتربية الحيوانات والماشية. مع بداية سنوات العشرينيات، وهبَت سلطات الانتداب الفرنسي أراضي في الطريق الجديدة إلى بعض السّكان الروم الأرثوذكس القاطنين في منطقة المزرعة شمال الطريق الجديدة. خلال سنوات قليلة، فرَز المالكون الجدد العقارات الكبيرة من عشرة آلاف متر مربّع إلى عقارات صالحة للبناء. وأخذت العائلات التي انتقلت من المدينة القديمة أو البسطة تشتري قطع الأرض المفرزة وتبني عليها بغاية تحسين وضعهم السكني. في العام ١٩٣٥ أقامت فيها سلطات الانتداب سجناً سُمي سجن الرمل وتم ربطه مع المدينة من خلال طريق واحد: الطريق الجديدة.

مع توسّع العاصمة في الثلاثينيات، قدِمت إلى الطريق الجديدة عائلات من إقليم الخروب بحثاً عن فرص العمل والدراسة في العاصمة. في العام ١٩٤٦ نزح الكثير من عائلات الساحل الفلسطيني إلى الطريق الجديدة. كان الحي حينها يعتبر منطقة عمرانية جديدة مع توفر مساكن غير مشغولة. مع توافد العائلات أنشئ الملعب البلدي ومطار بئر حسن وعدد من الخدمات العامة. إلى جانب هذه العائلات التي تسكن الحي منذ أكثر من سبعين سنة، هناك سكان استقروا في المنطقة في سنوات الستينيات مع تأسيس جامعة بيروت العربية. حينها تغير طابع الحي ليستقطب طلاباً لبنانيين وعرباً سكنوا في المنطقة وساهموا في تنوع السكان وإنشاء المقاهي. أما بين عامي ١٩٦٩ و١٩٨٢، فقد كان تأثير المنظمات الفلسطينية قوياً في الحي. وكانت منظّمة التحرير الفلسطينية هي التي توفّر خدمات كالمياه والكهرباء في الحي. وبعد انسحابها عام ١٩٨٢، عانى الحي من نقص حادّ في الخدمات. حتى بعد انتهاء الحرب الأهلية، كان دور الدولة الللبنانية شبه غائب، ممّا أفسح المجال أمام الجمعيات، خصوصاً الإسلامية منها، لأن تلعب دوراً أساسياً في تقديم الخدمات والمساعدات للعائلات المحتاجة.

البدوي

يقع حي البدوي على حدود بيروت الإدارية من جهة الشرق، فهو آخر حيّ ضمن المنطقة العقارية التابعة للأشرفية حيث يشكّل نهر بيروت فاصلاً بينه وبين المنطقة التابعة لبلدية برج حمود. ومنطقة البدوي تُعرف تاريخياً على أنها المنطقة حول شارع خليل البدوي الممتدّ بموازاة نهر بيروت من تلال كرم الزيتون حتى شارع أرمينيا. قبل إنشاء شارع خليل البدوي، كانت المنطقة عبارة عن تلال حرجيّة وزراعيّة تمتدّ من خطّ سكة الحديد شرقاً نحو نهر بيروت.

في عام ١٩٢٢، وصل إلى بيروت ما يقارب عشرة آلاف أرمني هرباً من المجازر في منطقة كيليكيا. في وقتها، اتخذت منظمات الصليب الأحمر وسلطات الانتداب الفرنسي إجراءات من أجل إقامة آلاف الخيم على أرض فارغة في الشمال الشرقي من بيروت، تحديداً في منطقة المدوّر.

وتشكّلت مع قدومهم أولى الأحياء غير الرسمية في بيروت وذلك عبر إنشاء مخيم المدوّر في الكرنتينا. ابتداءً من عام ١٩٢٦، وبمبادرة من جمعيات أرمنية وبمساعدة من سلطات الانتداب، تم اقتراح حلول دائمة لسكن اللاجئين الأرمن خارج المخيمات، وبالتالي نقلوا تدريجياً إلى مناطق مجاورة خارج منطقة الكرنتينا، مثل برج حمود وكرم الزيتون ومخيم هاجين وخليل البدوي. كانت هذه الأحياء أيضاً في عهد الانتداب قريبة من فرص العمل بسبب وجود الثكنة وسكة الحديد والمرفأ وبسبب قربها من وسط بيروت.

منذ أن بدأ العمران في المنطقة، كان حزب الهنشاك الأرمني فاعلاً فيها. مع اندلاع ثورة ١٩٥٨ وقف الحزب إلى جانب اليسار اللبناني معارضاً الرئيس كميل شمعون. حينها تحوّلت منطقة البدوي إلى خطوط تماس. وإثر الصراعات السياسية التي نشبت بين حزبي الطاشناق والهنشاك، رحل داعمو الطاشناق من منطقة البدوي باتجاه برج حمود، فتحوّل عدد من البيوت إلى مساكن شاغرة، انتقلت إليها وسكنتها لاحقاً عائلات مارونية كانت قد قدمت من الشمال إلى بيروت بحثاً عن العمل.

في بداية الحرب الأهلية، تحديداً في عام ١٩٧٦، قُصفت منطقة البدوي وتهجّر بعض أهاليها. عندها أيضاً قدم سكان جدد إلى الحيّ وأخذوا مكانهم.

خلال الأعوام القليلة الماضية، وقبل أن تتحوّل الطوابق الأرضية للأبنية السكنية إلى مقاه ومطاعم في شارع مار مخايل، كان انخفاض سعر متر الأرض وكلفة الإيجار في الحي مقارنة مع مناطق أخرى في الأشرفية جاذباً لسكان جدد. إذ اعتبرت البدوي على أطراف المدينة (كضاحية لها) لكن في الوقت ذاته تتمتع بميزات بيروت الإدارية كالكهرباء.

السكن في الإيجار

ركّزنا في رسم الخرائط على ناحيتين، الأولى تحديد الأبنية التي يسكن فيها المستأجرون والمالكون القدامى والثانية تحديد الأبنية التي يسكن فيها المستأجرون القدامى والجدد. في توزّع السكان القدامى، تمنحنا الخرائط قراءة عن نسبة الكتل السكنية التي لم تتعرّض لتغيّرات عمرانية منذ عام ١٩٩٢، وذلك حين أوقف العمل بمبدأ ضبط الإيجارات للعقود الجديدة وصدر قانون الإيجارات ١٦٠/٩٢ الذي مدّد العقود القديمة.

أما في توزع السكان الجدد غير المالكين، فوجدنا ترتيبات سكنية متنوعّة. تستقطب منطقة البدوي كثيرين يرون فيها ميزات لها علاقة بموقعها وقربها من وسط المدينة، كما بنسيجها العمراني، حيث تتراوح معظم أبنيتها بين الثلاث والخمس طبقات (خريطة). ففي هذه المنطقة سوق الإيجار حيوي يخلق العرض المناسب لطلب من شريحة متنوعة تضمّ طلاباً وعمّالاً. لجأ المالكون الى ترتيبات جديدة يقسمون فيها الشقق الى «فوايّهات»، فيخلقون شققاً صغيرة نابعة من حاجة سكان المدينة لها. هنالك كتلتان بالتحديد سمحتا بحصول تنوّع في سوق السكن. الأولى حيث يقع كامب هاجين، وهو مشروع سكني بدأ عام ١٩٢٢ مع خروج الأرمن من المخيمات حيث تم شراء عقارين من قبل جمعية أرمنية وتقسيمهما إلى عقارات صغيرة وتصميم مشروع سكني وفق تصميم توجيهي. ويُتداول أنه يمنع الهدم داخل حدود كامب هاجين. أما الكتلة الثانية فهي كامب الأبيض، في الطرف الآخر من منطقة البدوي. يقع هذا الحي على هضبة متضرسة، تعرّضت مشارفه إلى إخلاء السكان وتخريب المباني، كما سنرى لاحقاً.

أمّا في خريطة المصيطبة فتشييد سليم سلام، كما المباني التي تمّ بناؤها بعد ١٩٩٢، يبدو واضحاً في تقليص المستأجرين القدامى. يقال في الحي إنه تم إخلاء الكثيرين بعد العام ١٩٩٢، إنّما بتعويضٍ مرتفع «غالي»، كاف لشراء شقة من دون قروض مصرفية أو يسمح لهم بالبقاء في الحي، فنرى أن الأحياء التي ما زالت تحافظ على نسيج مترابط بعيدة عميقاً عن الأوتوستراد من جهتيه، وعن الأبنية الجديدة التي تم بناؤها على مشارفه. فنجد من جهة منطقة مليئة بالزواريب، يتناول السكان اسماً محدداً لكل زاروب منها (زاروب الصفح، زاروب الباشا، زاروب الفرن، حي آل عبلا). ومن الجهة الثانية، نجد حي اللجى وحي آل سلام، حيث مقهى المصيطبة الشهير. هذه الأحياء سكّانها خليط من مستأجرين ومالكين قدامى، يسكنون في المبنى ذاته بنسبة كبيرة من أبنية هذه الأحياء. أمّا المستأجرون الجدد فالواضح أنهم من منطقة البدوي، بعيدون عن السكان القدامى، مع وجود العديد من الاستثناءات.

تشير جميع هذه المعلومات إلى أنّ الإيجار لا يزال الوسيلة الأساسية والمتاحة للوصول إلى السكن في بيروت.

السكن خارج نطاق السوق

وفي غياب قانون إيجار جديد عادل وسياسة سكنية، وجدنا طرقاً بديلة للوصول إلى السكن يمكن البناء عليها لخلق فرص سكن خارج نطاق السوق. فبالعودة إلى منطقة البدوي، وجدنا ترتيبات سكنية مرتبطة بمؤسسات دينية أو أهلية تؤمّن السكن في الحيّ، وتحديداً تعمل لإبقاء السكان القدامى في أماكنهم، حيث ثمة عقارات عدة للدير توّفَّر السكن بأسعار زهيدة، في نوع من ضبط الإيجار. وهناك أيضاً ظاهرة «السكن الموقّت»، التي هي مبادرة محليّة يقوم بها المجتمع الأرمني من أجل الحفاظ على تماسكه الاجتماعي وتأمين السكن المدعوم. إذاً، بمبادرة من ناد أرمني، يوجد في البدوي مبنى يملكه النادي ويهدف إلى مساعدة العائلات غير الميسورة في السكن الموقت لفترة سنة أو سنتين من دون مقابل. يتألف البناء من أربع طبقات، يسكن المالك في شقة، وباقي الشقق تسكنها عائلات أرمنية غير ميسورة. وهنالك أيضاً عقارات مالكوها غير موجودين، توفّوا ولا ورثة لهم، تسكن فيها عائلات جديدة. لتأمين جزء من الحاجة إلى السكن الميسّر، تمنح هذه الأمثلة إمكانية تأمين أراضٍ غير خاضعة للسوق العقاري، بحيث يمكن أن تتحوّل هذه العقارات إلى أراض تشبه نظام الوقف.

لكن تبقى هذه البدائل والترتيبات السكنية وحدها غير كافية لتوفير السكن الميسّر لمعظم الساعين إلى إيجاد مسكن. فدور الدولة كمساهم في توفير السكن انتهى مع إيقاف العمل بمبدأ ضبط الإيجارات وتحوّلت إلى داعم لرؤى الاستثمار العقاري. ويتّضح تأثير هذا الدور في ناحيتين. من الناحية الأولى نرى أبنية فخمة، تحتوي على شقق عديدة خالية، وظاهرة التأجير المؤقت للسيّاح التي تنتشر في أبنية قديمة يجري ترميمها لجذب المولعين بالتراث من الأجانب، ويصار إلى عرضها على المواقع الإلكترونية (مثل AIR BNB). ومن ناحية أخرى أكثر عنفاً، يكون الإخلاء المستمرّ للسكان القدامى من بيوتهم وطردهم من أحيائهم. يؤثّر هذا التوجّه مباشرة على العلاقات الاجتماعية والتركيبات المكانيّة للأحياء، وعلى السكن الهش للعديد من المستأجرين الجدد.

ففي المصيطبة مثلاً، هنالك شقة يشغلها، ما لا يقلّ عن ٦٠ مستأجراً من العمّال من الجنسية البنغلاديشية، والغرف مجهّزة بأسرّة مزدوجة. دخلها أحد المشاركين في الـ«ورشة» بعد أن ركل المالك الباب ودخل على المستأجرين بلا إذن. كما أنّ معظم الأبنية المهجورة في المصيطبة يسكنها حالياً عمّال من دون عقود مبرمة.

الإخلاء والهشاشة

لعمليات الإخلاء وقْع كبير على السكان، بالأخص المجموعات الهشّة المعرّضة للتعنيف والتي لا تمتلك ضمانات أخرى. فالقانون الجديد ــ أو عمليات السوق ــ لا تأخذ بعين الاعتبار الفئة العمرية أو مستوى الدخل أو الوضع الصحّي والجسدي.

في خريطة البدوي، على مشارف كامب الأبيض تم إخلاء وتخريب حوالي ١٤ مبنى من قبل البلدية، كما يقال، كي لا يسكن عليها أحد أو يستولي عليها، وكان سكّانها مالكين ومستأجرين لكن لم يكن لديهم سندات ملكية. يُقال إنّ عائلة وحيدة لديها أسهم في الأرض، تم إخلاؤهم جميعاً ما عداها. وهنالك حركة شراء عقارات منذ ٢٠١٠، منها ما يضمّ أبنية يسكنها مستأجرون، ممّا يقتضي ضمناً إخلاءهم. بالإضافة إلى عمليّة تحويل مبانٍ خلال السنوات الأخيرة إلى مطابخ مطاعم، معظمها على شارع مار مخايل الرئيسي.

والانتقال من البيت الذي لطالما سكنه الفرد، وخصوصاً عندما يضطر للانتقال في شيخوخته، يشكّل تعنيفاً نفسياً وعاطفياً. ويجابه هؤلاء من خلال البقاء في الحيّ حيثما استطاعوا، يساعدهم على ذلك علاقاتهم الاجتماعية. وجدنا هذا الإصرار في الطريق الجديدة، ونروي تفاصيله من خلال قصتين:

- جمانة: عائلتي مؤلّفة من ٧ أشخاص، نشأنا وترعرعنا في منطقة الطريق الجديدة والآن جميعنا نعيش معاناة انتقالنا من منزلنا الأساسي إلى برجا التي لا يربطنا بها سوى المنزل الجديد الذي نسكن فيه. معاناتنا اليوميّة هي توجّهنا إلى بيروت بسبب عملنا والعودة ليلاً، وما يتضمن ذلك من بُعد المسافة وزحمة السير وتكلفة المواصلات. المشكلة الكبرى تكمن في البعد عن المكان نفسه: العادات، الجيران، الأصدقاء. كل هذا أدّى إلى الشعور بالغربة، هذا الانسلاخ الذي لم أستطع التعوّد عليه. قرّرت العودة إلى السكن في بيروت واستئجار غرفة في منزل مشترك (فوايّيه) يضمّ عدداً من الصبايا حتى أتمكن من معاودة عملي والعيش ضمن المحيط الذي تعوّدت عليه. وكان قرار مشاركة السكن مع أخريات مشكلة أيضاً (فأنا في الأربعينيات من العمر)، لكنّه الأسهل والأوفر نظراً إلى ارتفاع الإيجارات واستحالة شراء منزل في بيروت.

هذا الإرباك وذاك التوتّر عانتهما العائلة كافةً وتحديداً الوالدة التي تأثّرت بالموضوع وشعرت بالوحدة وصعوبة الاختلاط بالمجتمع الجديد والبُعد عن مكان مكثت فيه ما يقارب الستّين عاماً! ممّا أدّى إلى تدهور صحّتها وإدخالها المستشفى عدّة مرات.

- الحاجة وفيقة: سيّدة مُسنّة من مواليد ١٩٣٢، استأجر والداها في الطريق الجديدة في العام ١٩٥٥، بقيت في المأجور حتى العام ٢٠١٢ عندما تمّ إخلاؤها، وهي في الثمانين، بتعويض قيمته خمسون ألف دولار. ومن شدّة حبها للمنطقة وعمق ارتباطها بأهاليها، ساعدها الأصدقاء والأهالي على إيجاد شقة في الشارع ذاته، تدفع إيجارها من التعويض الذي أخذته والذي سيكفيها بضع سنوات، وهي لا تستفيد من أي ضمان للشيخوخة في حال مرضها.

رصدنا خلال العمل الميداني في منطقة ضمن الطريق الجديدة ٣٢ مبنى خالياً أو قيد الإخلاء. أحد تلك المباني مؤلف من ٢٨ شقة، تقطنها أكثرية من المسنّين، مع وجود أشخاص مقعدين. وهنالك العديد من المباني المهدّدة بالإخلاء والهدم في منطقة المصيطبة. يسكن العديد من تلك المباني مالكوها فقط دون غيرهم، مما يثير السؤال حول مفهموم سائد يعتبر الإيجار القديم مسبباً حصرياً لهدم المباني القديمة.

إنّ التغيير السكّاني والاقتصادي للحيّ من خلال إخلاء السكّان القدامى والتجارات الصغيرة يؤثّر على حياة الحيّ دوديمومة السكن الميسّر فيه وق عرضنا بعضاً من جوانبه. فهذه الأحياء تعتبر من الأحياء «الشعبية»، وهذا عامل أساسي في جعلها متاحة للسكن من خلال الإيجار الجديد. لذلك فإنّ وضع سياسات تحافظ على نسيج الأحياء، يبدو الأنسب لخلق ديناميكية سليمة في الوصول إلى السكن بما يتناسب مع حاجات الناس.

رسم مستقبل المدينة السكني، في خدمة مَن؟
إذاً، لمَن المدينة وكيف يُرسم مستقبلها السكني؟

عندما صدر قانون الإيجارات الجديد، كان شعاره الأساسي إنصاف المالك القديم. لكن تشير دراسات عديدة، ومنها التي أجرتها «المفكرة القانونية»، إلى أنّ الجهة المستفيدة من القانون الجديد تتمثّل في أصحاب الرساميل الكبرى. إذ تشير الدراسة إلى أنّ القانون يتضمّن في تفاصيله إجراءات بالغة التعقيد والكلفة ويحمل في طياته بذور تأجيج المواجهات والصراعات بين المستأجرين والمالكين. وتشرح الدراسة:

«تبعاً لذلك، تكون الجهة المستفيدة منه، ليست فئة المالكين القدامى، ما دامت هذه الفئة تتحمل مباشرة نتائج تعطيل أيّ من المؤسّسات المنشأة بموجب القانون ومخاطر أيّ مواجهة مع المستأجرين. إنّما تكون الجهة المستفيدة هم أصحاب الرساميل الكبرى الذين بإمكانهم وحدهم تقديم حلول مالية لتحرير المالكين والمستأجرين من أعباء المواجهات المرجحة بينهم بثمن يقلّ بقدر ما تزداد حدّتها وكلفتها... وإذا علمنا أنّه كان بالإمكان الوصول إلى تحرير الإيجارات من خلال اعتماد معايير أكثر بساطة (مثلما حصل في باريس)، لا نبالغ إذا قلنا إنّ تأجيج هذه المواجهة المنهكة هو الركن الأساسي الذي بُني عليه هذا القانون أو على الأقل سمته الأساسية. وهي خلاصة تشير إلى قوة التزام البرلمان بتغليب كفّة أصحاب الرساميل ومصالحهم، حتى ولو حتّم عليه ذلك التضحية بوظيفة الدولة الأساسية في تعزيز الوئام الاجتماعي».

من الناحية المدينيّة، كانت واضحةً في الأحياء التي أجرينا البحث فيها عملية تغيّر ملكيّة العقارات ورسم مستقبل بيروت لصالح هذه الفئة من المطوّرين العقاريّين. ففي البحث الذي أجريناه في حيّ الروم، على سبيل المثال، نرى كيف أنّ شارع الخازنين يتعرّض لبيع هائل للأراضي أو عروض للبيع بعد صدور القانون. هذه الخريطة تشير إلى العقارات التي انتقلت ملكيتها أو عُرضت للبيع خلال السنة الماضية، والتي بغالبيتها عليها مبانٍ سكانها من المستأجرين القدامى.

من ناحية أخرى، وأبعد من قانون الإيجارات الجديد، يشكّل الإطار التشريعيّ الحاليّ حافزاً أساسياً لبيع المالكين القدامى لعقاراتهم لمصلحة شركات عقارية تسيطر كل السيطرة على إنتاج المدينة. فارتباط الطبقة السياسية والحاكمة ارتباطاً حميماً مع قطاع التطوير العقاري، وتقديم تسهيلات للمستثمرين من خلال تخفيضات في الضرائب العقارية والاستثمار، وصعوبة البناء على العقارات الصغيرة بسبب نسبة البناء مقارنةً بأسعار الأراضي، جميعها أنتجت عمليّات كثيفة لبيع الأراضي من المالكين القدامى إلى مستثمرين.

تظهر هذه الحالة في العديد من الأحياء. بالنظر إلى خريطة الباشورة التي تقع على حدود سوليدير وتتعرّض إلى تغيّرات جذريّة بسبب موقعها، نرى كمّية المباني المهجورة والعقارات الفارغة والمباني الجديدة على أطرافها. بالتدقيق في ملكية بعض هذه الأراضي الفارغة، جميع العقارات في اللون الزهري هي ملك ثلاث شركات عقارية: العالية، الباشورة وبلاتينوم، جميعها ملك طلال الزين وأفراد من عائلته التي أيضاً تملك المشروع الضخم المجاور في الباشورة الذي هو بشراكة مع وزارة الاتصالات أي Beirut Digital District.

حيّ الروم أيضاً، يضمّ ثلاثة مبان وكانت تسكنه خمس عائلات (٤ بالإيجار القديم ومالك قديم) ويضمّ محل «غارو» على شارع مار مخايل الرئيسي، اشترته منذ حوالي سبع سنوات شركة «ميكالانج» التي قامت بإخلاء السكان منه تدريجياً وتصميم مشروع كبير يهدم مبنى من المفترض أن يكون مصنّفاً تراثياً بما أنّه يقع على شارع مار مخايل الأساسي. المالك الجديد حجز أحد البيوت بالشمع الأحمر بعد وفاة المستأجرة القديمة التي كانت تسكن فيه وذلك قبل أن يتمكّن أولادها من الدخول إلى البيت وأخذ أغراضها. الأثاث والصوَر والأغراض ما زالت في أماكنها.

النتيجة أن إنتاج السكن ينحصر في مبانٍ فاخرة وأبراج لا مكان فيها للسّكان القدامى أو متوسطي الدخل.

خلاصة

في مشروع «أن نرسم بيروت من روايات مستأجريها» أردنا الانطلاق من أهمّية الإحصاء ومعرفة التركيبة السكنية للمدينة قبل صدور أي قانون يؤثر على سكان المدينة من جهة، ومن جهة أخرى، نحن مهتمّون بفهم الوسائل التي من خلالها يفهم سكّان بيروت القدامى وجودهم في المدينة عبر الإيجار وكيف تغيّر هذا المفهوم مع الوقت. الأمر الذي يمكن أن يطرح علينا مداخل جديدة للنظر بتأثيرات تغيّر دور الدولة من مؤمّن للسكن إلى داعم لرؤى الاستثمار العقاري. بهذا، يحاول هذا المشروع التركيز على الشقّ السياسي في نقاشات السكن ــ والسياسي بمعنى التوجّه أبعد من الملكية للتطرّق إلى الحقّ في المدينة وأسئلة أساسيّة عن الحقّ المكتسب في المكان.

العدد ١٣ - شتاء ٢٠١٦

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.