العددان ٢٠-٢١ - ٢٠١٨

ماركس والشرق الأوسط 1/2

مع أنّ إسهام كارل ماركس الأهمّ في العلوم الاجتماعيّة يقوم في الأساس على تحليله النقديّ للاقتصادات والسياسات الأوروبيّة الغربيّة، فإنّه لمن المعروف أنّ المنهجيّة التاريخيّة التي صاغها بالتعاون مع فريدريش إنغلز تدّعي صلاحيّة شاملة. والحال أنّ المنطقة التي يُشار إليها عادةً بتسمية الشرق أو الشرق الأوسط - أو تبعاً للتوصيف الأكثر اصطلاحيّة، الشرق الأوسط وشمال أفريقيا [مينا] (MENA) وهي المنطقة التي تضمّ أعضاء جامعة الدّول العربيّة علاوةً على إيران، مع إضافة تركيّا أحياناً [مينات] (MENAT) - تلك المنطقة هي واحدة من المناطق التي كان فيها الادّعاء المذكور مثار أكبر جدال، أكان من جانب نقّاد الماركسيّة المحليّين أم الغربيّين. ويهدف ما يلي إلى تبيان أنّ إرث ماركس الفكريّ لا يقلّ جوهريّةً في تحليل هذا القسم من بلدان أطراف النظام الرأسماليّ عنه في تحليل بلدان المركز.

الاستشراق ونقده

إنّ الخلل المنهجيّ الرئيسيّ الذي تواجهه دراسة منطقة مينا هو ذلك المتعلّق بـ«الاستشراق»، بالمعنى الذي ساد فيه هذا المصطلح بعد صدور كتاب إدوارد سعيد المؤثّر الذي اتّخذه عنواناً له1. «الاستشراق» بهذا المعنى مثالٌ عن التّنميط الثقافيّ الذي يختزل تفسير السّمات التاريخيّة الخاصّة بالبلدان «الشرقيّة» إلى ثقافةٍ أزليّةٍ مزعومة. إنّ «الاستشراق»، بكلام آخر، أحد نماذج الجوهرانيّة التي هي طريقةٌ في النّظر إلى التاريخ من خلال عدسة الثقافة باعتبارها طبيعة: لا الثقافة بوصفها مجموعة أفكار وأعرافٍ تتغيّر عبر الزمن بالتّرافق مع التحوّل الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ، بل الثقافة بوصفها جوهراً ثابتاً يحدّد طرق التطوّر الكليّ.

أيُّ قارئٍ مطّلعٍ على فكر ماركس سيدرك أنّ التوصيف أعلاه يحيل إلى نمطٍ من التفسير المثاليّ للتاريخ بلغ ذروته مع الفيلسوف الألمانيّ هيغل وقد اشتُهر ماركس وإنغلز بتفنيده، مستبدلينه بتفسيرهما المادّيّ للتاريخ - أو «الماديّة التاريخيّة» كما شاعت تسميته. وفي الحقيقة، فإنّ هيغل ذاته هو صاحب التصريح الأكثر إيجازاً ونموذجيّةً بين التصريحات التي عبّرت عن رؤيةٍ «استشراقيّة» لما سمّاه «العالم الشرقيّ» - الإسلام («المحمّديّة») على الأخصّ - وذلك في كتابه محاضرات في فلسفة التاريخ العالميّ الذي يجمع محاضرات ألقاها بين عامَي 1821 و1831 2. وحيث إنّ ماركس قد ركّز على أنّه ينبغي، بدلاً من تفسير «تناقضات الحياة الماديّة» من خلال «الصيَغ القانونيّة، أو السياسيّة، أو الدينيّة، أو الفنيّة، أو الفلسفيّة - باختصار، الصيغ الأيديولوجيّة» التي تهيمن في المجتمع، ينبغي تفسير الأخيرة من خلال الأولى، فإنّ نقده المنهجيّ للتفسير المثاليّ للتاريخ وإطاحته به يشكّلان، ضمن السياق ذاته، التّفنيد الأكثر جذريّة لـ«الاستشراق».

وليس إذاً من قبيل المصادفة على الإطلاق أنْ يكون نقد ما اشتُهر باسم «الاستشراق» بمعنى ازدرائيّ بعد سعيد، كان روّاده باحثين ماركسيّين في دراسات الشرق الأوسط والدراسات الإسلاميّة، أبرزهم المصريّ أنور عبد الملك والفرنسيّ مكسيم رودنسون3. وقد أبدى سعيد ثناءً ملائماً لكلٍّ منهما في كتابه الأشهر واقتبس فقراتٍ طويلة من نقد عبد الملك الملهِم للاستشراق4. لكنّه لم يعترف بأيّ مديونيّة لتفنيد ماركس للجوهرانيّة التاريخيّة التي ألهمت الكاتبَين المذكورين، بل على العكس تماماً، قام سعيد بإدراج ماركس بين «مستشرقي» القرن التاسع عشر الذين صبّ عليهم جام نقده القاسي. وقد جلب على نفسه بنتيجة ذلك انتقاداتٍ من ماركسيّين أبناء بلدانٍ تنتمي إلى الشرق، مثل السوريّ صادق جلال العظم، واللبنانيّ مهدي عامل، والمصريّ سمير أمين، والهنديّ إعجاز أحمد5.

وقد اعتمد سعيد في نبذه لماركس في الاستشراق على تعقيباتٍ كتبها هذا الأخير عن الهند عام 1853، وعلى الأخصّ في مقالةٍ واحدةٍ اقتبس منها سعيد فقرات طويلة6. في تلك المقالة، التي نُشرتْ في صحيفة نيويورك دايلي تريبيون تحت عنوان «الحُكم البريطانيّ في الهند»7، لخّص ماركس حُكمه في فقراتٍ اقتبس منها سعيد على النّحو الآتي:

والآن، برغم أنّ المشاعر البشريّة تتقزّز لا محالة حين تشهد تلك الأعداد الضخمة من المنظّمات الاجتماعيّة الكادحة البطريركيّة وغير المؤذية وقد تفتّتتْ وتحلّلت إلى وحداتها المُكوِّنة، وأُلقي بها في بحر الفجائع، فيما يفقد أعضاؤها في الوقت ذاته صيغة حضارتهم القديمة، وموارد رزقهم المتوارثة، فإنّ علينا ألّا ننسى أنّ هذه المجتمعات القرويّة الشاعريّة، برغم مظهرها غير المؤذي على ما يبدو، لطالما كانت الأساس الراسخ للاستبداد الشرقيّ، وأنّها حصرت الذهن البشريّ ضمن أضيق حدود ممكنة، مُحيلةً إياه إلى الأداة المطواعة للخرافات، مُستعبدةً إياه تحت قيود الأحكام التقليديّة، حارمةً إياه من جلاله كلّه ومن الطاقات التاريخيّة...

صحيح أنّ إنكلترا، حين تسبّبت باندلاع ثورةٍ اجتماعيّة في هندستان، لم تكن مدفوعةً إلّا بأحطّ المصالح، وكانت غبيّةً في طريقة فرضها تلك المصالح. ولكن ليس هذا هو السؤال. إنّما السؤال هو، هل بوسع البشريّة بلوغ مرامها من دون ثورةٍ أساسيّةٍ في وضع آسيا الاجتماعيّ؟ إن كانت الإجابة بالنّفي، فأيّاً تكن جرائم إنكلترا، كانت هي أداة التاريخ غير الواعية في إحداث تلك الثورة8.

مع كلّ الاحترام لسعيد، من الإنصاف الإقرار بأنّه لا يوجد في ما سبق أو في أيٍّ من كتابات ماركس الغزيرة الأخرى تصويرٌ لـ«الشرقيّين» على أنّهم يجسّدون «جوهراً» راسخاً في ثقافةٍ أزليّة. بل يتعارض مثل هذا التصوير، في الحقيقة وبصورة مباشرة، مع تفسير ماركس الماديّ للتاريخ. ففي الاقتباس أعلاه، بعيداً من افتراض أنّ الهنود محكومون بالبقاء عالقين في «صيغة حضارتهم القديمة» بسبب ثقافتهم، ينسب ماركس تلك الثقافة إلى البنية الاجتماعيّة بحيث إنّ ما تبدو وكأنّها «مجتمعات قرويّة شاعريّة» كانت الأساس الذي قامت عليه منظومة من «الاستبداد الشرقيّ» والفئويّة المنغلقة والعبوديّة، «أحالت وضعاً اجتماعيّاً من التطوّر الذاتيّ إلى مصير طبيعيّ راسخٍ لا يتبدّل». ولذا يشير ماركس إلى أنّ إنكلترا، عبر «تسبّبها باندلاع ثورةٍ اجتماعيّة» في الهند، وبرغم كونها «ليست مدفوعةً إلّا بأحطّ المصالح» وعلى نحوٍ إجراميّ، كانت تشقّ الطريق إلى «ثورة أساسيّةٍ في وضع آسيا الاجتماعيّ» لا يمكن للبشريّة «أن تبلغ مرامها» من دونها. وهذا حقّاً بعيدٌ كلّ البعد عن وجهة النظر «الاستشراقيّة».

ماركس والشرق

ليس القصد هنا، بالطبع، ادّعاء أنّ آراء ماركس حيال الهند في عام 1853 كانت بلا شائبة: لقد كانت معلولة بالتأكيد، ولكن ليس بفعل «الاستشراق». إنّما كانت مقيَّدة بالحدود المعرفيّة الموضوعيّة التي كان ماركس يمارس تفكيره ضمنها9. فباعتماده على معرفة أوروبيّة محدودةٍ ومنحازة بشأن المجتمعات غير الأوروبيّة، كانت هي المعرفة الوحيدة المتاحة له، وتحتّم أن يكون تقييم ماركس للتاريخ الهنديّ «ذا تمركزٍ أوروبيّ». ولقد بيّنَ دانييل ثورنر كيف أنّ آراء ماركس حيال الهند في أواخر أربعينيّات القرن التاسع عشر وأوائل خمسينيّاته، بما فيها مقالاته لعام 1853 في نيويورك دايلي تريبيون، كانت محدّدة بتقييدات عصره المعرفيّة 10. وقد ردّدت في الواقع، وإنْ بمسحةٍ ماديّة، بعض تصريحات هيغل الخاطئة والمتحاملة التي أفصح عنها في محاضراته في فلسفة التاريخ، وعلى الأخصّ فكرة ركود الهند التاريخيّ المزعوم.

وكذلك ظهر التمركز الأوروبيّ المعرفيّ لدى ماركس في اعتقاده أنّ سائر البلدان ستقتفي مسار التطوّر الأوروبيّ. وبذلك رأى أنّ الاستعمار الأوروبيّ يحقّق دوراً تقدّمياً من وجهة النظر التاريخيّة في تخليص كافة الشعوب غير الأوروبيّة (لا شعوب الشرق وحدها) من بُناها الاجتماعيّة العتيقة ووضعها على درب التطوّر الرأسماليّ الذي سارتْ عليه أوروبا قبلها. ومع أنّ ماركس صوّر الاستعمار باطّراد بأوصافٍ شنيعةٍ ملائمةٍ، كما فعل لاحقاً في الفصول الأخيرة من المجلّد الأوّل من كتابه رأس المال، إلّا أنّه اعتنق بادئ الأمر تصوّراً غائيّاً للتاريخ بوصفه سيرورة تحضُّرٍ لا مناص منها - وهي رؤية تنتمي بقوّة إلى روح عصره.

ولكن، أن نصف ذلك وكأنّه تمركزٌ أوروبيّ من طراز التمركز الإثنيّ الاستعلائيّ - من النّمَط الذي حدا هيغل إلى التأكيد على أنّ «العالم الجرمانيّ» هو «روح العالم الجديد» - إنّما هو سوء تأويل خطير. إذ إنّ ماركس الشابّ لم يكن معجباً بأمّته الألمانيّة، بل بطبقةٍ: البورجوازيّة، وليست البورجوازيّة الألمانيّة (التي كان يمقتها بالأحرى)، بل الرأسماليّة الإنكليزيّة في المقام الأوّل. ومع أنّه اعتبر أنّ البورجوازيّة هي «العدوّ» منذ اعتنق المبدأ الشيوعيّ، إلّا أنّه امتدح أفعالها انطلاقاً من إيمانٍ بضربٍ من التقدّم يُفضي لا محال إلى النهاية الشيوعيّة للتاريخ، وهي سيرورة تاريخيّة ليست البورجوازيّة فيها سوى «الأداة غير الواعية».

إنّ هذه النسخة الماديّة - الشيوعيّة من التصوّر الهيغليّ للتاريخ معروضة بأكثر الصيغ سذاجةً في البيان الشيوعيّ، الذي يتغنّى بالمدائح للبورجوازيّة من أجل إنجازها التاريخيّ. بيد أنّ ما ينجلي هناك أصلاً ليس نوعاً من الازدراء الأوروبيّ المتمركز إزاء غير الأوروبيّين، بل ازدراءٌ عموميّ إزاء كافّة صيغ الحضارة ما قبل الصناعيّة، أوروبيّة كانت أو غير أوروبيّة. إنّ السرديّة التاريخيّة الكبرى المعروضة في البيان الشيوعيّ سرديّةٌ لاذعة تجاه إرث أوروبا الإقطاعيّة و«تنْبلتها الأشدّ كسلاً»، وتجاه ريف أوروبا و«بلاهة الحياة القرويّة» بقدر ما هي لاذعة تجاه «البلدان الهمجيّة ونصف الهمجيّة»، «شعوب الفلّاحين»، و«الشرق»، وقد قزّمت إنجازات الحضارات السابقة كلّها، «أهرامات مصر، وقنوات روما، والكاتدرائيّات القوطيّة» على السواء11.

إنّ الخطأ الأساسيّ في تفسير البيان الشيوعيّ لدور الرأسماليّة الأوروبيّة العالميّ يبين في أوضح تجلّياته في التأكيد الشهير على أنّ البورجوازيّة «تخلق عالماً على صورتها»:

بالإتقان السريع لأدوات الإنتاج، وبالتّحسين الدائم لوسائل المواصلات، تجرّ البورجوازيّة إلى تيّار الحضارة حتّى أشدّ الأمم همجيّة... وتقود قسراً جميع الأمم، تحت طائلة الهلاك، إلى تبنّي نمط الإنتاج البورجوازيّ، وترغمها، مهما أبتْ، على إدخال الحضارة المزعومة إليها أو قُلْ ترغمها على أن تصبح بورجوازيّة، وباختصار، هي تخلق عالماً على صورتها12.

ترى وجهة النّظر المطروحة هنا أنّ البورجوازيّة الأوروبيّة تُرغم أولئك الذين تعدّهم «همجيّين» على اعتناق «نمط الإنتاج البورجوازيّ» - «الحضارة المزعومة». ومع أنّ هذه الفقرة تبدو وكأنّها تحتوي على نبرةٍ نقديّة مُضمرة حيال استخدامها لتصنيفَيْ «همجيّ» و«متحضّر» عبر الإحالة إلى «الحضارة المزعومة» (تبعاً للبورجوازيّة)، إلّا أنّها تبقى مبنيّةً على إغفالٍ ساذج لكون البورجوازيّة الأوروبيّة، بعيداً عن تسويتها لمناطق العالم، كانت في الواقع تُخضع الأمم الأقلّ تطوّراً وتخلق تقييداً بنيويّاً عالميّاً غدا عائقاً أساسيّاً أمام تطوّر تلك الأمم وتحوّلها إلى أممٍ «بورجوازيّة» مماثلة.

ولم يمض وقتٌ طويل، على أيّة حال، قبل أن يقرّ ماركس إقراراً تامّاً بهذه الحقيقة الأساسيّة التي أغفلها في كتاباته الأولى13. ومع هذا، فإنّ وجهة نظره لم تكن يوماً جوهرانيّة أو ثقافويّة، بل استندت على الدّوام إلى الشروط الماديّة. لذا أقرّ مايكل كُرتِس، بعد مقارنته بين أفكار سبعة مفكّرين أوروبيّين كبار حيال «الاستبداد الشرقيّ»، من مونتسكيو إلى ماكس ڤيبر، أقرّ بالفارق بين ماركس والعُرف الغربيّ قبله في مناقشة ما رأى فيه جميعهم ركوداً تاريخيّاً خاصّاً بالمجتمعات الشرقيّة:

عزا أرسطو ومونتسكيو ذلك الركود إلى الطبيعة السلبيّة والمتراخية للشعوب الشرقيّة. ورأى فيه بُرك ومِلْ الأب والابن نتيجةً لاقتفاء العادات والتقاليد في المجتمعات الآسيويّة. بينما عدّه ماركس وإنغلز نتاجاً لنمط الإنتاج الآسيويّ... ورأيا أن العوامل المتداخلة - غياب التراكم بسبب استيلاء الطاغية الشرقيّ على الفائض، الافتقار إلى المبادرة القرويّة بفعل عدم وجود جمعيّات طوعيّة، تسخير الأفراد للأرض، غياب العمل المأجور وديمومة شروط الإنتاج البدائيّة - هذه العوامل هي التي تُفسّر العجز عن التطوّر14.

لاحظ كُرتِس أيضاً أنّ فكرة الدين كعامل يُفسّر الرّكود المزعوم ذاته «لم يتناوَلها ماركس أو يُناقَشها تحليليّاً»15، في تمايزٍ صارخٍ عن ماكس ڤيبر في هذا السياق16. وبعد بحث مستفيض في أعمال ماركس الكاملة، وجد كُرتِس «إحالةً عابرةً وحيدةً إلى عاملٍ نفسيّ أو بيولوجيّ» يتّصل بـ «الاستبداد الشرقيّ»17، لكنّه في الحقيقة أساء فهم تفكيك ماركس لإحدى محاجّات الاقتصاديّ البريطانيّ ريتشارد جونز، فظنّ كُرتِس أنّها مناصرةٌ لرأي الأخير القائل إنّ «الطّبع والميل» هما ما يحدّدان النّزوع إلى التراكم الرأسماليّ. والحقيقة أنّ ماركس، في نقده لجونز، ردّ على هذا الرأي الجوهرانيّ بتأكيدٍ يُشكّل دحضاً قويّاً لأيّ تفسيرٍ وراثيّ للتاريخ يتركّز على «ثقافةٍ» يُزعم أنّها أزليّة: «فتطوّر الإنتاج الرأسماليّ يخلق مستوى وسطيّاً من المجتمع البورجوازيّ ويخلق بذلك مستوى وسطيّاً من الطّبع والميل لدى الشّعوب الأكثر تنوّعاً»18.

الإمبرياليّة والتطوّر المتفاوت

إضافةً إلى قلب السببيّة بين المجالين الثقافيّ والاجتماعي - الاقتصاديّ، فإنّ قلب ماركس وإنغلز للمنظور رأساً على عقب يشير إلى مسار استقصاءٍ مختلف جذريّاً. إذا كانت بنية السلطة العالميّة، وليست أيّة خصائص ثقافيّة، هي السبب الأساسيّ في كبح تطوّر البلدان التّابعة، تنبع أسئلة جديدة فيما يخصّ العلاقة بين الثقافة والتغيّر الرأسماليّ. ويتّصل أحد تلك الأسئلة الأساسيّة بكيف نفسّر كون نمط الإنتاج الرأسماليّ قد تطوَّر في أوروبا الغربيّة بادئ الأمر، وجلب معه تحوّلاً ثقافيّاً ملازماً، دوناً عن بقاع العالم الأخرى؟

في نظر الماركسيّين، تكمن الإجابة في خصائص نمط الإنتاج الإقطاعيّ الأوروبيّ وتضافره مع سمات أوروبا الغربيّة المناخيّة، علاوةً على موقعها الجغرافيّ بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسيّ. وقد كانت هذه المسألة ولا تزال مثاراً للمناقشة19. غير أنّ ما بدا واضحاً في نظر ماركس نفسه هو أنّ تطوّر أوروبا الغربيّة المبكّر استند إلى حدّ بعيد إلى نهبٍ عظيم الحجم ارتكبتْه إزاء العالم غير الأوروبيّ. وقد وصف ماركس بتعبيرات قويّة في رأس المال العنف الذي ارتكزت عليه ولادة الرأسماليّة: «إنّها لحقيقةٌ صارخة، في التاريخ الفعليّ، أنّ الغزو والاستعباد والنّهب والقتل، أي، باختصار، القوّة هي التي تلعب الدور الأكبر»20. والنتيجة هي التالية: «يَقطُر الرأسمال من رأسه إلى أخمص قدميه، ومن كافّة مساماته، الدّم والقذارة»21. هكذا فإنّ «التراكم البدائيّ» للرساميل الذي حقّقته أوروبا الغربيّة كان حاسماً في إعاقة حدوث داخليّ لسيرورةٍ مماثلة في العالم غير الأوروبيّ. ولقد تحقَّق نهب القسم الأكبر من العالم من خلال التفوّق العسكريّ، فخلق بنيةً هرميّة للنظام العالميّ أدامت الامتياز التاريخيّ لأوروبا الغربيّة ومشتقّاتها في أميركا الشماليّة وأستراليا على حساب باقي العالم، باستثناء اليابان التي استفادتْ من المسافة ومن كونها جزيرة.

كان معظم الشرق الأوسط تحت الحُكم العثمانيّ حينما بدأت الرأسماليّة تكوُّنها في أوروبا الغربيّة. وفي القرن التاسع عشر دخلت الإمبراطوريّة العثمانيّة في مرحلة انحطاطٍ متزايد، بينما أخذت القوى الأوروبيّة الغربيّة تتعدّى مجالها العربيّ. وسقطت المنطقة كلّها في نهاية المطاف تحت الهيمنة الغربيّة الاستعماريّة وشبه الاستعماريّة، بحيث انتقلتْ من إخضاع إلى آخر أقوى بكثير، شملها برمّتها. وفي الظروف النّاجمة عن ذلك، بات تطوّر الرأسماليّة المحليّ مغموراً ومخنوقاً من قِبَل احتياجات تطوّره في البلدان المهيمنة، التي بات تابعاً لها. وتُقدّم مصر مثالاً قويّاً عن هذه المشكلة، من خلال الدّور الكبير الذي أدّتْه بريطانيا الإمبرياليّة في إجهاض مشروع محمّد علي التحديثيّ في النّصف الأوّل من القرن التاسع عشر22. لم يكن أيّ من الطّبع أو الدين مسؤولاً عن ذلك، وليس هناك من وجهةٍ نظريّة تنقض مثل هذه الادّعاءات «الاستشراقيّة» مثلما تنقضها وجهة ماركس الماديّة التاريخيّة.

وثمّة سؤالٌ مُلازِمٌ ينبع من وجهة ماركس النظريّة، سؤالٌ مناسب جدّاً حيال الشرق الأوسط، ألا وهو: لمَ لمْ يُفضِ تطوّر الرأسماليّة المدفوع خارجيّاً في مناطق الأطراف جميعها إلى التحوّل الثقافيّ ذاته؟ كيف يمكن، على الأخصّ، تفسير ديمومة بعض السمات العتيقة جدّاً في بعض بلدان الأطراف الرأسماليّة، وهي حالة تبلغ أقصى درجاتها في الشرق الأوسط مع استمرار هيمنة قبَليّة بطريركيّة عتيقة جدّاً في مشايخ مجلس التعاون الخليجيّ. والحال أنّ هذه المشيخات، بفضل غناها بالهيدروكربونات، شهدتْ أقصى درجات تقدّم التطّور المحلّيّ للاقتصادات الرأسماليّة، بما فيها محاكاة على نطاقٍ واسع للمشاهد الرأسماليّة المدينيّة الحديثة المتّسمة ببهرجة كثيفة، وحافظتْ مع ذلك على سماتٍ اجتماعيّة وثقافيّة عتيقة كحجارة أساس لأنظمتها الاجتماعيّة - السياسيّة.

فإن رؤية ماركس للتركيب بين السّمات الحديثة والعتيقة الذي يُتيحه تزامن تشكيلات اجتماعيّة بدرجات متنوّعة من التطوّر - وهي وجهة نظر تناول منها روسيا على نحو مشهور23 - رؤية ماركس هذه لا تجد تجلّياً أوضح ممّا نجده في هذه المشيخات النفطيّة. غير أنّ نموذج التطوّر المركّب الذي تقدّمه تلك المشيخات يتعلّق بتوليفة السّمات الرأسماليّة الحديثة والسّمات ما قبل الرأسماليّة العتيقة التي وصفها ليون تروتسكي تحت تسمية «التطوّر غير المتكافئ والمركّب» في كتابه الشهير تاريخ الثورة الروسيّة،24 أكثر مما تتعلّق بالفرضيّة التي أطلقها ماركس مرّةً بأنّ المشاعة الريفيّة الروسيّة العتيقة قد تتحوّل إلى نموذج اشتراكيّ.

والحقيقة التي لا يمكن أن تُخطئها عين، هنا أيضاً، هي أنّ دور الهيمنة الأجنبيّة كان حاسماً في إنتاج هذا المزيج شديد الهجانة. وثمّة تعارضٌ صارخ بالفعل بين مهمّة «نشر الحضارة» التي اضطلعت بها الإمبراطوريّة البريطانيّة في معظم مجالها الاستعماريّ، والتي اتّخذتْ صيغة إنشاء مؤسَّسات مُستنسَخة من المؤسّسات السياسيّة البريطانيّة وإجراء عمليّة تحديثٍ فوقيّة للمجتمعات المدينيّة، من جهة، وصون الإمبراطوريّة البريطانيّة المتعمّد لأعتق السمات الاجتماعيّة، بل وترسيخها لها في المناطق العربيّة الغنيّة بالنّفط التي وقعتْ تحت سيطرتها. وقد تعمّدت بريطانيا في هذه المناطق إنشاء بضع «دول» مصطنعة تماماً تفتقر إلى المقوّمات الأساسيّة للدّولة وتحكمها مشيخات قَبَليّة تحوّلت إلى سلالات حاكمة حكماً مطلقاً.

وعلى النّحو ذاته، فإنّ صون الولايات المتّحدة لأكثر السّمات الاجتماعيّة رجعيّةً في المملكة العربيّة السعوديّة، بما فيها المعاملة المُروِّعة للنّساء والنظام السياسيّ والثقافيّ التوتاليتاريّ، وبالرغم من أنّ المملكة كانت في حقيقة الأمر محميّة أميركيّة بعد الحرب العالميّة الثانية، هذا الواقع يتعارض بحدّة مع الادّعاءات الأيديولوجيّة للولايات المتّحدة في قيادة «العالم الحرّ» بوصفها منارة للديمقراطيّة وحقوق الإنسان. والحال أنّ الولايات المتّحدة حافظت طوال عقود على جيبٍ أجنبيّ خاصّ بها في إقليم المملكة الأكثر غنى بالنّفط من أجل استغلال مورد البلاد الطبيعيّ العظيم مع امتناعها كليّاً عن السعي إلى تحديث المملكة اجتماعيّاً وسياسيّاً وثقافيّاً، مخافة أن يتسبّب ذلك بزعزعة استقرارها السياسيّ في محيطٍ جيوسياسيّ كان يتّسم بجيَشان التيّارات اليساريّة المناهضة للإمبرياليّة.

وهكذا، فمع نبذ التفسير الثقافويّ لكونه شديد الدغل يفسّر الماء بالماء، يتحتّم على الاستقصاء الماديّ لديمومة السّمات الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة العتيقة في مشيخات الخليج العربيّة أن يدرس النشأة التاريخيّة الفعليّة لهذه الأنظمة. وتتحتّم بالتالي على هذا الاستقصاء الإشارة إلى دور الإمبرياليّة الغربيّة في رعاية صون أعتق سمات تلك المشيخات بمواجهة الصعود المتفجّر لمسارات التّحديث المناهضة للإمبرياليّة في محيطها. وفي الحقيقة، ما من نقضٍ أقوى لـ«الاستشراق» من تبيان كيف قامت القوى الغربيّة بصون تلك السّمات الثقافيّة «الشرقيّة» المزعومة وترسيخها، وهي السمات عينها التي يعدّها المنظور «الاستشراقيّ» أدلّةً أساسيّة على خواصّ الشرق الأوسط الاقتصاديّة والسياسيّة.

العددان ٢٠-٢١ - ٢٠١٨

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.