العددان ٢٠-٢١ - ٢٠١٨

قراءة ماركس وإنغلز في لحظة الأيديولوجيا الألمانيّة

«ليست الشيوعيّة بالنسبة إلينا حالةً ينبغي خلقها، أو مثالاً ينبغي أن ينتظم الواقع تبعاً له. نعني بالشيوعيّة الحركة الفعليّة التي تهدف إلى هدم حال الأشياء الراهنة. شروط هذه الحركة تتأتّى من مقدّماتها المتوافرة راهناً».

ماركس، إنغلز، «الأيديولوجيا الألمانيّة»

وفّرت بروكسل، لـ«الدكتور ماركس»، الشابّ البالغ سبعة وعشرين عاماً عند انتقاله إليها في شباط / فبراير 1845، إثر إبعاده من باريس، بقرار من حكومة فرنسوا غيزو استجابةً إلى طلبٍ بروسيّ، أرضيّة مناسبةً لنقلة مزدوجة، فكريّاً وكفاحيّاً. فهذه المدينة التي تحوّلت قبل سنوات قليلة إلى مملكةٍ لكيان جديد استقلّ عن هولندا وصار يحمل اسم بلجيكا، وكان أكثر سكّانها لا يزالون يتكلّمون الهولنديّة التي لا يجيدها ماركس، ما كانت لتقارن، بباريس المفضّلة عنده، مركز الحياة الفكريّة والأدبيّة الأوروبيّة في ذلك الوقت، و«العاصمة الجديدة للعالم الجديد» كما وصفها حين انتقل إليها من بروسيا (تشرين الأول / أكتوبر 1843). لقد وجد نفسه في باريس في عين زمانه، وسط مروحةٍ واسعة من شخصيّات القرن. من هاينريش هاينيه إلى جورج صاند إلى ميخائيل باكونين وبيار جوزيف برودون، واختلط فيها مع المعارضة الليبراليّة في صالون الكونتيسّا ماري داغو، بمثل ما توطّدت فيها صداقته بفردريك إنغلز، وارتبط بمناخ المنفيّين من سائر البلاد الألمانيّة، لا سيّما منهم المنخرطون في «عصبة العادلين» الفاعلة بين العمّال والصنائعيّين الألمان، مع أنّ أبرز قائدي هذه العصبة كانوا قد لجأوا إلى لندن في ذلك الحين، بعد مشاركتهم في الإعداد لانتفاضةٍ جمهوريّة على الملك لوي فيليب. بدا كلّ هذا العالم الحيويّ والصاخب، المليء بالأفكار والنقاشات، والذي تدبّ فيه الروح النضاليّة الاجتماعيّة التي تتحيّن الفرص للانقضاض مجدّداً على الحكم الملكيّ، وإحياء تقاليد الثورة الفرنسيّة، كأنّه يُخطَف من هذا الشاب يوم إبعاده، في وقت كانت فيه زوجته حاملاً بابنتهما الثانية.

 

فترة بروكسل: الانسياب الشيوعيّ - الديمقراطيّ

مع هذا، سيكتشف الشابّ ماركس سريعاً أنّ بروكسل، «الطرفيّة» بل «النائية» نسبةً إلى هذا العالم الباريسيّ، ستسمح له بمسافة نقديّة أفضل، لتطوير سلاحه الفكريّ والسياسيّ، على عتبة الانفجار الثوريّ الآتي، الذي سيكون أوروبيّاً شاملاً بامتياز، وألمانيّاً على نحوٍ أساسيّ. في بلجيكا، سيجتمع الثلاثيّ كارل ماركس، وفردريك إنغلز، وموسى هِسّ، لتطوير نظرة أكثر ابتعاداً عن المثاليّة الألمانيّة في طورها «الهيغليّ الشاب»، هذا الطور الذي تشكّل من ضمنه وعي ماركس الفلسفيّ، والذي شكّل كتاب «العائلة المقدّسة. نقد النقد النقديّ. ضد برونو باور وشركاه» لماركس وإنغلز قبل ذلك1 مساحةً أساسيّة لتصفية الحساب معه.

سيكتشف ماركس سريعاً مزايا بروكسل. فعلى الرّغم من أنّ السلطات فيها اشترطت عليه عدم التطرّق إلى الأحداث السياسيّة، وعلى الرّغم من كونها، في ذلك الوقت خصوصاً، مدينةً متواضعةً قياساً على الحواضر الأوروبيّة، سيتمكّن ماركس وإنغلز من الاستفادة من موقعها، ما بين البلاد الألمانيّة والجزر البريطانيّة وفرنسا، لتطوير شبكات التّواصل والتنسيق بين المناضلين الشيوعيّين والديمقراطيّين. كذلك يوضح جاك تكسييه في كتابه «الثورة والديمقراطيّة عند ماركس وإنغلز» (1998)2 تميّزت هذه الفترة التي أنشأ فيها ماركس وإنغلز «مكتب التراسل الشيوعيّ» من بروكسل (1846)، بالنشاط في الحركتين الشيوعيّة والديمقراطيّة في وقت واحد، واستخدما تعريف «الشيوعيّون الديمقراطيّون الألمان»، هذا قبل نجاحهما في تحويل أكثر «عصبة العادلين» إلى «عصبة الشيوعيّين». في هذه الفترة البروكسليّة التي غلب التعامل معها على أنّها الفترة التي ستشهد ولادة «التصوّر المادّيّ للتاريخ»، انتمى ماركس وإنغلز إلى تقليدَين حركيّين مختلفين في وقت واحد، ديمقراطيّ وشيوعيّ، لكنّهما متجانسان، يمتاز كلٌّ منهما بالثوريّة، ويتضمّن أحدهما «الديمقراطيّة» والآخر «الشيوعيّة». كان المقصود بالديمقراطيّة في حينه النّضال من أجل الاقتراع العامّ، ومجموعة إصلاحات اجتماعيّة، وتَحرّر الشعوب المضطهدة وتوحّدها القوميّ، وعلى هذا الأساس ساهم ماركس وإنغلز والشبكة البروكسليّة التي نسجاها، ثمّ العصبة الشيوعيّة، بنشاطٍ في المسعى لتشكيل «الأمميّة الصفر»، إذا جازفنا بالتعبير، وهي «الأخويّة الديمقراطيّة» التي سمحتْ بالوصْل بين المناضلين الألمان والمناضلين الإنكليز.

عبّر إنغلز في مقالته «عيد الأمم في لندن» (نشرت مطلع 1846)3عن تصوّرهما «الانسيابيّ» للعلاقة بين الديمقراطيّة والشيوعيّة في تلك الفترة. إذ اعتبر أنّه مادامت الديمقراطيّة غير موطّدة، يكون النّضال السياسيّ مشتركاً بين الشيوعيّين وسائر الديمقراطيّين، وفي كلّ «البلدان المتحضّرة» تعتبر «النتيجة الضروريّة للديمقراطيّة هي السيطرة السياسيّة للبروليتاريا، وهذا هو الشرط الأوّل لكلّ الإجراءات الشيوعيّة».

لم يكن ماركس وإنغلز، كما يلاحظ تكسييه، يفكّران في ذلك الوقت بالتمييز بين «ديمقراطيّة برجوازيّة» و«ديمقراطيّة بروليتاريّة»، بل كانا يعتبران الديمقراطيّة حكماً ذا مآلٍ بروليتاريّ، وأنّ البروليتاريا يمكنها، وعليها، أن تفرض «هيمنتها» في الأزمة الأوروبيّة المقبلة، من ضمن تحالفٍ يشمل البرجوازيّة الصغيرة والفلّاحين، والبرجوازيّة اللبراليّة في البلدان التي كانت لا تزال رازحةً تحت هيمنة «النظام القديم». لن يعاد النظر في هذا «الانسياب» بين الشيوعيّة والديمقراطيّة، إلّا بنتيجة هزيمة ثورات 1848.

 

قصّة المخطوطة و«اختراع» الكتاب

على رغم الشكوى التي تظهرها مراسَلات ماركس في ذلك الوقت، من ضعف إنغلز الفلسفيّ4، فإنّ هذه الفترة بين ربيع 1845 وصيف 1846، ستشهد تعاوناً كتابيّاً وثيقاً بين الرّجلين لكتابة المخطوطة التي نعرفها اليوم باسم كتاب «الأيديولوجيا الألمانيّة» والتي يشير إليها ماركس في مقدمة «مساهمة في نقد الاقتصاد السّياسي» (1859) حين يقول: «إنّ فردريك إنغلز الذي أخذْت أتبادل معه الآراء باستمرار عن طريق الرّسائل منذ ظهور ملاحظاته العبقريّة في نقد المقولات الاقتصاديّة (في «الحوليّات الفرنسيّة - الألمانيّة») قد توصّل عن طريقٍ آخر إلى النتيجة نفسها التي توصّلْت أنا إليها (قارن كتابه «حالة الطبقة العاملة في إنكلترا»)، وعندما أقام كذلك في بروكسل في ربيع 1845، قرّرنا أن نصوغ نظراتنا معاً خلافاً للنّظرات الأيديولوجيّة للفلسفة الألمانيّة، وأن نحاسب، من حيث جوهر الأمر، وعيَنا الفلسفيّ السابق. وقد حققنا هذه النّيّة بشكل انتقادٍ للفلسفة التي ظهرتْ بعد فلسفة هيغل، وكانت المخطوطة وهي عبارة عن مجلّدين ضخمين - قد وصلتْ من زمان إلى مكان الطبْع في وستفاليا عندما أبلغونا أنّ الظروف المتغيّرة قد جعلتْ من المستحيل طبعها. وبما أنّا كنّا قد بلغنا هدفَنا الرئيسيّ، - وهو توضيح الأمور لأنفسنا - فقد قدّمنا المخطوطة بمزيد من الارتياح لنقد الفئران القارض»5.

لن يجد ماركس وإنغلز بعد ذلك الحاجة إلى إعادة نشر المخطوطة، والكلام عن «نقد الفئران القارض» هنا بحرفيّته، ذلك أنّ الفئران أتْلفت بالفعل مقاطع عديدة منها. سيتأخّر النّشر إلى ما بعد الثورة الروسيّة، وتأسيس «معهد ماركس - إنغلز» عام 1919 بإشراف دافيد ريازانوف، فيُنشر «الفصل الأوّل. فويرباخ» منها، بالترجمة الروسيّة عام 1924، ثمّ في لغته الألمانيّة عام 1926، وقد صدرت الطبعة الأولى «الكاملة» لـ«لأيديولوجيا الألمانيّة» عن المعهد عام 1932، مباشرةً بعد إقصاء ريازانوف، الذي أشرف على تحريرها ونشرها منه، بتهمة «دعم النّشاط المنشفيّ المضادّ للثورة» (أُعدم عام 1938). كذلك، اختار المعهد السوفياتيّ (الذي صار يحمل اسم معهد الماركسيّة اللينينيّة بعد إقصاء ريازانوف) تصدير طبعته لـ«الأيديولوجيا الألمانيّة» بالملاحظات الإحدى عشرة لكارل ماركس التي صارت تحمل، من حينه، اسم «موضوعات حول فويرباخ»، ويتلوه الفصل المعنون «فويرباخ» الذي يبْسط فيه ماركس، تصوّره المادّيّ للتّاريخ، ويظهر أنّه كتَبه وحدَه، في حين يكرّس معظم الكتاب لسجالٍ لاذع ضدّ ماكس شتيرنر وكتابه «الأوحد وملكيّته» وضدّ تيار «الاشتراكيّة الحقيقيّة» الألمانيّ.

يبرز منذ سنواتٍ اتّجاهٌ تشكيكيٌّ قويّ يتحدّث عن عمليّة اختراع كتاب «الأيديولوجيا الألمانيّة» من قبل ريازانوف، خصوصاً في العمل المشترك لتيريل كارفر ودانييل بلانك «التاريخ السياسيّ لنشر مخطوطات الأيديولوجيا الألمانيّة»6، وخلاصتهما أنّ المخطوطة التي يتحدّث عنها ماركس في مقدّمة «مساهمة» 1859 لم تشكّل من الأساس وحدة كتابيّة لا مع الفصل المعنْون «فويرباخ» قبلها ولا مع النّصوص السجاليّة ضدّ «الاشتراكيّة الحقيقيّة الألمانيّة» بعدها، كما أنّ بعض النصوص الأخيرة هي لجوزيف فيديماير وموسى هسْ وليستْ لماركس وإنغلز، وهي جزءٌ من مشروعٍ منفصل كان يجري التحضير له. طريفٌ هنا أن تتناول بعض مقاطع «الأيديولوجيا الألمانيّة» موسى هس بشكل لاذع، في حين أنّ مقاطع أخرى من حِبره.

أوهام «داحضي الأوهام»

كذلك، وبعدما أُعطي كتاب «الأيديولوجيا الألمانيّة» أهمّيّةً لافتةً في ماركسيّة القرن العشرين، وخصوصاً لدى الفيلسوف الشيوعيّ الفرنسيّ لوي ألتوسير (في كتابه «من أجل ماركس»، 1965) الذي ذهب إلى أنّ «القطيعة المعرفيّة» بين ماركس الشابّ الكانطيّ الفيختويّ ثمّ الفويرباخيّ، وبين ماركس «الماركسيّ» حاصلة فيه، وأنّه يتمخّض عن هذه القطيعة تأسيسٌ لعلم جديد، هو علم تاريخ التشكيلات الاجتماعيّة، وفلسفة جديدة، المادّيّة الجدليّة، في وقتٍ واحد7، علاوةً على أنّه يقدّم لنا نظريّةً حول الأيديولوجيا بحدّ ذاتها بصفتها وعياً زائفاً قائماً على تحوير الواقع وتزييفه، فإنّ التشكيك بمحوريّة «الأيديولوجيا الألمانيّة» قد انتشر في العقود الأخيرة، وخصوصاً لدى اليابانيّ تاكاهيسا أويشي في كتابه اللافت «ماركس المجهول»8، الذي يقدّم فيه خلاصاتٍ بحثية عدّة، منها أنّه حتى بالنسبة إلى الفصل المعنْون «فويرباخ» فإنّه جرى وصل المقاطع ببعضها البعض بغضّ النظر عن الصفحات المفقودة، وأنّ كلّ طبعات «الأيديولوجيا الألمانيّة» تصنَّف من ضمن «المنحولات»، ولا يمكن الحديث أبداً عن لحظةٍ تأسيسيّةٍ بين ثنايا هذه النّصوص المستجمَعة، هذا بخلاف تأسيسيّة «المخطوطات الاقتصاديّة الفلسفيّة» الباريسيّة قبلها، أو «بؤس الفلسفة» مباشرةً بعدها. في مقابل هذا الاتّجاه، تأتي مقدّمة الباحثة الفرنسيّة إيزابيل غارو لإعادة نشر التّرجمة التي أشرف عليها جيلبير باديا، فتعيد التّذكير بكلمات باديا نفسه «مفارقة الأيديولوجيا الألمانيّة أنّها تقدّم لنا ملخّصاً، وخلاصةً لمعارفَ لم تكن قد أنتجت بعدُ في شكلها العلميّ المتطوّر»، وتشدّد على أنّ الكتاب عتبةٌ أساسيّة في تطوّر فكر ماركس وإنغلز، هي العتبة التي تكتسب كلّ دلالتها في سياق التأجّج الاجتماعيّ والسياسيّ الممهِّد لثورات 1848، وأنّ النّصوص التي يتشكّل منها تمزج بين الحيثيّات السجاليّة المباشرة ضدّ ممثّلي «الهيغليّة الشابّة» و«الاشتراكيّة الحقيقيّة»، وبين تطوير التصوّر النظريّ لعلاقة الأفكار بالواقع، وتحليل شروط تشكّل الأفكار وتأثيرها، ومحاولة تقديم نظرة للتّاريخ البشريّ مأخوذاً بكلّيّته، وأنّ ذلك يأتي بالضدّ من النظرة الشائعة التي ترى أنّ «الأيديولوجيا الألمانيّة» تفصل بشكل تعسّفيّ بين القاعدة المادّيّة - الاقتصاديّة وبين البنية الفوقيّة، إذ يجري فيها، على العكس من ذلك، اجتراح تحليلٍ للبنية الاجتماعيّة الكلّيّة والمتحرّكة القائمة على جدليّة أنّ تقسيم العمل نفسه هو الذي يسمح بالاستقلاليّة النسبيّة لنظام الأفكار والتصوّرات والتمثّلات، أي في وقت واحد، استقلالها الفعليّ والانطباع المضلّل بأنّها يمكن أن تنعزل عن سائر الواقع الاجتماعيّ والاقتصاديّ9، مثلَما يُظهر الكتاب كيف أنّ الصراع بين المصالح الاجتماعيّة المتعارِضة هو أيضاً صراعٌ بين أفكار. بخلاف ألتوسير الذي يستخرج من نصّ «الأيديولوجيا الألمانيّة» مفهوماً عن الأيديولوجيا كعمليّة «تزييفٍ» للواقع، ترى غارو أنّ توظيف ماركس وإنغلز هذا المصطلح في الكتاب لم يقتصر على نقض ميكانيزمات التّزييف ومطاردة الأوهام، بل أنّ «الأيديولوجيّ» المنقود في أعمال «الهيغليّين الشباب» يكمن تحديداً في هذا المنزع لديهم لتحقيق «الوعي الذّاتيّ» عند برونو باور، أو «الإنسان» عند فويرباخ، أو «الأنا» عند ماكس شترنر، على قاعدة مطاردة الأوهام. مطاردة الأوهام لا تكفل معرفة الواقع، بما في ذلك واقع هذه الأوهام نفسها. تنطلق المخطوطات المدرجة بين ثنايا «الأيديولوجيا الألمانيّة»10، من دحض وهْم التمرّد الدائم على حكم الأوهام حين يصبح وهماً مكتفياً بذاته. ما يتهكّم عليه ماركس وإنغلز منذ مقدّمة «الأيديولوجيا الألمانيّة» هو «الأوهام البريئة والصبيانيّة التي تشكّل لبّ الفلسفة الحديثة للهيغليّين الشباب» التي هي أوهام دعواتهم التمرّدية على «الأوهام والأفكار والعقائد والكائنات الخياليّة التي يرزحون تحت نيرها»، وأوهام رساليّتهم بأن «لنعلّم البشر أن يستبدلوا هذه الأوهام ويأتوا بأفكارٍ تقابل ماهيّة الإنسان كما يقول أحدهم (المقصود فويرباخ)، وأن يتّخذوا منها موقفاً نقديّاً كما يقول الآخر (المقصود برونو باور)، وأن ينزعوا من رؤوسهم كما يقول الثالث (ماكس شترنر)». وهْم الاعتقاد بأنّ «الواقع القائم سوف ينهار» بمجرّد النجاح في دحض الأوهام التي يجري تعيينها بقصد دحضها11.

 

«تفسّخ الفكر المطلق»: حدث في انتظار الحدث

يحدّد جورج لابيكا في مقالته «من أجل مقاربةٍ نقديّةٍ لمفهوم الأيديولوجيا» هذا العنصر «الأيديولوجيّ» الذي تجري المساجلة، بضراوة، ضدّه في الكتاب، بأنّه «اللامفكَّر به» بامتياز لدى الهيغليّين الشباب: عدم قدرتهم على استيعاب أنّ هذه الانتفاخة في الوعي الفلسفيّ الألمانيّ التي يساهمون فيها، هي انعكاسٌ للتأخّر الألمانيّ عن مجاراة سواء الثورة البرجوازيّة السياسيّة الفرنسيّة أو الثورة البرجوازيّة الصناعيّة الإنكليزيّة12، وأنّه، وبسبب هذا «اللامفكَّر به» محكوم على الفلسفة الألمانيّة بأن تخفق في تحقيق موضوعها، لكونها تحدّده حيث هو غير موجود، أي لكونها تكتفي بالانطلاق من أرضيّة نقد الدين، نقد السماء، وتُخفق في «أرضنة» هذا النّقد، المشروط بتجاوزه.

«من المؤكّد أنّنا نعالج هنا حدَثاً مدعاةً للاهتمام، ألا وهو عمليّة تفسّخ الفكر المطلَق»: يكثّف ماركس وإنغلز بهذه الجملة خطّة الهجوم على الهيغليّة الشابّة في «الأيديولوجيا الألمانيّة»، هذا الهجوم الذي يمكن اعتباره بمثابة «نقد ذاتيّ» برّانيّ، يصفّي فيها ماركس حسابه مع وعيه الفلسفيّ - الأيديولوجيّ السابق، مثلما أنّه في المقلب الآخر منه، إعادة اعتبارٍ إلى فلسفة الوعي المطْلق، فلسفة هيغل، التي يشكّل الهيغليّون الشباب نكوصاً بالنسبة إليها، بسبب أنّ تبعيّتهم تجاه هيغل «هي السبب في أنّ أيّاً من هؤلاء النقّاد المحْدثين لم يقم حتى بمحاولة نقدٍ جامع للنّظام الهيغليّ، على الرّغم من أنّ كلّ واحد منهم يقْسم الأيمان المغلّظة على أنّه تجاوز هيغل نفسه» وأنّ مناظرتهم ضدّ هيغل وضدّ بعضهم بعضاً تقتصر على «أنّ كلّاً منهم يعزل جانباً من النّظام الهيغليّ ويحوّله ضدّ النظام بكامله، وضدّ الجوانب المعزولة من قبل الآخرين على حدٍّ سواء». يتّهم فويرباخ وباور وشتيرنر هنا إذاً بأنّهم اقتطعوا مقولات فلسفيّة هيغليّة خالصة من «السستام» الفلسفيّ للمعلّم، ثمّ قاموا بـ«تدنيسها» بخلطها بأفكارٍ أيديولوجيّة لا ترقى إلى درجة مقولات فلسفيّة، بل تبقى لاهوتيّةً، كونها تقتصر على نقد التصوّرات الدينيّة. الهيغليّة الشابّة، بما فيها إذاً وعيُ ماركس ما قبل قطيعته معها، تفترض، أنها تسير في اتّجاهٍ «محافظٍ» بالنّسبة إلى فلسفة هيغل، هيغل يذوّب اللاهوت في الفلسفة، أمّا هم، فويرباخ وباور وشتيرنر، فيُلحقون الفلسفة باللاهوت، باسم تجذير «نقد الدّين» و«نقد السماء»، وإعادة حقوق الإنسان والوعي والأنا التي رحّلها الإنسان نفسه إلى السماء. هم يشكّلون تراجعاً إذاً بمقياس الاستقلال الفلسفيّ، ما داموا غير قادرين على نقد هذه الانتفاخة الفلسفيّة الألمانيّة بإعادة ربطها بالتأخّر الألمانيّ عن مواكبة الثورة البرجوازيّة، السياسيّة في فرنسا، والاقتصاديّة في إنكلترا. «إنّ الأيديولوجيّين الهيغليّين الشباب، على الرّغم من بياناتهم الطنّانة التي يزعمون أنّها «تقلب العالم» هم أشدّ المحافظين صلابة»13.

هل يمكن اعتبار لحظات الهيغليّة الشابّة الثلاث «حدثاً» في تاريخ الفلسفة؟ ليس هذا هو تحديداً همّ ماركس وإنغلز. ما يبرزون لأنفسهم في المخطوطة هو بالأحرى، انصرافُ الهيغليّة الشابّة لإنتاج «أحداثها الجوّانية» بالانقطاع عن الحدثيّة السياسيّة - التاريخيّة، تحديداً لأنّ هذه الهيغليّة الشابّة تتعنّت في الاستمرار بتجذير لحظةٍ متمّمة وبالتالي يفترض تجاوزها، وهي لحظة «نقد الدّين».

منذ مقدّمة «مساهمة في نقد فلسفة الحقّ عند هيغل» (1843) اعتبر ماركس هذه اللحظة متمّمة: «بالنّسبة إلى ألمانيا، «نقد الدين» أُنجز في جوهره. ذلك أنّ نقد الدين هو الشرط الأوّلي لكلّ نقد». كثيراً ما جرى عزل المقولة الثانية (الشرط الأوّلي لكلّ نقد) عن مفتتح تلك المقدّمة (أنّ لحظة نقد الدين تُممتْ بالنسبة إلى ألمانيا).

هذا لا يعني أنّ ماركس قبل فترة «الأيديولوجيا الألمانيّة» كان قد نجح في تجاوز لحظة «نقد الدين» لمجرّد إشعاره بتمامها، تلك اللحظة التي ينبني فيها نقد السياسة على نقد الفلسفة ونقد الفلسفة على نقد الدّين14، فإدراكه أنّها تمّمت غير كفيلٍ بذاته، ومن داخلها فقط، بالانتقال إلى ما بعدها. على عتبة نصّ 1843، كان ماركس لا يزال ماركس الشاب في حدود نقد التمثّل الألمانيّ للدّولة الحديثة الذي يجد تعبيره في فلسفة الحقّ الهيغليّة، والذي يفصله التجريد عن «الإنسان الفعليّ»، بمقدار ما أنّ الدولة الحديثة هي نفسها يفصلها التجريد عن هذا «الإنسان الفعليّ». غير أنّ ماركس وضع منذ 1843 مقاربةً لهذا التجريد على المستوى الفلسفيّ على أنّه تجريدٌ عالق في «اللاحدث» وفي إنتاج أحداثٍ ذاتيّةٍ داخله يسجن نفسه فيها، خصوصاً في مرحلة ما بعد اكتمال التصوّر المطلق الكلّيّ عند هيغل، ومباشرته بالتفسّخ بعد هيغل، بتنازع فويرباخ وباور وشتيرنر تركةَ هذا «الوعي المطلَق».

النقطة التي «تحوي» كلّ الفلسفة الألمانيّة من كانط إلى هيغل إلى فويرباخ إلى ماركس الشاب تجد التعبير عنها على لسان ماركس الشاب (1843) نفسه: «في السياسة، الألمان فكّروا بما صنعته الشعوب الأخرى. لقد كانت ألمانيا بمثابة وعْيهم النظريّ». لقد شغلته هذه المفارقة مطوّلاً، الثورة البرجوازيّة سياسيّة في فرنسا، اقتصاديّة في إنكلترا، وعلى مستوى «الوعي النظريّ» في ألمانيا. هذا الوعي النظريّ الذي يستقبل الأحداث الثوريّة البرجوازيّة من حوله، خارج ألمانيا والواردة إليها، يبحث عن أحداثه المحايثة في الوعي النظريّ نفسه، في «الوعي الذاتيّ» أو وعي الوعي، ووعي وعي الوعي، وهذا التضخّم على المستوى النظريّ، هذا التجاوز النظريّ للفاعليّة النظريّة نفسها، ليس سوى انعكاسٍ للتّأخّر البرجوازيّ الألمانيّ عن مجاراة الثورة البرجوازيّة الأوروبيّة، ولتمزّق الوعي البرجوازيّ نفسه، بين عينه المثاليّة في ألمانيا، واقتصاده السياسيّ في إنكلترا، وملحمته الثوريّة في فرنسا.

 

«الثالوث الأوروبيّ» من موسى هسّ إلى كارل ماركس

تفسّخ الوعي المطلق في الهيغليّة الشابة هو «حدَثٌ» مجازيّ، تجري المقارنة في «الأيديولوجيا الألمانيّة» بشكل لاذعٍ بينه وبين تنازع قادة جيوش الإسكندر المقدونيّ لتركته بعد وفاته. لكنّ هذا «الحدَث المجازيّ»، في تهكميّة ماركس السجاليّة ضدّ الهيغليّين الشباب هو أيضاً حدثٌ يشي بانتهاء شيء ما، ليس فقط وفاة هيغل، ثمّ تنازع تركته، بين الهيغليّة المحافظة وبين الهيغليّة الشابّة، وبين الهيغليّين الشباب أنفسهم، بل نهاية وضعٍ «نظريّ» بالنسبة إلى ألمانيا، نهاية «التقسيم الثلاثي» للعمل في الثالوث الألمانيّ - الفرنسيّ - الإنكليزيّ، الذي يتقدّم فيه الوعي الفلسفيّ في النطاق الأكثر تأخّراً، سياسيّاً واقتصاديّاً، ألمانيا.

مقولة لينين عن «مصادر الماركسيّة الثلاثة»، الفلسفة المثاليّة الألمانيّة، والاقتصاد السياسيّ الإنكليزيّ والاشتراكيّة الفرنسيّة يمكن استحضارها هنا، إنّما بشرط تصحيحها. إذا عُني بها الجمع بين «أرقى» نتاجات الأمم الأوروبيّة، الفلسفة المثاليّة والاقتصاد السياسيّ الإنكليزيّ والسياسة الفرنسيّة، سيجري إغفال النقطة المحوريّة عند ماركس قبل 1848، وهي أنّ هذا «التقسيم» للأشياء كارثيّ جدّاً بالنّسبة إلى ألمانيا.

إنّ استعادة ماركس لمقولة الثالوث الأوروبيّ التي دشّنها موسى هسّ، تمرّ من خلال العناية المركزّة بـ«كارثيّة» تقسيم العمل داخله بين فتوحات العقل النظريّ في ألمانيا، وبين الاقتصاد والسياسة في إنكلترا وفرنسا. ليست الفلسفة الألمانيّة أرقى فلسفات القارّة، إلّا بمقدار ما أنّها «تعوّض» عن التأخّر على مستوى الوحدة القوميّة، والنهضة الاقتصاديّة، والتحرّر السياسيّ، للبلاد الألمانيّة، وهذا التعويض في حقيقته المادّيّة ليس بتعويضٍ إلّا بمقدار مفاقمته المشكلة. وهنا يمكن طرح فرضيّة لإعادة قراءة «وحدة» نصوص المرحلة البروكسليّة من عمل ماركس وإنغلز: ليس حصرها فقط، بإشكاليّة «التفوّق الألمانيّ» النظريّ (كانط وهيغل) في مقابل التأخّر الألمانيّ العمليّ (سياسةً واقتصاداً وتشرذماً قوميّاً)، بل ربطها بإشكاليّة التمزّق الثلاثيّ للحداثة البرجوازيّة الأوروبيّة من خلال ذلك، وتطوير مفهومَي الديمقراطيّة والشيوعيّة في إطار مقاربة هذا التمزّق الثلاثيّ، الذي يجعل الثورة البرجوازيّة «النظريّة» متقدّمةً حيث الثورة البرجوازيّة «العمليّة» متأخّرة. كذلك، وإذا ما عدنا لـ«العائلة المقدّسة» سنجد ماركس يزعزع «يقينيّة» فكرة التفوّق الفلسفيّ الألمانيّ هذه، من خلال تشديده على الحيويّة الفلسفيّة - المادّيّة «الفرنسيّة - الإنكليزيّة»، وهو تشديدٌ جرت المبالغة في إخراجه من سياقه، ابتداءً من «تطوّر النظرة الواحديّة في التاريخ» لجيورجي بليخانوف، بحيث جرى اختزاله في نظرة أيديولوجيّة لتاريخ الفلسفة على أنّها تاريخ صراعٍ بين المادّيّة والمثاليّة على الدوام.

حيال هذا «الثالوث الأوروبيّ» الذي شغل هسّ ثمّ ماركس باتّجاهَين مختلفين، تقدّم بروكسل نقطةً للنظرة والتفاعل في الاتّجاهات الثلاثة. مرحلة ماركس فيها، تاليةٌ لمرحلتَيه الألمانيّة والباريسيّة، وسابقة لمرحلته اللندنيّة، بعد فشل ثورات 1848. لحظة «الأيديولوجيا الألمانيّة» فيها هي بامتياز لحظة تسجيل تهافت «الثورة النظريّة» الألمانيّة، بالتّوازي مع أزمة السياسة الفرنسيّة، بنتيجة هزيمة الثورة الكبرى 1789، وعدم كفاية الثورة الصغرى، تموز / يوليو 1830. البروليتاريا، التي اكتشف ماركس أشكالها التنظيميّة النقابيّة والسياسيّة في باريس، ثمّ أتيح له، في مرحلة كتابة «الأيديولوجيا الألمانيّة» نفسها، فرصة معاينتها في الواقع الصناعيّ بمانشستر، من خلال سفره هو وإنغلز إلى هناك في صيف 1845، لبضعة أسابيع، هي الذاتيّة - الطبقيّة الحركيّة، التي سيّنيط بها كارل ماركس حلّ مشكلة البرجوازيّة قبل أيّ شيءٍ آخر، حلّ مشكلة توزّع الثورة البرجوازيّة بشكل متفاوتٍ ومفارق، إنمّا بشكلٍ لا يمكنه إلّا أن ينتج تناقضاتٍ عنيفة وسريعة، بين الأمم الثلاث.

التصوّر عن البروليتاريا كما يظهر في نصوص «الأيديولوجيا الألمانيّة» هو مع هذا تصوّرٌ «مستلَف» إلى حدٍّ كبير من المستقبل، من العقود التي ستلي، وليس من الحاضر، حيث إنّه حتى في إنكلترا نفسها التي انبهر ماركس بمصانعها، لم تكن الثورة الصناعيّة بعد إلّا في بداياتها. «استلاف» هذا التصوّر من المستقبل الآتي، يرتبط أيضاً بـ«فلسفة التاريخ» التي يجد مساحة لها في الفصل المعنون «فويرباخ» من «الأيديولوجيا الألمانيّة».

ألمانيا بوصفها «قارّة البرجوازيّة الصغيرة»

الواقع التاريخيّ الألمانيّ «يغرق» بين رتل السجال الحادّ والتهكميّ اللاذع ضدّ ماكس شتيرنر «سانشو» أو «القدّيس ماكس» كما ينعته ماركس. بين ثنايا هذا الاسترسال السجاليّ اللاذع، يظهر نصٌّ «استطراديّ» في غاية الأهميّة، يعيد مرّة جديدةً المقارنة بين البرجوازيّة الألمانيّة والبرجوازيّتين الفرنسيّة والإنكليزيّة، بين الليبراليّة في ألمانيا وخارجها: «فبينما كانت البرجوازيّة الفرنسيّة، بواسطة أضخم ثورةٍ عرفها التاريخ، ترتفع إلى السلطة وتغزو القارّة الأوروبيّة، وبينما كانت البرجوازيّة الإنكليزيّة التي سبق أن تحرّرت سياسيّاً تثوّر الصناعة وتُخضع الهند سياسيّاً، وتُخضع باقي العالم تجاريّاً، لم يذهب البرجوازيّون الألمان، في عجزهم، إلى أبعد من «الإرادة الطيّبة». إنّ إرادة كانط الطيّبة هي الانعكاس التامّ للعجز والهمود والمسكنة والعجز لدى البرجوازيّين الألمان»15.

«إنّ التطوّر الألمانيّ قد اتّسم في جميع الميادين، منذ أيّام الإصلاح، بطابعٍ برجوازيّ صغير كلّيّاً. إنّ الأرستقراطيّة الإقطاعيّة القديمة قد قضتْ بمعظمها في حروب الفلّاحين، وما تبقّى منها تمثّل إمّا بأمراء صغارٍ تابعين للأمبراطور مباشرةً، وقد حقّقوا بصورة تدريجيّة بعض الاستقلال وقلّدوا الملكيّة المطْلقة على نطاقٍ ضيّقٍ يقتصر على مدنهم الصغيرة، وإمّا اصحاب أملاك ضئيلة، فقَدَ بعضُهم ثروته الهزيلة في البلاطات الاقليميّة ليكسبوا بعدها معيشتهم من مراكزَ حقيرة في الجيوش الدُّمى أو الإدارات الحكوميّة - وبقي بعضهم الآخر فرساناً إقطاعيّين من المناطق النّائية يعيشون حياةً يخجل منها أكثر الملّاكين الإنكليز أو النّبلاء الإقليميّين الفرنسيّين تواضعاً».

كثيفة عناصر النّصّ هنا:

1 حركة الإصلاح البروتستانتيّة (وامتداداً حرب الفلّاحين) في ألمانيا تخلق إلى حدٍّ بعيد الوهم بأنّ «الثورة الأساسيّة» أنجزتْ في القرن السادس عشر في ألمانيا.

2 تهدّم الإقطاعيّة القديمة بنتيجة حرب الفلّاحين حوَّل البلاد الألمانيّة إلى «وطن البرجوازيّة الصغيرة» بامتياز، بما في ذلك أريستوقراطيّوها الذين صاروا «برجوازيّين صغاراً» على طريقتهم.

3 أدّى هذا إلى نتيجتين متناقضتين في الوقت نفسه، ظهور «الملكيّة العسكريّة» البروسيّة من ناحية، وتشرذم البلاد الألمانيّة وامتناع وحدتها القوميّة من جهة ثانية.

4 التأخّر الألمانيّ هو على المستوى الزراعيّ بنتيجة ما تقدّم، وبالعودة إلى النّصّ: «كانت الزراعة تمارَس بطريقة لا هي الإنتاج القطعيّ ولا هي الإنتاج الكبير، ولم تدفع بالفلّاحين قطّ للسّعي إلى التحرّر على الرّغم من الإبقاء على التبعيّة الطبقيّة والسخرات، وذلك نظراً لأنّ هذه الطريقة في الزراعة بالذّات لم تسمح بقيام أيّ طبقة ثوريّة نشطة من جهة واحدة، ونظراً لانعدام البرجوازيّة الثوريّة المقابلة لمثل هذه الطبقة الفلاحيّة من جهة ثانية».

5 bid_Line_Line1.psd يقارن ماركس وإنغلز بذكاءٍ بين النموذج الألمانيّ والنموذج الهولنديّ الذي انفصل عنه: «إنّه لمن الأمور ذات المغزى أنّ صناعة الكتّان الحرفيّة، يعني الصناعة القائمة على الغزل اليدويّ والنَّول اليدويّ، قد بلغتْ بعض الأهميّة في ألمانيا بالضّبط حين كانت هذه الأدوات المزعجة قد نُحّيَت جانباً من قبل الآلات في إنكلترا. وإنّ أعظم الأمور مغزىً هنا هو موقف البرجوازيَين الألمان حيال هولندا. إنّ هولندا، وهي القسم الوحيد من العصبة الهانسيّة الذي اكتسب أهمّيّة تجاريّة، قد انفصلتْ عن هذه العصبة طلباً للحرّيّة، وقطعتْ ألمانيا عن التجارة العالميّة، باستثناء ميناءين (هامبورغ وبريمن)، واستطاعت منذ ذلك الحين أن تسيطر على التجارة الألمانيّة بأسرها. وكان البرجوازيّون الألمان أعجز من أن يضعوا حدّاً لاستغلالهم من قبل الهولنديّين. إنّ برجوازيّة بلدٍ صغير مثل هولندا، بمصالحها الطبقيّة النامية جيّداً، كانت أقوى من البرجوازيّة الألمانيّة التي تتفوّق عليها عدداً إلى درجةٍ بعيدة، بعطالتها ومصالحها الحقيرة المنقسمة. كان انقسام المصالح يقابل انقسام التنظيم السياسيّ إلى إماراتٍ صغيرة ومدنٍ أمبراطوريّة».

اكتشاف ماركس لـ«القارة التاريخ» الذي يتحدّث عنه ألتوسير انطلاقاً، إشارة في مطلع الفصل حول «فويرباخ» يعلن فيها ماركس وإنغلز أنّهما يتعاملان مع علمٍ واحدٍ، هو علم التاريخ، إنّما يفترض إعطاؤه معنى آخر من خلال هذا النّصّ التكثيفيّ للتاريخ الألمانيّ منذ الإصلاح اللوثريّ وحرب الفلّاحين إلى الزمن الحاضر، الذي تقدّم فيه البلاد الألمانيّة كقارّة «البرجوازيّين الصغار» بامتياز، أي الطابع البرجوازيّ الصغير لأريستوقراطيّيها ثمّ برجوازيّيها، هؤلاء البرجوازيّين الألمان، «الذين كانوا يرغون ويزبدون ضدّ نابليون لأنّه أكرههم على شرب عصير الهندباء، ولأنّه عكّر صَفوهم بايواء الجنود في منازلهم وبالتجنيد، وأغدقوا عليه كلّ حقدهم كما أغدقوا على إنكلترا كلّ أعجابهم، في حين كان نابليون يقدّم إليهم أعظم الخدمات بتنظيف الإسطبلات الألمانيّة وإنشاء وسائط مواصلاتٍ جديرة ببلد متحضّر، فيما لم تفعل إنكلترا سوى تحيّن الفرصة لاستغلالهم بكلّ هدوء. ولقد كان الأمراء الألمان يتوهّمون، بالروح البرجوازيّة الصغيرة عينها، أنّهم يقاتلون في سبيل مبدأ الشرعيّة وضدّ الثورة، في حين لم يكونوا سوى المرتزقة المأجورين للبرجوازيّة الإنكليزيّة».

«وفي مناخ هذه الأوهام العموميّة كان من طبيعة الأمور تماماً أنّ المراتب التي تحتكر امتياز الوهم - ممثّلةً بالأيديولوجيّين، ومعلّمي المدارس، والطلبة، وأعضاء «عصبة الفضيلة»، كانت تتحدّث بكلماتٍ فخمة وتعطي تعبيراً طنّاناً ملائماً للمزاج العموميّ القائم على الوهم واللامبالاة».

الكثافة السجاليّة ضدّ ماكس شتيرنر وفلسفته «الأنا واحديّة»، الأنا الأنانيّة غير المكترثة بالآخرين، توظّف كانعكاسٍ لذلك: «فعند القدّيس ماكس، ليس البرجوازيّ حقيقة المواطن، بل المواطن حقيقة البرجوازيّ. وإنّ هذا التصوّر، الذي هو مقدّسٌ، بقدْر ما هو ألمانيا، ليمضي بعيداً بحيث يحوّل المواطنيّة إلى فكرة، لا شيء سوى فكرة». يضيف ماركس وإنغلز: «يستطيع أن يحوّل البرجوازيّ - وقد فصل البرجوازيّ بوصفه ليبراليّاً عن نفسه برجوازيّاً تجريبيّاً، إلى ليبراليّ مقدّس، تماماً مثلما يحوّل الدولة إلى المقدّس، وعلاقة البرجوازيّة بالدولة الحديثة إلى علاقة مقدّسةٍ، إلى عبادة، وبذلك يختتم فعلاّ نقده لليبراليّة السياسيّة. لقد حوّلها إلى «المقدّس».

 

أنثروبولوجيا «الأيديولوجيا الألمانيّة»

في قراءته لكتاب «الأيديولوجيا الألمانيّة» يقدّم المفكّر الليبراليّ - المحافظ الفرنسيّ ريمون آرون الفصل المعنْون «فويرباخ» على أنّه العرض الأطول الذي نملكه عن فلسفة ماركس للتاريخ، ذلك أنّه بعد 1848 ستكون نصوص ماركس إمّا اقتصاديّة وإمّا سياسيّة، وسيعتمد تقسيماً للعمل يتحوّل فيه الفيلسوف ماركس إلى اقتصاديّ، في حين يهتمّ إنغلز، الذي لم يدرس الفلسفة على نحوٍ منهجيّ وأكاديميّ، بالشأن الفلسفيّ. بخلاف النظرة الألتوسيريّة التي تبني على أنّ ماركس قطَعَ هنا مع «الأنثروبولوجيا الفلسفيّة» السابقة، ليؤسّس علم تاريخ يسبر البنى الموضوعيّة المتحرّكة والمتحوّلة، لا الذاتيّات والفاعليّات الذاتيّة، يتحدّث آرون عن «تصوّرٍ أنثروبولوجيّ» طبيعانيّ - حيويّ أكثر منه «مادّيّاً»، لأنّ هذا التصوّر لا يستدعي قولاً في ماهيّة مفهوم المادّة، بل يكتفي بـ«المادّيّة العمليّة» دون تلك الأنطولوجيّة، أي أنّ المادّيّة هنا تقتصر على التحديد بأنّه لأجل فهم التاريخ ينبغي الانطلاق من الإنسان كنوع بيولوجيٍّ، موضوعٍ في شروطٍ جيولوجيّة ومناخيّة معيّنة.

لُبّ هذا التصوّر الأنثروبولوجيّ هو أنّه «يمكن تمييز البشر من الحيوانات بالوعي، والدّين، بكلّ ما نريد، وهُم أنفسهم يباشرون بالتمايز عن الحيوانات ما أن يباشروا بإنتاج شروط وجودهم»، وأنّ البشر بإنتاجهم شروطَ وجودهم ينتجون على نحوٍ غير مباشر الحياة المادّيّة نفسها. ينطلق ماركس وإنغلز إذاً من تصوّرٍ عن الطبيعة، وليس فقط التاريخ، إنّما عن قواعد طبيعيّة تتبدّل من خلال الفاعليّة البشريّة في مجرى التاريخ. البشر يحوّلون الطبيعة البرّانيّة حولهم بعملهم وبتكاثرهم، ويتبدّلون هم أنفسهم بنتيجة عملهم وبنتيجة خلقهم الشروط المنتجة صناعيّاً التي يعيشون فيها. ما يلتقطه ريمون آرون هنا على الرّغم من قوله بأنّ هذا التصوّر لا يستدعي ميتافيزيقا محدّدة، هو مفارقة ميتافيزيقيّة إلى حدٍّ بعيد، ستبقى مؤثّرة في تصوّرات ماركس وإنغلز للأشياء: كلّ شيءٍ طبيعيّ - لم يعد هناك شيء طبيعيّ. الإنتاج من قبَل الإنسان لوسائل وجوده واستمراره هو في أصل التاريخ نفسه. التاريخ هو تاريخ «أنسنة» الطبيعة، مثلما هو جزءٌ من التاريخ الطبيعيّ.

«يلخّص» آرون «فلسفة تاريخ» ماركس المستندة إلى هذا التصوّر الأنثروبولوجيّ في «الأيديولوجيا الألمانيّة» بخمس ملاحظات:

1 مبدأ أولويّة الحاجات الفيزيائيّة للإنسان - لأجل العيش ينبغي قبل كلّ شيء آخر الشرب، الأكل، السكن، اللبس، وأشياء أخرى من هذا القبيل. الواقعة التاريخيّة الأولى هي إنتاج وسائل تسمح بإشباع هذه الحاجات.

2 الإنسان هو كائنٌ من النوع الذي بمقدار ما يجري إشباع حاجاته الأولى تظهر له حاجات أخرى، الإشباع المتواصل للحاجات يساهم في إغنائها. ينحو آرون هنا إلى حصر ذلك بمعادلة أنّ إشباع «حاجاته الحيوانيّة» يقود إلى إظهار «حاجاته الإنسانيّة».

3 البشر الذين يجدّدون كلّ يوم حياتهم الخاصّة بخلق وسائل إشباع الحاجات يخلقون بشراً آخرين بالتوالد.

4 كلّ «نمط تعاونٍ بين البشر هو بحدّ ذاته قوّة منتجة». نشاط البشر المتّصل بتحويل الطبيعة هو في الوقت عينه شكل تعاونٍ بين البشر أنفسهم.

5 كلّ علاقةٍ للإنسان مع الطبيعة هي علاقةٌ للبشر فيما بينهم، وعلاقات الإنتاج تقوم على أنماطٍ مختلفة من تنظيم التعاون بين البشر، وتقسيم العمل.

يتأتّى من هذه الملاحظات الخمس أنّ ليس ثمّة وعي خالصٌ، قائم بذاته، لأنّ لعنة المادّة تثقل دائماً على الروح. ليس هناك وعيٌ خالص، إنّما هناك «وعيٌ بحت»، أو «الوعي الفعليّ» التواصليّ العمليّ بين البشر، الذي يجد التعبير عنه في اللغة، وإذا كان شرح آرون لمقولة «الوعي الفعليّ» يبقى مقتضباً وغامضاً هنا، إلّا أنّه يستخدمه للتمييز بين صنفين آخرَين للوعي: أفكار الطبقة السائدة، والأيديولوجيا. بالنتيجة، يميّز آرون في دراسته النصّ، بين أفكار الطبقة السائدة، وبين مفهوم الأيديولوجيا. أفكار الطبقة السائدة هي الأفكار التي تعكس سيطرتها أو التي تحتاج إليها لتأمين استمرار سيطرتها، أمّا الأيديولوجيا فهي أيّ ميكانيزم اختزاليّ أو توظيفيّ أو تحويريّ لواقع من قبل أيّ مجموعة اجتماعيّة. أفكار الطبقة السائدة، هي وفقاً لهذا التوزيع، أكثر اتّساعاً وشموليّة من مفهوم الأيديولوجيا16.

 

من «البروليتاريا» إلى «الدولة»: قبل 1848 وبعده

لم يقل ماركس بعد إنّ «البشر يصنعون تاريخهم لكنّهم لا يصنعونه على هواهم» (الثامن عشر من برومير)، لكنّه أوجَد - مع إنغلز - أسساً لهذه المقولة، في فترة بروكسل: فمن جهةٍ، لا يمكن للثورة أن تحوّل قواعد النظام الاجتماعيّة من دون تطوّر القوى المنتجة الكاملة، ولا يمكن للاغتراب أن يدفع إلى الثورة إلّا بمقدار توسّع الحرمان في التركيبة الاجتماعيّة في مرحلةٍ باتت تمتلك شروط البحبوحة والثروة والثقافة الواسعة. لكن من جهة أخرى، هذه «الثورة البروليتاريّة الخالصة» التي عليها، افتراضيّاً، أن تنتظر اكتمال شروطها الموضوعيّة، لا يمكن أن تنتظر، لأنّ الثورة البرجوازيّة غير المتمّمة، والمتفاوِت حصولها بين أمم أوروبا الكبرى الثلاث، على عتبة انفجارٍ انتفاضيّ أوروبيّ شامل، وهذه الثورة الآتية، هي في وقتٍ واحد، برجوازيّة وبروليتاريّة، برجوازيّة من حيث إنّها «ثورة توحيد» الثورات المشطورة السابقة للبرجوازيّة، الثورة الفلسفيّة الألمانيّة، الثورة السياسيّة الفرنسيّة، الثورة الصناعيّة الإنكليزيّة، ومن حيث انعدام كفاية النّخَب البرجوازيّة لتحقيق ذلك، والدور الحيويّ للبروليتاريّين على الصعيد الاجتماعيّ، وللديمقراطيّين، ومن ضمنهم للشيوعيّين، على الصعيد الحركيّ السياسيّ، في تحقيق ذلك. ما سيباشر باكتشافه (إلى حدٍّ معيّن، والمكابرة عليه بتفاوتٍ أيضاً) ماركس وإنغلز بعد هزيمة 1848، أنّ «تتميم الثورة البرجوازيّة» ستسهم به البروليتاريا بهزائمها قبل أيّ شيء آخر، وأنّ تعاظم «الدولة الأمّة» (وما يرتبط بها من إمبراطوريّة استعماريّة «ما وراء البحار») لم يعد من الممكن اختزالها إلى مجرّد أداة سيطرة طبقيّة. بسمارك ونابليون الثالث هما مَن تمّم الثورة البرجوازيَة، بإكساب الدولتين الألمانيّة والفرنسيّة، مضموناً اجتماعيّاً. تبعية البرجوازيّة الألمانيّة لجهاز الدولة البروسيّ التي ينتقدها ماركس وإنغلز بشكل حادّ في «العائلة المقدّسة» و«الأيديولوجيا الألمانيّة» لم تكن مجرّد دليل على التأخّر الألمانيّ، كانت بمثابة تمهيد للزمن اللاحق، الزمن حيث ستقوم الدولة، التي لا تختزل إلى مجرّد تابع للبرجوازيّة، بـ«توحيد» ألمانيا وتصنيعها وإيجاد الإطار الدولتيّ أيضاً، ولاحقاً، لتطوّر الاشتراكيّة - الديمقراطيّة الألمانيّة نفسها، الشكل الحزبيّ السياسيّ الجماهيريّ الأوّل لـ«الماركسيّة».

«الدولة» هي نقطة ضعف فترة «الأيديولوجيا الألمانيّة»، ويتّصل بهذا حصر ماركس المبارزة بين أولويّة «صراع الطبقات» أو بين أولويّة «صراع الأمم»، منحازاً للأولى. نقطة الضعف هذه ستسمح في المقابل بتحرير ماركس وإنغلز من «هاجس الدولة» عند تعبيرهما عن المشروع البروليتاريّ «الشيوعيّ - الديمقراطيّ». سيجري التعبير عنه كربطٍ لتحرير العلاقات الاجتماعيّة بالتحقيق الاجتماعيّ للأفراد: «تملّك» كل فردٍ المضمارَ الاجتماعيّ الضروريّ لتحقّق فاعليّته الحياتيّة، عمله الحيّ (وهو ما سيطوّره ماركس في مرحلة «رأس المال» بإضافته إلى جملة التعارضات التي يشتغل عليها التعارض بين العمل الحيّ والعمل الميت، ولزوم تحرير العمل الحيّ من العمل الميت).

وبالتّداخل مع هذا، تقديم تصوّر للعمل الحيّ المحرّر، على أنّه سيلغي تباعاً الانقسام بين العمل اليدويّ والعمل الذهنيّ، أو أنّه سيسمح للشخص بأن ينتقل في يومٍ واحد «بين الصيد، وصيد الأسماك، والعمل بالفلاحة». هنا يظهر، محور آخر لـ«الأيديولوجيا الألمانيّة»: لئن كان البشر ينتجون شروط عيشهم واستمرارهم بتحويل الطبيعة، فإنّ «العمل» ليس القيمة الأساسيّة للحياة الإنسانيّة، بل إنّ الحياة قيمةٌ لنفسها، بشرطين متكاملين: أن تكون منتجة، وأن تكون «معيشة».

بالقدْر نفسه الذي يسدّد فيه كتاب «الأيديولوجيا الألمانيّة» اللكمات لـ«الهيغليّة الشابّة»، فإنّه يستعيد مفهوم «الرفع»17 (التجاوزيّ) الهيغليّ بامتياز، الذي يسم عمليّة تجاوز التناقض، حيث العناصر المتعارضة يجري توكيدها وإلغاؤها في آن. «المجتمع المدنيّ» هو ما يجري تعريضه لعمليّة «الرفع التجاوزيّ» في «موضوعاتٍ حول فويرباخ» وفي «الأيديولوجيا الألمانيّة»: في «النصَّين» هناك فكرة ثابتة، التعارض بين المجتمع المدنيّ، نتاج التاريخ الحديث، وبين الشيوعيّة.

الشيوعيّة هي الرفع التجاوزيّ للمجتمع المدنيّ. المجتمع المدنيّ هو مجتمعٌ بالمقلوب، الشيوعيّة هي قلبٌ للمجتمع المدنيّ، هي المجتمع الفعليّ. في دراسة مفتاحيّة حول «الأيديولوجيا الألمانيّة»18، يميّز جاك تكسييه بين مصطلحَي «الطبيعيّ» و«شبه الطبيعيّ» في النصّ. «شبه الطبيعيّ» هو العنصر الذي يخيّم على علاقات الملكيّة والإنتاج وكلّ أشكال الحياة الاجتماعيّة ما قبل الرأسماليّة، وبشكل أكثر تناقضاً في المجتمع المدنيّ = البرجوازيّ. «شبه الطبيعيّ» هو ما نعتقده خارج السيطرة، وعشوائيّاً بطبيعته. الأفراد في هذه الحالة ليسوا أحراراً بمقدار ما أنّ القوى المنبثقة من التعاون فيما بينهم تظهر لهم على أنّها لا يمكن التحكّم بها، على أنّها «شبه طبيعيّة»، لا مناص من الخضوع إليها. الشيوعيّة كـ«رفع تجاوزيّ» للمجتمع المدنيّ، يجري تصوّرها في «الأيديولوجيا الألمانيّة» كحياةٍ اجتماعيّة محرّرة من «شبه الطبيعيّ»، من خلال «التضامن الضروريّ لتفتّح كلّ واحد».

يشكّل ربط علاقة «الشيوعيّة» بما قبلها بمفهوم «الرفع التجاوزيّ» الهيغليّ مشكلةً أساسيّةً في «الأيديولوجيا الألمانيّة» عقلانيّة زائدة نتيجتها «اللامعقول»... سيجري التخفّف من منظار «الرفع التجاوزيّ» إلى حدّ معيّن ومتقلّب لاحقاً، بعد 1848، من خلال مزاوجة ماركس وإنغلز المفهوم الذي قاما بتبنّيه وتحويله في شبابهما، الشيوعيّة، بمفهوم «الاشتراكيّة» الذي يتضمّن لزاماً، إنتاج تصوّرات أقلّ «طبيعانيّة» وأقلّ هيغليّة في آن حول الدولة. ما يبدو كليّ الراهنيّة في المقابل في مفهوم «الشيوعيّة» ضمن «الأيديولوجيا الألمانيّة» هو تقديمها على أنّها: Verkehrsform أي شكلٌ للتعاون الاجتماعيّ، لكن أيضاً شكلٌ للتجارة الاجتماعيّة. شكل لـ«التجارة» يكون فيه الأفراد، من حيث هم منتجون وأفراد، حاضرون مباشرةً فيه، وليس بواسطة «القوى شبه الطبيعيّة» التي ينتجونها بأنفسهم وتسلبهم أنفسَهم وإنتاجهم.

العددان ٢٠-٢١ - ٢٠١٨

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.