العددان ١٨-١٩ خريف ٢٠١٧ / شتاء ٢٠١٨

أيقظتْني مخالبُ قطٍّ من ضَباب

النسخة الورقية

لالي التي جرّبت الحياة كثيراً، غمرت نفسها في العالم، مضتْ بعيداً في مغامرة الروح بلا خوف أو وجل. هي شخصيّة نيتشويّة بالسليقة، من أولئك الذين غمسوا أقدامهم في طين الأرض ومضوْا بعيداً في معانقة الحياة. وهي ليست من أولئك التجريديّين المنظّرين، أصحاب النظريّات الواضحة التي تمضي بهم إلى الموت الشعريّ.

هي أيضاً من النّوادر بين شعراء العالم الثالث ممّن أفْلتوا، رغم قربهم من الماركسيّة، من أسْر الأيديولوجيا ومضَتْ إلى ذاك الالتزام الكيانيّ الشامل بالعالم وبالحياة. أفْلتَتْ بحدْسها الشعريّ من الاطمئنان الذي يستشعرُه أولئك المؤدلجون ذوو القناعات والأفكار النهائيّة التي لا يتطرّق إليها الشكّ، الماسكون بالحقيقة التي تمضي بهم إلى ضمور قشرة المخّ.

شِعرُها غابة متحوّلة الأضواء، غابةٌ غامضةٌ أو ساحة غامضةٌ، كما تقول هي، أسرتْها من يوم دخلتْها. نتلقّى شعرها حدساً كالموسيقى نحسّها في كياننا بعمق دون أن نحيط بكنْهها. سردها واقعٌ حلميّ أو قلمُ حلمٍ واقعيّ. صوَرها الشعريّة تمضي منسابة بين الواقع والخيال، هي صوَرٌ مدهشة ومتحوّلة بيسْر بين عوالم ثقافيّة متباعدة من أشعّة إكس والليزر إلى ميثولوجيّات الشّمال.

تبدو كما لو أنّها في تواصل كهرومغناطيسيّ مع نسائها الممطرات كما تصفهنّ. نساؤها الغامضاتُ آلهةٌ أسطوريّة وكاهناتٌ وقدّيساتٌ مثل ميلوزين إلهةِ ضباب البحر والقدّيسة هيلويز وإيريس العذراء الميثولوجيّة ذات الأجنحة الملوّنة والتي نشأ قوس قزح من أثر أقدامها وهي نازلةٌ من الأوليمب.

لكنْ من هي لالي ميلدور؟ ومن أين جاءت هذه الشاعرةُ المتفرّدة بين أبناء جيلها؟ وُلدتْ لالي في مدينة أيدن ونشأت في إسطنبول. طوّفت في القارّات الخمس: هامتْ في أوروبا وعاشت في بلجيكا تجربة زواج أسقطتْها في وَهدةٍ على حافّة المرض النفسيّ، تجربة كان لها تأثير حاسم في مستقبل حياتها. وقصيدة «أرض النّيران» شهادة شعريّة لهذه الحقبة.

درست لالي تخصّصات متفرّقة وفي مدُن متباعدة في فرنسا وإنكلترا وأميركا. بدأت بالهندسة وانتقلت إلى الآداب، كما درست الاقتصاد والبيولوجيا وعلم اجتماع الثقافة والفنّ، وهي كثيراً ما تضمُّن أشعارَها مصطلحاتٍ من العلوم من كيمياء وفيزياء ورياضيّات. كما عملت فترة من حياتها في الصحافة وكتبت مقالاتٍ في التّنظير الشعريّ.

واليوم تعتبر لالي من أهمّ أصوات الشعر التركيّ الحديث. لها عشرة مجاميع شعريّة وكتابٌ نثريٌّ واحدٌ بعنوان «بيزنطيّة». نُقل شعرُها إلى لغات عدّة منها مختارات «موسيقى الماء» إلى الإنكليزيّة وقد صدر في دبلن، ولها في الفرنسيّة مجموعتان «هكذا تتكلّم بنت المطر» وثانية بعنوان «ذهبت كثيراً لصيد أيلة».

من شعرائها الأثيرين رامبو، ريلكة، إيزرا باوند وت. س. إليوت. تحترف الكتابة وتعيش في إسطنبول.

خالد النّجار

في الزمن الجميل

لا تحدّثوني عن الحبّ. فقد بكيت هذه الكلمة.

هناك مسافة تحطّمني. بقايا الرّماد تلك والحروق

التي كنتُ قد خبرْتها في الجحيم

على كلّ حال ها أنا أحمل الآن قفّازاتٍ من التويل البنفسجيّ

قلت في داخل كلّ امرأة استعارٌ نجميّ عظيم

وأنا أنام بين صورتين واحدة تبنيني والأخرى تهدمني

ولا أعرف إلى الآن أيّهما تهدمني. بيد أنّ ذاك الذي يبنيني

تجلّى لي في ضوء السّنوات. تجلّى بين جزر

المرجان والعقيق والطواويس وزيّن مدينتي الخربة مثل بجعة

فضيّة. وبيتي بدونه خاوٍ الآن

موسيقى الماء

ننام في الزجاج. الفراشات/ العقارب

تتطاير من حولي ها هي تقترب منّي الآن.

رائحة الكلوروفيل

مع ذلك لا شيء يهمّ. والآن لم يعدْ هناك شيء.

في أوريسا قيثارةٌ أخرى تعزف مثل ذكرى

تسيل كالماء. أيقظتْني مخالب القطّ

قطّ من ضباب. في جلبة كريستاليّة

موت فراشة من زجاج. أهو قلبه هو؟

أم قلبي أنا؟ هناك حيث تتلاقى المحيطات

طائر نحام يصيح، مثل بداهة، لا يوجد شيء.

قلت لا يو جد شيء. زهور الأوركيدة / البنفسج / الفهود

تعجّ من حولنا ونحن ننام في كتَلٍ من الزّجاج

أيّتها العاصفةُ البعيدة

أنا خائفة

منك

خائفة من غيابك

من تقلّبك الذي نعدّه أماناً

أيّتها العاصفة البعيدة

لا أفهم كيف يكون

هذا البُعد الهَشُّ قريباً أيضاً

وهو في الآن صورة لقالِقَ طائرة

وليزر

معلن للزّوابع التي تصطحبك

هذه الحياة التي بلا أمل حيث لا تُسكب

أيّ دمعة تجعلني أقول بالأبيض

بياضاً شديد النّعومة

إنّ مياههم تكسر المرآة

إلى شظايا زجاجيّة

وفي داخلي حركة مكّوكيّة لسيول صغيرة وشقوق

عندما تأتي

ينهار كلُّ شيء ويتكسّر

وعبْر الأبواب

يجيء طوفان مفعمٌ بكتَل الجليد والزّجاج المكسور

وفي الجدران طقطقة حلميّات

وفي الرّدهة تأثير دوبلر

عشق رجل

يقترب منك بنعومة

مثل دخان سيجارة

أيّها الليثيوم غبارك الذهبيّ علق بوجهي

أحمل إليك مرآةً فولاذيّةً ذات حواف حادّة أيّتها العاصفة البعيدة

لآخذ شكلك الخاصّ

ومن أعماقك آخذ قواك الزجاجيّة

ذاك أنّ للكبرياء أيضاً شبيهها

أيّتها العاصفة البعيدة

سأكتبك يوماً

وستكون هناك مرايا ثقيلة

لا تعكس سواك أنت

وجمال كهربائيّ

يجرح الأذنيَن بالبرافين

سأكتبك يوماً

دون أن أنسى أنّه

لا بدّ من الوقت لجسدي البائس

حتى يتهّيّأ للبروق

سأسجّل ذاك الغبار الذي بلا بُقع

شرارة الغبار تلك

ذاك البركان الذي في الجزيرة المتجمّدة

...علينا ألّا ننتظر أبداً

ها هي ساعة الارتطام بين شبحَي باخرتين هادئتين

أنام ملتحفة بدرعي

بيد أنّي وفي الصباح أجد حربة هنا في قلبي

أيّتها العاصفة البعيدة

أقولها لك للمرّة الأخيرة

صباح الليالي سوف يأتي

كصباح حيث

لن أجد في فراشي نبيذ جزيرة لايت

ولكنْ مثل نهر يفيض على ضفافه

سيكفّ قلبي حينئذ عن النبض

وفي سمعك فقط سيستمرّ ذاك الحفيف

لأجنحة غادرت لئلّا تعود.

أفرّ من نارك الباردة

التي بسببها تتحوّل ذاكرتك إلى جليد

طامرة هموم قلب نابض

باخرة تتحوّل إلى كرة نار

وكلّ ما كان تحوّل الآن إلى بقايا متحجّرة

أحياناً أفكّر أيضاً:

ما الذي بقي ممّا كنته؟

أطراف الأعصاب التالفة

الشرايين المشوّهة

وربّما ساق خشبيّة

بقيت صورة بجعة ميتة في الذاكرة

وفي داخلي هناك مدينة وكلّ نجومها لا تزال مطفأة

يا أورسالابندة!

إنّه طائر البطريق وقد انبثق من الدخان

في لون الماء نهاية الكآبة

ومن الممكن أيضاً

أن يتشكّل. فيما بيننا طبقاتٌ من السمّ

...ذاك الرماد الأبيض هو الحقد

الفارس الجنَويّ أندريا دوريا

مهندس متذبذب حول تعارض المرأة مع الرّجل

تطلّع إليه هو الآن مدفون تحت الرمال

ومتى تكون هناك هزّة مستمرّة

تكون له لحظتها طاقة مرعبة

تُحدث زلزالاً

شيئاً مثل الجزيئات الذرّيّة

مياهٌ تُفرغ بالشّطف موجاتٍ من العواطف

أحياناً إن كانت لا تزال تسجّل بعض الهزّات

ذاك الصدام الذي يذرع حدود الألم الطويلة

يسحبه الإنسان نحو التاريخ

شيءٌ مريبٌ يتعفّن

كائناتٌ باردةٌ تخترق العظم

نقطة الصّفر فوق خرائط الألم

موت من الداخل رقصةٌ جنائزيّة

إيقاع معدنيّ رقص مروّع

وأنا أحمل

حول خصري نطاقاً أسود من المجهول

هي حربٌ داخلَ الحروب

حرب المرأة والرجُل

الكراهيةُ تقول تراجعْ تراجعْ

والحبُّ يقول اقترب اقترب

أنا حرب بحريّة

لتكنْ هذه الذّكرياتُ التي لا تزال طافية فوق أشعّة غاما

صادرة عنك

العددان ١٨-١٩ خريف ٢٠١٧ / شتاء ٢٠١٨

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.