العددان ١٨-١٩ خريف ٢٠١٧ / شتاء ٢٠١٨

جردة حساب تاريخيّة

النسخة الورقية

bid1819_malaf_image010_bw.jpg


S. A. Smith, Russia in Revolution: An Empire in Crisis, 1890-1920, Oxford: Oxford University Press, 2017.

كان من الطبيعيّ أن تشهد سنة ٢٠١٧، سنة الذكرى المئويّة لثورة ١٩١٧ الروسيّة، صدور عدد هامّ من الكتب المخصّصة لذلك الحدث المفصليّ في تاريخ القرن العشرين، لا بل في التاريخ الحديث بوجهٍ عام. باللغة الإنكليزيّة وحدها، صدرت دزّينةٌ من الكتب بين عناوين جديدة وإعادة إصدار لعناوين قديمة. قسمٌ من العناوين الجديدة سياسيّ، يقوم على التعليق على الثورة أو إعادة سرد حكايتها بشكل تبسيطيّ بالاستناد إلى مصادر ثانويّة ولغاية سياسيّة تنتسب على العموم إلى التاريخ الأسطوري، الذي تشبه روايته التي لا تتغيّر على مرّ العقود سيرة المسيح أو السيرة النبويّة لدى المؤمنين من المسيحيّين والمسلمين. ومن غير المستغرب أن يكون أغلب مؤلّفي هذا الصنف من الكتب من غير المؤرّخين الأكاديميّين، وأن يكون معظمهم لا يحسن اللغة الروسيّة.

أمّا القسم الآخر من الإصدارات، فكُتب تاريخٍ معظمها أكاديميّ، تقوم على مجهودٍ بحثيٍّ لا يقتصر على المصادر الثانويّة باللغة الإنكليزيّة، بل يستند إلى مصادر أوّلية وثانويّة باللغة الروسيّة، حتى لو كانت في أغلب الحالات كتبَ توليفٍ أكثر من كونها أبحاثاً جديدة، تعيد النظر في الثورة الروسيّة بمناسبة ذكراها المئويّة من خلال المسافة الزمنيّة النوعيّة التي باتت تفصلنا عن الحدَث، كما في ضوء المصادر العديدة التي أتيحت للمؤرّخين من جرّاء فتح الأرشيف الروسيّ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي قبل ربع قرن. وإذا كان العقد الأوّل للثورة الفرنسيّة لا يزال، بعد انقضاء أكثر من قرنين، محطّ خلافات بين المؤرّخين، دع عنكم الجمهور العامّ، وهي خلافات سياسيّة الجوهر تتركّز بصورة خاصّة على تقييم مرحلة سلطة اليعاقبة (١٧٩٣ - ١٧٩٥)، فالعقد الأوّل للثورة الروسيّة حريّ بأن يثير خلافاتٍ مماثلة، بل أكثر حدّة، إزاء سلطة البلاشفة. ذلك أنّه إذا كانت القضايا التي هي في صميم العقد الأوّل للثورة الفرنسيّة لا تزال تشغل واقعنا السياسيّ المعاصر، فكم هي أحرى بإشغالنا تلك التي هي في صميم العقد الأوّل للثورة الروسيّة. محصّلة ذلك أنّ الكتب الجديدة سياسيّة بامتياز، كما يسهل توقّعه. أمّا كتب التاريخ البحثيّة الجديدة فينتمي أغلبها إلى التيّار الأيديولوجيّ اليمينيّ السائد في الدراسة الأكاديميّة لروسيا باللغة الإنكليزيّة، وهي تلتزم الهجاء إزاء الحقبة المذكورة.

كتاب مختلفٌ عن السائد

هذا وثمّة استثناءٌ هامّ في المجال الأكاديميّ، يختلف عن التيّار السائد بجلاء لكن بدون أن يعيد اجترار التاريخ الأسطوريّ. وهو كتاب يتوخّى الموضوعيّة بممارسةِ نقدٍ متوازن لتجربة البلاشفة من منطلق التعاطف مع فكرة الثورة وأماني الجماهير التي انخرطت فيها. هذا الكتاب هو «روسيا في ثورة: إمبراطورية في أزمة، ١٨٩٠ - ١٩٢٨» لمؤلّفه إس. أي. (ستيفن أنتوني) سميث١. وهو كتابٌ من حوالي ٤٥٠ صفحة، يستند إلى كمّ عظيم من المصادر باللغتين الإنكليزيّة والروسيّة فضلاً عن بعض اللغات الأخرى. مؤلّفه خبيرٌ معروف بالثورتين الروسيّة والصينيّة، درس في جامعات موسكو وبكين وشانغهاي، وهو الآن باحث في جامعة أكسفورد التي كان قد بدأ فيها دراسته الجامعيّة في أوائل السبعينيّات. بدأ اهتمام سميث بالثورتين الشيوعيّتين من ماضٍ ثوريّ ماركسيّ، مرّ بتيّار منشقّ عن التروتسكيّة ومن ثمّ بالاشتراكيّة التحرّريّة، وما زال يساريّاً لا يُخفي تعاطفه النقديّ مع اليسار، بما فيه اليسار الجذريّ. ولسميث مؤلّفات عديدة، منها دراستان ميدانيّتان شهيرتان إحداهما لحركة المصانع في عامَي ١٩١٧ و١٩١٨ في بتروغراد (اسم سانت بطرسبرغ بين عامَي ١٩١٤ و١٩٢٤) وأخرى للحركة العمّالية في شانغهاي حتى سحقها عام ١٩٢٧.

وينعكس توجّه الكاتب اليساريّ في اختياره تركيز بحثه على العقد الأوّل للثورة الروسيّة من حيث ما يتضمّن ذلك الخيار من إقرارٍ بوجود فارقٍ نوعيّ بين ذلك العقد والمرحلة الستالينيّة التي تلته، بخلاف علم التاريخ المعادي للثورة وللفكّر الشيوعيّ بوجهٍ عامّ الذي يشدّد على فكرة التواصل الحتميّ بين البلشفيّة / اللينينيّة والستالينيّة، باعتبار الثانية هي البنت الشرعيّة للأولى. وحيث ينتمي سميث إلى تقليد التاريخ الاجتماعي، فإنّه يقدّم لوحةً أخّاذة لتحوّلات روسيا منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى انفراد ستالين بالسلطة، بكافّة أبعاد التحوّل: الاقتصاديّ والاجتماعيّ والثقافيّ وبالطبع السياسيّ، وغيرها. ويشير المؤلّف في مستهلّ كتابه إلى أنّ الحرب تلعب دوراً هامّاً في روايته إذ إنّ المرحلة الزمنيّة التي تناولها شهدت حروباً عدّة، من الحرب بين روسيا واليابان (١٩٠٤ - ١٩٠٥) إلى الحرب العالميّة الأولى (١٩١٤ - ١٩١٨) ومن ثمّ الحرب الأهليّة التي تلت الثورة الروسيّة (١٩١٨ - ١٩٢١ بصورة أساسيّة). بل يلاحظ أنّ كافّة ثورات القرن العشرين الاشتراكيّة نتجت من حروب، ولتلك الملاحظة أهميّة إذ سوف يعود إليها في خلاصة الكتاب.

في الفصل الأوّل، يصف سميث «جذور الثورة» من ثمانينيّات القرن التاسع عشر حتى ثورة ١٩٠٥، مبيّناً كيف أنّ النظام القيصريّ شهد أزمةً متصاعدةً من جرّاء التحديث الاقتصاديّ والاجتماعيّ، وقد بلغت ذروتها بتأثيرٍ من انخراط روسيا في الحرب العالميّة الأولى. ويصف تطوّر الإمبراطوريّة في تلك المرحلة، وله أوجهٌ شبه عديدة بتطوّر الإمبراطوريّة العثمانيّة التي انهارت هي أيضاً بنتيجة الحرب ذاتها، لاسيّما في تشابه الترويس والتتريك. كما يصف الدولة القيصريّة وعلاقتها بالكنيسة الأرثوذكسيّة، ناقداً وصف بعض الكتّاب لها بالدولة البوليسيّة إذ يرى أنّها كانت أضعف وأكثر هشاشة، تنظيميّاً، من متطلّبات دولة بوليسيّة. ثمّ يستعرض وضع الزراعة والفلّاحين وتطوّر الرأسماليّة الصناعيّة، بما فيه تركّزها الفائق (وهي سمةٌ معروفة رأى فيها ليون تروتسكي نتاجاً بارزاً لما سمّاه «التطوّر المركّب»). ثمّ يروي الأزمة التي سوف تؤدّي إلى انفجار ثورة ١٩٠٥ على خلفيّة هزيمة الدولة القيصريّة في حربها مع اليابان.

وفي الفصل الثاني، يتناول سميث المرحلة التي بدأت بإصلاحات عامّ ١٩٠٦ التالية للثورة، ومن ثمّ الردّة القمعيّة الأتوقراطيّة التي ما لبثت أن عقبتها وأجهضتها، وصولاً إلى اندلاع الحرب العالميّة وما نجم عنها من تحوّلاتٍ اقتصاديّةٍ وسياسيّةٍ في الإمبراطوريّة ستؤدّي إلى الانفجار. كذلك يناقش حالة الأحزاب السياسيّة وعلى الأخصّ الأحزاب الثوريّة. تلي ذلك في الفصل الثالث دراسة سنة ١٩١٧ في السيرورة المؤدّية من ثورة شباط / فبراير حتى ثورة أكتوبر، فيصف نشوء ازدواجيّة السلطة مع إعادة تشكيل مجالس «السوفيات» التي سبق أن تشكّلت في ثورة ١٩٠٥. ويشير في هذا الصدد إلى أن المجالس العمّالية لم تنظر لنفسها كشكل أعلى من الديمقراطيّة، كما وصَفها لينين، بل كانت تصبو إلى ديمقراطيّة برلمانيّة وتطالب بحماسة بانتخاب جمعيّةٍ تأسيسيّة، إذ يؤكّد المؤرّخ أنّ شعار «كلّ السلطة للسوفيات» الذي اشترك فيه البلاشفة مع أقسام من المناشفة والاشتراكيّين الثوريّين والأناركيّينكانت الغاية منه إنهاء الائتلاف الحكوميّ القائم مع البرجوازيّة وتشكيل حكومةٍ تستند حصراً إلى الأحزاب الممثّلة في المجالس بغية الدعوة إلى انتخاب الجمعيّة التأسيسيّة.

هل كانت الثورة انقلاباً؟

بعد وصف أحداث تلك الأشهر الثوريّة الشهيرة، لاسيّما أيّام تموز / يوليو ومحاولة كورنيلوف الانقلابيّة الفاشلة، يحلّل سميث تطوّر الأوضاع الطبقيّة والقوميّة والنسائيّة في تلك الأشهر وصولاً إلى «الاستيلاء على السلطة» في تشرين الأوّل / أكتوبر. في صدد هذا المنعطف الأخير، يكتب: «غالباً ما يجري وصف الاستيلاء على السلطة كأنّه انقلاب تآمريّ على حكومة ديمقراطيّة. كانت له بالتأكيد سمات انقلاب، لكنّه كان انقلاباً تمّ الإعلان عنه بكثافة، وقد أسقط حكومةً لم تكن منتخبة ديمقراطيّاً». ويشير إلى مسؤوليّة «الاشتراكيّين المعتدلين» (أي يمين الأحزاب الاشتراكيّة) في تأجيل انعقاد مؤتمر السوفيات من ٢٠ إلى ٢٥ تشرين الأول / أكتوبر، الأمر الذي لولاه لجرى الاستيلاء على السلطة بقرارٍ من المؤتمر مثلما كان يطالب به تروتسكي، وليس قبل انعقاده كما كان يبغي لينين.

الفصل الرابع مخصَّص للسّلطة البلشفيّة والحرب الأهليّة. ويبدأ بالأزمة التي نجمت عن قرار البلاشفة تشكيل حكومة بلشفيّة خالصة في البدء، الأمر الذي حدا بخمسة بلاشفة على الاستقالة من الحكومة («مجلس مفوّضي الشعب») لقناعتهم بأنّ انفراد البلاشفة بالسلطة سوف يؤدّي لا محال إلى «الإرهاب السياسيّ» حسبما قالوا. ثمّ يروي سميث التطوّرات اللاحقة بما فيها دخول ممثّلين عن يسار الاشتراكيّين الثوريّين إلى الحكومة لفترةٍ وجيزة، على الرّغم من معارضتهم لعدم خضوع الحكومة لقيادة السوفيات ولقيام البلاشفة بمنع الصحافة «البرجوازيّة» من الصدور. ويروي بعد ذلك تجربة انتخاب الجمعيّة التأسيسيّة تلبيةً للمطلب الشعبيّ، وكيف تمّ حلّها بعدما جاءت الانتخابات بأغلبيّةٍ من معارضي البلاشفة، فينتقد حجّة القيادة البلشفيّة في هذا الصّدد. ويصف سميث استيلاء البلاشفة على مجالس السوفيات ذاتها في سائر أنحاء البلاد من خلال حلّ المجالس التي لم تكن لهم فيها الأكثريّة، بل حازت على الأغلبيّة فيها أحزابٌ وصَفَها البلاشفة بأنّها من «البرجوازيّة الصغيرة»، وهو وصف ملازم لادّعائهم احتكار تمثيل الطبقة العاملة. فيصف السيرورة التي أدّت بعد حين إلى إرساء دولة الحزب الواحد.

ويخصّص سميث صفحات عديدة ومثيرة للحرب الأهليّة والمجهود الجبّار الذي تطلّبته من الحكم الثوريّ الجديد، وكيف ساهمت الحرب الأهليّة مساهمةً أساسيّةً في توطيد السلطة الثوريّة من خلال بناء «جيش أحمر» بلغ تعداده خمسة ملايين ونصف المليون، وغدا يشكّل قاعدة الحكم الاجتماعيّة الرئيسة على خلفيّة ضمور الطبقة العاملة ومعارضة قسم منها للبلاشفة. كذلك استطاع الحكم البلشفيّ من خلال الحرب الأهليّة تحييد قسم كبيرٍ من الفلّاحين الذين كانوا معادين له، والذين كان عداؤهم للرجعيّة القيصريّة («البيض») ممثلة الأرستقراطيّة العقاريّة البغيضة أكبر من عدائهم للبلاشفة، لاسيّما بسبب تعلّقهم بالأراضي التي استولوا عليها في إطار الثورة. يضاف إلى ذلك أنّ الاستقطاب الحادّ بين «الحمر» و«البيض» قلّص كثيراً من قدرة الأحزاب الاشتراكيّة المعارِضة للبلاشفة على أن تؤثّر سياسيّاً.

ويصف سميث تطوّرات المسألة القوميّة على خلفيّة الثورة والحرب الأهليّة، مبيّناً التّناقضات في السياسة البلشفيّة، والخلافات بين البلاشفة أنفسهم. وقد كان لينين أكثرهم حرصاً على حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، بينما رأى الكثير من رفاقه أنّ لمصلحة الحكم الثوريّ أولويّةً مطلقةً على ذلك الحقّ. والحال أنّ الدولة البلشفيّة، وعلى الرّغم من تناقضاتٍ عديدةٍ في هذا المجال، أعادت بناء الإمبراطوريّة الروسيّة على قاعدة منح شعوبها حقوقاً أعلى بكثير ممّا كان لديها في العهد القيصريّ، أو ممّا كان للشعوب في الإمبراطوريّات الأخرى متعدّدة القوميّات كالعثمانيّة والنمساويّة - المجريّة اللتين انهارتا إثر الحرب العالميّة الأولى.

تحوّلات «شيوعيّة الحرب»

تلي ذلك أقسامٌ تصف درجة العنف القصوى التي شهدتها الحرب الأهليّة، وتطوّر «الإرهاب» في ظلّ الحكم البلشفيّ، والإرهاب صفة أطلقها الحكم نفسه على إجراءاته مشبّهاً إيّاها بعهد الإرهاب اليعقوبيّ أثناء الثورة الفرنسيّة، الذي رأى فيه لينين مثالاً يجب الاحتذاء به. وقد ساهم الزعيم البلشفيّ مساهمةً رئيسيّةً في الحؤول دون إخضاع جهاز الأمن (تشيكا) للرقابة والقانون. هذا وقد كان العنف الذي ساد تلك المرحلة هو جزئيّاً من نتائج العنف والمجازر الهائلة التي شهدتها الحرب العالميّة الأولى، وجزئيّاً نتاج انحلال السلطة وانفلات التوتّرات الاجتماعيّة والصراعات بين شتى أنواع الجماعات. أمّا الإرهاب البلشفيّ فقد ترافق مع القضاء على المعارضة الاشتراكيّة وصعود بيرقراطيّةٍ متضخّمة تجلّت في أنّ عدد موظّفي الدولة ارتفع من مليونٍ في العام ١٩١٧ إلى مليونين ونصف المليون بعد أربع سنوات، ومن ٦،٤ بالمئة من السكان في عام ١٩١٣ إلى ١٣،٥ بالمئة في عام ١٩٢٠. ولا تنفصل «البقرطة» تلك عن تفضيل البلاشفة، ولاسيّما لينين، للإدارة المركزيّة السلطويّة للاقتصاد على حساب الرقابة العمّاليّة ودور النّقابات فيها. وهي المطالب التي خاضت «المعارضة العمّاليّة» (من أبرز قادتها ألكسندرا كولونتاي، أشهر النساء القليلات جدّاً في القيادة البلشفيّة) نضالاً مريراً من أجلها داخل الحزب البلشفيّ إلى أن تمّ حلّها ومنع التكتّلات داخل الحزب سنة ١٩٢١، وهو قرارٌ تمّ وصفه بالمؤقّت إلّا أنّه غدا سلاحاً رئيسيّاً في هيمنة ستالين على الحزب.

فصل الكتاب الخامس مخصّص لمرحلة سمّيت «شيوعيّة الحرب». فيصف تعبئة القدرات الصناعيّة لأغراض الحرب ضدّ «البيض» المدعومين من الدول الإمبرياليّة، مبيّناً كيف سمح ذلك بتلبية حاجات الجيش الأحمر، لكنّه أدّى إلى مشاكل اقتصاديّة جمّة وساهم إسهاماً كبيراً في تسريع بقرطة الدولة. وقد نتج من تلك المرحلة صعود التذمّر بين العمّال والفلّاحين، وهو تذمّرٌ عبّرت عن أوجّهِ انتفاضة بحّارة وجنود قاعدة كرونشتادت سنة ١٩٢١، احتجاجاً على قمع السلطة البلشفيّة للإضراب العامّ الذي نفّذه عمّال بيتروغراد. وقد جرى قمع الانتفاضة قمعاً دمويّاً مع اتّهامها بأنّها مؤامرةٌ رجعيّةٌ بينما كانت في الحقيقة انتفاضةً يساريّة، تطالب بسلطة السوفيات بدون البلاشفة وهو شعارٌ انتشر في ذلك الوقت. ويؤكّد سميث أنّه كان هناك مجالٌ للتفاوض مع المتمرّدين، إلّا أّن الحكم البلشفيّ لجأ إلى القمع بسبب خوفه من استشراء التمرّد. ويرى سميث أنّ مرحلة «شيوعيّة الحرب» كانت حاسمة في تحوّل الدولة البلشفيّة إلى دولة بيرقراطيّة قمعيّة معادية للديمقراطيّة وقائمة على دكتاتوريّة الحزب الواحد.

أمّا الفصلان اللاحقان والأخيران فهما مخصّصان لمرحلة «النيب» («السياسة الاقتصاديّة الجديدة») التي بدأت سنة ١٩٢١ وامتدّت طوال العشرينيّات حتى قضاء القيادة الستالينيّة عليها بدءاً من عام ١٩٢٨. فيتناول الفصل السادس تلك المرحلة من زاوية السياسة والاقتصاد بينما يتناولها الفصل السابع من زاوية المجتمع والثقافة. في المجال الاقتصاديّ، أدّت «النيب» إلى الانفراج والعودة إلى الاستقرار بعد سنوات «شيوعيّة الحرب» العجاف. ويصف سميث بإسهابٍ التحوّلات في الزراعة والصناعة وشروط العمل، ومن ثمّ تفاقم الصراع داخل القيادة البلشفيّة على خلفيّة تعزيز تمسّك الحزب باحتكار السلطة. والحال أنّ البلاشفة قرّروا عدم إرفاق الإصلاح والانفراج الاقتصاديّين بإصلاحٍ وانفراجٍ سياسيّين.

مداواة الدّاء بالدّاء

يصف سميث تبلور نظام النخبة البيرقراطيّة (نومنكلاتورا) من خلال تولّي الحزب كافّة التعيينات الهامّة في مؤسّسات الدولة، وكيف ترافق ذلك مع انتساب أعدادٍ كبيرة من «الأمّيّين السياسيّين» (حسب تقرير رسميّ صدر في تلك الفترة) إلى الحزب الحاكم. فيتناول المؤرّخ إدراك لينين المتعاظم لخطورة البقرطة، مبيّناً كيف أنّ مؤسّس البلشفيّة رأى أن يواجه تلك البقرطة ليس بالدقرطة، بل بتوكيل لجنة الحزب المركزيّة ومعها هيئة تفتيش مستحدثة مسؤوليّة محاربتها، وهو في ذلك كمن أراد محاربة الدّاء بالتي كانت هي الداء. ويستعرض الفصل السادس أيضاً التطوّرات التي حلّت في ظلّ «النيب» في الأرياف، التي بقيت غالبيّتها مناهضة للحكم البلشفيّ، وفي مسألتَي السياسة الخارجيّة والقوميّات مع تشكيل الاتحاد السوفياتي. ويخلص سميث إلى أنّ «النيب» عجزت عن تلبية حاجات البلاد الاقتصاديّة وكان لا بدّ من تسريع التصنيع، غير أنّ ذلك لم يحتّم اختيار الطرق العنيفة والإرهابيّة التي سوف يستخدمها ستالين بعد أن كان قد تحالف لسنوات مع يمين الحزب ضدّ المعارضة اليساريّة التي طالبت بمنعطف تصنيعيّ.

وقد تكون الأمور التي يتناولها الفصل السابع المخصّص للمجتمع والثقافة بعد الحرب الأهليّة هي التي أعطت العالم أجمل صورة عن الدولة البلشفيّة الفتيّة، صورة توحي بوفائها إلى اليوتوبيا التي استلهمها الثوريّون الذين ناضلوا ضدّ النظام القيصريّ. فعلى الرغم من تفاقم البقرطة في البلاد وتصاعد التمايز الاجتماعيّ في المدن والأرياف، وعلى الرغم من أنّ الحكم البلشفيّ أَولى أهمّيّةً أكبر لما سُمّي «التنوير السياسيّ» ممّا أولى التعليم حيث إنّ نسبة نفقات التعليم في ميزانيّة الدولة في عامَي ١٩٢٤ - ١٩٢٥ كانت أقلّ قليلاً ممّا كانت عليه سنة ١٩١٤ في ظلّ الحكم القيصريّ، وعلى الرغم من تنظيم رقابةٍ فاقت ما عرفته روسيا بعد ثورة ١٩٠٥، فقد ازدهر في مرحلة «النيب» إبداعٌ أدبيّ وفنّي وضع روسيا في طليعة العالم الثقافيّة. كذلك شهدت البلاد تغييراتٍ عظيمة في وضع النساء غدت قدوة لسائر العالم على الرغم من مقاومة التقاليد البطريركيّة للتطّلعات النسويّة وتغلّبها عليها في نهاية المطاف.

ويتضمّن الفصل وصفاً لحملة محو الأمّيّة والتربية الشعبيّة التي أطلق عليها اسم «الثورة الثقافيّة» وكذلك وصفاً للحملة على التديّن والمؤسّسات الدينيّة، مع الإشارة إلى المفارقة التي جعلت جماعة ستالين تعيد بعض عناصر التديّن الشعبيّ إلى صلب الثقافة الرسميّة من خلال تنظيم عبادة لينين إثر وفاته، بما في ذلك تحنيطُ جثمانه وعرضه في ضريح. وينتهي الفصل بإشارةٍ مقتضبةٍ إلى الانعطاف الحادّ الذي سوف يقوده ستالين في سنوات ١٩٢٨ - ١٩٣١ («القطيعة الكبرى»). وفي إحدى المبالغات النادرة التي يمكن أخذها على كاتبٍ توخّى الاتّزان باستمرار، يقول عن تلك القطيعة إنّها غيّرت الاقتصاد والمجتمع والثقافة «بعمق أكبر بكثير مما أنجزته ثورة أكتوبر».

في خلاصته، يتأمّل سميث في عِبَر الثورة الروسيّة في ضوء إحدى القضايا الرئيسيّة التي تناقشها فلسفة التاريخ، ألا وهي ديالكتيك «البنية والوكالة»، أو بكلامٍ آخر، أقرب إلى القاموس الماركسيّ، «دور الفرد في التاريخ». فبينما لا يشكّ في أنّ النظام القيصريّ قد واجه توتّراتٍ هائلة من جراء دفعه للتحديث في مجتمعٍ غارقٍ في التخلّف الاجتماعيّ، يرى أنّ درب الإصلاح السياسيّ والاجتماعيّ كان متاحاً لولا التعنّتُ الرجعيّ الذي تميّز به القيصر نيقولا الثاني. كما يرى سميث أنّ مصير ثورة فبراير كان يمكن أن يكون مختلفاً لولا إصرار «الاشتراكيّين المعتدلين» على الحكم مع البرجوازيّة ممثّلة بحزب الكاديت. أمّا الفائدة من هذه التأمّلات المضادّة للواقع، فهي في نظر المؤرّخ أنّها تسمح بفهم ما جرى على وجهٍ أفضل.

اللينينيّة والستالينيّة: تواصلٌ أم انقطاع؟

بعد تلخيص تقييمه لنتائج الثورة البلشفيّة في المنظور التاريخيّ، يُنهي سميث كتابه بتناول موضوع مركزيٍّ في مناقشة تلك الثورة التي غيّرت وجه العالم، فيبحث في أطروحة المؤرّخين المناوئين للشيوعيّة الذين يعزون الستالينيّة إلى اللينينيّة وهذه الأخيرة بدورها إلى الماركسيّة. لا يدخل سميث في دحض المساواة بين الماركسيّة واللينينيّة التي هي خارجة عن نطاق بحثه، بل يبحث في مسألة التواصل أو انقطاعه بين اللينينيّة والستالينيّة. فمن جهةٍ يبيّن أنّ الأيديولوجيّة لم تكن المسيّر الأوحد لقرارات البلاشفة، بل أنّها رسمت نطاق خياراتٍ شتى انعكست آراء شتى بين البلاشفة أنفسهم ولم تكن ثمّة حتميّة في القرارات التي تمّ اتّخاذها. وفي حين يقرّ سميث أنّ النظريّة والممارسة اللينينيّتين انطوَتا على وفرة من العناصر التي مهّدت للستالينيّة، فإنّه يرى أنّ من مآسي التاريخ، التي تناقض تصوّرات حتميّة المصائر، أنّ لينين مات في سنّ مبكّرة وفي وقت كان قد بدأ يفطن الى خطورة تسليمه مقاليد الحزب لستالين، لكنّه لم يتمكّن من خوض تلك «المعركة الأخيرة» (كما سمّاها المؤرّخ موشي ليفين). ويرى سميث أنّه لو خلَفَ لينين بوخارين أو تروتسكي بدل أن يخلفه ستالين لما عرفت روسيا فظاعات الستالينيّة.

ختاماً، يستشهد سميث بقائدَي الحركة العمّاليّة قبل الحرب العالميّة، كارل كاوتسكي وجان جوريس، اللذين حذّرا قبل اندلاع الحرب من أنّ ثورةً اجتماعيّةً تنشأ من المعمعة لا يمكنها سوى أن تكون متأثّرة بانحطاط القيَم الأخلاقيّة الذي يرافق الحرب. ويرى المؤرّخ أنّ القرن الواحد والعشرين قد يجعل المستقبل ينظر إلى الثورة الصينيّة بوصفها أعظم ثورات القرن العشرين عوضاً عن الثورة الروسيّة، نظراً لنجاحها الباهر في نقل الصين إلى مرتبة القوّة الاقتصاديّة العظمى. كما يرى أنّ الإرث الأهم لثورة ١٩١٧ في القرن العشرين ليس تحدّيها للرأسماليّة الذي فشلت فيه، بقدر ما هو كون الدولة التي نتجت عنها قد ساهمت في دحر الفاشيّة وتصدّت للهيمنة الأميركيّة خلال الحرب الباردة.

وباختصار، كتابُ أي. إس. سميث أغنى وأشمل الكتب الحديثة في جَرد الحساب التاريخيّ للثورة الروسيّة في ضَوء إلمام متميّز بكافّة الأبحاث الأساسيّة التي تراكمت طوال القرن المنصرم منذ انفجارها، ومن منطلق يتعاطف مع الغاية الاشتراكيّة والأماني الثوريّة. ونأمل أن يُترجم إلى العربيّة بأسرع وقت، كي يساعد على إعداد الجيل الذي دخل حلبة السياسة ثوريّاً في «الربيع العربيّ» والذي يقف أمام تحدٍّ تاريخيّ لا يقلّ صعوبة عن ذلك الذي واجه الثوريّين الروس، إن لم يكن يفوقه.

  • ١. S. A. Smith, Russia in Revolution: An Empire in Crisis, 1890-1920, Oxford: Oxford University Press, 2017.
العددان ١٨-١٩ خريف ٢٠١٧ / شتاء ٢٠١٨

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.