العددان ١٨-١٩ خريف ٢٠١٧ / شتاء ٢٠١٨

النار التي أضرمت الاحتجاجات الإيرانيّة

النسخة الورقية

غرقت الجمهوريّة الإسلاميّة في نوع جديدٍ من الغضب. في ٢٨ كانون الأوّل / ديسمبر ٢٠١٧، انطلق احتجاج شارعيّ صغير على ارتفاع الأسعار في مدينة مشهد وتدفَّق بسرعة ليشمل ما يقارب ٨٥ مدينة وبلدة. تذمّرت الحشود بفعل البطالة، ووسائل العيش المتقلقلة والحُكم القمعيّ، مع وجود قلّة استحضرت اسم رضا شاه، الملك الفارسيّ الذي يُعزى إليه تحديث إيران في ثلاثينيّات القرن العشرين. وفي هذه الأثناء، انضمّ الرئيس دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو إلى المنادين بعودة حُكم الشاه وإلى جماعة مجاهدي خلق المعارضة لـ«دعم الشعب الإيرانيّ». شوهد محتجٌّ ملثّم على شريط فيديو يحثّ أبناء شعبه على الانضمام إلى الاحتجاج، ويبعث في الوقت ذاته رسالة إلى هؤلاء الحلفاء الغريبين كي «يذهبوا إلى الجحيم ويتركونا وشأننا». وانتهى الاحتجاج بعد فرض إجراءات بوليسيّة قمعيّة على المحتجّين ووسائل التواصل الاجتماعيّ، مخلّفاً ٢٥ قتيلاً و٣٧٠٠ معتقَل.

احتجاج شعبيّ استثنائيّ

كيف لنا أن نفسّر هذه الانتفاضة؟ من بين الملاحظات الكثيرة، لدينا تفسيران رئيسان. يصوِّر الأوّل الاحتجاج بكونه تمهيداً لثورة. بينما يفهمه الثّاني بكونه مثالاً عن الكيفيّة التي يُعْرب بها الإيرانيّون عن مشاغلهم العامّة عادةً. لكنّ الواقع يبدو مختلفاً على أيّة حال. فما ارتشح في إيران أخيراً ليس مجرّد امتداد لاحتجاجات روتينيّة، أو تمهيداً لثورة، بل هو احتجاج شعبيّ استثنائيّ. ففي قلب الاحتجاج نجد «فقراء الطبقة الوسطى» وهي الطبقة الغاضبة الناشئة التي ولّدها عصر نيولبراليّ تُرك فيه رفاهُ الشعب لرحمة السوق. مع انفتاح اقتصاد إيران، استفادتْ هذه الطبقة من الفرص التعليميّة، ولكنّها لاقت إخفاقاً في سوق العمل، كان سقف توقّعاتها عالياً، ولكن كان مستوى معيشتها أقلّ استقراراً. ومع وجود ميلٍ متمايزٍ عن ميل كلٍّ من الطبقة الوسطى والطبقة الفقيرة، كانت هذه الطبقة المتململة مُهيّأةً لإقلاق راحة السلطات اللامبالية.

ليست احتجاجات العمّال أو المحرومين من الحقوق نادرةً ولا مستجدّةً في شوارع إيران. فمنذ التسعينيّات، كان العمّال يخرجون في احتجاجات بسبب الأجور، ومعاشات التقاعد، والتسريحات الموقّتة، وضدّ النقابات المستقلّة، وآثار اللبرلة الاقتصاديّة التي جعلت العمل أكثر تشظّياً وتهلهلاً وهشاشة. نجد اليوم أنّ قرابة ٨٠ في المئة من مجموع العمّال في إيران يعملون بعقودٍ موقّتة غير مضمونة. وربّما بنتيجة هذا، كان هناك ٤٠٠ احتجاج تقريباً عام ٢٠١٥، و٣٦٠ احتجاجاً عام ٢٠١٦، تبعاً لدراسة كيفان هاريس وزيپ كالب في جامعة كاليفورنيا - لوس أنجلس UCLA، كما انطلق قرابة ٩٠٠ احتجاج منذ آذار / مارس في العام الماضي [٢٠١٧]، تبعاً للباحثة في شؤون العمل زهراء آية الله. وفي الاحتجاج الأخير، أصدرت خمس منظّمات عمّاليةّ بياناً تدعو فيه إلى «إنهاء الفقر والبؤس»، وتحثّ الحكومة على إجراء إصلاحات اقتصاديّة لمصلحة العمّال. ومن الواضح أنّ العمّال النقابيّين دعموا الاحتجاجات، لكنّ مدى انخراطهم الفعليّ غير معروف.

وفي هذه الأيام نجد أنّ الجماهير الإيرانيّة، على تبايُنها، هي التي تواجه السلطات بمعدّل يوميّ، أكثر حتى ممّا كان يفعله العمّال النقابيّون. منذ آذار / مارس ٢٠١٦، أُعلن عن خروج ما يقارب ١٧٠٠ احتجاج شعبيّ، بحسب جمعيّة مُؤثِري الثورة الإسلاميّة، وهي هيئة محافظة مقرّبة من الرئيس السابق محمود أحمدي - نجاد١. وتشهد المدن معارك يوميّة بين باعة الشوارع الجوالين وقوّات الشرطة، وسائقي درّاجات الأجرة الذين يعملون بلا رخصة في نقل الرّكاب والبضائع في المدن، واحتجاجات المتقاعدين بشأن المعاشات، والمودِعين بشأن الودائع المصرفيّة المفقودة، والمزارعين بسبب الصعوبات التي يواجهونها مع محاصيلهم وأراضيهم، والمندّدين بالتلوّث الدّائم ونقص المياه. وفيما تنشر الحكومة شبكة إجراءاتها التقييديّة على «التعدّيات الصامتة» وغير الرسميّة - مثل بناء المنازل بلا رخصة، وسرقة المياه والتهرّب من فواتير الكهرباء، أو البيع في الشارع - يوجّه الفقراء غضبهم نحو الشوارع. وتجسّد هذه الاحتجاجات، على نحو جزئيّ، ردّة الفعل الجمعيّة للطّبقات الدنيا ضدّ ما يعجزون عن فعله من خلال تعدّياتهم الصامتة.

وقد أضرم هذا السخط اليوميّ الاحتجاجات الأخيرة. لكنْ وصَلَ مدى الاحتجاج إلى أبعد من هذا السَّخط - حيث اندمجت الاحتجاجات فجأة، وانتشرت في أنحاء البلاد، وباتت تتحدّث بلغة سياسيّة واضحة، وتضمّنتْ أعمالَ عنف، وصار قادتها هم الشبّان في عمر العشرينيّات. وبما أنّهم من فقراء تلك الطبقة الوسطى، أخذوا على عاتقهم المجازفة العظيمة في الخروج إلى الشوارع للهتاف، وتنظيم التّظاهرات، والتنسيق في ما بينهم. لم تكن الاحتجاجات عاديّة، بل كانت أقرب إلى ثورة استثنائيّة على امتداد البلاد.

انتفاضات ١٩٩١ و١٩٩٤ و٢٠٠٩

بما أنّ الجمهوريّة الإسلاميّة نجت من انتفاضتين ضاريتين، ما مدى استثنائيّة هذا الانتفاضة؟ حدثت الانتفاضة الأولى بين عامي ١٩٩١ و١٩٩٤، وكانت عبارة عن سلسلة من الاحتجاجات الشعبيّة التي شملت مدن طهران، شيراز، آراك، مشهد، قزوين، تبريز، وخرم آباد. وشملت معظم هذه الأحداث سكّان عشوائيّات المدن إثر هدم ممتلكاتهم على يد السلطات البلديّة. وكان أكثر الحوادث دراماتيكيّة في منطقة عشوائيّات «كوي طلاب» في مدينة مشهد، حين رفضت السلطات منح رخصة لتنظيم مجموعة من المساكن المبنيّة. وحين قتلت قوات الشرطة متظاهرَيْن، أحرق المحتجّون مبنى مجلس المدينة والمكتبة وعدداً من مخافر الشرطة؛ ومع حلول المساء، قالت تقارير إنّ المحتجين سيطروا على المدينة. ومع عجز الجيش عن قمع المتظاهرين، استدعت الحكومة المركزيّة وحدات إضافيّة من قوات الباسيج (ميليشيا من المتطوعين) من مدن أخرى. وفي النهاية، أسفر تمرّد مشهد عن تدمير ١٠٠ بناء ومحلّ تجاريّ. واعتُقل أكثر من ٣٠٠، وقُتل ستّة أفراد شرطة، وأُعدم أربعة متظاهرين.

أمّا الانتفاضة الأخرى فقد كانت الثورة الخضراء عام ٢٠٠٩. ومع أنّ شرارتها كانت بسبب تزويرٍ في نتائج الانتخابات الرئاسيّة التي أعادت تنصيب المتشدّد محمود أحمدي نجاد ضدّ المرشَّح الإصلاحيّ المفضَّل مير حسين موسوي، إلّا أنّها استَعَرتْ بفعل تَوقٍ مديد لحياةٍ تخلو من الرقابة اليوميّة، والفساد، والحكم التسلّطيّ. ولأسابيع بعد إعلان نتائج الانتخابات، كانت سياسة الشارع هي التعبير الأساسيّ لتلك الثورة. تسبّبت المسيرة الصامتة الكبيرة في ١٥ حزيران / يونيو ٢٠٠٩ في طهران، ومعارك الشوارع المستمرّة، في صدمةٍ للمؤسّسة المحافظة، ما حرّض الحرس الثوريّ على إحكام سيطرةٍ تامّة على العاصمة طوال شهرين. ومع نهاية العام، وصل عدد المعتَقلين إلى عشرة آلاف والقتلى إلى ٧٠. وأُغلقت وسائل الإعلام الإصلاحيّة، وانتهى التواصل الحرّ في المدينة فعليّاً.

مَن قاد تلك الحركات؟ كانت ثورة التسعينيّات ثورة فقراء إيران العاديّين - مهاجري الأرياف الأميّين في معظمهم، الذين ينخرطون في الصراعات المحلّيّة، ويعبّرون عن شكاويهم بشأن السكن والخدمات العامّة. وعلى العكس، انطلقت الثورة الخضراء وقيادتها الإصلاحيّة من الطبقة الوسطى المدينيّة في طهران وبعض المدن الكبرى في الغالب. وكانت مشاغل هؤلاء مرتبطة بالحرّيّات المدنيّة والسياسيّة.

أمّا الاحتجاج الأخير فلم ينطلق من الفقراء العاديّين، أو الطبقات الوسطى الحداثيّة: فبحسب وزارة الداخليّة، كان أكثر من ٩٠ في المئة من المعتقلين، تحت سنّ الخامسة والعشرين، ومن المتعلّمين في الغالب. وقد بيّنت الأحداثُ الأخيرة ثورة فقراء الطبقة الوسطى، وهم نتاج طفرة شبابيّة كبيرة، وفُرَص تعليميّة أوسع، وتمدّن، ولبرلة اقتصاديّة ضارية.

مفارقات الطبقة الوسطى المفقرة

ثمّة ما يلفت إلى المفارقة في هذه الطبقة. إنّها تمتاز بشهاداتٍ جامعيّة، متضلّعةٌ من وسائل التواصل الافتراضيّة، وتمتلك معلومات عن العالم، وتحلم بحياة طبقةٍ وسطى، لكنّها مرغمةٌ بفعل الحرمان الاقتصاديّ على عيش حياة الفقراء الاعتياديّين في العشوائيّات وضواحي المدن، وتعتاش على الإعانات العائليّة أو على وظائف متدنّية وغير مستقرّة معظم الأحيان - كأن يعملوا سائقي تاكسي مثلاً، أو باعة فاكهة، أو أصحاب بسطات، أو مندوبي مبيعات. ابن فقراء الطبقة الوسطى يرتاد مركز المدينة، ولكنّه يعيش في أطرافها. يحلم بحذاء «نايكي»، ولكنْ عليه أن يرضى بنسخةٍ مقلّدة رخيصة. يحلم بالعمل أو قضاء الإجازة خارج البلاد، ولكنّه يحسّ بأنّه مطوَّقٌ بفعل نقص المال وتقييدات إجراءات الحدود. إنّها طبقةٌ تربط عالم الفقر والحرمان، مدن الصفيح والعمل الموقّت، الدّيون وعدم الاستقرار، بعالم الجامعة، والاستهلاك، والإنترنت - بالحياة الكونيّة. أفرادها واعون جدّاً لما هو متوفّر في العالم ولما يفتقرون إليه على نحوٍ مؤلم، من المفترض أن يكون عدم استقرارهم وحالة اللمبو [البرزخ] ظروفاً موقّتةً، ولكنّها أصبحتْ دائمة في واقع الحال. وبما أنّها لا تشعر بكونها شابة كليّاً أو بالغة كليّاً، ومليئة بإهانةٍ أخلاقيّة كبيرة، ستصبح هذه الطبقة لاعباً محوريّاً في السياسة الراديكاليّة.

تعود أصول هذه الجماعة إلى الثمانينيّات، حينما ولَّد معدل الخصوبة العالي في إيران إحدى أكبر الشرائح السكّانيّة الشابّة في العالم. وفي الوقت ذاته، تَرافق هذا الأمر مع ارتفاع معدّل التعليم أيضاً. ومع نهاية التسعينيّات، كان عدد السكّان من الطلّاب قد زاد بنسبة ٢٢٦ في المئة أي ما يعادل ٢٠ مليوناً، أو نسبة ثلث سكّان البلاد. وفي حزيران / يونيو ٢٠١٤، بات عدد الطلّاب الجامعيّين في إيران ٤.٥ ملايين طالب - بنسبة ازدياد أكثر من ٢٥ ضعفاً منذ قيام الثورة. وفي بدايات العقد الأوّل من الألفيّة، كان كلّ بيتٍ من خمسة بيوتٍ يضمّ طالباً جامعيّاً أو متخرّجاً. كما أسهم ازدهار جامعة آزاد الإسلاميّة الخاصّة وامتداد التعليم إلى البلدات الريفيّة في توليد متخرّجين جامعيّين في كلّ قرية.

ولكنْ مع أنّ التعليم رفع سقف التوقّعات، إلّا أنّه أخفق في تأمين حراكٍ اقتصاديّ، على الأقلّ بالنّسبة إلى مليونين ونصف مليون متخرّجٍ جامعيٍّ ممّن لا يزالون عاطلين من العمل حاليّاً. وبالمجمل، فإنّ نسبة ٣٥ في المئة من الشباب المتعلّمين عاطلون من العمل، بحسب تقرير برلمانيّ. لا بدّ لهؤلاء الشباب من دفن أحلامهم في امتلاك بيتٍ من بيوت الطبقة الوسطى، حيث يلزمهم من أجل تأمينه ادّخار ثلث دخلهم الشهريّ لمدّة ٩٦ سنة. وبدلاً من هذا، يستقرّ عددٌ كبير منهم في المناطق العشوائيّة التي تؤوي اليوم أكثر من ٢٠ في المئة من سكّان المدن في إيران، بحسب دراسة أجرتْها وزارة التنمية المدنيّة في إيران عام ٢٠١٤. وبوجود دخلٍ قليلٍ وسكنٍ بائس، تتلاشى أحلام الزّواج أو تُعلَّق - وهذا سببٌ من أسباب أنّ أربعة ملايين متخرّج جامعيٍّ إيرانيٍّ يبقون عازبين مع أنّهم في سنّ الزواج المتعارَف عليه. ومع أنّ العائلات في إيران تُعين الأفراد المعوزين في العائلة، إلّا أنّ عار الاتّكال والشعور العام بالركود يفاقم مشاعر السخط لدى هؤلاء الشباب البالغين على نحو متواصل. ومع إخفاق الاقتصاد في خلق وظائف لهم وإخفاق الحكومة في حمايتهم، يبدو هؤلاء الشباب المتحفّزون جاهزين لإشعال ثورة. وقد جاءت هذه الشرارة مع احتجاجات مشهد.

التمثيل السياسيّ والتدخّل الخارجيّ

من يتحدّث باسم هؤلاء الشباب المحرومين من حقوقهم؟ في أزمنةٍ أخرى وبلدانٍ أخرى، مثل مصر في التسعينيّات، تحوّلت شرائح من هذه الطبقة إلى حركاتٍ قوميّةٍ وإسلامويّة قبل اللجوء إلى سياسة الشارع قبل الربيع العربيّ وفي أثنائه. في تونس، بدا أنّ الاتحاد التونسيّ العامّ للشغل، الذي يُعدّ من يسار الوسط، قد يمنحهم صوتاً، لو لم تسبق الدولة الإسلاميّة في إغرائهم قبله. لكنْ في إيران، ليس لدى هؤلاء الشباب أدنى تمثيل - لا الإسلاميّون المشغولون ببناء جماعة أيديولوجيّة، سواءٌ في ذلك الإصلاحيّون المنهمكون في «التنمية السياسيّة» ومشروع مابعد إسلاميّ، واليساريّون الذين اختفوا في معظمهم. وقد أُرغمتْ هذه الطبقة على تمثيل نفسها في الشوارع، كما رأينا وسمعنا في الاحتجاج الأخير. وقد أعادتْ ديناميكيّات ثورتهم إلى الأذهان تونس في انتفاضة كانون الأول / ديسمبر ٢٠١٠، حيث لعب فقراء الطبقة الوسطى دوراً جوهريّاً.

هل الانتفاضة الأخيرة في إيران تمهيدٌ لثورة؟ ثمّة مؤشّراتٌ بعينها - امتداد الاحتجاجات في أرجاء البلاد، الدعوات إلى تغيير النظام، انقسام النخبة، والدعم الدوليّ - يبدو أنّها توحي بإمكانيّة هذا الاحتمال. لكنْ ستكون هذه سوء قراءةٍ للوضع.

أوّلاً، سيتسبّب الدعم الدوليّ من أجل تغيير النظام أو الدعوات إلى العنف، في المرحلة الحاليّة، بنزع المصداقيّة عن المحتجّين بحيث يبدون مجرّد عملاء لقوى خارجيّة. ثانياً، مع أنّ الاحتجاجات امتدّتْ على نحوٍ واسعٍ في أرجاء البلاد، إلّا أنّ أرقام المشاركين الفعليّة كانت محدودةً بالمقارنة مع الثورة الخضراء. ومع أنّ عدداً كبيراً من المواطنين العاديّين احتشدوا في الشوارع فعلاً، إلّا أنّهم اكتفوا بمراقبة تطوّر الأحداث أغلب الأحيان، بدوا غير واثقين ممّا سيُسفر عنه الوضع، وخافوا أن تصبح بلادهم سوريةَ أخرى. ثالثاً، برغم انقسام النخبة السياسيّة في إيران - حيث تبادلوا اللوم بشأن اندلاع الاحتجاجات - فقد ظلّوا موحَّدين بصرامة حيال صون أساسات النّظام.

أخيراً، وهذا هو الأهمّ، أخفقت الانتفاضة حتى الآن في استقطاب ائتلافٍ واسعٍ من القوى الطبقيّة والسياسيّة - وهذا هو العجز ذاته الذي حكم على الثورة الخضراء بالفشل، إذ لم تضمّ إليها الطبقتين الفقيرة والعاملة. انتفاضة إيران الأخيرة هي انتفاضة شعبٍ محروم من الحقوق - الطبقة الوسطى المقتدرة غائبة بنسبة كبيرة. أمّا الإصلاحيّون، وهم قوّة سياسيّة أساسيّة تتحدّر من الطبقة الوسطى، فقد أبقوا أنفسهم بعيدين من الاحتجاجات الحاليّة. كما أنّ سياسيّيها ومثقّفيها عبّروا عن معارضةٍ صريحةٍ للانتفاضة، منهم عبّاس عبدي أو صادق زيباكلام٢ اللذان تحدّثا بصراحة رافضَين القلقلة المزعزعة للاستقرار. وبالإضافة إلى استدعاء سيناريو على النّمَط السوريّ، فإنّ الإصلاحيّين يرفضون جوهر فكرة الثورة من حيث المبدأ. إذ يؤمنون بمبدأ الإصلاح بقوّة، مع أنّ جهودهم الفعليّة، المهمّة في واقع الأمر، قد أُحبطتْ بفعل المقاومة العنيدة من جانب المؤسّسة المحافظة - وهي المؤسّسات غير المنتخَبة ولكن القويّة في الجمهوريّة الإسلاميّة. وما نعنيه هو أنّ قيام حركة ثوريّة احتمالٌ ضئيلٌ إلى حدٍّ بعيد من دون ائتلاف من القوى الطبقيّة والسياسيّة، العمّال الفقراء والطبقة الوسطى.

أمّا الآن، فقد انتهت الانتفاضة وانتهت أيّة فكرة لثورة وشيكة. لكنّ المظالم الكامنة لا تزال باقية، وإن واصلت الحكومة سياسة الأمر الواقع، من الأرجح أن تقوم «الطبقة الغاضبة» بالضرب مجدّداً عاجلاً أو آجلاً. لا أحد يعلم ما الذي سيحدث حينذاك. فالسياسة الإيرانيّة عصيّة على التنبّؤ إلى حدٍّ كبير - أمّا الثورة فعلى نحوٍ أكبر حتى.

وماذا لو استعادت الاحتجاجات المتفرّقة زخمها، واجتذبت الفقراء، والقوى السياسيّة، والطبقات الوسطى ضمن ائتلافٍ يطلق شرارة انفجار ثوريّ؟ حتى لو أثمر الأمر عن انتفاضةٍ على امتداد البلاد، من الأرجح أن يتطوّر الأمر إلى ربيع عربيّ آخر - لا يُحدث إلّا تغييراً ضئيلاً في سلطة الدولة - ما لم تطوِّر الحركة الثوريّة تنظيماً قويّاً، ورؤية استراتيجيّة، وبرنامجاً تقدّميّاً، وقيادة قادرة على إلهام الشعب بأنّ إمكانيّة حدوث مستقبل آخر قائمة فعلاً. والمستقبل مفتوح على الاحتمالات في جميع الأحوال.

  • ١. جمعيّة مُؤثري الثورة الإسلاميّة (جمعیت ایثاركران انقلاب اسلامي): حزب محافظ بدأ نشاطاته السياسيّة منذ عام ١٩٩٥، ولكنّه لم يتأسس رسميّاً إلّا في شباط / فبراير ١٩٩٧. يُعرف في إيران باختصاره بكلمة «ايثاركران» التي تعني «إيثار» بالعربيّة. ويتكوّن الحزب من أعضاء سابقين في قوّات الباسيج ممّن شاركوا في الحرب العراقيّة - الإيرانيّة، ويعدّ من أكبر القوى المعارضة للإصلاحيّين، حيث يتهّمهم بأنّهم «عملاء للولايات المتحدة». كان نجاد أحد مؤسّسي هذا الحزب الذي دعمه بقوّة في الانتخابات الرئاسيّة عام ٢٠٠٥، وشغل عدد من أعضائه مناصب حكوميّة في فترة حكم نجاد.
  • ٢. عباس عبدي (١٩٥٦): سوسيولوجيّ وناشط اجتماعيّ، كان أحد الطلاب الذين اقتحموا السفارة الأميركيّة في طهران مع اندلاع الثورة الإيرانيّة عام ١٩٧٩، وما لبث أن أصبح ناقداً للمؤسسة السياسيّة المحافظة، ومن ثم أحد أهم الشخصيّات الإصلاحيّة المؤثّرة خلال رئاسة محمد خاتمي وبعدها. صادق زيباكلام (١٩٤٨): أكاديمي وكاتب ووجه إعلامي معروف في إيران وخارجها. يُعرَف بانتقاداته الحادة للمحافظين وللرئيس حسن روحاني على السواء، بخاصة في ما يخص إطلاق السجناء السياسيّين ورفع الإقامة الجبريّة عن قادة الحركة الخضراء.
العددان ١٨-١٩ خريف ٢٠١٧ / شتاء ٢٠١٨

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.