العدد ١٧ - ٢٠١٧

أسرى فلسطين

والحقّ في الحياة الحتميّة

في البداية تغضب على مروان البرغوثي لأنّه أكل أثناء إضراب الأسرى المُرتبط باسمه، ثم تغضب لأنّه ضُبط وهو يأكل، لا لمجرّد الأكل، ثمّ تغضب لأنّ الوزير جلعاد أردان ومصلحة السجون نصبا له كميناً، ثمّ تغضب على الحالة الدفاعيّة التي دخل الفلسطينيّون فيها، ما بين مبرّر ومُكذّب، ثمّ تحاول أن تستوعب ما جرى: كسرٌ للرّابط الحتميّ الرّاسخ عند النّاس وهو العلاقة الحتميّة بين البطولة وضرورة الموت.

البطل، ميثولوجيّاً وكشخصيّة دراميّة وتراجيديّة، هو الاستثنائيّ من البشر. لا يهمّ إذا كان سيحقّق مُراده في النهاية، لكنّ البطل التراجيديّ سيموت في النهاية (أنتيغون، ماكبث). استثنائيّته في أنّه الوحيد من بين الآلاف وعشرات الآلاف مَن وقف ضدّ التيّار، وحارب رُغم أنّ نهايته معروفة سلفاً. البطل نصف إله (أخيل، هرقل) ولذلك فهو ليس مثلَنا: لا يجوع ولا يضعف أمام لقمتيْن من الغلوكوز بعد أيّام طويلة من الجوع.

هل من بطولة دون موت حتميّ؟

البطل يموت ويتعذّب لكنّ قضيّته تنتصر. وأعتقد أنّ البلبلة التي أثارها شريط البرغوثي وهو يسترق لقماً في زنزانته العزليّة تنبع من هنا: إذا كان بطلاً حقّاً فلماذا يسترق بعض اللقم كي يظلّ على قيد الحياة؟ هذا لأنّنا (كَبَشر) نعتقد أنّ البطولة في الموت فقط، في دفع الثّمن الأكبر (الحياة نفسها) من أجل القضيّة. لكنْ، هل يمكن تسجيل المواقف البطوليّة من دون موت حتميّ؟ وهل يحقّ للأبطال أن يراوغوا ويناوروا و«يضحكوا على ذقون القتلة»؟

الشجاعة صفة حتميّة ولازمة في كلّ نماذج البطولة التي سجّلتها الشعوب والأفراد. الشجاعة ترتبط بالتغلّب على الخوف والألم والخطر والتهديد، وأساساً مواجهة الضبابيّة والمجهول. المجهول أكثر ما يخيفنا، والإضراب المفتوح عن الطعام يضعك في مواجهة أكبر المخاوف: هل ستصمد كليتاي؟ وكبدي؟ نظري سيبقى كما هو؟ وماذا مع الدوَخان والغثيان والضعف والانكسار؟ هل جسدي بطل؟ هل هو قادر على كلّ هذا الحرمان؟ متى سأقع ضحيّة الهلوسات والأخيلة والغياب عن الوعي؟ هل سأحسّ بموتي عندما أموت؟ الشجاعة تكمن (عموماً) في مواجهة النّفس أوّلًا.

الإضراب عن الطعام هو بطولة ذاتيّة، داخليّة، ينفذها الأسرى من أجل قضيّة عامّة. الإضراب عن الطعام عذابٌ فرديّ وخاصّ، لكلّ جسد ردّات فعله على الجوع ولكلّ نفْسٍ طاقاتها. إنّها معركة فرديّة، خاصّة، رغم أنّها جماعيّة. تمامًا مثل الموت الجماعيّ الذي يظلّ موتًا فرديًّا ووحيدًا، مهما كان عدد الموتى بجانبك.

الموت «كثارزيس» - تطهّر - يَجلي الأخطاء ويغفرها: ياسر عرفات مثلاً. من شخصيّة غير مرغوب فيها بعد «أوسلو» وانهيار مشروع التحرّر الوطنيّ، إلى بطل رمز بعد حصاره وحمله الرشاش على ضوء الشمعة. البطل لا يموت بسبب مرض عابر، البطل يُقتل. يُسمّ أو يُطعن أو يتلقّى رصاصات الغدر (أبو جهاد، غسان كنفاني). الإضراب عن الطعام سَير نحو البطولة، يجب أن يُغمّس بالموت البطيء. وإلّا فنحن في مشكلة. نحن الفلسطينيّين بالأساس.

أسرانا بشرّ مثلنا

البطولة رحلة من محاولات التغلّب على المعوّقات: البطل ينجح في تذليل العقبات والوصول إلى الحلم المشتهى: التحرّر أو الشهادة. لا مكان للبيْن بيْن. البطل السائر إلى حتفه ينام على تهاليل الوطن الباكية، ومن يُضبط في لحظة إنسانيّة يثير حنق القبيلة ويثير شماتة العدوّ. من يمسّ بكمال الأغنيات يمسّ بصورتنا عن أنفسنا كما نراها في أبطالنا.

لقمتان من الغلوكوز لا تعنيان شيئاً إلّا أنّ البرغوثي إنسان طال جوعه. إذا كانت هاتان اللقمتان كفيلتيْن بدعمه لمواصلة الإضراب فليكن. أسرانا بشرٌ مثلنا ولا نريد لهم الموت أو العمى أو الإعاقة. تماماً مثلنا. لكنّهم يضربون عن الطعام ونحن لا. لذلك يظلّون استثنائيّين وجديرين بالحياة الحتميّة، لا بالموت الحتميّ.

العدد ١٧ - ٢٠١٧
والحقّ في الحياة الحتميّة

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.