العدد ١٥ - خريف ٢٠١٦

قصّتي مع الجنرال ميشال عون

النسخة الورقية

"إيه ويالّا... سورية اطلعي برّا". ردّدتُها عندما كنتُ في الخامسة من عمري. يومها، اصطحبني أهلي إلى "قصر الشعب" (قصر الجمهوريّة في بعبدا). مشينا طويلاً للقاء قائد الجيش اللبنانيّ آنذاك، العماد ميشال عون. حملت العلم اللبنانيّ، وردّدت أغنيةً لماجدة الرومي قد تكون "سقط القناع"، لا أذكر. لكنّني أذكر أنّني ارتديتُ قبّعة الجيش المرقّطة، وصرختُ مطالبةً بخروج الجيش السوريّ من لبنان. لم أكن أدرك حينها، وأنا طفلة في الخامسة من العمر، ما فعله الجيش السوريّ. لكنّني كنت أراقب قصفه المتواصل للمناطق المجاورة من شرفة المنزل، تماماً كما كنت أراقب القصف المتواصل بين "القوّات اللبنانيّة" والجيش من فوق سطح المنزل. أراقبه لبضع دقائق فقط، قبل أن تهرع أمّي لإدخالنا، أخي وأنا، إلى المنزل. أراقب الحرب الجارية وأسمع أنّ ميشال عون سيخلّصنا منها.

استيقظت مرّةً لأجد والديّ يبكيان بشدّةٍ أمام شاشة التلفزيون. سمعتهما يتحدّثان عن لجوء عون إلى فرنسا بعد محاصرة الجيش السوريّ له في بعبدا. لم يفرحا لانتهاء حربٍ دامت ١٥ عاماً. تكلّما يومها عن ضياع الحلم، الحلم في بناء الدولة، الحلم في طرد الجيش السوريّ من لبنان، الحلم في "السيادة والحرّية والاستقلال". إلّا أنّ أبي لم يستسلم. ظلّ متسلّحاً بالأمل. أمل عودة الجنرال "المخلّص" بسرعة إلى الوطن. علّق صورةً كبيرةً له على حائط الصالون، وإلى جانبها العلَم اللبنانيّ. أتصفّح اليوم صور أعياد ميلادي وأجد فيها عون والعلم خلفي، حتى بلغت العاشرة ربّما. قطعت قوالب الحلوى "بحراسة" الجنرال. اقتنع بعدها والدي بأنّ العودة لن تكون قريبةً، فأزال الصورة والعلم.



"إذا تكلّمتُ طائفياً، انبذوني"

نشأتُ في هذه البيئة. بيئةٌ ضاقت ذرعاً بالممارسات المليشياويّة لـ"القوّات اللبنانيّة" في المناطق المسيحيّة، فوجدتْ في ميشال عون خشبة خلاص. حضَنَته ودعَمَته وتبنّتْ شعاراته، تظاهرت لأجله وماتت دفاعاً عن مبادئ تشاركتها معه. نشأتُ في بيئةٍ اقتنعت وأقنعتني أنا وكثيرين غيري بأنّ ميشال عون هو الحلّ الوحيد لمشاكل لبنان الأزليّة. نشأتُ في بيئةٍ عاشت الإحباط بعد رحيله، والخوف من الاعتقال إذا أتت على ذكره.

في الواقع، كانت الاستخبارات السوريّة مدعومةً من الأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة، قد أحكمت الخنّاق على أيّ لبنانيّ/ة معارض/ة للحكم الناشئ بعد انتهاء الحرب اللبنانيّة. والمعارضة آنذاك تمثّلت بـ"التيّار الوطنيّ الحرّ" و"القوّات اللبنانيّة" و"حزب الوطنيّين الأحرار" و"الكتائب اللبنانيّة". اختار أهلي السكوت والانكسار، خصوصاً بعد اعتقال قائد "القوّات" سمير جعجع في العام ١٩٩٤ والحكم عليه بالسجن المؤبّد بعد خفض العقوبة. حينها غاب الحديث عن عون لفترةٍ طويلة في المنزل. حذّروني من تداول اسمه خارج البيت خوفاً عليّ. حتّى في المدرسة، كان ممنوعاً عليّ التحدّث عن ميولي السياسيّة أمام أصدقائي. لفترةٍ طويلة، ظلّ عون بالنسبة إليّ صورةً على حائط، شعاراً وطنيّاً رنّاناً، ومشروعاً لم يتحقّق.

احتكّيت به للمرّة الأولى، عن سابق إصرار، في ٧ آب / أغسطس ٢٠٠١. يومها، رأيت رجال الاستخبارات يعتدون على الناشطين في بيروت لمجرّد مطالبتهم بإنهاء الوصاية السوريّة على لبنان. رأيتهم يصرخون، يقاومون الضرب، يرفضون الانكسار لاقتناعهم بقضيّتهم. تابعتهم يُعتَقلون ويُحاكَمون ويُسجَنون ولا يخضعون. كان أحد المعتقلين أستاذي في المدرسة. ركضتُ لملاقاته عندما خرج من السجن. احتضنته وقلت له إنّه بطل. صفّقت له طويلاً في حفل استقبالٍ سرّيّ أقيم في إحدى القرى اللبنانيّة.

رفيقي، من جهته، اختار الهروب والاختباء في مزرعة طوال شهرين خوفاً من الاعتقال. عاد بعدما تأكّد أنّه لن يُساق إلى السجن. في ٧ آب / أغسطس ٢٠٠١، اقتنعت بأنّ لميشال عون و"التيّار الوطنيّ الحرّ" قضيّة محقّة. والأهمّ، اقتنعت بأنّ الشبّان والشابّات المدافعين/ات عن هذه القضية صادقون لدرجة أنّهم مستعدّون لدخول السجن دفاعاً عن قضيّتهم. يومها، أعربت أمام والديّ عن رغبتي بالانضمام إلى "التيّار". جنّ جنونهم. رفضا الفكرة كليّاً خوفاً عليّ من بطش الاستخبارات. تريّثتُ قليلاً، احتراماً لرغبتهما. لكنْ، بدأت بالمشاركة في بعض الاجتماعات. ثمّ دخلتُ جامعة كانت التجمّعات الحزبيّة فيها ممنوعة، فابتعدت عن النشاطات السياسيّة، وانشغلتُ بدراستي، واكتفيتُ بمتابعة التحرّكات والتظاهرات عبر وسائل الإعلام. حصرتُ اهتماماتي بمناقشة زملائي في الصفّ والدّفاع عن "التيّار" أمام أيّ معترضٍ أو معترضةٍ، وصولاً إلى أساتذتي.

كان اغتيال الرئيس رفيق الحريري في ١٤ شباط / فبراير ٢٠٠٥ لحظةً مفصليّة، فيها شعرت بأنّ لا أحد ولا شيء سيمنعني من النزول إلى الشارع والمطالبة بخروج الجيش السوريّ من لبنان. وبالفعل، لم أترك ساحة الشهداء. كنت هناك عندما أعلن الرئيس عمر كرامي استقالته. بكيت. شعرتُ للمرّة الأولى بأنّني حقّقتُ شيئاً ما في هذه الرّقعة التي كانت تقتل أحلامنا كلّ يوم. وجاءت تظاهرة ١٤ آذار / مارس في السنة ذاتها. لم أفهم يومها ما يحصل. حتّى أنّ أبي عاد إلى الشارع ومشى من الدورة إلى "ساحة الحريّة" للمطالبة بإنهاء الوصاية السوريّة. عدنا إلى المنزل يومها، متسلّحين بأملٍ كبير. اعتقدنا أنّنا تمكنّا أخيراً من طيّ صفحة الخلافات فيما بيننا نحن اللبنانيّين، وباشرنا العمل معاً لبناء الدولة التي لطالما حلمنا بها.

أعترفُ اليوم بأنّنا كنّا ساذجين، أو على الأقلّ، كنتُ ساذجة. لا أريد أن أتكلّم عن غيري. لم أكن أدرك حينها أنّ نظام ما قبل ٢٠٠٥ كان يسعى فقط إلى إعادة إنتاج نفسه بصيغةٍ تلائم ظروف ما بعد ٢٠٠٥. وبالفعل، بدأتْ عملية إعادة التموضع، وانخفض سقف المطالب، وأصبنا مجدّداً بالإحباط. شعرتُ بأنّنا سنبقى عاجزين عن تحقيق أيّ تغيير إلى أْن قرّر الجنرال عون العودة إلى لبنان في ٧ أيار / مايو ٢٠٠٥.

يومها، وصل العماد عون إلى ساحة الشهداء حيث كان مئات الآلاف بانتظاره. وقفت هناك أنتظر سماع خطاب العودة، ولم يخذلني. وعدني يومها ببناء ديمقراطيّةٍ حديثةٍ، بمحاربة الإقطاع السياسيّ، بمحاربة الفساد والمال السياسيّ، بالعمل على وضع برامج انتخابيّة يحاسِب الناخبُ/ة على أساسها النائب المنتخب. قال لي حرفيّاً: "إذا تكلمتُ طائفيّاً، انبذوني. فنحن لا نريد بعد الآن عصبيّات طائفيّة تتناحر وتتقاتل وتهدم ذاتها. نريد مجتمعاً لو كان له انتماءٌ طائفيّ أن ينتخب لفكرٍ سياسيّ، حينها فقط ينقذ لبنان". قدّم لي مشروعاً طموحاً مناهضاً لفساد النظام ورجالاته. اقتنعت بما كان يردّده والدي على مسامعي طوال هذه السنوات. ميشال عون صاحب مشروع، وسيكون شبكة الخلاص للبنان. ازدادت قناعتي بعدما سعى الجميع إلى محاربته، وتنحيته عن التحالفات الانتخابيّة، وتهميش دوره ودور "التيّار".



كأنّه تفاهم، لكنّه حرب

تقرّر إجراء الانتخابات النيابيّة في حزيران/ يونيو ٢٠٠٥، وقرّرت حينها الانخراط في العمل مع "التيّار" لإيصال مرشّحيه إلى مجلس النوّاب. لم أغادر المكتب الانتخابيّ في جونيه طوال الفترة الانتخابيّة. من ترتيب اللوائح، إلى التأكّد من لوائح الشّطب، إلى تنظيم التطوّع في المراكز يوم الانتخاب، إلى التجوّل في الشوارع لعرض البرنامج الانتخابيّ الخاصّ بـ"تكتّل الإصلاح والتغيير". وفاز "التيّار الوطنيّ الحرّ" في الانتخابات. اكتسح منافسيه. شعرتُ بفرحةٍ لا توصف. حتّى أنّني علّقت صورة للجنرال على حائط غرفتي. وحان وقت العمل، الطريق طويلٌ وشاقّ لكنّنا سنتمكّن من تحقيق المطالب. دخل "التيّار" إلى البرلمان من باب المعارضة لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة الأولى. طالب عون خلال مناقشة البيان الوزاريّ في تموز / يوليو ٢٠٠٥ بالكشف عن مصير المفقودين خلال الحرب والمعتقلين في السجون السوريّة. سأل عن البؤر الأمنيّة المغلقة في وجه الأجهزة الأمنيّة، ولم يتردّد ميشال عون في انتقاد بقاء سلاح المقاومة المتمثّلة في "حزب الله"، في الزمن الذي كانت باقي الأحزاب تدافع عن هذا السلاح وتحاول إقناع النّاس بجدوى بقائه.

واجه "التيّار" الجميع، وأصرّ على مواقفه المتشدّدة وعلى فضح الصفقات والسياسات التي أدّت إلى تدمير الاقتصاد اللبنانيّ وتكبيد اللبنانيّين كلّ هذه المشاكل الاجتماعيّة والبيئيّة والاقتصاديّة. شعار "الإصلاح والتغيير" لن يبقى شعاراً انتخابيّاً. شعرت بأنّنا أمام فرصةٍ حقيقيّةٍ لتطبيقه.

كذلك، دافعتُ عن ورقة التفاهم مع "حزب الله"، الاتّفاق الذي أفضى إلى تأسيس تحالفٍ بين الطرفين في ٦ شباط / فبراير ٢٠٠٦. رأيتُ فيه ما وصفه الجنرال من أنّه فرصةً لمدّ الجسور بين اللبنانيّين. تناسيت هجومه المتكرّر على سلاح الحزب، وإنكاره للبنانيّة مزارع شبعا، وإصراره على تطبيق القرار ١٥٥٩. ولم يفاجئني التغيير في خطابه كما فاجأ العديد من أصدقائي الذين اختاروا الانسحاب رفضاً للتفاهم. ثمّ جاءت حرب تموز / يوليو ٢٠٠٦ لترسّخ قناعاتي. فلولا التفاهم هذا، لما استطعنا حماية لبنان من العدوّ الصهيونيّ أوّلاً ومن الداخل المتآمر ثانياً.

دافعت عن "حزب الله" بحماسةٍ أكبر من تلك التي أدافع بها عن "التيّار". تشاجرتُ مع أصدقاءٍ هاجموا قرار الحزب بخطف الجنديّين الإسرائيليّين، وحمّلوه وحده مسؤوليّة الحرب الإسرائيليّة على لبنان. اعتبرت أنّ وقوف "التيّار" إلى جانب "حزب الله" هو عملٌ بطوليّ، حقيقيّ، يثبّت هذا التفاهم، ويعطي فرصة لتحالفٍ جديدٍ بعيداً عن الأحزاب والتيّارات التي أشبعت الدولة اللبنانيّة فساداً.

لمّا اتخذ قرار إسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في أواخر العام ٢٠٠٦، أيّدت المطلب ولكنّني تردّدت أمام الخطّة. رفضتُ ما عرف آنذاك بـ"حصار السراي". رأيتُ أنّ إغلاق وسط المدينة لهذه المدّة الطويلة (سنة ونصف سنة تقريباً) خطوةٌ لن تؤدّي سوى إلى التصادم. والجنرال كان قد وعدنا بتوسيع رقعة التفاهم والتعلّم من أخطاء الماضي. لم أشارك في أيّة تظاهرة خلال هذه الفترة، وتناقشتُ طويلاً مع أصدقائي حول جدوى اللجوء إلى الاعتصام بهذا الأسلوب. ولم تتأخّر المواجهات في الشارع. أوّلها كان بين "القوّات" و"التيّار" في ٢٣ كانون الثاني / يناير ٢٠٠٧. يومها، عادت ذكريات الحرب بتفاصيلها. رأيتُ الجيران يطلقون النار على بعضهم، يغلقون الطرقات كلٌّ لحساب طرف. شاهدتُ والدي يتشاجر مع أصدقاء مؤيّدين لـ"القوّات". اضطررنا إلى الاختباء مجدّداً في منازلنا. أُغلقت الطرقات في وجوهنا، أشعلت الدواليب، أصيب شاب برصاصة أدّت إلى شلله، قتل آخر. خُيّل إلينا للحظة أنّ الحرب عادت وأنّ الحديث عن طيّ صفحة الماضي بين قائد "القوّات" سمير جعجع وعون لم يكن سوى خدعة سياسيّة رخيصة. وهي بالفعل كانت كذلك. خرج الرجلان في اليوم التالي يكيلان الشتائم بحقّ بعضيهما البعض. حرّضا الشارع بدلاً من تهدئته، وأعلنا صراحةً أنّ المواجهة بينهما عادت إلى سابق عهدها. كذبا لمّا وعدا بأن الخلاف سيبقى في إطار المواجهة السلميّة. تبادلا اللوم، ولم يتحمّل أيّ منهما مسؤوليّة ما حصل.

يومها، شعرتُ بأنّ شيئاً ما قد انكسر بيني وبين "التيّار". فقد عشت طفولتي أتنقّل بين ملجأ وآخر، أشاهد والدي يتألّم في المنزل وأمّي تبكي لأنّها لا تستطيع نقله إلى المستشفى بسبب القصف بين "القوّات" والجيش. شاركت في مشاجراتٍ عنيفة بين "القوّاتي" و"العوني" في عائلتي الكبيرة. اضطررتُ إلى الدّخول في صلح بينهما مراراً وتكراراً. حتّى إنّ جدّتي قرّرت تعليق ورقة في المطبخ كتبت عليها: "ممنوع التكلّم في السياسة". أرادت تجنيبنا المزيد من التوتّر. لكنّ المواجهات عادت. أفرادٌ خسروا حياتهم، آخرون أصيبوا بضررٍ دائم، وعائلات عادت لتتشرذم. ومن أجل ماذا؟ هذه المرّة، لم أجد الجواب. ازداد التوتّر بين الأطراف المتخاصمة، وكان واضحاً أنّنا ذاهبون إلى مواجهةٍ أسوأ من تلك التي شهدناها خلال الثلاثاء الأسود. واندلعت أحداث ٧ أيار/ مايو ٢٠٠٨. عادت الحرب إلى شوارع العاصمة بيروت. انتشر القنّاصة على أسطح المنازل في غضون ساعات. ظهر السلاح، حمله الجميع بلا أيّ استثناء. عدنا إلى الاختباء، بعضنا هرب إلى أماكن أكثر أماناً. وبعدما مات المئات دفاعاً عن كرامة زعمائهم، أوقف هؤلاء حربهم، واتّجهوا مجتمعين إلى الدوحة في قطر. عقدوا اتفاقاً، وعادوا ليحكموا جميعاً باسم الوحدة الوطنيّة. مرّةً أخرى، لم يعتذروا منّا، ولم يعلنوا أنّهم فشلوا في حمايتنا. نزعت صورة الجنرال عن حائطي.

محوريّة التخلّي عن شربل نحّاس

في العام ٢٠٠٨، دخل "التيّار الوطنيّ الحرّ" إلى السلطة للمرّة الأولى منذ عودة الجنرال عون إلى لبنان. أصبتُ بإحباطٍ شديد، من "التيّار" على نحو خاصّ. لكنّ العماد عون خرج يومها ليؤكّد لنا أنّه اختار السلطة لتطبيق مشاريعه الإصلاحيّة، وأنّه سيعارض من داخلها صفقات الفساد، وسيعمل لإعادة تأهيل مؤسّسات الدولة. عرض وزراء "التيّار" خطّتهم وبدوا متحمّسين ومنكبّين على تطبيقها. نشطت المشاريع، أطلقت ورشة عمل داخل "التيّار"، وعادت الشعارات الكبيرة إلى الواجهة استعداداً لانتخابات العام ٢٠٠٩ النيابيّة.

كنت قد استعدت حماستي، لكنّني قرّرت ألّا أصوّت لمرشّحي "التيّار" في دائرتي الانتخابيّة. اخترتُ هذه المرة وضع ورقةٍ بيضاء في صندوق الاقتراع. فاز "التيّار" مجدّداً بمقاعد أغلبيّة المناطق التي ترشّح فيها، لكن بنسبةٍ أقلّ من تلك التي حصل عليها في العام ٢٠٠٥. لم تجرِ عمليّة تقييمٍ جديّةٍ لهذه النتائج، حتى أنّ معظم مسؤوليه رفضوا نقاش انخفاض النسبة. أصرّوا على تسويق فكرة أن "التيّار" يمثّل ٧٠ في المئة من المسيحيّين. وبدأ الخطاب الطائفيّ يعلو شيئاً فشيئاً داخل "التيّار". اندلع الخلاف الأوّل على هذه القاعدة. فقد اعتبر العماد عون أنّ الحصّة المعروضة عليه في الحكومة لا تعكس حجم تمثيله الطائفيّ. استمرّ الخلاف بينه وبين الرئيس المكلّف سعد الحريري حوالي خمسة أشهر. نجح الطرفان بعدها في الاتفاق على الحصص، وعلى عودة صهر الجنرال عون الوزير جبران باسيل إلى الحكومة. عيّن عون شربل نحّاس وزيراً للاتّصالات. فتح هذا الأخير باب المواجهة مع رجالات السلطة السابقة في إدارات الدولة، فكانت الأولى مع عبد المنعم يوسف، المدير العام لهيئة الاتّصالات. ضخّ نحّاس نبضاً جديداً داخل "التيّار"، نبضاً نجح في استيعاب أولئك الذين ابتعدوا عنه خلال السنتين الأخيرتين. ومن "الاتّصالات" إلى "الكهرباء"، خرج علينا وزير الطّاقة جبران باسيل ليزفّ إلى اللبنانيّين أنّنا، وأخيراً، سننعم بالكهرباء ٢٤/٢٤ ساعة.

لكنّ هذا الصعود لم يستمرّ طويلاً. إذ سرعان ما بدأت الخلافات تستعر بين أطراف الحكومة. فكيف لأفرادٍ تقاتلوا طوال هذه المدّة أن يتّفقوا على إدارة شؤون البلاد؟ أُسقطت حكومة الرئيس الحريري في العام ٢٠١١، وقطع العماد عون "وان واي تيكيت" للحريري الابن، ووعدنا مرّةً أخرى ببدء تطبيق برنامجه من خلال حكومة الرئيس نجيب ميقاتي. حكومةٌ شكّلتها المعارضة السابقة التي ضمّت "حزب الله" و"أمل" و"التيّار" و"المردة" وأطراف أخرى مستقلة. ترقّبنا تنفيذ الوعود، فبدأ الحديث عن العراقيل. طالبنا بكشف الحقيقة. لم يأتِنا أحدٌ بجوابٍ شافٍ. لماذا لم تطبّق خطّة الكهرباء؟ من يعرقلها، بعدما أُقرّت اعتماداتها؟ ألقي اللوم تارةً على التمويل، وتارةً أخرى على حراك العمّال المياومين المطالبين بتثبيتهم، وفي معظم الأحيان على "الجميع" الذين يحاربون خطّة "التيّار" الإصلاحيّة. حُمّل ميقاتي المسؤوليّة الأساسيّة لعرقلة الحلول، وشنّ "التيّار" عليه حملةً شرسة. لكن "التيّار" اختار في المقابل التخلّي عن الوزير شربل نحّاس، الذي كان قد تولّى حقيبة العمل. طرح شربل نحّاس مشروع "التغطية الصحيّة الشاملة لجميع اللبنانيّين المقيمين"، فرفض رئيس مجلس النواب نبيه برّي الطرح، واتُخذ القرار بإبعاد نحّاس عن الحكومة، إذ إنّ الوزير "المشاغب"، كما وصفوه، بات مصدر إزعاجٍ للتّكتّلات الحاكمة. شكّل رفض نحّاس توقيع مرسوم بدل النقل غير الشرعي والذي يحرم الموظفين من الضمانات على جزء من راتبهم الحجّة الأنسب "للتخلّص" من وزير العمل. وقف عون على الحياد، ولم يدافع عن تشبّث وزيره بعدم التوقيع على قرارٍ غير قانونيّ. قدّم نحّاس استقالته من الحكومة، قبلها عون، ووقع وزراء "التيّار" على المرسوم غير القانونيّ. برّر الجنرال قراره بضرورة تأمين سير عمل الحكومة. صدّقه البعض. من جهتي، وجدتُ أنّ ما كان يجمعني مع طروحات "التيّار الوطنيّ الحرّ" ورئيسه قد انتهى. وبتّ على اقتناعٍ تامّ بأنّ لا مكان للإصلاح على أجندة "التيّار". أبعد نحّاس لإتمام صفقة بين عون وبرّي، وعيَّن مكانه عضو المجلس الدستوري السابق سليم جريصاتي، الذي كان قد وقّع على قرار إبطال نيابة غابريال المرّ عام ٢٠٠٢ والذي لم يتردّد في الإشادة بدور رئيس الاتّحاد العمّالي العام غسان غصن في حماية العمالة اللبنانيّة. غسان غصن، الذي حرص على دفن الاتّحاد منذ تسلّمه رئاسته.

ما عاد "الإبراء" مستحيلاً

حزبٌ كبقيّة الأحزاب


بخروج شربل نحّاس من الحكومة في العام ٢٠١٣، اقتنعتُ نهائياًّ بأنّ هذا "التيّار" ليس تيّاراً معارضاً للسلطة، من خارجها أو من داخلها. لا بل أضحى تيّاراً يتسابق على السلطة، يفاوض لكسب أفضل المناصب، يعرقل لإتمام الصفقات التي تناسبه، حاملاً لواء حماية الطوائف المسيحيّة، رافضاً الغبن اللاحق بها منذ انتهاء الحرب. لم أعد أكترث، حتى عندما أصدر "تكتّل التغيير والإصلاح" كتاب "الإبراء المستحيل". حاجج الكتاب لاستحالة إبراء ذمّة أيّ حكومة في مرحلة ما بعد الطائف من الإنفاق الذي قامت به والإيرادات التي حصلّتها، وفيه اتّهام صريح لحكومات الرئيس رفيق الحريري بتبذير مليارات الدولارات هدراً.

تحوّل التيّار خلال تلك السنوات إلى تيّارٍ لرجال الأعمال المقرّبين من أركان السلطة والساعين إلى تفاهمٍ معها. تبنّى خطاباً طائفيّاً بامتياز، بعدما كان الجنرال قد دعانا إلى نبذه شخصياً إذا تكلّم طائفيّاً . كرّس مفهوم حزب الشخص الواحد، فكان الناشطون أوّل من مُنع من نقد قرارات الجنرال، إن على مواقع التواصل الاجتماعيّ أو في الاجتماعات. بدأت عمليّات فصل هؤلاء. تخلّى عون عنهم، بعدما كانوا قد استبسلوا في الدفاع عن طروحاته، وواجهوا لأجلها الأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة والسوريّة وسجونها. ولم يكتفِ الجنرال بذلك. إذ عارض التمديد لمجلس النّواب اللبنانيّ مرّتين، لكنّه لم ينسحب منه. أصرّ على إقناعنا بجدوى المعارضة من الداخل. رفض انتخاب رئيس للجمهوريّة بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، بحجّة أنّ المجلس غير شرعيّ. أصرّ على إجراء انتخابات نيابيّة تفضي إلى تشكيل برلمانٍ جديدٍ مهمّته انتخاب الرئيس. عرقل عمل المجلس تحت هذه الذريعة. قدّم اقتراح قانون انتخاب على أساسٍ طائفيّ، القانون الأرثوذكسيّ، نصّ على انتخاب كلّ طائفةٍ لممثّليها. لربّما وجد أنّ هذا الحلّ هو الأنسب بعد تحويل تيّاره "العلمانيّ" إلى تيّارٍ طائفيّ يكاد يتبنّى جميع أفكار حزبَي "الكتائب" و"القوّات" خلال الحرب. قاطع حكومة الرئيس ميقاتي، فدفعه إلى الاستقالة. دخل حكومة الرئيس تمّام سلام، لكنّه سرعان ما بدأ مقاطعة جلساتها هي أيضاً. قاطعها بحجّة التعيينات الأمنيّة المجحفة للمسيحيّين. عاد إليها بعد فترة ليعود ويقاطعها مجدّداً تحت الذريعة بحجّة تطبيق الميثاقيّة. اتّهم سلام بـ"الداعشيّة"، ووضع الطائفة السنيّة هدفاً له. هاجم الحراك المدنيّ في العام ٢٠١٥ بعدما اتّهمه هذا الأخير بالمشاركة في صفقات الفساد. حرص على إفشاله، فكان رأس الحربة الأولى للسلطة في وجه الحراك. حتّى إنه لم يتردّد في اتهام منظّميه بسرقة شعاراته الداعية إلى محاربة الفساد. وعد بالعودة إلى الشارع للمطالبة بحقوق اللبنانيّين، من إيجاد حلٍّ لأزمة النفايات إلى تطبيق خطّة الكهرباء وغيرها من المطالب الحياتيّة اليوميّة. وَعَدَ فقط. لم يسمح بإجراء انتخاباتٍ لرئاسة "التيّار" بعدما قرّر التخلّي عن منصبه. تدخّل لإجبار الجميع على القبول بتعيين صهره الوزير باسيل رئيساً لـ"التيّار". فصل المعارضين باجراءاتٍ تعسّفية لم يشهدها أيّ حزبٍ حاليّ. تبنّى خطاباً عنصريّاً بحقّ اللاجئين السوريّين، وطائفيّاً بحقّ كلّ من يعارضه. حرص على عدم تأمين النصاب في أيً جلسةٍ رئاسيّة، لدفع الجميع إلى تبنّي ترشيحه. تحالف مع جعجع لتحقيق هدفه. أوحى لنا أنّ هذا الاتفاق أتى فعليّاً لطيّ صفحة الماضي. ثلاثين سنة من الاقتتال، أنهاها الرجلان بتوقيع "ورقة إعلان نوايا"، وبتبنّي جعجع لترشيح عون، من دون أيّ اعتذارٍ لنا عمّا جرى.

في ٣١ تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠١٦، من المفترض أن يصل العماد عون إلى قصر بعبدا. سيحقّق حلماً سعى إليه منذ العام ١٩٩٠. أن يصبح العماد عون رئيساً للجمهوريّة اللبنانيّة. حلم لم يتردّد في المساومة من أجله. عاد وزراء "التيّار" إلى الحكومة. لم تعد تعنيهم التعيينات في المراكز الأمنيّة. تحالف عون مع الحريري. لم يعد "تيار المستقبل" المسؤول عن الفساد الذي أصاب مَرافق الدولة منذ انتهاء الحرب. ما عاد "الإبراء" مستحيلاً. تصالح عون مع الطائفة السنيّة. لم تعد "داعشيّة" لأنّها سعت إلى السيطرة على حقوق المسيحيّين. تبنّى خطاباً جامعاً. لم يعد هناك من يريد محاربته وعرقلة مشاريعه. في ٣١ تشرين الأوّل/ أكتوبر، سينتخب مجلس النوّاب غير الشرعيّ العماد عون رئيساً للجمهوريّة. لا يهمّ. يمكننا اعتبار مجلس النوّاب شرعيّاً ما دام سينتخب العماد عون رئيساً.

العدد ١٥ - خريف ٢٠١٦

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.