العدد ١٣ - شتاء ٢٠١٦

تصحيح خطأ الموت

النسخة الورقية

أيقنتُ أنَّ حياتي هناك صارتْ منتهيةً.
كلّ ما جرى في حياتي السابقة أصبح متلاشياً وعاتماً. هذا وحده كان كفيلاً في بث الرعب في نفسي. من أنا؟ مجدداً، أين هو مكاني؟ الهستيريا التي أصابتني في شكل طفيفٍ تبدو حدثاً هامشياً، لكنَّها مقترنة مع توتر كارثي ودائم لحق بي، أنا الآن لست شيئاً. إذ في هذه اللحظة، أعيش هنا في باريس قرب مقبرة غرونيل في شارع سان شارل. هنا، في أكثر الأحياء الفرنسية أرستقراطيةً، لا شيء يدل على أنني موجودة، ولا شيء يثبت أن هذا الوجه الذي أخفيه بيدي، هو وجهي.

أنا مجرد شخص موجود، قد يكون أتى من القارة الآسيوية، أو أي بقعة أخرى في الأرض، أنا شخص غير موجود، لأن وجوده على هذا الحال، هو اللعنة.

اكتشفت لاحقاً أن الجميع حولي يعاني من تلك المرحلة البلاستيكية، في التحوّل البشري بعد اللجوء. في هذه المرحلة، ما من مكان لثبات الهوية، ولا شيء يؤثر في ثقل وزن الجسد لتتحسس مفاتيحه في الشهوة والخدر والتصاعد. نحن مجرد قطع من البلاستيك المتكاثف فوق القلب البشري. الحياة السابقة في دمشق جثة عفنة لا أدري أين أدفنها؟ هناك، حيث لم يكن ليحدث أمر، ولم يكن شيء ليتغير، لولا الثورة. كنا كمن تلاشى في خوفه، ونحن الآن كمن ظهر شبحياً فوق خوفه.

ليس هناك فارقٌ كبيرٌ بين حياتنا السابقة وهذه الحياة المعيشة آنياً. إلا أنَّ حديثاً عن الجسد والجنس، ورماديتهما الحالية، عند أكثرية من خرج من منهبة العمر هذه (التي ألحقها النظام السوري بالشعب، بعد الثورة السورية) قادني إلى استنتاج هو في أقصى حدود الألم: هل نحن كائنات آلية، بعد مجمل جنونٍ صامتٍ عشناه؟ إن شعوراً هائلاً ينتابني، بأن قدرتنا الضئيلة متاحة، فقط، في فعل تدميري ذاتي تجاه أنفسنا. نحن ندمّر هذا النظام الذي خُلقنا به، منذ عقود. ندمّره داخلنا، لأن تحديثاً غريباً ومختلفاً طرأ فينا بعد الثورة، إذاً ما هو مصير التركة الفكرية القديمة، التي أصبحت لاواعية، لا مصير واضحاً لها غير أنها في طريقها إلى تفتيت كل ما يشكلها؟ وهنا، لا يمكن أنْ نبقى الأشخاص ذاتهم، في أيّ الأحوال.

أكاد لا أتحرك. جسدي ينتفخ، ثم ينتفخ، لينتج كتلاً من الدهون، تدل على وجودٍ مادي، في أقل الاحتمالات النفسية التحليلية لتغيّر الجسد، في المكان الجديد. أليس الجسد هو الحقيقة الوحيدة، والباقي مجرّد أفكار غير مدركة، في الملموس؟

لافتة بحاجة إلى الإصلاح

ليست المشكلة أننا ذُبحنا، وأن القتلى منا تكدّسوا في حفرة تشبه الوادي، لكنَّ الأمر الملحّ هو أن ذاك الجرف الذي اسمه سورية في حاجة حقيقية إلى النهوض من أجل إصلاح اللافتة الصغيرة المؤدية إليه كمكان وكمدفن جماعي. ونحن الأموات تعبنا، فكلما أصلحنا اللافتة، قصفها القائد المفدّى مجدداً، وعلى أحد ما أنْ يصلحها، هي تنص: «سورية، القبر الجماعي الشيّق». لم لا تصلحون تلك اللافتة؟ لعل أحداً ينتبه إلى أنّ في الأسفل من كومة أجسادنا، لا تزال هناك جثة تنطق بما يوحي بأنها تعيش في حياة جديدة سعيدة. إنَّ الجثة تعوي كذئبة جائعة، يسيل من لعابها حليبٌ فاسدٌ، هاهي تداعب رأسي، أنا الجثة ما قبل الأخيرة. أهناك أحد سيمرّ ويصلح شاهدة القبر؟

مع توالي الهلع، صرت مثل شجرة مقلوعة من صدر غزالة ميتة ومدفونة.

عام ونصف العام مضى علي وأنا في باريس أمام مقبرة غرونيل، في شارع سان شارل. لا أبرح المكان، أمارس طقساً شديد الغرابة، كي أهدأ من لعنة الموت ومن صراخ الغربان الحائمة حول المقبرة. أختار كل يوم شيئاً من ملابسي وأغراضي وأرميه، إما في السلة المخصصة للتبرع، وإما في زاوية من الشارع، حين أكون متأكدةً أنَّ هناك من سيمرّ فيأخذ ما رميت. كانت أغلب حاجياتي جديدة تقريباً، لكنني صرت أخاف من تجمّعها، أخاف أن تصير لي ذاكرة قابلة للتلاشي، ذاكرة تقصف أو تدمر. هناك مفاصل في حياتي، أتذكر في كل منها زياً أرتديه وناسبني واقترن مع لذة ما. أما في باريس، ومنذ وصولي، فقد كانت كلُّ الملابس عبارة عن لغز صعب الحل. صارت الأقمشة لعنة، الأحذية مؤلمة، مهما كانت فخمة وواسعة، على الرغم من أني اعتدت على الأحذية الضيقة، اعتدت ألّا يكون في وسعي سوى خيار واحد منها في سورية البعث. لا أريد أن أبني أيّ ذاكرة مع المكان، أي بهجة مقترنة مع الأشياء المستخدمة من قبل البشر، ستكون قاتلة.
أحاول تصحيح هذا الرعب، أحاول تصحيح خطأ الموت.

في العام ٢٠١٢، أجرت مذيعة مختلة، مؤيدة للنظام السوري، مقابلة مع مصابين في داريا (ريف دمشق) لحظة وجودهم في موقع المجزرة، حاورتهم وهم ينزفون ويوشكون على الموت. لم أشاهد هذا الفيديو إلى حين خروجي من سورية. فتحته في صيف عام ٢٠١٣ في بيروت عندما تماهيت مع ضحية امرأة، وأصابتني، وقتها، أول نوبة هلع مريعة. تزامن ذلك مع عودتي من كوبنهاغن إلى بيروت دون حتى أن يكون في حوزتي تأشيرة دخول إلى لبنان، كفلسطينية سورية. منحتُ في مطار رفيق الحريري الدولي ختماً للمرور إلى سورية مدته يوم ويوم بعده، ومن وقتها بدأت الأشياء في التقلص، صغرت المدينة وشوارعها، وصرت أختنق من أي حادث عابر، صرت أخاف حتى من رجل الحراسة في المباني الفارهة.

البحر بلعني وبلع ذاكرتي

في طريق القطار الطويل، من باريس إلى كوبنهاكن، كانت رحلتي مشوبة بالألم الجسدي، فامتناعي عن استخدام الطائرة بسبب الخوف من الطيران لم يخفف من أهوال رحلة الأرض. عند الطريق البحري، الذي يفصل بين ألمانيا والدنمارك، كنت أفكر في كل رحلات السوريين التي تتالت في منتصف العام ٢٠١٥ في شكل يتجاوز مفهوم النكبة الفلسطينية، ويتخطاه في الرهاب والتنكيل. إنها رحلة تتجاوز القتل إلى الموت، وما يقص من مجريات الرحلات ما هو إلا مزحة عابرة.

كانت المقطورة التي أنا فيها مزدحمة بالركاب السوريين: كانوا مبتهجين، فالقطار لا يخيف. وحدي أنا الخائفة من الطريقة التي سيجتاز بها القطار المنطقة البحرية، هل سيكون هنالك جسر؟ القطار يسرع فوقه، كتلة حديدية هائلة، على سكة ضيقة؟

الراكب البريطاني الذي جلس قبالتي كان يجهل مثلي ماهية الطريقة التي سيقطع بها القطار هذه البقعة من الكرة الأرضية. قال لي: «أنا لا أعلم إن كان القطار سيتحرك فوق الأرض أم تحتها»، هكذا ببرود لا يمكن أن أستسيغه، هكذا يكلمني الرجل المتحضّر.

البحر بلعني، وبلع ذاكرتي، البحر أكلنا نحن السوريين كَحَسَك السمك، والأرض كلها كانت تشاهد، وتضحك. خاطبني أحد الركاب من المقاعد المجاورة باللكنة العامية السورية: القطار سيدخل السفينة، ثم سنصعد إلى طوابق السفينة العليا، وسنبحر نحو أربعين دقيقة في البحر حتى نصل إلى الدنمارك. شكرته. همس لي: «أحاول تخفيف خوفك. أنا فلسطيني سوري لاجىء، في الدنمارك». شعرت بقليل من الحرج، لكنِّي بدّدت هذه الفكرة: نحن في معتقل واحد، والجلاد الذي يقود القطار يمارس علي وعليه السادية ذاتها. الفارق أن اللاجئ عاش هذا قبلي.

على سطح السفينة، التي فيها كل ما يحتاج إليه إنسان على الأرض، قابلتُ مجموعة من السوريين، التفّوا حولي لأنني كنت فضولية جداً. أجوبتهم كانت منهكة، لقد فقدوا أحبة في الطريق. شعرت أن خيباتي ومخاوفي تافهة جداً. هناك على سطح السفينة ضحكنا وعانقتُ النساء، وابتسمت للرجال الذين تركوا مسافة بيني وبينهم. لمحتُ طفلاً رضيعاً قد نام على كتف أمه. قالت لي الأم إنه وُلد تحت القصف، واجتاز بحر اليونان دون أن يدرك ما يجري حوله، وأنه كان يضحك من مشهد الماء، إذ اعتقد أنه في نزهة. نعم يا صغيري، نحن في نزهة، نهدهد خلالها الدول لتنام فنسرق حدودها ليمر الغرباء، ونحن الغرباء ونشبه الغجر. يا صغيري النائم في برد البحر، أنا وأنت لا ندري شيئاً عن الموت، أنا وأنت لا نخاف، لأننا اعتدنا الرعب، وأنا وأنت ميتان. كان هذا اللقاء القصير، المملوء بالأسئلة والأجوبة من القدر، قد أنساني وقت الرحلة في البحر. في الدنمارك، لدى وصولنا كان الترحيب بالسوريين مقترناً مع عبارة رافقتكم السلامة.

القطارات الدنماركية السخية مهيّأة لنقل اللاجئين السوريين إلى مالمو السويدية، البلد الضئيل عدد السكان. في الدنمارك لم يكن مرحباً بهم، لكن ناشطين دنماركيين مخلصين للثورة السورية ساعدوا على إتمام الرحلة دونما ضغوط في العبور. لذا توجّه السوريون إلى بر آخر، بقلوب ملوثة بالطحالب وبعيون يقظة من أي طعنة ظهر.
أيها البحر، أنا هيكل بلاستيكي طافٍ، إلى نهاية الألم، في المضي، وفي العودة، صوب مقبرة غرونيل الباريسية.

العنوان للشاعرة السورية الراحلة دعد حداد
(١٩٣٧-١٩٩١)

العدد ١٣ - شتاء ٢٠١٦

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.