العدد ١٢ صيف / خريف ٢٠١٥

الفراغ المعماري في رام اللّه

النسخة الورقية

فضاء العمل في رام الله هو حيّز هلامي، يمتدّ، يتشعّب، ويتداخل مع المدينة. غالباً ما يضجّ بالحركة من الساعة الثامنة وحتى الخامسة، ليهدأ تدريجياً ويسوده السكون، فيما عدا بعض الاستثناءات، والمناوبات الليلية. تصل أعلى تضاريسه الطابق الثامن والعشرين، أما أكثرها انخفاضاّ فتنحدر تحت مستوى سطح الأرض المحفور حديثاً ببضعة أمتار، حيث يقوم عمال بناء بإرساء أساسات لبناية أخرى. هو فراغ متواصل ومتجانس في بعض الأجزاء من المدينة، كحي الماصيون ومنطقة الإرسال، ليتفرّع ويتجزأ عند اختراقه مركز المدينة متعدد الاستعمالات، فيحتلّ طابقاً أو اثنين من بناية، أو بيتاً من العشرينيات. تفوح منه رائحة معطّر الجو المخفّف بهواء المكيّف في الصيف، أو الممتزج برائحة غاز غير محترق، منبعث من مدفئات يستعان بها في حالات تعطل التدفئة المركزية المتكررة شتاءً. يمكنه التمدّد واحتواء مئات الأمتار المربعة وعشرات الطوابق، أو التقلّص ليقتصر على مقطورة سائق شاحنة يغادر المدينة لتسليم شحنة من المشروبات الغازية، أو بقعة يقف عليها شخص يتفقد بريده الإلكتروني على هاتفه المحمول.

حدود فضاء العمل في تغيّر مستمر. تبدأ وتنتهي مشاريع وبرامج بحسب إيقاع السنوات المالية للمنظمات الدولية المانحة، وتغادر شركات ومؤسسات خاصة مكاتبها المؤقتة للاستقرار خارج المدينة الآخذة بالاكتظاظ. تبعاً لذلك، فإن جزءاً كبيراً من فراغات المدينة يتكوّن ويتشكّل لتمكين مثل هذا التغيير بأقل خسائر ممكنة.

فمنذ نهاية التسعينيات، وبداية الحراك متسارع الوتيرة في قطاع الإنشاءات في مدينة رام الله، أصبح تحويل الشقق السكنية إلى أماكن عمل، والعكس بالعكس، أحد الاعتبارات المهمة في تصميم السكن لدى العديد من المعماريين. في سبيل ذلك، يجري العمل على تقليص العناصر الثابتة في المباني، بحيث تقتصر على العناصر الإنشائية والتمديدات الصحية. وتبعاً لذلك، يجري تحقيق أكبر حيادية ممكنة في الفراغات لتمكينها من استيعاب التغيرات السريعة والاستجابة للحلول الطارئة.

 

الفراغ المعماري المحايد

بعد فترة وجيزة من تشكلها في منتصف التسعينيات، قامت السلطة الفلسطينية باستئجار شقق سكنية في أنحاء مختلفة من مدينة رام الله لاستضافة وزاراتها حديثة النشأة. ونظراً لعدم توفر ميزانية كافية حينها، لم يُصر إلى إجراء تعديلات تذكر على تلك الشقق. فتطوعت كل وزارة لتشغل تلك الفراغات المنزلية، التي استمر معظمها في استضافة مؤسسات السلطة لأكثر من عشرين عاماً.

انتشرت ظاهرة استخدام الشقق السكنية كمكاتب في مدينة رام الله في نهاية التسعينيات نتيجة الأعداد المتزايدة من موظفي القطاع العام والمؤسسات غير الحكومية الوافدة للعمل على «تنمية» الاقتصاد الفلسطيني اليافع، وبنيته التحتية. فبعد التوقيع على معاهدة أوسلو عام ١٩٩٣ ــ التي مهدت الطريق لتكوّن السلطة الفلسطينية ــ تمّ عقد اتفاقية اقتصادية سميت «بروتوكول باريس الاقتصادي»، تمأسست فيها المصالح الاقتصادية للاحتلال في الأراضي الفلسطينية وسيطرته الكاملة على المصادر ومعابر الحركة.

وبالرغم مما نجم عن اتفاقية باريس من مأسسة لتبعية الاقتصاد الفلسطيني الهيكلية لاقتصاد الاحتلال الإسرائيلي، فقد شهدت الفترة اللاحقة لتوقيع الاتفاقية بدء تدفق مليارات الدولارات من المساعدات التي تعهدت بها الدول المانحة (وهي أوروبية وأميركية في معظمها) لدعم بناء الاقتصاد الفلسطيني وللتأسيس لما يفترض أن يكون مرحلة ما بعد الاحتلال.

من المثير للاهتمام أن ما نجم عن حالة الارتباك تلك من فراغ داخلي هجين، مرافق لمأسسة علاقات قوى سياسية، اقتصادية واجتماعية جديدة، قد أثّر إلى حد كبير في النتاج المعماري اللاحق.

تزايد الحاجة إلى فراغات العمل جاء نتيجة لبداية تشكّل اقتصاد معتمد إلى حد كبير على القطاع الخدماتي. فشهدت تلك الفترة بداية استدخال مفهوم التنمية، كهدف معلن للمنظمات والمؤسسات المانحة. لم ترَ تلك الجهات أي مفارقة في كونها تهدف إلى تنمية اقتصاد دولة مستقبلية تمّ للتو تجريدها من أي أفق سياسي أو إمكانية تحقيق سيادة حقيقية، بل وجدت معادلة مريحة تبدّد فيها أي أفكار حول تلك المفارقة إن وجدت، حيث طرحت نفسها منذ البداية كجهات محايدة سياسيّاً تسعى إلى التنمية الاقتصادية، متجاهلة الارتباط العضوي بين الاقتصاديات الوطنية والسياسة، وخصوصاً في حالة تشكيل نواة لدولة لا تزال تحت الاحتلال. أضعفتْ تلك الفجوة بين الاقتصاد والسياسة في مخططات الدول المانحة من إمكانية بناء هيكلية إنتاجية قابلة للاستدامة. وبالتالي، فإن عمل السلطة الفلسطينية منذ تشكلها كان أقرب إلى عمل منظمة غير حكومية، باعتبارها كياناً إداريّاً يشرف على تنفيذ مشاريع بالغة الصغر مموّلة من المانحين إبراهيم الشقاقي وجوانا سبرينغر، «فصل الحكم عن الاقتصاد في فلسطين: وصفة لدولة فاشلة»، شبكة السياسات الفلسطينية، ٢١ نيسان ٢٠١٥. . وبسبب تحكّم دولة الاحتلال الإسرائيلي بما يفترض أن يندرج ضمن مسؤوليات الحكومة الفلسطينية، اقتصر نهج السلطة الإنمائي على اعتبارات إدارية وعملياتية، وعلى تنفيذ الوصفات الاقتصادية السائدة التي توصي بها المؤسسات المالية الدولية.

في العام ١٩٩٦، أصدر البنك الدولي (صاحب المشاركة المركزيّة في رسم سياسات الدول المانحة منذ اتفاقية أوسلو) تقريراً عن التنمية في العالم بعنوان «من الخطة إلى السوق» استعرض فيه تجارب الانتقال إلى اقتصاد السوق الحرة في البلدان ذات الاقتصاد المخطط مركزياً كبلدان أوروبا الشرقية، والدول المستقلة حديثاً في الاتحاد السوفياتي السابق، والصين وفييتنام. جاء في المقدمة:

«وهذا الانتقال، الذي يؤثر في ما يقرب من ثلث سكان العالم، كان أمراً لا بد منه. فالعالم يتغيّر بسرعة: إذ إن الزيادة الهائلة في التجارة العالمية والاستثمارات الخاصة في السنوات الأخيرة أتاحت إمكانات كبرى لزيادة الوظائف والدخل والارتفاع بمستويات المعيشة عن طريق الأسواق الحرة. غير أن الأنظمة الاقتصادية التي كانت تسيطر عليها الدولة في تلك البلدان، والمثقلة بسيطرة البيروقراطية وعدم كفاءتها، حالت إلى حد كبير دون قيام الأسواق بوظائفها، وبالتالي كانت غير قادرة على مواصلة تعزيز الرفاه البشري. ورغم أن تلك النظم كانت تضمن التوظيف والخدمات الاجتماعية، فقد كان ذلك على حساب الإنتاجية، وارتفاع مستوى المعيشة للجميع [...] وقبل كل شيء، فقد كان للانتقال، وسيستمر في أن يكون له في المستقبل أثر عميق في حياة الناس. وحدث في بعض البلدان التي تمر بمرحلة الانتقال أن انخفض مستوى المعيشة في الأجل القصير، بينما ازداد رفاه البشر في بعضها الآخر زيادة ملموسة».

من غير المستغرب أن تتبنّى السلطة الفلسطينية منذ تشكلها سياسات اقتصادية نيولبرالية. فأصبح انسجام بنية الاقتصاد مع متطلبات السوق الرأسمالي العالمي المرشد النظري في العملية التنموية مع عدم الأخذ بعين الاعتبار، عند وضع السياسات، وجود احتلال يستهدف الإنسان والموارد المادّية والطبيعية. ومع أن هذه السياسات لم تطبّق بشكل كامل بسبب الاحتلال، فإن من الصعب تجاهل مغزى تلك الأفكار التي تصبّ في جوهر الفكر التنموي وتقوده.إيلين كتّاب وآخرون، مقدمة في نقد التنمية، وهم التنمية: في نقد خطاب التنمية الفلسطيني.
(مركز بيسان للبحوث والإنماء، رام الله ٢٠١٠)، ٩.

في سياق متصل بالرأسمالية العالمية، لعلّ أكثر المظاهر المادية وضوحاً في إظهار عوارض تبنّي السياسات النيولبرالية هي المباني المرتفعة، أو الأبراج. فهي تلازم الاقتصاد الرأسمالي حيث حلّ، وتعمل بمثابة أيقونة للرأسمالية المتأخرة، فديناميكيات قطاع الإنشاءات مناسبة تماماً لأهواء السوق الحرة. من جهة أخرى، هنالك مظهر فراغيّ آخر مصاحب للرأسمالية، ولكنّه أقل وضوحاً وأكثر تعقيداً في آنٍ معاً، وهو الفراغ المحايد.

مشهد عام لمدينة رام الله

«الفراغ المحايد»

يقوم مبدأ الفراغ المحايد على المخطط الأفقي الحرّ، الذي يعمل على تحرير الفراغ الداخلي للمبنى من أي عناصر ثابتة ما عدا العناصر الإنشائية، فيتيح بذلك إمكانية تطويع الفراغ بسهولة لاستخدامات متعددة. يعتبر نموذج بيت الدومينو، الذي صمّمه لُ كوربوزييه عام ١٩١٤ بداية استخدام مبدأ المخطط الأفقي الحر في تصميم المسكن، حيث كان استخدامه في السابق مقتصراً على تصميم المصانع والمستودعات. يتكوّن نموذج منزل الدومينو من هيكل من الأرضيات الأفقية التي تفصلها عن بعضها أعمدة إنشائية عمودية. وأي إضافات إلى هذا الهيكل الإسمنتي الفارغ يمكن تغييرها بسهولة بحسب البرامج المتغيّرة.

تطورت تكنولوجيا بناء الفراغ المحايد بالأساس مع بدايات تطور الاقتصاد الصناعي في أوروبا لتتيح المجال لاحتواء التغيّر السريع في وسائل الإنتاج (الصناعية، المعتمدة على خطوط الإنتاج) أو الإدارية (المكاتب). ثم انتقل الفضاء المحايد من المصانع إلى البيوت في تصاميم معماريي الحداثة الذين رأوا في البيت وحدة مكوّنة للمدينة. Aureli, Pier Vittorio. «The Theology of Tabula Rasa: Walter Benjamin and Architecture in the Age of Precarity» The city as a Project (2015).

تظهر علاقة هذا النموذج بالرأسمالية في جهتين رئيستين: في مقالته «الشخصيّة المدمِّرة»، التي كتبها في عام ١٩٣١ مع تصاعد النظام الفاشي في أوروبا، يكتب والتر بنيامين: «الشخصيّة المدمِّرة لا تعرف إلّا شعاراً واحداً: إفساح المجال. وفعلاً واحداً: إبعاد الأشياء عن طريقها. فحاجتها إلى استنشاق الهواء والفراغ المفتوح هي أقوى من أي كراهية تضمرها». Benjamin, Walter. «The Destructive Character»
in Walter Benjamin: Selected Writings, Volume 2, part 2, 1931–1934,
ed. Michael W. Jennings et al, trans. Rodney Livingstone
(Cambridge: The Belknap Press of Harvard University Press, 1999), 541.

يصلح وصف بنيامين كتعبير مجازي لسلوك الرأسمالية. وما يقوم به الفراغ المحايد من رضوخ كامل للظروف المتقلّبة التي تفرضها الرأسمالية وفرض قبولها كأمر واقع لا يمكن التصدّي له.

أمّا الجهة الثانية فتكمن في آليات إنتاج هذا الفراغ. إذ يتم تبسيط آليّة إنتاجه لتتكوّن من خطوات تتكرّر باستمرار بنفس الطريقة والشكل. فإنتاج الفراغ المحايد يتطلب معرفة فنية ضحلة تُمكِّن من دفع أجور منخفضة لعمالة سهلة الاستبدال.

 

رمزية العمل

من أجل تطبيق مبادئ الكفاءة النيولبرالية، وإيجاد أدوات تمكّن من قياسها، تقوم النيولبرالية بتوسيع تعريف السوق ليشمل كل مجالات النشاط البشري. إبراهيم الشقاقي وجوانا سبرينغر، مرجع سابق. فالرؤية التنموية المجرّدة والمنفصلة عن الواقع المعاش في فلسطين، إضافة إلى سياسات التنمية الوطنية الاقتصادية التي ركزت على قطاعات غير إنتاجية وخدماتية، لم تستطع أن تغير في بنية سوق العمل وتوسيعه، ما أدى إلى أزمة هيكلية.

يشكّل موظفو القطاع العام ما بين ٢٠ و٢٥٪ من القوى العاملة الفلسطينية، وعلى الرغم من كون هذه النسبة تفوق حاجة التوظيف الفعلية بكثير، فإن الدعم المالي الذي تقدمه السلطة من خلال رواتب الخدمة المدنية يشكل عنصراً أساسياً في إعطائها صفة الشرعية. ٤٤٪ من موظفي القطاع العام يندرجون ضمن قطاع الأمن، الذي نما خلال العقد الماضي بوتيرة أسرع من أي مكوّن آخر للاقتصاد الفلسطيني، فكانت حصته ٢٦٪ من موازنة عام ٢٠١٣، مقارنة بنسبة ١٦٪ لقطاع التعليم، و٩٪ للصحة، و١٪ لقطاع الزراعة.صابرين عمرو وعلاء الترتير، «بعد حرب غزة، أي ثمن لقطاع الأمن في فلسطين؟» شبكة السياسات الفلسطينية، ٨ أكتوبر ٢٠١٤ وربما لا حاجة إلى القول هنا أن هذا القطاع المتنامي لا يوفر الأمن للفلسطينيين، بل يعمل على تخفيف أعباء السيطرة الأمنية للاحتلال الإسرائيلي على المناطق التابعة للسلطة الفلسطينية من خلال قمع المظاهرات واعتقال الناشطين ونزع سلاح الأحزاب السياسية.

أمّا في ما يخص القطاع الخاص، الذي نشأت شركاته في الفترة التي تبعت اتفاقية أوسلو، فتأسست أوّل شركة اتصالات فلسطينية، ونشأ قطاع تكنولوجيا المعلومات. أخذ الطلاب الفلسطينيون بالتركيز على الحقول والتخصصات الجديدة التي يحتاج إليها سوق العمل في القطاع الخاص، والذي اتجه بشكل كبير نحو القطاع الخدماتي على حساب القطاعات الإنتاجية. أصبحت عبارة «بناء القدرات» لا غنى عنها في أي مقترح تمويل لمشروع جديد، مع فصل السياق الذي ستُبنى تلك القدرات من أجله.

 

الحياد وإشكالية التأقلم

بعد فشل العديد من المدن التي صممها معماريو الحداثة في منتصف القرن العشرين في تحقيق العدالة الاجتماعية ونوعية الحياة المرجوّتين منها، ومعها الفكرة القائلة بإمكان المعماري، أو المخطط أو مجموعة منهم، تصميم مدن بكاملها والتحكم بديناميّاتها، اتجهت دراسات تخطيط المدن ومشاريع العديد من المعماريين، المخططين والناشطين المدينيين نحو مبادئ المرونة والتأقلم، حيث كانت تعقيدات العلاقات بين المدن وسكانها، والسياقات المتغيّرة بوتيرة متسارعة، تتفوّق باستمرار على محاولات التنبؤ بها والتأثير عليها. ولهذا، فإن انعدام الاستقرار السائد في العديد من مدن العالم، وخصوصاً في الأحياء العشوائية والتجمّعات غير الرسمية، دفع المخططين إلى استحداث أساليب للتعامل مع هشاشة الظروف واستيعاب التغيّرات المستمرة بمرور الزمن.

على الرغم من الإيجابيات الكامنة في استراتيجيات المرونة والتأقلم مع تمكين المستخدمين من التحكم بالفراغ وتطويعه، تبقى هنالك إشكالية مهمة تتمثّل في تعزيز هذه الاستراتيجيات للظروف الاجتماعية والسياسية السائدة عبر سعيها إلى استحداث ديناميات تسهّل التعامل معها وجعلها أكثر استساغة بدلاً من أن تهدف إلى تغييرها.

تُشكّل المباني ذات الفراغات المحايدة في مدينة رام الله نموذجاً لعمارة تعمل بموجب ديناميات المرونة والتأقلم. ومع أن تلك المفاهيم لم تندرج بشكل منهجي ضمن استراتيجية متّبعة في تخطيط المدينة، حيث الغالبية العظمى من قوانين التخطيط المعمول بها تعود لفترة الانتداب البريطاني، وعدد لا بأس به من المباني «المحايدة» يجري بناؤه من قبل مقاولين، يمكن اعتبارها انتشاراً تلقائيّاً لهذا النموذج بداعي الحاجة. والسؤال هنا: هل في حياد الفراغ تواطؤٌ مع حياد السياسات التي تصنعه؟

تعليقاً على الأزمة الاقتصادية التي حلّت باليونان أخيراً، كتب المفكر الصربي سلافوي جيجيك: «إن إنكار الجانب الإيديولوجي للأزمة هو فعلٌ إيديولوجيٌّ خالص» وقد تم ذلك بالفعل عندما مُرِّرت قضايا سياسية بحتة محدّدة لمصير الدولة ونمط عيش سكّانها على أنها مسائل إدارية فنية تنتظر حكم خبراء الاقتصاد.Žižek, Slavoj. «This is a chance for Europe to awaken», The New Statesman

إنّ البنية الهيكلية لفضاء العمل في رام الله ودينامياته الساعية إلى تحقيق الكفاءة في استيعاب التغيير المستمر، مشابهة إلى حد بعيد لبنية الاقتصاد الفلسطيني الحالي. فالفصل بين السياسة والتنمية الاقتصادية أدّى إلى الهوس بوصفات الكفاءة والحلول الفنية دون مراعاة السياق السياسي والمؤسسي،إبراهيم الشقاقي وجوانا سبرينغر، مرجع سابق. إذ تشكّل معايير الكفاءة والاعتبارات الفنية أساساً لتقييم الاستراتيجيات المعمول بها، بعيداً عن العواقب السياسية لتلك الاستراتيجيات. فمثلاً، يبرّر غياب دعم قطاع الزراعة في فلسطين بانخفاض إنتاجيّته في مقابل قطاع الخدمات، إلّا أن أهمية هذا القطاع سياسياً تتجاوز مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي، حيث إن معظم الأراضي الزراعية التي تعود للفلسطينيين موجودة في المنطقة (ج) التي تمارس فيها إسرائيل سيطرة كاملة، وقلّة استخدام الأراضي غالباً ما تهدد بمصادرتها. وتحاشي المخططات الاقتصادية للتعقيدات البيروقراطية التي تفرضها حكومة الاحتلال، وتكوين هيكلية تسعى إلى تخطّي العقبات الإسرائيلية بدلاً من مواجهتها، يساهمان في تعزيز الوضع الحالي إن لم يزيداه سوءاً.

ما الحاجة إلى «البلكونة»؟

في عام ٢٠٠٥ أعلنت وزارة الأشغال العامة عن مسابقة معمارية لتصميم مجمّع وزاري جديد في مدينة رام الله ليضم مباني لثماني وزارات. من أهداف المشروع المذكورة في إعلان المسابقة، ترشيد النفقات وخفض بدل الإيجارات عن كاهل الخزينة الفلسطينية، وتوفير المباني المناسبة المصممة أصلاً كمكاتب للوزارات.

عند نهاية لقاء أجريته مع المهندس محسن الحنبلي، مصمم المشروع الفائز بالجائزة الأولى في المسابقة والذي شارف تنفيذه على الانتهاء، علق بذهني ما قاله عن أن مباني المجمع الثمانية هي نسخ طبق الأصل الواحدة منها عن الأخرى. وكنت قد وضعت جهاز التسجيل في حقيبتي عندما انتابني الفضول لمعرفة ما إذا كان الرجل يصمّم شققاً سكنية وما إذا كان يأخذ إمكانية تحويلها لمكاتب بالحسبان. فأجابني بأن ذلك «يعتمد على المالك، ولكننا غالباً ما نقوم بذلك». وعند سؤالي عن التفاصيل التي تتيح سهولة تحويل المسكن إلى مكتب، أجابني كما أجابني العديد من المعماريين الذين قابلتهم، فتحدث عن توزيع العناصر الإنشائية والتمديدات الكهربائية والصحية، ثم أضاف: «كما أنني أتجنّب وضع بلكونات في الشقق، فهي تصبح فراغاً ضائعاً في المكتب. ما حاجة المكتب بالبلكونة؟ ستكون مضيعة لوقت العمل».

العمل داخل الإرسال سنتر

مبنى سكني في كفر عقب

لقطات عامة لمبنى الإرسال سنتر

لقطات عامة لمبنى الإرسال سنتر

مشهد عام لحي الماصيون في رام الله

العدد ١٢ صيف / خريف ٢٠١٥

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.