العدد ١١ - ربيع ٢٠١٥

توفيق الباشا والإنشادية الدينية المشرقية

النسخة الورقية

يعتبر توفيق الباشا أحد أعمدة النهضة الموسيقية اللبنانية والعربية. لم يكن مجرّد فنان أداتُه الموسيقى وحرفتُه التلحين، بل هو مفكّر موسيقي وصاحب مشروع فني حقيقي يسير في خطين متوازيين: إحياء التراث الأدبي العربي وإخضاعه للتجريب الموسيقي بما يليق به ويساعد على خلوده، وإحداث نقلة نوعية في الموسيقى العربية عامة، واللبنانية على وجه الخصوص، لانتشالها من محلّيتها وقوالبها التقليدية إلى ما هو أبعد من الطقطوقة والفولكلور، مما يمكّنها من تجاوز غاياتها المتمثلة في التطريب إلى أبعاد أكثر عمقاً للتعبير عن أفكار ورؤى. فلبنان الصغير الذي أنار الكون بأبجديته البكر، تليق به موسيقى ليست أقل إنارة وانفتاحاً وقدرة على الوصول إلى آفاق أرحب. لذلك حاول توفيق الباشا الانعتاق من أحادية المنظور الأسلوبي المتمثل في سطوة الغناء الفردي المهيمن على الفن اللبناني والعربي إلى رحاب الموسيقى المحضة، والتوسع في توظيف الجوقة توظيفاً درامياً بحيث تتعدد الأصوات في النص الموسيقي من خلال البوليفونية التي تتيح خلق علاقات متشابكة وتوترات عدّة في البنية الموسيقية.

 

معادلة مشرقية بأدوات غربية

كان توفيق الباشا من أوائل الذين قدموا الإنشاد الديني المشرقي و«الإسلامي» في لبنان وأحد الرواد المؤسسين لنهضة الموسيقى العربية واللبنانية عبر معادلة موسيقية مشرقية الروح والطابع والهوية، لكن بأدوات وآليات غربية تمنحها أبعاداً إنسانية شاملة تتفق مع ماهية الفن الموسيقي الذي هو في الأصل عابر للهويات والجنسيات. كان يجهد منذ البداية حتى النهاية في منح الموسيقى العربية استمرارية وتطوراً يقيانها الاندثار والانحدار، فقد تحسّس مبكراً مآلات الحركة الموسيقية العربية التي لم تعرف إضافات كبرى حقيقية بعد جيل الرواد ومن تلاهم من جيل الوسط في الخمسينيات والستينيات. وقد اتّضح منحى الانحدار في مسارها في النصف الثاني من السبعينيات إلى يومنا هذا. ونعني بالانحدار هنا العجز عن مواصلة ما بدأه الرواد في خط تصاعدي تطويري من خلال توسيع آفاق الألوان التعبيرية والدرامية، وإحداث التوازن بين الثوابت المميزة لهويتنا الموسيقية والعناصر القابلة للتحول للانطلاق إلى بناء خطاب موسيقي معاصر يتصل بالتغييرات الثقافية والاجتماعية. فعلى الرغم من مواكبة الموسيقى العربية للتحوّلات التكنولوجية الكبرى، لم يحدث بالمقابل تحوّلات فكرية وجمالية وفنّية ذات قيمة، وبدلاً من الانفتاح بشكل تفاعلي حضاري على الثقافات الاخرى، حلّت التبعية لهذه الثقافات وتم تهميش الثقافة الأصيلة عموماً.

هذا بالضبط ما حاول توفيق الباشا تجنّبه، ونجح مبكراً في محاولاته إلى حد كبير، فقدّم لنا أعمالاً متطوّرة من نسيج هويتنا الثقافية الموسيقية. غير أن الجهد ظل في إطار نخبوي لم يستطع أن يُحدث اختراقاً في الذوق العام نتيجة إحجام الدولة ومؤسسات الرعاية الإنتاجية والإعلامية عن احتضان هذا الجهد والإخفاق في الارتقاء بمستوى التذوّق الفني للعامة، سواء في لبنان أو في الوطن العربي عموماً، لا سيما في منتصف السبعينيات وما بعدها، حيث طغت ثقافة الاستهلاك والانفتاح العشوائي على كل ما يأتي به الغرب من ثقافة وفن، باستثناء بعض المحاولات الفردية المتناثرة هنا وهناك.

قدّم توفيق الباشا جميع الألوان الغنائية والموسيقية من الطقطوقة إلى السيمفونية، مروراً بالموشّحات والبرامج الغنائية الإذاعية، وتصدّى للتراث الشعري العربي وساهم في إحيائه مانحاً الفصحى حياة فوق حياة. من هذه الزاوية بالذات يمكننا أن نقول إنه سار على خطى السنباطي في تعزيز مكانة القصيدة العربية، وإن اختلفت رؤاه الموسيقية التلحينية في هذا المجال، فقد خرج في بعض مؤلّفاته على التلحين التقليدي العمودي للقصيدة، وتفادى الخضوع المباشر للنص الشعري عبر استلهام الأساليب الغربية، والتوزيع الموسيقي الأوركسترالي،

إن الداخل إلى عالم توفيق الباشا الإنشادي كمن يفتح مصراعين على المدى. صحاريّ وحدائق معلقة تتناثر فوق سندسها صوامع الوصل بين الأرض والسماء، قباباً تلمحها من بعيد تختلط عليك هويتها، أمساجد هي أم كنائس.

 والتوسع في وظيفة الآلات الموسيقية ووظيفة الجوقة، بحيث لم تعد القصيدة الدينية مجرّد مناجاة فردية، بل غدت حالة جماعية أو طقساً دينياً تؤدّيه الجوقة وفق رؤية موسيقية علمية منهجية من خلال بُعدٍ فلسفي ولغة موسيقية راقية تستدعي التأمل والتفكر. ربما من أجل هذا هجر عازف التشيللو توفيق الباشا آلته الأثيرة إلى فضاءات الأوركسترا بكل عدّتها وعديدها، وانصرف عن الآريا بمواصفاتها التقليدية إلى الموسيقى المحضة التي وجد فيها مرآة روحه وجموح خياله، ليعبّر عن القيم المشتركة بين بني البشر تحقيقاً لمشروع آمن به. هجر التشيللو لكن التشيللو لم تهجره، وظلت ملامحها وصفاتها التعبيرية التي تمنح المقطوعة الموسيقية بُعداً حانيا سِمَتُه الحزن القدري الكامن المستقرّ في أعماق الإنسان مطبوعة على صفحات فنه الراقي، فبدا في جميع حالاته الموسيقية كآلة التشيللو محافظاً على جلاله ووقاره يسير على درب الحكمة التي لا تخلو من جمال وألَق. بنّاء موسيقي هو، مِعْوله النغَم، يوظّف كل مقام في موضعه وكل آلة وفق أصالتها التعبيرية، لا يغويه النافر والغريب، بل الجديد والمتطور المنبثق من نسيج الروح المشرقية والمنفتح على الثقافات الأخرى، شديد الانضباط لا يحيد عن الطريق الموسيقي الذي اختطّه لنفسه ويجهد في التعبير عن المشاعر الإنسانية باحترام. هكذا هو الموسيقار توفيق الباشا: عاشق وقور لا يقارب الولَه، صبٌّ هو لا تفضحه عيونه.

الإنشاد الديني هو جديده الحقيقي

إن الداخل إلى عالم توفيق الباشا الإنشادي كمن يفتح مصراعين على المدى. صحاريّ وحدائق معلّقة تتناثر فوق سندسها صوامع الوصل بين الأرض والسماء، قباباً تلمحها من بعيد تختلط عليك هويتها، أمساجد هي أم كنائس؟ حتى إذا دنوت منها عرفتها. يغريك تمام التكوير بالدخول إلى حضنها للصلاة والمناجاة والجلوس في رحابها حيث يختلط الديني بالدنيوي، والمادي بالروحي في مشهد إنشاديّ مترامي الأطراف تحمله إلى عينيك لغة موسيقية أبت إلّا أن تكون وثبة جريئة فوق وشم الكلمة وسلطانها، فما حاجته إليها وفي النغم العاري كل أبجديات العالم؟

هكذا حاول أن ينحّي الكلمة ويحدّ من طغيان اللغة اللفظية لصالح اللغة الموسيقية، كما في عمله الكبير «الإنشادية النبوية» (١٩٩٥) التي تروي السيرة المحمدية من خلال مختارات لأبيات قليلة متناثرة من قصيدتي شوقي «وُلد الهدى» و«نهج البردى» يوظّفها كما لو أنها حلية أو زينة لغوية ومحسّنات بيانية، تهدف إلى الإضاءة البسيطة على مضامين وأسرار النص الموسيقي الذي لم يكن في الحقيقة يحتاج إلى رديف شعري نظراً لحساسيته التعبيرية المرهفة الدالّة والكاشفة. النص الشعري هنا مجرد وسيلة لا غاية، أداة لغوية لجأ إليها حتى يتسنّى له خلق ديناميكية بين الصوتي والآلي واللغوي والموسيقي بما يجعله أقرب إلى الأذن العربية التي لم تعتد على الإدراك، والتأمل، والتحسس إلّا من خلال اللغة وترجمتها إلى نغم.

هذا النص الموسيقي الذي أبدعه توفيق الباشا كان قادراً على أن يكتفي بذاته، ويستغني إلى أبعد مدى عن الكلام. غير أن استنباط المعاني من الموسيقى العارية يحتاج إلى دربة لا يمتلكها المستمع العربي لفك شيفرة نصوص الموسيقى المحضة التي ظلّت في مشرقنا حبيسة الصالونات النخبوية. لذا فإنّ توفيق الباشا قد اختار للبوح بمكنونات الحكاية لغةً زاوجت بين اللفظي والموسيقي، موظفاً عناصره الأساسية الثلاثة التي تتكرر في هذا النوع من الإنشاديات: التلحين الافقي، والجوقة، والتكرار في تداخل وتتابع تتألق من خلاله الجوقة، التي أعتقد أنها من أهم مرتكزات الفكر الموسيقي لتوفيق الباشا، نذَرَها لتؤدي وظيفة أكثر عمقاً وتعبيرية وتطوراً من الاتّباع الرتيب. الجوقة تقدّم وجهات نظر نغمية متعددة، وتقنية مختلفة، وتنويعات صوتية ولحنية تمسرح المقطوعة الموسيقية وتروي الحكاية موسيقياً بشكل حدثي لا سردي، يجعلها أقرب إلى نص درامي يعبّر عن حدث وموضوع ويرتكز أداؤها اللحني بشكل كبير على عنصر التكرار كظاهرة أسلوبية لجأ إليها الباشا من خلال التصاعد الصوتي المتكرر والمتدرّج أفقياً بوليفونياً لعبارة «وُلد الهدى»، موزعاً بين الأصوات النسائية والرجالية للإيحاء بالتمدّد في الزمان والمكان كدوائر الماء التي تتشكّل وتتّسع كلّما تبتعد عن مركز سقوط الحجر.التكرار ليس إذاً مجرّد إعادة رتيبة للعبارة، بل هو كسر للحدود والقيود التي تحول دون تبليغ الرسالة المحمدية الدينية والأخلاقية التي لا تختص بالمسلمين وحدهم، وهزّة شعورية مزلزلة تضخّ شحنة من التوتّر العالي الانفعالي الذي يصبغ الحدث - البُشرَى بصبغة الجلال، ذاك الذي يستمدّ هيبته الفنية من قوة التكرار الذي يُعَدّ أيضاً خاصية إسلامية، لا تخفى على أستاذ الأندلسيات، تتجلى وتتضح في الطقوس الدينية والتراث اللغوي العربي وفي الفنون العربية الإسلامية عموماً كالزخرفة والأرابيسك.

من أهم المضامين التي أراد الباشا التعبير عنها في مجمل أعماله وفي هذا العمل على وجه الخصوص ترسيخ مفهوم الكونية للرسالة المحمدية من خلال المنطلقات التأسيسية للنص الإسلامي التي ترتكز على وحدة الوجود والمشتركات الدينية والأخلاقية القيَمية بين بني البشر، «وما أرسلناك إلّا رحمةً للعالمين». تتعدد أعمال الباشا الدينية إذاً وتتنوع في قوالبها بين موشح، ومغناة، وقصيدة عمودية تقليدية، لكنّها جميعها وإن اعتمدت خطاباً لغوياً إسلامياً، كانت لغتها الموسيقية بكلّ تأكيد ذات مضامين إنسانية خالدة عابرة للهويات والطوائف.

 

إنشادية «منهل الإيمان»

سجّل توفيق الباشا هذه الإنشادية عام ١٩٦٤ مع الأوركسترا اللبنانية بمشاركة محمد غازي والجوقة، وهي من نظْم مصطفى محمود وتبلغ مدّتها حوالي العشرين دقيقة. أول ما يلفت الانتباه في هذا العمل الديني الراقي هو أنّه بلا صبغة طائفية محدّدة، بل هي مغناة ذات منحى إنساني شامل حاول فيها توفيق الباشا أن يعبّر عن الإيمان كقيمة مطلقة تتجاوز الأديان، بل تتجاوز الإنسان إلى سائر الكائنات. نوع من الانسجام والتوحد بين الإنسان والكون، أو ما يسمى بوحدة الوجود، فبدت الموسيقى فعل إيمان، وبدا الإيمان موسيقى يعزفها الكون.

يستهلّ المؤلف الموسيقي مغناته بمقدّمة تصويرية تفتح الخيال على سحر الشرق لكن بمنظور غربي. تأثير الكلاسيكيات الأوروبية واضح من خلال أسلوب تناوله لمقام الحجاز الذي يجعلك تبحر بعيداً في الزمان والمكان في مشهد بانورامي ينداح أمامك على صحاري مترامية الأطراف، يقطنها هدوء وسكينة تجعلان الإنسان قريباً من الله، فلا حواجز ولا صخب، بل آفاق مفتوحة يجول فيها البصر بحرّية فترِقُّ البصيرة وتغدو أكثر شفافية وقدرة على الصعود في معارج الإيمان. هذا المشهد تعبّر عنه المقدمة في جزئها الأول حتى إذا دخلتْ آلات التشيللو تضيق زاوية الرؤية تدريجياً لكأنها تسدل الستار على المرحلة الأولى الاستكشافية لتبدأ مرحلة التطهّر وتهيئة النفس للارتقاء إلى المرحلة الثانية في رحلة السعي الحثيث للوصول إلى ذروة الإيمان في الجزء الثاني من المقدمة، الذي أعطى ذلك الإحساس بالصعود من خلال النقر (البستكاتو) واللوازم الموسيقية التصاعدية التي عزفتها الوتريات، لتهيئة المناخ لدعاء المناجاة الأول، الذي تمهّد له آلة القانون بعد أن تسلّمها آلات النفخ والوتريات بطريقة بالغة الرهافة والعذوبة على مهاد من السلاسة كأنها تقول إن من يسعى بقلبه لا بد أن يصل ويتّصل.

كل شــــــــــــــــــــــــــيء مدروس بدقة، كل شيء في مكانه، بناء هندســـــــــــــــــــــيّ موسيقي أرستقراطي بالغ الإحكام، وليس في ذلك ما ينقص من قيمته الإبداعيــــــــــــــــــــــــة.

هكذا وصلت قوافل هذه الرحلة المتّئدة إلى مقام الكورد بعدما جالت في بحور الحجاز وتنويعاته، للتعبيرعن الرجاء الشجيّ المؤثر الذي يُدخل النفس في حالة من التذلّل الدرامي لله وحده. ينهيه المطرب محمد غازي بتحويلة سلسة إلى مقام العَجَم يتسلّمها الكورال الذي أطلّ كملائكة تحفّ المكان لتؤازر هذا الولهان ويذوبا معاً في سيمفونية من الرجاء. غناء جماعي فالت أيضاً، امتداد لحالة المناجاة، بملامح بيزنطية مشرقية نجد لها أصداء في توظيف الرحابنة للكورال في العديد من أعمالهم.

لم يبدأ قالب الموشّح بالاتضاح إلّا عند الدخول الثاني والإيقاعي للكورال «يا باري الأكوان»، تليه لوازم موسيقية تذكّرنا مجدداً بموسيقى المقدمة، ثم تسليم ثان للقانون الذي يقوم بتهيئة المقام الذي سيبدأ منه الغناء الفالت وسلطنته، في محاولة ثانية للصعود على مدارج الإيمان من مقام حجاز تليه لازمة غامضة تعبّر عن تبدّل ما قد حدث. نلاحظ عند هذه اللحظة أن أداء الكورال جاء من طبقة منخفضة نسبياً «لاحت على الأفق أحلامنا»، بأسلوب هادئ ووقور كأن استقراراً ما قد حدث في النفس عبّر عنه خير تعبير مقام الرست. ويواصل الكورال واللوازم الموسيقية ثم القانون والتسليم الثالث للغناء الفالت الفردي يتبعه بعد ذلك غناء الكورال «عاد الهنا يا ليالي» العابق بأجواء الأندلس.

نحن هنا بإزاء موشح موشّى بأزاهير المقامات دون التوقف مطولاً عند مقام بعينه، بل هو أقرب إلى حركة الفراشة التي تنتقي من كل بستان زهرة، ومن كل زهرة رشفةً من رحيق.

تكوين مقامي يضمّ الحجاز، والكورد، والرست، والبيات، والعجم، والنهاوند في ضفيرة تتداخل فيها النغمات وتنبثق من بعضها البعض يتقاسمها الغناء والموسيقى تحت سماء الحجاز، المقام المسيطر على جو المغناة يظللها من البداية إلى النهاية بروحيةٍ غربية في اللوازم الموسيقية وشرقية في الغناء، ويا له من توظيف عميق لهذا المقام!

 

تدرّج الأحوال والمقامات

«منهل الإيمان» مغناة هي أقرب إلى إنشادية دينية عربية صغيرة، يتآلف فيها الغناء الفردي الفالت الشبيه بالإلقاء مع الغناء الجماعي بمصاحبة الأوركسترا، يتخللها اداء فردي لآلة القانون التي تمثّل صلة الوصل والفصل بين أجزاء الموشح الذي يؤدّيه الكورال. ثلاث محاولات للمناجاة تتدرج في معانيها يقابلها تدرّج أفقي في الموسيقى من خلال اختيار ثلاثة مقامات شديدة التعبير عن هذه الأحوال التي تمر بها النفس، بدءاً بالكورد الذي يعبّر كما أشرنا عن حالة النفس التي تتألم وتعاني سكرات العشق وتتوق إلى التحرر من قيود الجسد التي تثقل كاهلها وتشدّها إلى الأرض. يليه الانتقال إلى حالة أقرب إلى الهدوء النفسي المشوب بالإشفاق بعدما لاح في الأفق أمل عبّر عنه مقام الحجاز في الدعاء الثاني، يليه بعد ذلك مزيج من النهاوند في أعلى السلّم المقامي في الدعاء الثالث والحجاز مجدداً في أدناه للتعبير عن الحبور المَشُوب بالشجن لحظة الاقتراب من بلوغ المرام، لكأنّ النفس تدرك أن مستقرّها دائماً بين الخوف والرجاء. هذا الانتقال من حالة إلى حالة مهّدت له اللوازم الموسيقية المتنوعة في مقاماتها التي تفصل بين الصولوهات الثلاثة لآلة القانون.

هذا التدرج الثلاثي موسيقياً ليس ببعيد عن التدرج المقامي روحانياً الذي يبدأ بالمعرفة، ثم الإحسان، ثم الإيمان أملًاً في بلوغ الرضى والأمان الذي ينزل في النفس فترتوي طمأنينة ومحبّة. إن للرقم ثلاثة في الأديان السماوية دلالة خاصة، فهل هي محض صدفة؟ لا نريد أن نحمّل هذا العمل الذي يدور في فلك ثلاثي الأبعاد فوق ما يحتمل، لكننا بالمقابل لا يمكننا أن نتغافل عن حقيقة أن للفن الحقيقي قدرة على الكشف من حيث هو تعبّد في محراب أرقى خلق الله، الجمال. وتختتم المغناة بأداء موحّد ينخرط فيه الجميع صعوداً إلى ذروة الشحنة الشعورية التي عبّرت عنها الموسيقى اللاهثة في تسارع وتيرتها كنبض العاشق إذا ما إقترب من تحقيق الوصال وبلوغ «نيرفانا» الإيمان.

 

توظيف الآلات الموسيقية والجوقة

إنّ اختيار آلة القانون ليعزف نغمات تلك المناجاة ويمهّد لها موفّق جداً. لعلها الآلة الأكثر تعبيراً في هذا المقام، فكما تترقرق قطرات الموسيقى المنبعثة من آلة القانون كذا تتلالأ قطرات النور في الروح التوّاقة إلى بلوغ مقام الإحسان. آلات النفخ ساهمت في إضفاء مسحة من الغموض العذب كغلالة من الغيم يظلل الحقيقة قبل بزوغ فجرها في النفس. لذلك نلحظ وجودَها بكثافة وبوضوح أكبر في النصف الأول من العمل أو لحظة حدوث تحوّل تعبيري ما في الجزء الثاني، وفي التحوّل غموض يسبق البزوغ. أما آلة المثلث والوتريات والآلات الأخرى عموماً، فلم تخرج عن وظيفتها التعبيرية المعتادة في الأوركسترا التي تعزف هذا النوع من الأعمال التي يتداخل فيها الشكل السيمفوني مع القوالب الشرقية الأخرى.

لم يسقط توفيق الباشا في هوى الثنائيات التي جهد الحداثيون العرب في التأسيس لها بل حاول أن يمدّ للتراث يداً تصله بغَده من خلال ما قدّمه للمكتبة الموسيقيــــــــــــــــــــــــــــــــــــة العربية من أعمال كلاسيكية متطــــــــــــــــــــــــــــــــــــــورة.

أما الكورال فهو عنصر أساسي من عناصر المغْناة بل يكاد يكون العنصر الأساس، فهو يعطي للإنشاد بُعداً شمولياً لا سيما عند التطرق للقيم المطلقة التي لا تختص بالفرد بل بالجماعة. لعلّ الأناشيد الدينية هي الموطن الفعلي لمفهوم القيم المطلقة والضمير الجمعي. لقد تم توظيف الكورال في مغناة توفيق الباشا بشكل جميل لم يخرج عن المألوف. أداء الكورال جاء متمكناً ومعبّراً لامس تقنية البوليفوني بشكل حساس وسلس لا يكاد يُلحظ في بعض المواضع لأن المقام يتطلب البساطة لا التعقيد، وفي حضرة الإيمان لا بد من خفوت التقنيات الاستعراضية إلى أقصى مدى. لذا غلب على الإنشاد الجماعي هنا الأداء التبادلي بين الأصوات الرجالية والنسائية والموحد عموماً. وفي غمرة أصوات الجوقة برز صوت المطرب المجيد محمد غازي في تفريدات المناجات الثلاث. أداء احترافي عالي المستوى وإحساس عميق بالكلمة، حاول من خلاله التعبير عن الرجاء ببساطة وجلال، فلا مبالغات ولا عرب استعراضية، إنما أداء مناسب لمقتضى الرجاء والتذلل لله سبحانه وتعالى. خامة صوتية عريضة ذات طابع منسجم تماماً مع الانشاد الديني الشرقي.

بدا توفيق الباشا في هذا العمل الجميل أقرب إلى العالِم، والمثقف، والمفكر الموسيقي منه إلى الملحّن ذي الموهبة الفطرية المدهشة. كل شيء مدروس بدقة، كل شيء في مكانه، بِناء هندسيّ موسيقي أرستقراطي بالغ الإحكام، وليس في ذلك ما ينقص من قدره وقيمته الإبداعية. جديدُه من وجهة نظري هو هذا التداخل الموسيقي المعشَّق بين تراث الغرب وتراث الشرق، بين العربي والبيزنطي والأندلسي في انسيابية خلابة، «أوسموز» موسيقي شديد الرقي وذلك في بداية الستينيات من القرن الماضي.

لم يسقط توفيق الباشا في هوى الثنائيات التي جهد الحداثيون العرب في التأسيس لها وترسيخها في حياتنا الثقافية والفنية عبر ابتداع مصطلحات الأصالة والمعاصرة وغيرها من الألفاظ المبهمة والمخادعة، والتي كان من نتائجها تعزيز ثقافة الشرخ بين الماضي والحاضر والاغتراب عن تراثنا العربي بدلا من مراجعته، بل حاول أن يمدّ للتراث يداً تصله بِغَده من خلال ما قدّمه للمكتبة الموسيقية العربية من أعمال كلاسيكية متطورة تراوحت بين الموسيقى المحضة، والتوزيع الموسيقي، والقصائد، والطقطوقة، والموشحات بدا فيها مهموماً بالبعد الأخلاقي والإنساني الشامل لتلك الموسيقى القادرة على وصل ما انقطع من تراحم ومودّة بين الإنسان والإنسان.


العدد ١١ - ربيع ٢٠١٥

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.