العدد ١١ - ربيع ٢٠١٥

الأمل لا يعني التغاضي عن الانتكاسات

مقابلة مع فواز طرابلسي

النسخة الورقية

نشرت هذه المقابلة في 13 نيسان \ إبريل 2015 في جريدة «العربي الجديد».

  جئت إلى العمل السياسي من الثقافة ( كما قلتَ عن نفسك في صورة الفتى بالأحمر) وكتبتَ في كل شيء تقريباً: في المسرح والتاريخ والرسم والاقتصاد والثقافة الشعبية. ترجمتَ وكتبت يوميات، كتبتَ في سيرتك وسيرة الآخرين. ما الذي كنتَ تريده من كل هذا التنوع، هل تعتقد بوجود وظيفة لا بد أن يضطلع بها المثقف؟

  أكيد ثمة وظيفة. همّي الأول هو الوصول إلى أوسع عدد ممكن من القراء، وهذا يعني الآن أن أدوّن شهادات عن تجربتي وعن تحصيلي للجيل الجديد. بدايتي أدبية. كنت مصابا بالربو، وبيتنا في شارع كليمنصو رطب، فعشت خلال قسم من طفولتي لدى جدي وجدتي لأمي. والجد عيسى إسكندر المعلوف مؤرخ مخضرم تعلمت على يديه أشياء كثيرة. عندما ينتقل إلى بيته الصيفي في زحلة، أزوره وأسكن عنده أيضا. وكان يسمح لي بالدخول إلى مكتبته، ويعطيني كتباً لأقرأ. لا شك في أن هذا ترك أثراً كبيراً علي. أذكر أنه مرة أملى عليّ دفتراً كاملاً من الأمثال الشعبية. أضعته مع الأسف، ولكن بقيت في ذاكرتي طرافة الأمثال الشعبية وعبقريتها.

جوّ البيت مشبع بأخبار وأشعار الأخوال الشعراء، فوزي وشفيق ورياض، وأخوال الأخوال الشعراء أيضا منهم قيصر، صاحب قصيدة «رُلى عرب قصورهم الخيام» وشاهين الذي كان ينظم الشعر بالعامية. نحفظ أشعارهم ونلقيها في المناسبات العائلية. خاصة منهم فوزي الذي توفي باكرا، ورياض الذي عاد باكراً إلى لبنان من البرازيل، وعرفت شفيق الذي زار لبنان مرة واحدة. في مدرسة برمانا العالية، نما ميلي إلى الأدب. كنت قوياً في المواد الأدبية، وبائساً في المواد العلمية. أسست مع الصديقين يوسف دعبول وشفيق أبو جودة مجلة أدبية اسمها «البراعم» وتسلّمنا إدارة النادي الأدبي العربي الذي كان يشرف عليه أستاذانا نذير العظمة وحليم بركات. وكلاهما من أعضاء الحزب السوري القومي الاجتماعي، بل إن نذير العظمة، هو الآن رئيس فرع سورية للحزب، هو الأكثر تطرفاً في تأييد النظام. برغم ذلك، كنت قومياً عربياً أسهمت في تأسيس تنظيم سياسي طلابي ناصري بشكل سرّي في المدرسة، بتأثير من العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.

للانتقال إلى سؤالك، لم أفكر كثيرا في هذا الموضوع. أجازف في تفسير. تعطيك الماركسية الثقة بأنك تملك نظرة شاملة إلى الحياة والوجود، تقنعك باستسهال الكتابة والإنتاج في أكثر من ميدان وحقل. وكان الأدب عندي مقروناً بالرسم. وحين سافرت إلى بريطانيا لإكمال دراستي الثانوية، درست فن الرسم ستة أشهر، قبل أن أستقرّ على الاقتصاد السياسي. وكانت لي دائما صلة خاصة بالفن. زوجتي نوال ترسم، وابنتي رسامة وغرافيكية. الرسم يملأ علي حياتي، وهو مصدر متعة وحبور بلا حدود. عمري ككاتب بدأ عام 1982 تحت وطأة العدوان والاحتلال الإسرائيلي ونهاية الحرب الأهلية اللبنانية. صممت على أن أعبر عن هذه التجربة بأشكال وأدوات وأساليب مختلفة. مشاهد الغزو والحرب أوحت لي بكتاب «غرنيكا-بيروت». وخلال حصار بيروت صيف 1982 والمشاركة في نضال «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» دوّنت «عن أمل لا شفاء منه».

كانت هذه هي البدايات. الاهتمام المبكّر بالأغاني الفيروزية، وهو إدمان تفاقم مع سنوات الدراسة في الخارج، نبّهني إلى أن مسرحيات الرحابنة حكايات تروي وتمسرح قصة لبنان واللبنانيين بين حربين أهليتين (1958-1975). هذا مصدر كتاب «مسرح فيروز والرحابنة: الغريب والكنز والأعجوبة».

أقرأ أعمال ميشال شيحا منذ فترة طويلة. زادتني الحرب فضولاً بالنظام اللبناني، فكان كتابي «صلات بلا وصل. ميشال شيحا والأديولوجيا اللبنانية». وهو تشخيص لفكر رجل استثنائي علّمني الكثير عن النظام الاقتصادي والسياسي اللبناني، لأنه كان يكتب وهو يشارك في تأسيس هذا النظام. والكتاب طبعاً نقاش نقدي مع فكره.

الحقيقة أن كل انتقال من موضوع أو أسلوب كتابي كان يقرّبني أكثر فأكثر من أسئلة التاريخ. والتاريخ، كما تعلم علم العلوم الإنسانية، العلم الشامل. فكان تتويج هذه الجهود «تاريخ لبنان الحديث. من الإمارة إلى اتفاق الطائف». وهو أيضا تلبية لحاجة أحسستها أثناء التعليم الجامعي، واكتشافي فضول الأجيال الجديدة عن تاريخها وعن تجربة الحرب.

من الأبحاث عن تاريخ لبنان والمنطقة تولّد كتاب «حرير وحديد». فيه اكتشفت أن هناك في التاريخ الفعلي ما هو أغرب من الخيال، وهو ما شجعني على كتابة نوع من الرواية التاريخية، مكتوبة بأسلوب الحوليات. أسماه الصديق عباس بيضون «السحرية التاريخية».

في عودة إلى سؤالك. يعود تنوّع كتاباتي أيضا إلى تنوع اهتماماتي وتجاربي. أنا مدين في كتاباتي أولاً بأول لتجاربي في الحياة. لولاها لست متأكداً من أني كنت سأكتب أصلا. لذا أحب استخدام تعبير «تصنيع تجربتي» للتعبير عن وظيفة الكتابة عندي، أي إعادة إنتاج التجربة بواسطة الأدب أو النقد أو الفكر.

 

«إن كان بدك تعشق»

  كتابك «إن كان بدك تعشق» لافت للانتباه من حيث مضمونه؛ الثقافة الشعبية. كتبتَ عن الدبكة والأمثال وصناعة الحرير وعيد البربارة. اهتمام غير معتاد من مثقف عمل وكتب في السياسة طويلاً. أسلوبه مستعجل قليلاً، وكأنه اقتراحات لدراسات لاحقة لك أو لآخرين. لماذا هذا الاهتمام بالثقافة الشعبية؟

  أنا شغوف بالثقافة الشعبية واهتمامي بها قديم. كتاب «مسرح فيروز والرحابنة» هو كتاب عن الثقافة الشعبية. صحيح استدراكك أنهم أنتجوا ثقافة جماهيرية، لكنها مبنية على الثقافة الشعبية، على الفولكلور. وقد أقمت التمييز بين ثقافة ينتجها أبناء الشعب في بيئاتهم الطبيعية وثقافة منتجة للاستهلاك من قبل الجمهور الواسع، قد تستلهم الثقافة الشعبية أو لا تستلهمها. على عكس كثير من المثقفين، أعتقد أنه يجب على المثقف أن يعرف ثقافته الشعبية بعمق، بما هي مكوّن أساسي لثقافته ومورد لإنتاجه ومصدراً لإلهامه. «إن كان بدّك تعشق...» مجموعة مقالات ليتني كنت أمتلك وقتاً كي أتعمق في مواضيعها وأتبسط في البحث والدراسة فيها، وهي من نتاج أبحاثي خلال تأليف الكتاب عن الرحابنة. طقس البربارة الذي يستخدمه الرحابنة في «هالة والملك»، أعدتُ تمثيله على مشهد الصراع الأهلي ونهب أسواق بيروت من قبل أبنائها. الدبكة في الكتاب من وحي دبكات الرحابنة وزكي ناصيف. أما الفصل عن الأمثال الشعبية فمحاولة لتجاوز نهج تجميع الأمثال والعمل على استنطاقها حول مضامينها، بما هي تأملات في الحياة وأفكار وأمثولات وحكم صادرة عن التجربة الجمعية عبر الأجيال.

مع الأسف، لن يتاح لي المجال للتعمّق في البحث في كل هذه المواضيع التي أحبها. يبقى أن الجهد المطلوب أكبر بكثير من طاقة الأفراد. أعمالي في هذا المجال أقرب إلى لفتات نظر وتشجيع على البحث والكتابة في هذا المجال.

  قمتَ بتحقيق الأعمال المجهولة لأحمد فارس الشدياق، وكتبتَ عنه أيضاً فصلاً في «حرير وحديد». لمَ الاهتمام بهذا المثقف النهضوي بالتحديد؟

  أعتقد أنه يقع على الكاتب أن ينتسب. أن يبني شجرة عائلة فكرية وثقافية لنفسه. يزعجني جداً المثقف الذي يعلن عن نفسه بأنه مقطوع من شجرة ومتفرد. السبب الأول لاختيار التعريف بالشدياق والترويج لأعماله هو أنه تعرّض ولا يزال يتعرّض للرقابة والإهمال بسبب مواقفه الجريئة في الدين وتحرر المرأة والنقد الاجتماعي وإحيائه الأدب الجنسي والساخر في التراث العربي. والشدياق هو الصوت المختلف في النهضة العربية التي بالغت في التشديد على التعليم. الشدياق في المقابل أعلى قيمة العمل والوقت. لم يسقط في إشكالية شرق/غرب. كان ناقداً للامتيازات الاجتماعية والاستغلال في مجتمعه، مثلما كان ناقداً لأشكال التمييز والاستغلال في المجتمعات الصناعية الأوروبية. ولم يجد تعارضاً بين الدعوة إلى تمثّل الديمقراطية وبين نقد الرأسمالية. وفوق هذا كله، هو من أوائل الاشتراكيين العرب، على الأقل في مرحلته الباريسية، وهو ناحت مصطلح «الاشتراكية» أصلا. تأثرت أيضاً بلغة الشدياق وخياله وسخريته. و«الساق على الساق» أول رواية عربية، كما برهنت الراحلة رضوى عاشور. بهذا المعنى لدي سلف صالح اسمه أحمد فارس الشدياق.

  هل ثمة سلف آخر، ترى نفسك امتداداً له؟

  أنا ابن التراث الماركسي ولا أختزله بشخص واحد، برغم ضخامة أثر ماركس وإنجلز. لأنني ماركسي منشق، أمكنني قراءة عدد واسع من روافد الماركسية، وعلمتني أن المهم أن يستوعب كل هذا ويستخدم في الإنتاج المعرفي والفعل النضالي، لا أن يستخدم بما هو نصوص سحرية أو تمائم. لن أستثني لينين في هذا التراث. كانت الثورات العربية مناسبة للتذكير به، بما هو أحد منظّري الثورات إضافة لكونه من صانعيها. وقد بلور جملة من المفاهيم في فن التغيير الثوري، تبدأ بالأهمية الحاسمة لمعرفة الخصم والتحليل المحدد للواقع المحدد، ومفهوم «الوضع» بما هو عقدة علاقات وتناقضات وتوازنات قوى يجب الفعل فيها، وتمييز هذا «الوضع» عما سبقه، وصولا إلى مفاهيمه في الاستراتيجية والتكتيك والتعلّم من التجربة والتنوّع في أساليب النضال، إلخ. لا حاجة لكبير جهد لملاحظة مدى حاجة فكر وممارسة التغيير عندنا للإفادة من هذا التراث الذي هو علم وفن في آن معاً.

  كتبتْ إيتيل عدنان مرة كتاباً عنونته «عن مدن ونساء، رسائل إلى فواز» والمقصود أنت. هل كان هناك رد؟ هل ثمة رسائل من فواز إلى إيتيل؟

  كنا أنا وجوزيف سماحة نصدر مجلة «زوايا» في المنفى الباريسي في الثمانينيات، وكنا بصدد تحضير عدد خاص عن المرأة، فطلبت من إيتيل أن تكتب لنا مقالا. لم يصدر العدد الخاص بسبب عدم توافر التمويل، اعتبرت إيتيل التكليف مناسبة للكتابة عن المرأة والمدن، خلال تجوالها في أوروبا وزياراتها لبنان. وكانت كلما كتبت رسالة أرسلتها لي، وأنا محتفظ بالأصول. لم يكن الاقتراح هو التبادل، لكن كتبت عدداً من الرسائل مستوحاة من رسائلها، قسم منها زيارات لإسبانيا وأول زيارة لي للأندلس، وتنتهي بزيارة موقع مجزرة قانا، في الجنوب. نشر بعضها في الصحافة، وسوف ينشر في مجموعة كتابات قادمة بالتأكيد.

 

درويش وحصار بيروت

  ترجمتَ أشعاراً لها أيضاً وقبلها أشعار لريتسوس....

  المترجم عندي هو من يحاول الاستحواذ على النص لولهه به، فيضعه في لغته. بدأت الترجمة على مقاعد الدراسة. ترجمت قصائد لنزار قباني ومحمد الماغوط إلى الإنكليزية، ونشرتها في مجلة «الرواق» الطلابية التي كان يترأس تحريرها الصديق رياض الريس في مدرسة برمانا العالية. على المنوال نفسه كانت علاقتي بكتابات إيتيل.

في كل الأحوال، أترجم كثيراً لمتعتي الخاصة، خصوصا في الأدب، ولست أنشر كل ما أترجمه.. ترجمت ليانيس ريتسوس أناشيد المقاومة اليونانية ضد الاحتلال النازي والديكتاتورية، من وحي المقاومة اللبنانية والفلسطينية ضد إسرائيل.

  لكن الشعر كان حاضراً أيضاً في مسيرتك الثقافية. قلت في المذكرات إنك في البداية كتبت شعراً، وقال أدونيس عن قصيدة لك: إنك تشبه إيلوار، كما كتبت عن علاقتك بمحمد الماغوط، وأنك ترددتَ إلى خميس شعر. ثم إن لك علاقة خاصة بالعديد من الشعراء، كما لو أنك تمشي على حافة الشعر.

  أنا متذوق قديم للشعر، الكتابات الشعرية من أمراض المراهقة، فكما تعلم كل مراهق عربي شاعر حتى يثبت العكس، أو حتى يكبر. صحيح نشرت «أغنية إلى الموت» في «البراعم» وهي مستوحاة من قصيدة إيلوار الشهيرة «حرية». وأظنها آخر محاولاتي في الشعر. بمعنى ما، كان الشعر طريقي إلى اليسار، من خلال القراءات المبكرة لإيلوار ونيرودا وناظم حكمت وآخرين. أنا محظوظ بعدد واسع من الأصدقاء الشعراء. تعرفت إلى محمد الماغوط من خلال نذير العظمة، ونحن بعد طلاب ثانوية، ونجالسه في مقهى «الأنكل سام» قبالة الجامعة الأميركية على طاولة عمّدها باسم «طاولة القلق». نختلف معه في كل شيء يتعلق بالفكر والسياسة ونعجب بشعره وروحه الساخرة. وفي المقهى ذاته نلتقي بغسّان كنفاني وقد ترافقنا لفترة خلال كتابتي في جريدة «المحرر». ثم تكونت مجموعة تضم خليل حاوي وعلي الجندي وروز غريب وليلى بعلبكي ورياض الريس وأمين وليلى الحافظ وغيرهم، يسهرون كل ليلة تقريباً في مقهى بالطابق الأول من «البناية الزرقاء» في آخر نزلة عبد العزيز اسمه «شيخ آند كوزن». أصدقاء المحطة الثانية هم سعدي يوسف الذي جاءنا في إطار «الفيلق العربي» الذي كان يناضل مع المقاومة الفلسطينية ورافقت سعدي في منافيه العديدة، وخصوصاً منفاه العدني. في المنفى الباريسي تجددت الصلة والصداقة مع عبد الرحمن منيف. وهناك أيضاً محمود درويش. أنا محظوظ بكثرة الأصدقاء في هذا الوسط.

  وصولاً إلى محمود درويش، الذي تربطك به علاقة شخصية مديدة من بيروت إلى المنفى الباريسي. كيف تصف هذه العلاقة؟ وهل تفكر بالكتابة عن هذه الصداقة؟

  مع محمود عشنا حصار بيروت معاً يومياً تقريباً. ثم التقينا في باريس. وعشنا بضع سنوات من الصداقة الكثيفة والعائلية والحلوة، وقد شاركت في تحرير مجلة «الكرمل» خلال تلك الفترة أيضا. محمود درويش رجل يعيش للشعر والحب. وحين يتعارض الاثنان، يختار الشعر. لم يخطر في باله الإنجاب، ربما لكي تختصر ذريته بالقصائد. قلت معظم ما أريد قوله عنه في رثائه بعنوان «محمود درويش: ذكاء القلب» وهذ المعادلة تختصره. تسأل عن حياته اليومية؟ يقرأ الصحف بعناية، يكتب قبل الظهر، يخرج للغداء، عادة مع أصدقاء. بعد القيلولة يقرأ الشعر بنهم، لكنه يقرأ الروايات خصوصا. كان يتمنى أن يكتب رواية. والباقي، يمارس حياته الاجتماعية ليلا، لم أره سكران على مدى سنوات. أناقته الشخصية جزء من تعبّده للجمال.

أخبرني أنه يكوّر يده أمام الورقة التي يكتب عليها، مع أنه يكون وحيداً على مكتبه. سألته لماذا؟ قال إنه لا يريد أن يراها أحد، فربما قرر أن يمزّقها. عادة ما يحتفظ بأصول قصائده. لكنه قد يحجم عن نشر قصيدة لم تعجبه أو اكتشف أن ثمة من له قصيدة أفضل منها في الموضوع ذاته. نشر في مجلة «شؤون فلسطينية» قصيدة في رثاء بابلو نيرودا، لكنه لم يضمّها إلى أي من مجموعاته الشعرية بعد أن نشرت إيتيل عدنان قصيدتها «بابلو نيرودا شجرة موز». يعمل على تنمية لغته الشعرية بدأب مخيف. يقرأ في القواميس يوميا لاصطياد مفردة مناسبة أو مبتكرة.

لديه حساسية مفرطة للمكان والنبات. يتصل ليلاً، يصف لي نبتة أو زهرة، سائلاً عن الاسم. معظم الأحيان لا يكون لدي جواب. يقول بأسى: «كنت أعرف أسماء كل نباتات فلسطين. بدأت أنسى»، هكذا كان يعيش فلسطين أيضا.

لديه حساسية مفرطة للمكان. أتذكر مرة كنت أنا وعائلتي في منطقة جبلية فرنسية على حدود سويسرا. فقدم هو والياس وسامية صنبر بالسيارة لزيارتنا. انبهر بالمشاهد والمناظر على طول الطريق من باريس. وحين وصل إلى حيث كنا، في قرية حديثة ممتلئة بعمارات إسمنتية مملة، يسكنها أناس يعملون في جنيف، أصيب بحالة من الصدمة والقرف. لم يكن بمقدوره أن يفهم كيف أن رحلة ممتعة بصرياً إلى ذاك الحد تستطيع أن تنتهي في مكان تافه كهذا. تعكّر مزاجه وعكّر لنا مزاجنا. لن أزيد.

«خارج المكان»

  عرفتَ أيضاً إدوارد سعيد، معرفة ثقافية وشخصية وترجمتَ له.

  تعرفت إلى إدوارد عندما دعاني بصفته مسؤول الثقافة في «جمعية الخريجين العرب الأميركيين» إلى مؤتمر الجمعية عام 1970 الذي عقد في مدينة بوسطن. ساهمت في ندوة مخصصة للثورة في الجزيرة والخليج واليمن، تحدثت فيها مع إريك رولو، العائد من زيارة لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وعبدالله الأشطل، مندوب اليمن الديمقراطي في الأمم المتحدة. منحتني السفارة الأميركية في بيروت تأشيرة دخول ثم استردتها وألغتها. أغلب الظن أن المنع كانت له علاقة بماركسيتي المعلنة، وبنشاطي في الجامعة الأميركية ضد حرب فيتنام. اعتذرت عن عدم الحضور، فأجرت الجمعية بواسطة محاميها عابدين جبارة اتصالات انتهت بأن سمح لي بحضور المؤتمر خلال أربعة أيام فقط.

خلال الحرب في لبنان، تباعدت اللقاءات مع إدوارد وزوجته مريم قرطاس، زميلة الدراسة الثانوية والجامعية. التقيته خلال زياراته القليلة لبيروت في إطار نشاطات ثقافية أو سياسية تتعلق بالمقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. عندما نظّم الياس خوري وعدد من الأصدقاء حفل تكريم لإدوارد في مسرح بيروت، قرر إدوارد أن يقرأ بالعربية نصا مترجما من كتابه «خارج المكان» وقد كان لا يزال مخطوطة. أراني الصفحات المترجمة، فاقترحت عليه بعض التعديلات. في نهاية تلك الزيارة، سألني هل أقبل ترجمة الكتاب إلى العربية. فقبلت من دون تردد. والسبب أن إدوارد ظُلِم َ في ترجمات كتبه إلى العربية، وقد جاءت مدّعية ومتفذلكة تزيد لغته العويصة أصلاً تقعيداً. قلت له: سأجعلك تحكي بالعربية. وأظنني فعلت. بعد الوفاة ترجمت أيضا له «الأنسنية والنقد الديمقراطي» الذي يبسط فيه المرحلة الأخيرة من تطوره الفكري ونظرته العلمانية الإنسانية، متجاوزا ثنائية شرق/غرب. وصدرت له في نهاية العام المنصرم ترجمة «عن الأسلوب المتأخر. موسيقى وأدب ضد التيار».

«خارج المكان» سيرة لرجل اكتشف قرب الموت، فعاد إلى طفولته والنشأة. خلال الترجمة نشأت مراسلة إلكترونية تمنّيت عليه فيها أكثر من مرة أن يكتب عن «إدوارد» الآخر الذي صنع نفسه وهو يعيش في الغرب تحت وطأة هزيمة 1967. كان هذا هو الطلب ذاته الذي طلبه منه ناشره. لكن إدوارد امتنع عن الخوض في كتابة الباقي من سيرته. ولعله لبّى الطلب، بطريقة غير مباشرة، في كتابه «عن الأسلوب المتأخر». وهو دراسة عن موسيقيين وأدباء من التراث الغربي في المرحلة الأخيرة من حياتهم ونتاجهم، يجمع بينهم أنهم لم يستسلموا للأمر الواقع، واستمروا في المساءلة والمشاغلة والمناكفة والانشقاق. بهذا المعنى أرى أن إدوارد في «عن الأسلوب المتأخر» كان يتحدث عن حياته وأعماله من خلال من أعجبه من مفكرين وموسيقيين وأدباء لم يرضخوا للقدر الجسدي. والكتاب بهذا المعنى أيضا وصية إدوارد سعيد الأدبية والفكرية والجمالية.

  كتاب «عن الأسلوب المتأخر» مركب من ثلاث طبقات مثيرة للاهتمام: أعمال الموسيقيين والكتّاب، كموتزارت، بيتهوفن، وجان جينيه، في أسلوبهم المتأخر، ثم قراءة أدورنو المتأخرة أيضاً لبعض هؤلاء المبدعين، وهي الطبقة الثانية، ثم تأتي قراءة سعيد لهذه القراءة كطبقة ثالثة، فبدا الكتاب كما لو كان مؤلفا من طبقات جيولوجية كثيفة. كيف تعاملت من خلال الترجمة (إن صح القول إنها طبقة رابعة) مع المصطلحات الموسيقية والمفاهيم الفلسفية. وكيف تغلبت على صعوبة إيجاد مقابل لها في العربية؟

  أظنني تعاملت مع الترجمة انطلاقا من نقطة ضعف، بسبب أن ثقافتي الموسيقية الكلاسيكية ضعيفة. وبسبب الفقر في تعريب المفردات والمصطلحات الموسيقية الغربية إلى العربية. ولما كان همي أن أتوجه إلى القارئ العربي العادي، اضطررت للإكثار من الهوامش. إلى هذا فالأسلوب المتأخر لإدوارد سعيد نفسه يتسّم بخاصيتين. الأولى، أن ادوارد، مثله مثل كثيرين من أبناء المستعمرات ممن يكتب بلغة المستعمر، يريد أن يبزّ أهلها في لغتهم. وإدوارد من جهة ثانية، في أسلوبه المتأخر لم يكن قد بلور أسلوبه إلى أرقى مستوى من الرهافة، وإنما كان يغرف من مستويات راقية من المفاهيم والمصطلحات الغربية في الأدب والإنسانيات عموما. بهذا المعنى كانت الترجمة مغالبة بين لغتين، وكان على الترجمة العربية أن تكون عملية إعادة تأليف وابتكار وتحايل في غير موضع، والغرض توليد المعاني المناسبة، التقريبية أحيانا، في اللغة المنقول إليها.

  هل السبب هو غياب المعاجم المتخصصة؟ أم غياب الكتابة في هذه الحقول المعرفية؟ أم غياب حواملها الاجتماعية؟

  النقص فيها جميعاً. والمؤلف بالغ الصعوبة هو الألماني ثيودور أدورنو العصي على التعريب لأوروبيّته الجذرية. وقراءة إدوارد لأدورنو لا تزيده إلا التباساً.

لكن ثمة مشكلة أخرى في الترجمة. هي غلبة الترجمات العددية، خصوصا بعد أن قرر أحد تقارير التنمية العربية ضرورة انتقال البلدان العربية إلى «مجتمع المعرفة» ومثّل على النقصان الذي نعانيه في هذا المجال، بأن المنطقة كلها لا تترجم أكثر من 300 كتاب في السنة. عند التحقيق، تبيّن أن الرقم مغلوط. لكن ذلك لم يمنع من تكاثر مؤسسات الترجمة، ومعظمها خليجي أو بتمويل خليجي، وصار السباق على كمية الكتب المترجمة سنوياً. فلم تعر كبير اهتمام لتوحيد مصطلحات الترجمة في الحقول المختلفة أو على الأقل إحصاؤها ووضعها بتصرّف المترجمين.

  من مجلة «البراعم» إلى «بدايات» مشوار طويل من الصحافة. صدرت «بدايات» بالتزامن مع الثورات العربية. كيف يمكن إنجاز مجلة في ظل الصعوبات الكثيرة التي ترافق عادة مثل هذا الإنجاز، التمويل والتحرير والتوزيع وتكوين قراء..؟

  «بدايات» فكرة نشأت بعد محاولات عديدة قامت بها مجموعة من اليساريين بعد تعثّر محاولات لتجديد اليسار في لبنان. قلنا نؤسس منبراً للتفكير النقدي على الأقل. حتى لا نقول إن لا شيء يمكن عمله. أقصد بـ «نحن» النواة المؤسسة: زهير رحال وغسان عيسى وسلمان تقي الدين وعساف كفوري وميسون سكّرية. ونحن في معرض الإعداد للإصدار، اندلعت الثورات العربية. فأسرعنا في وضع هذا الجهد بتصرّف التفكير والدعوة والتضامن معها.

نريدها مجلة بمتناول القارئ، لا نخبوية ولا مجلة دراسات أكاديمية. والمغامرة شبه عسيرة، لأنها لا تثير اهتمام الجهات المانحة. نوزع في سبعة بلدان عربية، بما فيها فلسطين. ولنا موقع إلكتروني. لفتت لنوعية إخراجها، وإقبال الشباب على الكتابة فيها، واهتمامها بمجالات مبتكرة، مثل ثقافة العين والذاكرة والموسيقى والثقافة الشعبية. في الأعداد الأخيرة، نشرنا ملحقات خاصة بإدوارد سعيد وعبد الرحمن منيف.

 

كتابات اليمن

  وثقتَ تجربتك المديدة في اليمن بكتاب «وعود عدن»، ثم ظفار في « شهادة من زمن الثورة». كيف ترى هذه التجربة الآن؟

  تعرفت إلى اليمن واليمنيين خلال وجودي في بريطانيا لإكمال الدراسة الثانوية (1985- 1960) من خلال دوري في المكتب العمالي لحزب البعث العربي الاشتراكي في بريطانيا. وقد أمضيت فيه قرابة السنتين، ناشطا في جناحه الماركسي في بريطانيا، قبل أن أطرد لمعارضتي الانقلابين البعثيين في سورية والعراق، وخصوصاً الاضطهاد الدموي للشيوعيين والحرب على الأكراد في العراق. ضم المكتب العمالي متطوعين للعمل مع العمال اليمنيين في الشمال البريطاني، وتأسيس نقابة تدافع عن حقوقهم، هم خالد عسكر وسعد الله الفتحي والمسؤول عنا هو مكي العاني والثلاثة عراقيون.

دعني أروي لك هذه النادرة. منذ عام زرت بريطانيا، وكنت مدعوا لمحاضرة في كلية لندن للاقتصاد. اتصل بي صديق من كوادر الحزب الاشتراكي اليمني يقيم في ليفربول، ودعاني إلى محاضرة لدى الجالية اليمنية في المدينة. اعتذرت لاضطراري للعودة إلى بيروت. فقال لي متأسفا: لكنهم يتذكرونك هنا. كنت تأتي مع شخص آخر. وهذا الشخص الآخر هو خالد عسكر. يتذكرون بعد أكثر من نصف قرن.

تعرفت إلى عبد الفتاح إسماعيل في بيروت عام 1968 عن طريق محسن إبراهيم ومحمد كشلي، من قادة يسار حركة القوميين العرب حينها، وكنا نتفاوض لتحقيق الاندماج بين «لبنان الاشتراكي» و«منظمة الاشتراكيين اللبنانيين» وقيام منظمة العمل الشيوعي في لبنان عام 1970. في العام نفسه زرت اليمن وظفار مطلع عهد اليسار برفقة الكاتب اليساري البريطاني فرد هاليداي، وعبدالله الأشطل، أحد قادة اليسار في الجبهة القومية.

كتابي «ظفار. شهادة من زمن الثورة» تحقيق صحافي نشرته مسلسلاً في مجلة «الحرية» العام 1970. وقد أسهمت مع فرد هاليداي في تأليف كتاب «المنطقة العربية لا سلاطين» وأسسنا في بريطانيا لجنة للتضامن مع الثورات في ظفار واليمن ومع الحركة الوطنية في البحرين والخليج وعُمان. كذلك «بدايات» فكرة نشأت بعد محاولات عديدة قامت بها مجموعة من اليساريين بعد تعثّر محاولات تجديد اليسار في لبنان، وهي مشاهدات وتقارير ومقابلات رحلات مكتوبة خلال زياراتي اليمنية. وأنا عاكف الآن على الإدلاء بتجربتي ومعايشتي للتجربة في اليمن الديمقراطي خلال ربع قرن في إطار العلاقة المميزة للتجربة مع أطراف اليسار الفلسطيني واللبناني، وخصوصاً الجبهتين الديمقراطية والشعبية والحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي في لبنان.

كانت آخر زيارة لي إلى اليمن في عام 1993 برفقة محمود درويش وميشيل خليفة، وقد خططنا لمشروع فيلم يخرجه ميشيل عن امرئ القيس. كنا بدعوة من الرفيق العزيز جار الله عمر، وكان وزيراً للثقافة حينها. وصلنا اليمن والاستنفار على أشدّه بين الحزبين الحاكمين، حزب المؤتمر الشعبي العام برئاسة علي عبدالله صالح، وشريكه الأصغر في الحكم، الحزب الاشتراكي اليمني. الناس متوترة، ومحمود أكثر توترا من العادة، عندما يكون على أهبة ندوة شعرية. نجحت ندوة صنعاء وكان الإقبال حاشداً والاستقبال عاطفياً وحماسياً. كان حظ ندوة عدن أقل نجاحاً من سابقتها في صنعاء. المهم، جلسنا أياما في الفندق بعدن، ننتظر طائرة ملائمة إلى حضرموت. حتى ملّ محمود وكان ميشيل مضطراً لتسليم سيناريو لفيلم آخر يريد إنجازه. فلا اقتفينا آثار أقدام امرئ القيس في حضرموت، ولا تذوقنا عسل دوعن، أعظم عسل في الدنيا.

بإيجاز، عشت في زمن الثورات، وثرت مع الثوار وما أزال ثائرا.

 

بيروت والأمل

  صدر «عن أمل لا شفاء منه» خلال فترة حصار بيروت في 1982. يوميات تسجل ما عانته المدينة تحت الاحتلال. بعد 33 عاماً، مدن كثيرة تدك الآن ببراميل متفجرة وصواريخ وأسلحة كيميائية، ولكن هذه المرة من أنظمتها. هل ما زال ثمة من «أمل لا شفاء منه»؟

  الأمل لا يعني التغاضي عن الانتكاسات أو الهزائم أو المآسي، ولا هو تشبّث بحتمية أو قدريّة. به نعوّد أنفسنا على البقاء والصمود والمقاومة والتطلع إلى الأمام. ولا أمل بلا عمل ولا عمل بلا أمل. حسب التحية اللامعة لأجدادنا القرامطة: تحية العمل والأمل. الأمل الذي تمسكت به وأنا خارج من حصار بيروت، هو الذي عوّضني بمعايشة الثورات الشعبية لعشرات الملايين من الشباب وغير الشباب في عام 2011 وهي تستعيد مبدأي السيادة والإرادة الشعبيتين وشعارات: العمل والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. دعني اقرأ لك هذا المقطع لأليخو كاربنتييه في كتابه «الملكوت الأرضي»: «يسعى الإنسان دوماً وراء سعادة ليست من قسمته. لكن عظمة الإنسان تكمن تحديدا في رغبته بتغيير العالم وتحمّل الأعباء. في ملكوت السموات، لا توجد عظمة يمكن بلوغها، لأن كل شيء هناك تراتبٌ مقيم ووجود بلا نهاية، حيث لا تضحية ولا راحة بال ولا ملذّات. ولذا فالإنسان الذي يسحقه الألم وترهق كاهلَه الأعباء، جميلا في بؤسه، قادرا على الحب وسط المآسي، لن يقدّر له أن يبلغ عظمته وأسمى قدره إلا في هذا الملكوت الأرضي».

العدد ١١ - ربيع ٢٠١٥
مقابلة مع فواز طرابلسي

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.