العدد ١١ - ربيع ٢٠١٥

الصراعات على البحر الأحمر

عشية الإسلام

النسخة الورقية

G.W. Bowersock
The Throne Of Adulis:
Red Sea Wars On The Eve Of Islam
208 صفحة - الطبعة الأولى
Oxford University Press - 2013

«عرش أدوليس، وحروب البحر الأحمر عشية الإسلام» كتاب1 مشوّق للمؤرخ الأميركي غلين بورسوك يغوص في تاريخ المرفأ الرئيس لمملكة أكسوم (وهي مدينة في إثيوبيا حالياً التي كانت آنذاك تسيطر على إريتريا والصومال حتى بلاد الزنج) ليصوّر الصراعات على ضفّتي البحر الأحمر2 قبل مجيء الإسلام. ومحور الكتاب الحرب التي دارت بين مملكتين: حِمير اليمنية، في جنوب شبه الجزيرة العربية، وأكسوم الحبشية المسيحية، وهي حرب دينية وسياسية وقفت فيها فارس في صف حِمْيَر، فيما استعانت أكسوم ببيزنطة. وتتبيّن من ذلك أهمية المنطقة منذ القدم، وعلاقة المتصارعين بملكة سبأ وملك الحيرة ومصر البيزنطية ومعالم الفترة التي سبقت انهيار الإمبراطورية البيزنطية على يد الفرس قبل نزول الآية القرآنية من سورة الروم:

غُلِبَتِ الرُّومُ2 فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ3 فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ4

أو الآية الأخرى التي أنزلها الله على نبيه العربي تكراراً مع غيرها من الآيات التوحيدية:

اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ

لمن تنصب العروش والمسلات؟

«أدوليس» الآن ميناء إريتري قديم ويعتقد، أن أصل الاسم عدوليس ويعود إلى «عدو لَيْ» أي الماء الأبيض. أطلق عليها الأغريق اسم ميناء أدوليس القديم الذي كان معبراً تجارياً غاية في الأهمية في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد وخصوصاً للحضارات المصرية والفارسية وحضارة ما قبل أكسوم ثم استمر بذات الأهمية ما بين القرن الثالث والقرن السادس بعد الميلاد.

أما العرش الضائع فكان صغير الحجم، مصنوعاً من المرمر، يستخدمه ملوك إثيوبيا لعبادة أحد الآلهة قبل اعتناق المسيحية أو للتعبير عن فرحة النصر على ملوك اليمن الحِميريين. كان هذا العرش منتصباً في مدينة أدوليس الإريترية التي تطلّ على البحر الأحمر بالقرب من أسمره اليوم. ومع أن إريتريا لم تتمكن من العثور على العرش أو ترميم آثار مملكة سبأ المتحطمة بسبب حربها مع إثيوبيا في التسعينيات، فقد تمكنت الحبشة - إثيوبيا اليوم - من استرجاع المسلّة التي تحدث عنها كتاب بورسوك والمنصوبة في مدينة أكسوم الحبشية عندما حكمها الملك ذاته الذي أراد نصب عرش أدوليس.

كانت المسلّة التى تعتبر رمزاً لتاريخ مملكة أكسوم وهويتها قد نهبت من إثيوبيا على يد الدكتاتور الإيطالى بينيتو موسولينى ولم تعد من العاصمة الإيطالية إلى أكسوم إلا بعد نزاعات دبلوماسية انتهت بخير سنة ٢٠٠٨. حينها استدرّت العودة دموعاً من الفرح لأن الآثار المادية تساعد على استرجاع الهوية الوطنية، دون أن يترافق ذلك مع الرغبة في إحياء إثيوبيا كمقر لأمبراطورية أفريقيّة صاعدة وإن كانت النقوش التي علّق عليها بورسوك تشير إلى أنّ النجاشي الحبشي واسمه «كاليب»، عابر البحر الأحمر لتدمير المملكة الحميريه المهوّدة، كان يعتبر نفسه ملك الملوك مثله، في مخيلة شعبه، مثل «شاهنشاه» الفرس.

اعتمد بورسوك على كتاب إغريقيٍّ قديم بعنوان «طوبوغرافيا مسيحية» المكتوب عام ٥٥٠م لتاجر مسيحي من الإسكندرية، اسمه كوسماس إنديكوبوستيس، كان يدوّن، خلال رحلاته العديدة بين الأعوام ٥٢٠ و٥٢٥ إلى مدينة أدوليس، النصوص المنقوشة على عرشٍ من الرخام الأبيض، وعمود ضخم من البازلت منتصب خلفه، وذلك بناءً على طلب ملك الحبشة النجاشي كاليب في العاصمة أكسوم. وكان النجاشي على وشك المضي في هجوم جديد، عرمرمٍ هذه المرّة، ضد مملكة حِمْيَر (بعد مجزرة نجران، في ٥٢٣م) ويهمّه ما كان مكتوباً على العرش من سردٍ لانتصارات ملكٍ حبشيٍّ سبقه (في بداية القرن الثالث) احتلّ مملكة حِمْيَر، لتظلّ تحت السيطرة الحبشية حتّى ٢٧٠م. فلم يكتفِ التاجر المسيحي بنقل النصوص المنقوشة، بل أضافَ رسوماً للعرش وخارطةً تعيّن موقعه.

وغلين بوَرسوك هو أول من بحث في هذا النقش وإشكالاته واستحقاقاته التاريخية المتعلّقة بذلك، وقد سبقه إلى ذلك السيد بيستون في بحثه سنة ١٩٨٠، إلا أنّ بوَرسوك هو أول من أفرد لنقش العرش هذا الدرس التاريخي في كتاب مستقلّ عن تلك الفترة التي سبقت وأظلّت ظهور الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي. وهذا ما يؤكده الكاتب السوري حمّود حمّود الذي تنبّه الى أهمية هذا الكتاب وأدلى برأيه على صفحات «نوافذ» لصحيفة «المستقبل» اللبنانية عام ٢٠١٣ قبل أن يكتشف ترجمته إلى الفرنسية عام ٢٠١٤. لكن حمّود يبقي تركيزه على عنوان مقالتة «الصراع اليهودي ـ المسيحي التاريخي من جديد» ويخلص بسرعة إلى القول بأن «بوَرسوك بالأصل ليس مؤرخاً بالمعنى التأريخي التقني الصرف» وبأنه «ذهب في نهاية الكتاب (في الفصل الأخير منه) حتى ليجادل السيدة باتريشا كرون وجيرالد هاوتينغ بما يخص الإشكالات اللاهوتية لمفردة «الحنيفية» وموحّدي جزيرة العرب قبل الإسلام». ليس هذا رأي بيتر براون، أحد أهم المختصين بتلك الفترة التاريخية من أواخر القرن السادس الميلادي، والذي علّق على هذا الأمر عام ٢٠١٣ في مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» مؤكداً «أنّ كتاب عرش أدوليس لبورسوك وكتابه الآخر عن «تـنازع الإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية» هما، مع كتاب السيدة باتريشا كرون «عن أنبياء الحقبة الزرادشتية»، من أهم الكتب التاريخية التي تناولت مرحلة ما قبل الإسلام من المركزين المتناحرين للسيطرة على العالم الشرقي حينذاك».

إلّا أنّ فرادة كتاب بروسوك، بالمقارنة مع كتاب باتريشيا كرون، في أنه، بعكسها، ينطلق من الأطراف، أي من اليمن والحبشة، بدل أن ينطلق من المركزين الفارسي والبيزنطي لكي يذهب إلى ما هو أبعد من نقش عرش أدوليس، وليعيد موضعة السياق التاريخي للصراع الديني المسيحي – اليهودي ــ الزرداشتي والوثني ويربطه بتاريخ الممالك الصغيرة من الحيرة إلى اليمن والحبشة وحروب البحر الأحمر وعلاقتها مع الصراع الإمبراطوري لكسب الوثنيين إلى ديانات خاضعة للمركزين الساساني والبيزنطي.

 

مجزرة نجران

كان الرأي الشائع في الدوائر التاريخية العلمية أن المصادر البيزنطية واليونانية لم تتحدث عن تعرُّض الأحباش للحجاز، ولاعن سفر الفيل. غير أن المباحث الدقيقة التي يعتمد عليها بورسوك تؤكد عكس ذلك. فقد اعتمد في دراستة لمجزرة نجران على المخطوطات والدراسات البيزنطية مستنداً إلى آخر دراسات المتخصّصين بقراءة النقوش وآثار اللغات القديمة: السبئية، والحبشية، والسريانية والإغريقية، من مناطق مختلفة في الجزيرة العربية وشرق إفريقيا، بما فيها كتاب بروكوب المؤرخ الروماني المشهور في التاريخ القديم، وإلى مصادر إغريقية (وثيقة شهادة أريثاس) والمصادر السريانية التي دخلت في تصوير الأحداث العيانية في «كتاب الحِميريين» السرياني، فضلاً عن دراسات فرنسية صادرة سنة٢٠١٠ عن «كوليج دو فرانس» ومركز دراساته البيزنطية تحت إشراف كريستان روبان3.

وتقدم النصوص البيزنطية التي يعتمد عليها بورسوك اسم الملك الحميري الذي ارتكب المجزرة في نجران على أنة «داميانس» و«دونان» وما يقابله في اللغات الحميرية والأمهرية باسم «ذو نواس» واسمه الصغير المهوّد «يوسف أسار» أوعازار. وهناك إشارات إلى مذابح أخرى في حضرموت ومأرب و ظفاراليمنية (تمييزاً لها عن ظفار العُمانية).

وجدير بالذكر أن غلين بورسوك لم يعتمد على المراجع العربية في تحليله لمجزرة ظفار ونجران واكتفي بإشارة سريعة إلى كتاب ابن المهاجر «طريق المستبصر» في قوله إن القرآن الكريم أتى على ذكر ذلك الحدث بعبارة «ٌقتل أهل الأخدود». والنص القرآني موجود فعلاً في سورة البروج:

قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البُرُوج: 4-9]

المشهورمن كتب التفسير، ولا سيما الطبري، ومن قصص القرآن (كتب ابن كثير والجزء الثاني من مجلده «البداية والنهاية») أن «الأخدود» هو الشقّ المستطيل في الأرض حيث ارتكبت المجزرة وأودع رماد المحرقة. والتفسير يشار فيه «إلى قصه ذي نواس، وهو آخر ملوك حِميَر في أرض اليمن وكان قد تهوّد، واجتمعت معه حمير على اليهودية، وسمى نفسه يوسف وأقام على ذلك حيناً من الدهر، ثم أُخبر أنّ بنجران شمال اليمن بقايا قوم على دين النصرانية، وكانوا على دين عيسى (ع) وحُكم الإنجيل، فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم ويحملهم على اليهودية، ويدخلهم فيها، ثم عرض عليهم دين اليهودية والدخول فيها، فأبوا عليه، واختاروا القتل، فاتخذ لهم أُخدوداً وجمع فيه الحطب، وأشعل فيه النّار فمنهم من أُحرق بالّنار، ومنهم من قُتل بالسيف، ومُثّل بهم كل مثله». وأضاف بعضٌ آخر: إن رجلاً من بني نصارى نجران تمكّن من الهرب، فالتحق بالروم وشكا ما فعل ذو نواس إلى قيصر. «فقال قيصر: إنّ أرضكم بعيدة، ولكنّي سأكتب كتاباً إلى ملك الحبشة النصراني وأطلب منه مساعدتكم. ثمّ كتب رسالته إلى ملك الحبشة، وطلب منه الانتقام لدماء المسيحيين التي أُريقت في نجران، فلمّا قرأ النجاشي الرسالة تأثر جداً، وعقد العزم على الانتقام لدماء شهداء نجران. فأرسل كتائبه إلى اليمن والتقت بجيش (ذي نواس)، فهزمته بعد معركة طاحنه، وأصبحت اليمن ولاية من ولايات الحبشة».

ما يجب ذكره في كل هذه الأخبار، التي دوّنت بعد عدة قرون من الفتح الإسلامي، هو التطابق بين المصادر التي يعتمد عليها غلين بورسوك والمصادر العربية على حدثية وقوع المجزرة، بغضّ النظر عن التفاوت في تحديد عدد القتلى والضحايا ومن أوصل النبأ إلى الحيرة. وما هو أهم في الكتاب، أن بورسوك لا ينظر إلى اعتناق عرب اليمن اليهودية على أنه حدث دخيل نتيجة هجرتهم من أورشليم بعد تدمير الهيكل أو اضطهادهم على يد الرومان إثر اعتناق الإمبراطورية البيزنطية للديانة المسيحية، بل يقر بأنه كان لهم وجود في شبه الجزيرة العربية أصلاً. هذا ما كان كمال الصليبي قد ذكره. إلّا أن بورسوك لا يعتمد على صليبي في ذلك بل يعود إلى مصادر أخرى تشير إلى أنّ يهود يثرب كانوا على علاقة بتهويد اليمن وإلى أن وصول المسيحية إلى نجران وظفار اليمنية لم يكن عن طريق الحبشة دائماً، فيذكر دور «فيليمون» من أبناء صورــ لبنان ــ البيزنطية واعتقاله ودعوته العرب إلى المسيحية قبل اعتناق الحبشة لها. لذا يستعمل المؤلف عبارة «العرب اليهود» و«العرب النصارى». لكنه لا يهمل دور الملوك الحميريين أو الأحباش في التقلب بمعتقداتهم، وهذا ما يبيّن أن القوم كانوا أحياناً على دين ملوكهم أو أعيانهم.

 

حرب حمير والقبائل

وفي التاريخ الإسلامي ما يؤكد إمكانية تلك الصلة بين السلطة السياسية والدين، إذ إن النص القرآني يذكر أن الرسول كان «على دين قومه» قبل الهداية، أي وثنياً، وكان جبريل يعلّمه أن يبدأ بدعوة أهله قبل غيرهم «وأنذر عشيرتك الأقربين» (الشعراء ٢١٤) وفي الحديث: «ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه»وفقاً للتفسير الخلدوني وثالوثه في فهم العمران السياسي «ألملك، العصبية والدعوة».

ضمن هذا المنحى العام يمكن القول إن الحرب التي دارت بين المملكة الحميرية والقبائل الأخرى كانت حرباً أهلية ولا سيّما أنّ علاقات هؤلاء كانت تضرب أيضاً جذورها في الصراعات الدائرة مع مملكة الحيرة الخاضعة للنفوذ الفارسي الزرداشتي أو المجوسي الذي كانت له امتدادات في طقوس وعادات الحميريين أو قبائل اليمن الشمالية. وإلّا فما معنى الاجتماع أو المؤتمر الذي يؤكد بورسوك على أهميته سنة ٥٢٤ ميلادي في الرملا أو الرملى – بمملكة الحيرة في العراق الحالي – بين هؤلاء وممثل عن بيزنطة – عبر سفارة لها هناك ــ وممثل عن الملك الحميري ذو نواس الذي أرسل رسالة يبرّر فيها وقوع المجزرة في نجران؟

وينتقد غلين بورسوك صلافة رسالة الملك الحميري إلى نظيره في الحيرة الذي يفاوض بيزنطة لتسليمها عدداً من القادة العسكريين الذين وقعوا في أسره، فيما الواقع هو أن الفرق المسيحية من المناذرة أو الغساسنة كانوا يتعاملون مع الزرداشتيين على أساس عهود تضمن لهم حرية شرائعهم الدينية مقابل دفع الجزية. أما الحميريون فقد كان تحالفهم مع الفرس يتجاوز العلاقة بالدين ويهدف إلى ضمان خط تجارة الحرير والعاج بين بلاد فارس والهند وصولاً إلى أفريقيا.

أمّا العلاقات بين الروم والممالك الصغرى فكانت محكومة باعتبارات الشرع السائدة حينذاك، إذ يُفهم من النقوش أنّ مفهوم الصليب كان مرتبطاً بمفهوم «السلام المسيحي» البيزنطي، وأنّ دفع الجزية كان أمراً معمولاً به في عقود الصلح مع القبائل. والواقع أن الفرس كانوا يتعاملون أيضاً وفق المفهوم ذاته مع ملك الحيرة حامي المسيحيين هناك وحامي اليهود الحميريين في اليمن. لكن أخبار فعلة الملك ذي نواس أحرجت ملك الحيرة، وكان الرد البيزنطي عبر أهل الحبشة بمثابة إعادة صياغة للتحالفات وإن كانت هناك شكوك بيزنطية بشأن أصالة مسيحية الأحباش ويهودية الحميريين. فقد كانت تجارة البحر الأحمر قد تعطلت بفعلة الملك الحميري لأنها كانت تنتهي يومذاك إلى أسواق الروم المسيطرين على مصر وعلى مداخل البحر الأحمر الشمالية في فلسطين، فلحق الضرر الاقتصادي بأسواق الحبشة، وكتب ملك الحبشة إلى ذي نواس محتجاً على سياسته تجاه الرعايا المسيحيين مبيناً ما ترتب عليها من ضرر بتجارة الحبشة في البحر الأحمر ومهدداً بأنه لن يقف مكتوف اليدين إذا استمرّ ذو نواس في اتباع سياسة تلحق الضرر بالمصالح الحبشية. وعندما استمر في مواقفه تجاه الروم وتجاه النصارى ممن كانوا باليمن، لم يجد النجاشي بداً من إعلان الحرب عليه.

وبالفعل، قرّر ملك أكسوم Aksum التي تحولت إلى المسيحية نحو سنة ٣٤٠، قطع البحر الأحمر إلى الضفة الأخرى عند الزاوية الجنوبية ــ الغربية لجزيرة العرب، تمهيداً لشنّ حملة عسكرية ضد مملكة حِمير الواقعة تحت النفوذ الديني اليهودي والنفوذ السياسي الساساني الفارسي. وهدف الحملة على اليهود الردّ بقوة على المذبحة التي ارتكبها الملك اليهودي، حليف المملكة الزرادشتية الفارسية، يوسف ذو نواس، بحق المسيحيين في نجران وظفار وغيرهما من المناطق سنة٥٢٣م حينما أباد رهبانهم ودمّر كنائسهم وأمعن فيهم قتلاً وحرقاً، فانتقم منه النجاشي4 كاليب شرّ انتقام وأقام مسلّة لانتصاره في مأرب، وبنى كنائس في صنعاء ونصب مسلّة أخرى في أكسوم ونقشاً إضافياً في أدوليس. ولدى الانتصار الحبشي على ملك حمير، طُبّق أيضاً مفهوم الجزية.

ولإن كان هناك مبالغة في حقيقة نهايه ذي نواس5 الذي أطاح الملك المسيحي الحميري، وما آل إليه اليمن بعد قتله وتعيين ملك مسيحي جديد على صنعاء ونجران وتهامة وظفار، وفي معرفة هل هم فعلاً هكذا أم أنهم مجرد بعض الحكام الموالين لفارس والحبشة أو من يطلق عليهم العرب لفظة «قيصر أو كسرى»، فهذه الأخبار البيزنطية التي يذكرها بورسوك والأخبار العربية المفسرة للقصص القرآني تحدد صورة العلاقات الدولية كما كان ينظر لها العرب، ويوضح كيفية ولادة مفهوم «أهل الكتاب» وأهل الذمّة والقبول بعقد العهود معهم.

ثمّ إن هناك أهمية العبرة التاريخية والقانونية، لا سيما أن كتب التفسير تشير إلى أن نصارى نجران وَفدوا المدينة، وذلك بعد عرض الإسلام عليهم ومناقشتهم للرسول العربي الذي خيَّرهم بين الجزية والقتال، فرفضوا القتال، ورفضوا أيضاً (صورة الجزية)، ولكنهم قَبِلُوا أن يَفْرض عليهم شيئاً من المال كلَّ عام، عُرِف بمال الصلح، واشترط عليهم شروطاً أَدْرَج ضمنها يهود نجران.

إن العبرة التاريخية تمتزج أيضاً بعبرة أخلاقية/سياسية هي في صلب مفهوم نبيّ العرب والإسلام للعلاقة مع الآخر المختلف ولاحترام آدمية الإنسان والإعجاب بثبات المؤمن المسيحي على دينه، مما يسمح بربط تلك العبرة بتأويل قوله تعالى في إحدى آيات سورة البقرة «لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ» التي لم تنسخ بهذه السورة أو بغيرها من آيات سورة التوبة وفقاً لآراء يختلف فيها الراسخون في العلم مع بعض السلفيين الجدد الذين ذهبوا إلى جواز حرق حتى من كان من دينهم كما حصل مع الطيار الأردني على يد حركة الدولة الإسلامية الداعشية.

مسلة أكسوم في إثيوبيا (الصورة من مدونة solarey)

 

تعاظم الصراع على العرب

لا شيء بعد الحدث يعود كما كان عليه. فبعد إطاحة الملك ذي نواس، عيّن النجاشي بالتوافق مع الروم ملكاً مسيحياً على مملكة حمير، اسمه سوميفا ومنهم من يكتبه «سميفع». غير أنّ خطة للروم كانت أوسع من مجرد هذا التغيير الحميري في اليمن، ذلك أن قيصر الروم جوستنيان كان يسعى إلى قطع الطريق التجارية نهائياً على الفرس عبر دعم ممالك للعرب ليس فقط في اليمن ولكن في باقي شبه الجزيرة العربية والحيرة بالتحالف مع القبائل الوثنية. ( ص ١١٥ وما يليها).

ووفقاً لهذه الرواية، أرسل جوستنيان سفيرين ٥٢٧ م إلى كل من الملك الحميري والنجاشي، فطلب أن يساعد ملك حمير رجلاً بعينه ليصبح ملكاً على قبائل معد بن عدنان هو الأمير والشاعر المعروف في المصادر العربية بامرئ القيس بن حجر. وكان جوستنيان يرى في حساباته الإستراتيجية أن قبائل معد بن عدنان وكندة إن توحدت تحت إمرة رجل واحد فإنها قد تسدد للفرس ضربة موجعة. لم تحظ خطة جوستنيان بالقبول عند نجاشي الحبشة كاليب ولا عند سميفع ملك اليمن وعملا وفقاً لمصالحهما.

ربما كان طه حسين محقاً في نقد الشعر المنحول والمنسوب إلى شعراء الجاهلية وأشعار أيام العرب، بما في ذلك الشعر المنسوب إلى الشاعر امرئ القيس والذي يروي فيه مضاجعته المدّعاة لامرأة القيصر. لكن بروكوب يؤكد أنه لما استيأس جوستنيان من مشايعة سميفع ملك اليمن إلى خطته توحيد قبائل معد بن عدنان وكندة تحت إمرة امرئ القيس حاول أن يحقق ذلك بنفسه وسعى لتنصيب امرئ القيس ملكاً من قبل الروم. وهذا ما يصفه بورسوك حرفياً مستنداً في ذلك إلى المؤرخ بروكوب الذي كتب أيضاً عن تعسّف بعض القياصرة بحق شعبهم أيضاً أيام الخلافات اللاهوتية بين الفرق الدينية والتي قامت بتصفية بعضها بعضاً في سورية حيث النسطورية تحاول التأثير على الموقف السياسي للقيصر. وتصديق ذلك في شعر امرئ القيس الذي ينسب إليه وصف رحلته إلى بلاط جوستنيان لتتميم مراسم عقد اتفاق المناصرة مع الروم لا يخالف العقل حين يقول وينشد:

عليها فتى لم تحمل الأرضُ مثلَه أبرّ بميثاق وأوفى وأصبـــرا / ولو شاء كان الغزو من أرض حمير ولكنه عمداً إلى الروم أنفرا

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنّا لاحقان بقيصـرا / فقلت له لا تبكِ عينُك إنما نحاول مُلكاً أو نموت فنقبـــرا.

وكذلك الأمر في ما يتعلق بموقف الرسول بشأن الحنيفيين الذين جاء بورسوك على ذكرهم في الفصل الأخير من كتابه، ولا سيما شعر أمية بن أبي الصلت، وهو من الحنفاء الذين ثاروا على عبادة الأصنام وآمنوا بالله الواحد واليوم الآخر، وبعض المؤرخين يربطها بتفسير سورة الأنعام ولا سيما قوله تعالى لنبي الإسلام:

قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

ومن أقوال أمية بن أبي الصلت الأبيات الآتية:

مليكٌ على عرش السماء مهيمنٌ / لعزّته تَعْنُو الجباهُ وتسجدُ

مليك السماوات الشِّدَاد وأرضها / وليس بشيء فوقنا يتأودُ

تسبِّحه الطير الكوامن فى الخفا / وإذ هي فى جو السماء تَصَعَّدُ

لذا فإن التفسير السلفي الراهن لقوله تعالى «والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون»، لا يمكن أن يطغى على التفسير الأشمل للعلاقات بين الشعر والثقافة والمضمون الديني لهما قبل الإسلام وإن كان النبي الأكرم لا يعوّل على كل ما يقوله الشعراء أو على مستوى فهمهم السياسي واللاهوتي للأمور الدينية. وعلى كل، معظم أخبار السيرة النبوية تثبت أن الرسول العربي كان، عبر القصص القرآني، يبحث عمّا يوحّد حينذاك أكثر مما يفرق. والدليل على ذلك هو أهمية من عرفوا لاحقاً باتباع ملّة إبراهيم ــ أي الحنيفيين6 ــ وفقاً للقصص القرآني والحديث الجيد الإسناد إلى الرسول مثلما جاء في موقفه من خطبة قس بن ساعدة النصراني في سوق عكاظ التي قال فيها:

«أيها الناس، اسمعوا وعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، يا معشر إياد أين الآباء والأجداد وأين ثمود وعاد وأين الفراعنة الشداد أين من بنى وشيّد وزخرف ونجد وغرّه المال والولد أين من بغى وطغى وجمع فأوعى وقال أنا ربكم الأعلى ألم يكونوا أكثر منكم أموالاً وأطول منكم آجالاً وأبعد منكم آمالاً طحنهم الثرى بكلكله ومزقهم بتطاوله فتلك عظامهم بالية وبيوتهم خاوية عمرتها الذئاب العاوية كلا بل هو الله الواحد المعبود ليس والد ولا مولود».

ثم أنشأ يقول:

في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر/ ورأيت قومي نحوها تمضي الأصاغر والأكابر

لا يرجع الماضي إلي ولا من الباقين غابر/ أيقنت أني لا محالة حيث صار القوم صائر

بين أبرهة وملك الحيرة

غير أن بورسوك يدقّق في حدثية الوقائع التاريخية المتعلقة بظروف انقلاب أبرهة الأشرم على الملك الحميري سميفع سنة530م ويعتمد على نقوش مأرب السبأية وعلى صحة الوقائع المتعلقة بمفاوضاته مع ملك الحيرة لإقامة حلف مستقل عن النجاشي الحبشي كما يدقق بصحة إنعقاد مؤتمر مأرب الدولي مع ممثلين من الروم والفرس وسفراء الحيرة والحبشة ما عدا الوثنيين العرب سنة ٥٤٧ وعمله لإصلاح سد مأرب وبصحة حروبه مع النجاشي كاليب الذي لم يستسهل انقلاب أبرهة عليه. ولكن ابرهه الاشرم كان يحاول وراثة الدعوى المسيحية ويزيد من محاولاته الدبلوماسية مع الحبشة والروم والفرس ليوطد ملكه. ولذا كان يستقبل لديه سفيرين شبه دائمين للفرس والروم ويتراسل مع النسطوريين الذين لم يكونوا دائماً على اتفاق مع المسيحية البيزنطية كما يذكر بورسوك. ففي الفترة البيزنطية كان دعاة النسطورية يتعاملون أيضاً مع الفرس وينطلقون في طلب الفرس حمايتهم من الروم بشرط نشرهم في الشرق لعقيدة «مختلفة عن عقيدة القيصر الروماني» وإلا فلن يمحضك الرعايا المسيحيون أبداً «حق ولائهم» كما يذكر جورج قرم مثلًا في كتابه المرجعي «تعدد الأديان وأنظمة الحكم» (دار النهار، بيروت، ١٩٧٩).

وكان كل اختلاف ديني يتحوّل إلى اختلاف سياسي لأن إدخال المقدّس إلى السياسة كان أمراً إمبراطورياً ويمثل مثلاً أعلى في الصبوة إلى طمأنينة تنشل الإنسان ومجتمعه من وضعه كملاك ساقط. كان الانتماء إذاً إلى جماعة دينية نبوية معيار ارتفاع الإنسان إلى الإنسانية وتجاوزاً للبربرية. وهذا ما فهمه النبي محمد لاحقاً بدعوته التوحيدية المستقلة وعندما أنزل عليه جبريل كلام الله عن آدم:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ

لنعد إلى ما يقوله بورسوك بشأن فشل المفاوضات بين أبرهة وملك الحيرة أو مع الوثنيين العرب الذين غابوا عن ممارسة هذه العلاقات الدبلوماسية، ولذا بقيت العلاقة أمتن بين المملكة الحميرية والأحباش، ولا سيما أن المملكتين كانتا على صلة رحم مع بقايا السبئية منذ دور مملكة سبأ وعلاقتها مع سليمان الحكيم. وحسب ما فهمت من تحليل بورسوك الموجز، فإن العلاقة الغامضة حينذاك بين اليهود والمملكة الحميرية من جهة، وبين المسيحية والحبشة وبيزنطة من جهة أخرى، كانت دائماً قائمة على تفسير علاقة رحم بين نسل أهل الحبشة من ذرية ملكة سبأ بعد «تغرير» سليمان الحكيم بها ــ حسب كتاب الملوك بالأمهرية ــ وبين اعتبار أهل اليمن أنفسهم ورثة ملكة سبأ أيضاً، وفقاً للقصص الذي يبدو أقرب إلى القصص القرآني في سورة النمل التي ورد فيها كيف تلقّت بلقيس الرسالة التي ألقاها الهدهد وذكرت الشورى كمنهج حكم معمول به لدى غير المسلمين وإن كانوا قد غدوا في ما بعد من الموحدين وعبدة «الرحمن الرحيم».

غزوة الفيل وولادة الرسول

وما يلمّح إليه بورسوك عن احترام الأحباش لتاريخ مملكة سبأ اليمنية لا يتناقض مع القصص القرآني حين يلقي الهدهد برسالته إلى بلقيس، ملكة سبأ:

قَالَتْ يَا أَيّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيّ كِتَابٌ كَرِيمٌ {29} إِنّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنّهُ بِسْمِ اللهِ الرّحْمنِ الرّحِيم {30} أَلا تَعْلُوا عَلَيّ وَأتوني مُسْلِمِينَ {31} قَالَتْ يا أَيّهَا المَلأُ أَفتُوني فِي أمْري مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمراً حَتّى تَشْهَدُون {32} قَالُوا نَحْنُ أولُو قُوّةٍ وأولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ والأمرُ إِليكِ فَانظري مَاذَا تَأْمُرينَ {33} قَالَتْ إنّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَريَةً أَفسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلكَ يَفعَلُونَ {34}

وفي حين يعود القصص القرآني إلى صلة الرحم الإبراهيمية وإلى سيرة اليمن السبئية، يحاول بورسوك، عبر مصادره اليونانية والبيزنطية، أن يعقلن الحدث الأسطوري الحبشي وصلة رحمه مع المسيحية الإمبراطورية عبر ذات العلاقة مع سليمان الحكيم. ويستخدم الأسلوب ذاته أيضاً عندما يسبر المخيلة اليمنية الحبشية بشأن عام الفيل وغزوة أبرهة باتجاه مناطق النفوذ الفارسية وفي قلب الجزيرة العربية ضد قبائل معاد. فهو يذكر بانتصار أبرهة في سعيه إلى الاستقلال باليمن وبغزوته ضد حلفاء الفرس، وأيضاً بغزوته باتجاه الحجاز ومكة التي يخمّن وقوعها سنة ٥٥٢ م وفقاً للآثار المؤرخة بالتاريخ الحميري والتي عثر عليها علماء الآثار في اليمن، ولا سيما تعليقات المؤرخ البلجيكي الهولندي جاك ريكمان المتخصص في ذلك. وهناك لغط تاريخي بهذا الشأن.

وهنا يتعرض بورسوك إلى تضارب التاريخ بمعناه التقويمي البيزنطي مع المصادر العربية المتعلقة بواقعة عام الفيل التي يربطها المؤرخون العرب بتاريخ ميلاد الرسول سنة ٥٧٠م. هناك بعض المؤرخين العرب مثل البغوي الذي يقول: «إن سفر الفيل حدث قبل ميلاد الرسول بنحو أربعين سنة وأن خلفاء أبرهة حكموا اليمن ٣١ سنة». لكن ذلك لا يطابق حتى ما يقوله بورسوك لأنه لا يعتقد بأن سفر الفيل وقع سنة ٥٣٠م أو ٥٤٠ م. ذلك أن المؤرخ البيزنطي بروكوب، الذي يعتمد عليه بورسوك، نشر تاريخه سنة ٥٥٥م بعد ذكره لمعارك أبرهة في الحجاز. ويروي أن غزوة الحجاز وقعت بعد فشل مفاوضات سنة ٥٤٧م. ومن يطلع على كتاب البداية والنهاية لابن كثير الذي يعتمد على تقويم ذي القرنين ــ أي التأريخ اليوناني ــ لا يستطيع أن يحسم في مجرى الوقائع وإن كان سردها يتوافق مع أيام صعود أبرهة ثم سقوط خلفه على يد سيف بن ذي يزن الذي حيكت حوله أساطير شخصية وملحمية استوعبها التراث الشعبي العربي والإسلامي، إذ تعلن سيرته بشارة ولادة النبي لجدّه ابن عبد المطلب عندما طالب ذلك الزعيم القرشي الهاشمي بإبله.

لا يتعرض الكتاب إلى ذلك. يشير بورسوك فقط إلى الآية ١٠٥ من سورة الفيل التي يفهم من مفسريها أنّ تهديد أبرهة الأشرم للكعبة بغزوته نحو الحجاز قد وقع في عام ولادة النبي محمد ــ صلعم ــ أي بعد ما كتبه بروكوب عن غزوة الحجاز، ويحاول أن يتفهم مغزاها الديني والسياسي أكثر من عقلنة الحدث نفسه وتأريخه:

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ‏

وهنا يتعامل بورسوك مع الأساطير على نحو رائع في فهم تأثيرها على المخيلات الاجتماعية للشعبين. فيشير إلى وصف رحلة سفير جوستينيان إلى النجاشي في أكسوم وكيف كان ذلك السفير يرى فيلة الحبشة المروّضة بعد اصطيادها في بلاد الزنج تسير في القوافل، وكيف استقبله النجاشي مكشوف الصدر، وهو على عرش منصوب على ظهر أربعة فيلة. ويذكر بورسوك أيضاً نقوشاً بهذا الشأن ورسماً استوحي منها لوصف استقبال ماركو بولو لاحقاً في بلاد الهند والسند. (انظر الصورة)

وهذا جدير بالبحث الدقيق لدرس التأريخ وفقاً للتقويم الحميري ومقابلته بالبيزنطي واليوناني لأن المتفق عليه هو صحة وجود حملة استهدفت الكعبة دون أن تكون نتائج البحث الأثري في الرسوم الحميرية اليمنية قاطعة في وقوعها في التاريخ الميلادي نفسه للنبي الذي تنسب إليه المعجزة فور ولادته في حين إنه يكفيه معجزة التنزيل لنبوّته ولعظمة الكتاب المرسل بواسطة جبريل الذي لم يحدّد يوماً معيّنا لذلك الحدث في النص القرآني. لذا من الشطط التوقف عند ذلك الأمر كنقطة خلافية لاهوتية أكثر من كونها حدثية، إلا إذا كان الهدف إبراز الأحباش كأعداء أبديين للعرب. وإلا فلماذا أرسل النبي العربي ــ بعد هبوط الوحي عليه ــ في أوائل القرن السابع الميلادي فرقةً من الصحابة الى ما سماه «ملك الحبشة المتسامح والعادل» ودعاهم إلى عبور البحر الأحمر ــ ومنهم جعفر بن عبد المطلب والخليفة عثمان ــ في أول هجرة إلى الحبشة قبل هجرته إلى المدينة إذا كان النجاشي الحبشي عدواً أبدياً؟

 

تحويل معاني المقدّس القديم

في القسم الأخير من كتابه، يتعرض بورسوك إلى هذه النقطة دون أن يدخل في تفاصيل المصادر العربية التي لم يكتب عنها أكثر مما كتبه جواد علي في مفصله عن تاريخ ما قبل الإسلام. فجلّ ما يرمي إليه بورسوك هو أن يُظهر أن الدعوة المحمدية قد قامت لأنها عاصرت كل الصراعات الإيديولوجية واللاهوتية دون قطيعة نظرية مع الموحّدين وأهل الرحمن، مع أنها تجاوزت التصلب الفكري الذي جعل اليهودية والمسيحية أديان ممالك ضخمة قادرة على فرض فكرها المهيمن عبر مؤسسات إمبراطورية تريد القبض على هذه الأرض التي لم يخلفها الله لأمة واحدة من خلقه كما في قوله تعالى:

قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ

لكنّ النقاش الذي فتحه بورسوك بذكاء عن الفرق بين الوثنيين العرب وبعض المشركين هو أيضاً لفْت نظر موضوعي ومعاصر إلى أهمية إعادة قراءة القصص القرآني على نحو أنطروبولوجي وبناءً على العلوم الحديثة لمقارنة الأديان ولا سيما في ما يتعلق بنقطة مهمة في فكر التوحيد المحمدي للقبائل الوثنية العربية هي كيفية حفظ المقدّس القديم ــ الكعبة الإبراهيمية الأصل ــ وتحويل معناها إلى مقدّس جديد إسلامي ينحدر من ملة إبراهيم الذي رفض التضحية بابنه.

كتب المستشرقون الكثير عن الأصنام، وحاول بعضهم تشويه معنى عدم تدمير الكعبة للخلوص بغباء إلى بقائها لعبادة القمر للتشكيك في توحيدية الإسلام، في حين أنّ ما سبق يقدّم تفسيراً أكثر مقاربة لمعنى التحوّل اللاهوتي الذي أنجزه النبي دون قطيعة مع سيرة الأنبياء السابقين عليه. وهذا ما وجدته أيضاً في تفاسير القصص القرآني عن بقاء الحجر الأسود. أهمية بقائه لا تتوقف فقط على نسبة بناء الكعبة إلى إبراهيم ليس كأول بيت على الأرض، بل «كأول بيت وضع فيه البركة»، لصلته مع المقدّس الإلهي الأول (إنزال آدم إلى الأرض) كخليفة لها وعليها بالرغم من احتجاج بعض الملائكة. فالقصص القرآني وأخبار المفسرين، بمن فيهم ابن كثير، تنسب وصول الحجر الأسود إلى الأرض من مادة الجنة نفسها أوصلها جبريل يوم كان إبراهيم يبني الكعبة. وجاء في الحديث المنقول والمسند إلى النبي العربي، أن الحجر الأسود كان «أشد بياضاً من الثلج حتى سوّدته خطايا بني آدم» وأنّ «آدم هو أول من قبّله»، بل إن كتاب «أمالي» لابن دريد يقول «إن آدم أهبط ومعه الحجر الأسود»، ولذا كان النبي العربي يقبّله. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كان يُقبِّل الحجر الأسود ويقول: «إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يُقبِّلك ما قبّلتك».

لذا لا مقام لدعاة الثورية الإسلامية الدائمة التي تدّعي أنّ النبي كان قاطعاً مع كل شيء في مجتمعه، وهو المجتمع الجاهلي. وهذه الملاحظة تتعلّق أيضاً بالأعياد وبعض الطقوس الأخرى، ودرب الفيل الذي لا يزال يطلق على مكان مجاور لمكة. وحتى عندما حاول البعض بعد هزيمة حزيران التذكير بثورة القرامطة المنشقّة عن الشيعة الإثني عشرية والإٍسماعيلية والفاطمية لاعتناق «قدسية جديدة» ثورية، فقد نسوا أن القرامطة فشلوا في تبرير سرقة الحجر الأسود ٩٥١م واضطروا إلى إرجاعه ليظل رمزاً لوحدة لاهوتية لا سياسية، إذ إن القدسية لا يمكن أن تحتكر لأي فرقة إلا على غلالة من دم في حرب أهلية نهاهم النبي العربي عنها عندما احتكم إليه أهل قريش في أمر إعادة تثبيت هذا الحجر قبل الإسلام. لكنّ من المهمّ ذكر ما كتبه ابن كثير في أحداث ٣١٧ هـ ــ ٩٥١م ــ نقلاً عن أبو طاهر القرمطي عندما أمر بأن يقلع الحجر الأسود: «جاءه رجل فضربه بمثقل في يده وقال: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجّيل؟ ثم قلع الحجر الأسود وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم ثنتين وعشرين سنة حتى ردّوه» جلمداً لا تخلل فيه7.

 

جاهلية الاسطورة و«جاهلية» التاريخ

ربما كان بورسوك يريد في عودته الى تلك الفترة أن يفهم أكثر ما حل بفكر الإمبراطورية البيزنطية وعلاقاتها الدولية آنذاك بعدما تبادلت الانتصارات والهزائم مع الفرس. ففكرة الانحطاط همّ ثقيل للباحث في التاريخ. لكن كتاب بورسوك هوأيضاً بداية لطرح أسئلة معلّقة ليس فقط بشأن سقوط إمبراطوريتين فارسية ورومية بعد انتصار الدعوة، وإنما عن علاقة هذا السقوط بما آلت إليه الخلافة الإسلامية منذ اتساع الشرخ الديمقراطي الموروث قبل وبعد الفتنة الكبرى التي لا يجيد ورثتها وأيتامها إلا رغبتهم في استعادة العهد التأسيسي الأول على جثة الممالك والدول التي لا تزال تتهاوى وتتآكل على يد من ادّعوا بفرقهم المتناحرة حيازة مفتاح باب التأسيس الأول. ولمّا كان الفكر الإسلامي السلفي يعتبر أن انحطاط الأمّة يعود إلى عودتنا إلى جاهلية أبدية لا تستقيم إلا بالعودة إلى الإسلام الأوّل، فربما يكون ما يدعونا إليه بورسوك هو أن نذهب إلى التساؤل: كيف يمكن أن تظهر حضارة غنية وشمولية بكل أنظمتها من ماض جاهل؟

عندما يكتب غلين بورسوك، أستاذ جامعتي برينستون وهارفرد، ضمن تخصّصه وحرصه على أنسنة العلوم التاريخيــة والدينيــة والقانونيــة، فإنه يثير كثيراً من الغبار، العالق في عقولنا ونمط تفكيرنا. فقد تربّينا على أنّ «الجاهلية» لفظة مذمومة جاءت كلها في معرض ذم عادات العرب وسلوكهم السابق على الإسلام كالعنجهيّــة والغطرســة والعصبيــة القبليـــة والثأر والوثنيـــة والسَّفـــه وانتشار العداوات وسفك الدماء، وهذا ما فيه جزء فقط من أجزاء الحقيقــة الاجتماعيــة والسياسيــة التي أصلح بعضها إلإسلام، دون أن يكون ذلك الإسلام قطيعة مطلقة مع المجتمع الحاضن أو مع العالم المحيط به.

ووفق هذا المنطق الأحادي الذي لا يكترث إلا إلى مراجعه واحتكارها للحقيقة المطلقة، فإن معظم الكتّاب العرب اعتبروا الجاهلية مرحلة موحشة تافهة، ضالّة مضلّلة، أو هي، بكلمة، جاهلية جهلاء. فعزلوها تاريخياً، أي عملوا على «تنسيقها» من وعي المرحلة التي بدأت بنشوء الإسلام.

كانت رحلتي مع غلين بورسوك فرصة لاكتشاف أن عصر الجاهلية كان عصراً غنياً بتنوّع لغاته الحضارية وببذور الشرع المؤسسة لما أصبح في ما بعد فقهاً أو قوانين دولية للعلاقات بين الأمم. وكان أيضاً فرصة إعمال العقل في فهم تحوّلات التاريخ وآثاره أو أطلاله التي تفصح عن غنى مناسك العرب وحدّة النقاشات الفقهية واللاهوتية في مجتمعات مدن الجاهلية المتنوعة ثقافة وسياسة وديناً وطوائف عربية مختلطة، فضلاً عن مستوى الثقافة العربية الشفهية والأسطورية ذات المعنى العميق لفهم المخيّلة الاجتماعية العربية. يضاف إلى ذلك دور التجارة المزدهر آنذاك وأهمية طرقها ومعابرها في خلق نزاعات «ترتدي» الطابع الديني لاعتبارات سياسية واقتصادية تفرض على أطرافها أن يبقى السلام أفقاً عقلانياً للحروب، إلا الحروب الأهلية منها التي تنبَّه نبي العرب والمسلمين لها ولخطورتها وعالجها بعبقرية وإلهام خصه الله بهما وختم به سيرة كل الأنبياء.

إلّا أنّ السؤال الذي راودني أيضاً هو أنه إذا سافر سلفي مع كتاب المؤرخ الأميركي إلى ما بين سنة ٥٢٣ ٥٧٠ م فهل يستطيع أن يعود إلّا ومعه الجاهلةه كلّها ليسقطها على كل محطّات التاريخ، وهي كثيرة، كي يعود إلاسلام كما كان يوم أرسله الله إلى نبيه العربي؟ هل يمكنه أن يستعيد التعامل مع تراثه الثقافي في هذه الفترة ويعود من رحلة الاستعادة هذه سالماً دون أن يشهر سيفه ويحطّم كل الأصنام كما فعل الطالبان في أفغانستان بتمثال بوذا أو غيرهم من مسلمي مالي ونيجيريا والصومال؟

يبدو أنه قضي الأمر مع التطور الداعشي وغير الداعشي لأنّ الجاهلية التي يتحدّث عنها سيد قطب في كتابه «في ظلال القرآن» وفي تأويله لقوله تعالى:

أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ

وما يكرره بعده أيمن الظواهري في كتابه «فرسان تحت راية النبي»، أو أبو بكر البغدادي ومرجعه في كتاب داعش8 «إدارة التوحش، أخطر مرحلة ستمر بها الأمة» ليست جاهلية تاريخية وإنما هي حالة أبدية وسرمدية تتكرّر مهما تغيّر التاريخ وتغيّرت علاقات الأمم وتطوّرت أديانها ومعتقداتها ودولها إذا ضاعت حالة الجاهلية ضاع الإسلام. إنّ صنمية هذا النعت لأيّ مجتمع معاصر بالجاهلية وتجميد الاجتهاد إلا في توسيع مفهوم المشركين والمفسدين في الأرض، وتفصيل طقسنة الموت في حروب أهلية متكررة الديمومة هما منهج الخروج من الواقع والقطيعة معه ومع الاجتماع والعلم والعالم والانكفاء، إلى مجتمع مغلق، يستبدّ به علماء أخرجوا أنفسهم من دائرة حكم البشر للبشر نيابة عن كل الخلفاء و«ورثة» الأنبياء، والأئمة والصحابة الغاربين لتوسيع دائرة قدسية أقوالهم وعصمتها. ولهذا عاد أنصار داعش من رحلتهم إلى الجاهلية الأولى ليقْدموا طوعاً على ارتكاب مجازر أشبه بمجزرة نجران، مع العزم على الاستمرار بها سبياً وقتلاً للمسلمين أنفسهم ولأهل الموصل حتى الرقة، من المسيحيين والمشركين وغيرهم من الشيَع التي ذكرها الشهرستاني في كتابه «الملل والنّحَل» حتى يبقى وجه ربهم ويقام حكم الله على أرض خاوية من أهلها إلا الذين خرّوا صاغرين لهم. إنها حرب البسوس مع قدسية مجدّدة:

أنت البسوس التي أفنت بناقتها بكراً وتغلب حتى أقفر البلد.

اعتدنا كثيراً في الكتابات اليسارية استعارة تعليق ماركس الشهير على هيجل «إن التاريخ يعيد نفسه مرتين، لكنه يحدث في الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة». لكن نسينا قوله أيضاً أن التاريخ لا يصنع شيئاً بحدّ ذاته حين لا يتعلّم الإنسان منه شيئاً ويستعند في إعادة إنتاج عبوديّته وسيره إلى مثواه الأخير كممثّل مسرحيّ في نظام اجتماعيّ قد مات أبطاله الحقيقيّون.

وما أضاف الداعشيون إلى ذلك إلا تلك الحلقة المفرغة التي تدور على نفسها تكراراً للمآسي والمهازل حتى تنقطع سرعة دفعها بإضاعة طاقتها وبأسها في ما بينها. إنّ ما تتميّز به التّجربة الرّوحيّة المذهبية هو هذا الثّابت فيها: القطيعة، وتحديداً ما يطلق عليه ميشال دو سرتو اسم القطيعة المؤسّسة. إلّا أنّ القطيعة المؤسّسة في التّجربة الدّينيّة المذهبية إذا بلغت طورها الكوميديّ والمأساوي الأخير تنقلب إلى قطيعة سياسية مع العالم لا تؤسّس لأيّ شيء سوى دمارها الذّاتيّ ممّا، ينقلها بالضّرورة إلى دائرة المقدّس الموهوم أملاً لحامله أن يغفر الله ذنوبه الإجرامية باسم خالقه. فحامل هذه القداسة المذهبية قد يعتقد صادقاً أنّ تجاربه الأرضية المجهضة ما هي إلا صورة لوجه الإله الغاضب في العالم لخطيئته الجاهلية الأولى وتكرارها في الفتن الكبرى والصغرى على مر التاريخ.

وغضب الله هذا يشير إليه بورسوك عرَضاً وباختصار عندما يتحدث عن تشكك البيزنطيين في أصالة مسيحية الأحباش، أو ما تشير إليه باتريشيا كرون عن الأنبياء الزرداشتيين وعلاقتهم بالانتفاضة الفلاحية على عهد الساسانيين. إنه غضب الله المتكرر وضرورة الردّ عليه بالرجوع إلى أصل لم يستقم إلّا في حروب منهكة لكلا الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية. ربما استحالة تكرار النفس النبوي الزرداشتي والمسيحي وتحوّلهما إلى أديان إمبراطورية تتحكّم بممالك يهودية حميرية وأخرى حبشية هو ما يفسر جو الجمود اللاهوتي الذي حطّمه الإسلام دون أن تكون قطيعة مع التراث الإبراهيمي كله.

 

القطيعة المعرفية المضادة

استحالة هذا التّكرارعلى الطريقة المسيحية أو اليهودية أو الزرداشتية أو الإسلامية هو ما لم يفهمه العقل السلفي الذي لا يقوم إلا على النقل والعود الأبدي إلى أصل الدولة الأولى التي غدت إمبراطورية بدورها بعد الفتوحات الإسلامية.. وهذا ما يلخّص أزمة المسلم السلفي في هذا الزّمان الذي انتهت فية الإمبراطورية الإسلامية حتى قبل غزو المغول لبغداد.

فالسلفي إنسان «متأزّم». وقد جاء في الّلسان أنّ «المُتَأَزِّم ــ هو ــ المُتَأَلِّم لأَزْمةِ الزّمان» المتمثلة في العيش ضمن أنظمة أنتجت الخوف والرعب والتعذيب وسخّرت أفكار الحداثة لغايات تنافيها، ليلقي بتبعة العنف الأصلي على الآخر الجاهلي من أهل البدع. فكل الحكام المعاصرين من ملوك وعسكريين انقلابيين أو مدنيين الذين يستوردون شرعة الدساتير الحديثة أو شرعة حقوق الإنسان الفردية والجماعية هم فراعنة أو مجوس أو قيصر أو كسرى أو طاغوت قديم قدم هذا العالم السفيل السافل والفاجر.

إنّ القراءة اللاتاريخية للتراث والقطيعة مع كل الفكر والتراث المادي وغير المادي الذي سبق الإسلام وتلاه، ومع ما فات السلطنة العثمانية ودول ما بعد الاستقلال الوطني من تطوّر للعلوم الأنطروبولوجية والفلسفية والاجتماعية والنفسية وغيرها، يستلزمان قطيعة معرفية، مضادة هذه المرّة، مع مجموعة من المفاهيم والمقولات وطرائق التفكير النحوية والفقهيه والتوحيدية المختزلة بالتقليد والنقل بلا عقل.

لا يعني ذلك قذف التراث الإسلامي إلى سلة المهملات التاريخية وإنما التعامل معه كتراث تاريخي حكَمته اعتبارات سياسية واجتماعية غير متكررة في معناها وتاريخها وانقاساماتها وانتصاراتها أو هزائمها. فالقطيعة التي دعا إليها مفكّرون أمثال أبو زيد والجابري ومحمد أركون ليست القطيعة مع التراث بل القطيعة مع نوع من العلاقة مع التراث، القطيعة التي تحوّلنا من كائنات تراثية تكرارية إلى كائنات لها تراث قادرة على أن تهضمه دون إنكار إنسانية الآخرين. وطالما بقي مكان السلطة منفصلاً عن مكان المعرفة الإنسانية وقراءة التراث على نحو تاريخي، لا مناص من الدوران في الحلقات المفرغة المذهبية والسلفية التطهيرية لبعضها البعض وللآخرين الكفرة.

إنّ النبي العربي كان أوّل من مارس هذه القطيعة المعرفية مع الإيديولوجيات المهيمنة حينذاك دون أن ينكر إنسانية الآخرين وأهمية لاهوتهم وأفكارهم والطوباوية. وتكمن ميزة القرآن وفرادته في استرجاعه لقصص الأنبياء ولعلاقة ورثة آدم بالخلافة على الأرض، وأنه يستعصى على الاختزال إلى رأي واحد أو إلى مذهب وحيد، على عكس ما تعامل معه أصحاب الفكر السلفي من العلماء الذين لن يتوقفوا حتى يُكرهوا جميع الفرق المعارضة لهم على احترام صنمية تفسيرهم للنص القرآني وتغليبهم النقل على العقل ورمي كل التاريخ العربي إلى بحر أحمر من دماء العرب والمسلمين وغير المسلمين في عبثية وعدمية تئدُ معنى السياسة والاجتماع والدين في آن معاً كما كان العرب يئدون بناتهم خوفاً من العار والسبي.

والبحر متسع وخاوٍ لا غناء سوى الهدير/ وما يبين سوى شراع رنّحته العاصفات وما يطير

لعلّ السفر في تاريخ ما قبل الإسلام مع بورسوك يساعد على معرفة أنّ أبطال الزمن التأسيسي الأول كانوا أكثر انفتاحاً على العالم وفهماً لصعود وانحلال الحضارات وشروط بناء الدول وإحلال السلام الأهلي، دون ذلك التأزم وإنكار اختلاف الواقع الحالي عمّا سبقه من العصور الجاهلية وغير الجاهلية. لكنه أيضاً قد يزيد حدّة انفصام الشخصيات الجماعية المنقسمة على نفسها لكثرة محطاتها التاريخية المتأزمة وتعدّد أمراء المؤمنين المتضاربين.

  • 1. G.W. Bowersock, The Throne Of Adulis, Red Sea Wars On The Eve Of Islam,
    Oxford University Press, Oxford, 2013.
  • 2. ذكر المقدسي في كتابه أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم أن العربية تسمي البحرالاحمر «بحر القلزم»، بعكس اليونان الذين أطلقوا على البحر الأحمر تسمية «مار اريتريوس» ومنه اشتق اسم اريتريا التي كانت تحت حكم مملكة سبأ ثم مملكة أكسوم الحبشية المسيحية. إلا أنه يقال ان كلمة «أدام» العبرية تعني الأحمر وهو البحر الذي طرحت فيه أم موسى سلة موسى لما خافت عليه من فرعون. وقد عبر بنو إسرائيل البحر الأحمر برفقة نبي الله موسى كما ورد في القرآن:
    (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيم)
    (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا)
  • 3. Beaucamp,.Briquel-Chatonnet et C. Robin
    Le Massacre De Najran: Regards Croisés Sur Les Sources
    «مجزرة نجران : نظرات متقاطعة الى المصادر» 2010
  • 4. وقد وجدت في شعر عدي بن زيد العبادي في العصر الجاهلي ما يتعلق بما يرويه بورسوك من نسبة ذلك الحدث إلى ملك اكسوم النجاشي كاليب ( وعدي معاصر فقد عاش في القرن السادس الميلادي ) فقال يبكي صنعاء بعد غزو الحبشة ودخول مدن اليمن:
    ساقت إليها يد الأقدار جند بني الأحرار فرسانها مراكبها / يوم ينادون آل بربر وآل يكسوم لا يغلبن هاربها
  • 5. جرى بين المفسرين ومؤرخي إلاخبارنقاش مطول بخصوص الإجابة عن المعني بهذا القول وهناك روايات اشبه بتغريبة بني هلال وأحاديث الرواة بغية الوعظ وتفصيل المعارك والأسماء وانتحار الملك الحميري في البحر أو قتله في مبارزة فروسية على يد فرسان النجاشي الملك كاليب. «إذ أمر النجاشي عليهم رجلاً من الحبشه يقال له‏‏ أرياط، ومعه في جنده أبرهة الأشرم، فركب أرياط البحر حتى نزل بساحل اليمن ومعه دوس، وسار إليه ذو نواس في حمير، ومَن أطاعه من قبائل اليمن‏.‏ فلما التقوا انهزم ذو نواس وأصحابه، فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه، وجَّه فرسه في البحر، ثم ضربه فدخل فيه، فخاض به ضحضاح البحر، حتى أفضى به إلى غمرة، فأدخله فيها فكان آخر العهد به».
  • 6. ويعتبر الشاعر سويد بن عامر المصطلقي من الحنفيين ايضا لقوله:
    لا تأمنن وإن أمسيت في حرم حتى تلاقي ما يمني لك الماني / فكل ذي صاحب يوما يفارقه وكل زاد أبقيته فان
  • 7. لا يتسع المجال لأبعد مما سبق في سبر التحولات القدسية لما قبل الإسلام وما بعده ولا سيما أنه صدر حديثا كتاب عزيز العظمة يدرس ظهور إلاسلام حسب المصادر العربية
    The Emergence of Islam in Late Antiquity: Allah and His People 2014. وهو جدير بالمتابعة.
  • 8. في هذا الكتاب، يقسّم المنظّر القاعدي أبو بكر ناجي التاريخ إلى ثلاث مراحل كما يراها أهل «الدولة الإسلامية» اليوم : مرحلة شوكة النكاية والإنهاك، مرحلة إدارة التوحش حيث ستكون بدائل جاهلية جديدة ، ثم مرحلة شوكة التمكين وإقامة الدولة.
العدد ١١ - ربيع ٢٠١٥
عشية الإسلام

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.