العدد العاشر - شتاء ٢٠١٥

كوتشوك هانم ورقصة النحلة

قصيدة حب نائية

كتبتُ كثيرًا عن كوتشوك هانم(أو خانم) التي اشتهرت بـ«رقصة النحلة»، في كل مرة أفكر أن أكتب عنها قصة أو رواية، أو يمكن أن تكون بطلة لفيلم سينمائي من نوع آخر، لأنها تقترب الى أن تكون وهمًا او حكاية بوجوه كثيرة، وشكلت لغزاً محيّراً للكتّاب. لغزها هذا يستشري في الحكايات التي كثرت حولها وصارت أشبه بالتعاويذ التي تستولي على القلوب والعقول. أكثر ما يتجلى هذا اللغز في علاقتها بالكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير صاحب رواية «مدام بوفاري». لعل الشرق الذي كان فلوبير يتخيله هو الذي جعل من كوتشوك هانم هذا اللغز المخدّر. عثر عليه الكاتب الشهير مجسّداً بالراقصة نفسها التي صارت رحلة أسطورية في الخيال الأدبي لكتّاب وشعراء وفنانين كثر، بل صارت بطلة سحرية للكثير من الكتابات الغرائبية.
وكوتشوك هانم راقصة مصرية(سورية الأصل) محظية قابلها الروائي غوستاف فلوبير ذات مرة وشكل جسدها الراقص الشهواني أكثر اللحظات احتفالية في أسفار فلوبير الشرقية، المصرية واللبنانية والتركية، يصفها فلوبير كالتالي: «كانت امرأة فاحشة، عظيمة الصدر، لحيّمة، ذات منخرين أفطسين، وعينين لامتناهيتين وساقين رائعتين، عندما ترقص، تتجمع ثنيات بطنها. بدأت تعطر أيادينا بماء الورد وفاحت من صدرها رائحة تربنتين جميلة (فلوبير، الرسائل)، ويصف منزلها وشخصيتها، والساعات الحميمة التي أمضاها في ضيافتها، وبكثير من التفاصيل. وهو عرف بانغماسه في الشهوات والملذّات والتخييل، واعتاد منذ سنوات مراهقته الأولى أن يهيم بسيدات أكبر سناً منه، كما كان كثير التردّد على بيوت الدعارة وفتيات الهوى، يقول هو نفسه: «قد يكون هذا ذوقاً منحرفاً، لكنني أحبّ الدعارة ولذّاتها، يشرع قلبي في الخفقان كلما رأيت النسوة يسرنّ تحت ضوء المصابيح في المطر في ثيابهن المكشوفة، فكرة الدعارة هي موضع التقاء العديد من العناصر: الشهوة، المرارة، الغياب التام للتواصل الإنساني، يتعلّم الإنسان كثيراً في بيت الدعارة، ويشعر بذلك الحزن، ويحلم بالحب بتوحّد عظيم».

أحلام منسيّة
والنافل أن فلوبير كانت تنتابه نوبات صرع غامضة، فأرشده الطبيب إلى الأسفار الطويلة، لذلك قام برحلة إلى كورسيكا ثم إلى إيطاليا، وحين زار مصر(١٨٤٩) للقيام برحلة طويلة حول الشرق، سجل هذه الرحلة في كتابه «فلوبير في مصر»، في شكل رسائل إلى أمه وأصدقائه في فرنسا، وضمّنها صورة الشرق الذي كان يحلم به ويتخيّله، إذ يقول «تسألينني عما إذا كان الشرق يرقى إلى الصورة التي تخيّلتها له، نعم إنه كذلك، بل أكثر من ذلك، فالشرق يتجاوز بكثير الفكرة الضيقة التي حملتها عنه. غالباً ما أشعر وكأنني أعثر فجأة على أحلام منسية». حملتْ لغة فلوبير وتعابيره الكثير من أحلامه الشّرْقيّة، إذ نجده متمسكاً بحلمه الشّرْقيّ حتى في أدق التفاصيل، يقول عن مصر في لحظات لقائه الأول: «انظر وسترى مدناً من قباب ذهبية، مآذن من الخزف الصيني، قصوراً شيّدت من الحمم على قواعد أعمدة مرمرية، أحواض سباحة مؤطرة بالرخام، تأتيها السلطانات لغسل أجسادهن ساعة، يجعل القمر ظل البساتين أعمق زرقة وماء النوافير الفضي أكثر صفاء وشفافية... ثمّة أغاني حب في أكواخ القصب هذه، وفي هذه القبور القديمة يخلّد ملوك الأزمان الغابرة المتوجون الساكنون، يمكنك سماع النسر يصرخ في السحب، وفي البعيد تقرع أجراس الأديرة، ترى القوافل تشرع في رحلاتها، الأصداف طافية على النهر، الغابات تزداد مساحة والبحر اتساعاً، والأفق ينأى بعيداً لامساً السماء ممسياً واحداً وإياها».
وفي موضع آخر، يبدو أن الشرق في المتخيّل الغربيّ هو دائماً مجال متوحش مغرق في البداوة والقذارة، وهذا ما تريد صور فلوبير إثباتهُ: «أسيوط نقطة لقاء القوافل القادمة من دارفور، حيث يصل الرجال متعبين، مستنزفين من إرهاق الرحلة وعوزها، جارّين زمراً من العبيد، وعطشى من لهب الصحراء، هنا يتوقفون في الحجر الصحي، راحة إجبارية يستغلّها الجلابة (تجّار العبيد) لجذع بعض أعضاء الشباب السود ليصبحوا صالحين للخدمة في أجنحة الحريم». أما الوجه الشهواني الماجن للمجتمع المشرقي كما تصفه كتابات المستشرقين، فقد وجد في طبيعة فلوبير الفاسدة وشبقيته، وانجذاب روحه إلى أوكار الفجور ما يكفي من التوافق، ليفرد الكاتب الفرنسي مساحة واسعة من كتاباته ليحدث الناس عن كوتشوك هانم، ويستخدم في وصف أحوالها كل مهاراته اللغويّة والبلاغيّة.
ربما بدأ فلوبير يحلم بمصر حين كان لا يزال تلميذاً. على سبيل المثال، نجده يستدعي، في نصّه «مذكرات مجنون»، «الشرق ورماله الساحقة، قصوره التي تحتشد بالجِمال ذات الأجراس المدوّية». كذلك بدا مقتنعاً بأنه رأى «الأمواج الزرقاء، السماء الصافية (...) وبعض النساء ذوات البشرة السمراء والنظرات المضطرمة التي كانت تتكلّم (ربما معه) لغة الحوريات». في نص آخر له، بعنوان «تشرين الثاني/أكتوبر»، تخيّل فلوبير نفسه مُخيِّماً في الصحراء، مشعلاً النيران كي يبعد عنه بنات آوى، ساقياً النوق في الواحات، أمام «الأفق المشتعل والممتدّ».

«أبو شنب»: موفد وزارة الزراعة
جاء فلوبير إلى مصر موفداً من وزارة الزراعة والتجارة لجمع معلومات لمصلحة «الغرفة التجارية الفرنسية»، وسرعان ما حلق رأسه أسوة بالمصريين الذين أطلقوا عليه «أبو شنب» بسبب شاربه الكثيف الذي كان يغطّي ثغره، وقال فلوبير نفسه إن نساءً كثيرات ممن قابلهن في مصر طلبن منه أن يحلق شاربه ليكشف عن ثغره! وقبل أن يأتي فلوبير إلى مصر كان قد درس القانون سنوات عدّة في باريس لكنه هجر الدراسة لإصابته بنوبات صرع متتالية وجلس في منزله يكتب الرسائل والقصص القصيرة. لم يخطّط فلوبير لأن يقوم برحلته إلى بلاد النيل، بالدينامية عينها التي رحل بها إلى هناك، ذات يوم، صديقه مكسيم دو كامب، على سبيل المثال، إذ إن هذا الأخير الذي كان عضواً في «الجمعية الشّرْقيّة» زار آسيا الصغرى (تركيا) وإيطاليا وشمال أفريقيا بين عامي ١٨٤٤ و١٨٤٥ ليعود من هناك بكتاب تحت عنوان «ذكريات ومناظر من الشرق (١٨٤٨)». من هنا حلم بأن يعود إلى بلاد النيل، برفقة صديقه فلوبير، كي يزور مصر هذه، التي لم يكن قد عرفها بعد.
كان فلوبير يعمل على النسخة الأولى لرواية «التربية العاطفية» عندما التقى مكسيم دوكامب عام ١٨٤٣، وتوطدت أواصر صداقتهما خلال الرحلة الأولى التي قاما بها عام ١٨٤٤ إلى قصور اللوار وموربيهان. في صيف ١٨٤٨، يستفيد دو كامب من عدم قدرته على التنقّل، بسبب إصابته بجرح، كي يستعدّ لرحلته الثانية، بعدما حدّد المسار الذي يريد أن يتبعه. وما إن تعافى من جراحه، من أيلول/سبتمبر إلى تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه، حتّى رحل إلى شمال أفريقيا. في العام التالي، حصل على منحة من أكاديمية «الآداب الجميلة»، كما على مساعدة من وزارة التعليم، فاشترى خيماً وحبالاً وأدوات طبيّة وأدوية وأسلحة ومعدّات للتصوير، وبسبب طموحه الذي كان يتخطّى عصره في ذلك الزمن، أراد أن يعود بأدلّة وبراهين عن رحلته. مع ذلك، بقي فلوبير حتى اللحظة الأخيرة متردّداً في اللحاق بصديقه. من جهة كان ثمّة فرصة للهرب من سأم الحياة البورجوازية الفرنسية. ومن جهة أخرى كان مشغولاً بحالة والدته العقلية والروحية، إذ تأثرت كثيراً بفقدان زوجها وابنتها كارولين عام ١٨٤٦. بدورها كانت والدته مشغولة بحالته الصحية الهشّة. لكن نصائح الطبيب جعلتها توافق في النهاية. استطاع دو كامب أن يحصل لصديقه على «بعثة» من وزارة الزراعة والتجارة: كُلِّف فلوبير رسمياً بأن يقدِّم تقريراً حول نظام الجمارك ووحدات القياس المستعملة، وطرق معيشة السكان، حتى شهر أيلول عام ١٨٤٩، لذلك لم يهتم إطلاقاً بالتحضير لرحلته، حتى أنه لم يخصص وقتاً للاستعلام عن البلد الذي سيذهب إليه. ما إن أحسّ بفشل أول أبحاثه الأدبية الجدّية حتى قرّر الرحيل من دون تفكير، ليذهب إلى مارسيليا مع دو كامب.
في الرابع من تشرين الأول/أكتوبر عام ١٨٤٩ أبحر فلوبير وصديقه دو كامب من مارسيليا، على متن باخرة تدعى «النيل»، فبلغا الاسكندرية في الخامس عشر منه، وبعدما أقاما في القاهرة ستة أسابيع استأجرا زورقاً صعدا به النيل حتى الشلال الثاني. وفي الثاني والعشرين من آذار/مارس هبط الصديقان وادي حلفا شمال السودان. ينقل الكاتب اللبناني عمر فاخوري قائلاً «وهناك بين الأطلال الرائعة صرخ فلوبير بغتة، كأرخميدس في الحمام: «وجدتها، وجدتها... سأسميها أيما بوفاري»، وطفق يعيد هذا الاسم مجرباً غنّته على السمع» (فاخوري ــ مجلة «الأديب»). ويكتب جان كلود سيموان أن فلوبير لدى عودته من مصر، بعد تسعة أشهر من الغياب، قرر كتابة رواية «مدام بوفاري» التي قرّر اختيار عنوانها وهو على ضفاف النيل عندما حوّر اسم «بوفيريه»، أحد مالكي الفندق الذي سكن فيه.
خلال الرحلة إلى مصر، بينما كان فلوبير ينظر إلى الناس نظرة دقيقة، كان دو كامب يركّز بصره على الطبيعة والمعالم التاريخية كي «يستكشف الآثار القديمة ويوثّق العادات والتقاليد ويسجل الكتابات والمنحوتات ويدرس تاريخ الصروح». وكان بحوزته آخر التطورات التقنية التي حصلت بعد عشرين سنة من اختراع الفوتوغرافيا وكان يلتقط صور المعابد الفرعونية في الكرنك والأقصر وأبو سمبل التي لا يكاد يظهر فيها بشر، وإذا ظهروا يكونون مجرد «كومبارس»، كان العتاد الذي زوّد به برعاية جومار مدير المعهد العالي (الأكاديمية) والخصم السابق لشامبوليون الذي ترْقى أمجاده إلى بعثه ١٧٩٨. (سيقلب فن التصوير والمفاهيم كلها رأساً على عقب بدءا من عام ١٨٥٠).

في البدء كان الغلمان
كانت المحطّة المصرية، التي استمرّت من تشرين الأول ١٨٤٨ إلى ١٨٥٠، هي إحدى أهم المحطات في رحلة فلوبير الذي سرعان ما نسي المهمات الرسمية التي كُلِّف بها. كتب إلى صديقته لويز كوليه: «هل تتخيّلينني وأنا أستعلم في كل بلد عن المحاصيل والمنتوجات والاستهلاك المحلّي؟ ما هي كميّة الزيت المستهلكة، وما هو محصول البطاطا؟ سحقاً!» كذلك تخلّى أيضاً عن كتابة يوميات رحلته مثلما كان قد قرّر قبل انطلاقته: «بدأت في الأيام الأولى الكتابة قليلاً، لكن ولله الحمد، سرعان ما اكتشفت حماقة ذلك. الأجدر بنا أن نكون عيناً ببساطة».
فتن فلوبير بالسراب الشّرْقيّ رغم أنّه لم يعثر عليه في الواقع. وعلى الرغم من خيبته ومن ظهوره بمظهر المنفصل عن كل ما يصادفه، لم يبدُ فلوبير لامبالياً عندما كتب عن القاهرة والنيل والمصريين و«العوالم»، والرسائل التي وجّهها إلى والدته وصديقه لويس بوييه خير دليل على ذلك.ٍ لعلّ الشرق الذي كان فلوبير يتخيّله هو الذي جعل من كوتشوك هانم هذا اللغز المحيِّر، وهي من أشهر فتيات الهوى في زمنها، قيل إنها كانت عشيقة عبّاس باشا (عبّاس الأول) حاكم مصر وحفيد محمد علي باشا، وقيل إنها كانت تأخذ هدايا عباس باشا الغالية وتهديها لعشيق لها من أرباب السوابق، فقتله ونفاها إلى إسنا في صعيد مصر، هذا الحاكم الذي لم يجرؤ على قتلها من فرط حبّه لها، وإن كان قد أبعدها عنه وعن القاهرة. بعدها، افتتحت بيتاً في إسنا، كان مقصداً لمحبّي الغناء والموسيقى والمتعة، وخصوصاً الرحالة الأوروبيين، وقد التقاها فلوبير وصديقه مكسيم في إسنا، وأسِف فلوبير على رحيلها من القاهرة. هذا ما جاء في واحدة من رسائله إلى لويس بوييه، صديقه الذي اعتاد أن يراسله ليحدّثه عن رحلته إلى الشرق: «لم نرَ إلى الآن أيًا من الراقصات هنا، كلّهن منفيات في الوجه القبلي، لم يعد هناك وجود لبيوت دعارة جيّدة في القاهرة، الحفلة التي كان مقرّراً أن نقيمها في النيل أخفقت، غير أننا شاهدنا راقصين من الرجال: آه... آه... آه (...) تصوّر وغدَين في غاية البشاعة، لكنهما فاتنان في فسادهما، في نظراتهما الشذراء وحركاتهما الأنثوية، يرتديان ملابس النساء وعيونهما مكحّلة، ومن حين إلى آخر كان قائد الفرقة، أو القوّاد الذي جلبهما، يقوم بالعزف حولهما، يقبّلهما على البطن، المؤخّرة، في الظهر، ويقوم بحركات بذيئة محاولاً وضع توابل إضافية على شيء واضح في حدّ ذاته، أشك في أننا سنجد النساء بمثل جودة الرجال، سأطلب من هذا الرائع حسن البلبيسي أن يعود ثانية، سيرقص النحلة على وجه الخصوص».
لاحظ الكاتب التركي إرفن جميل وشكّ في كتابه «الاستشراق جنسياً» أن فلوبير كتب الكثير حول حفلات لهو كوتشوك هانم لكن لم يكتب سوى القليل جداً عن افتتانه بالراقص منحرف الملبس حسن البلبيسي أو إشاراته الكثيرة إلى التجربة الجنسية مع الغلمان. يقول فلوبير في إحدى رسائله: «أنه هنا، شيء مقبول تماماً أن يبوح المرء بلواطته ويتكلم عنها على المائدة في الفندق. في بعض الأحيان تنكسر قليلاً، ومن ثم يستفزك الجميع فينتهي بك المطاف إلى الاعتراف. لما كنا نسافر لأغراض تعليمية، ونشح بمهمة من الحكومة، فقد رأينا من واجبنا أن ننغمس في هذا النوع من القذف. حتى الآن لم تتقدم الفرصة نفسها. إننا مستمرون في البحث عنها، مع ذلك». وحين كتب المستشرق والرحالة البريطاني إدوارد لاين عن «أخلاق وعادات المصريين المحدثين»، قال لاين: «إن ممارسة الرجال للرقص الشّرْقيّ كانت سائدة، وذلك لتسامح المجتمع مع رقص الرجال، ورفضه أن ترقص النساء أمام الرجال، ولهذا منعت الراقصات من الرقص في القاهرة». وعندما انتشرت العوالم والغوازي كانت هناك حركات رافضة لرقصهن لدرجة أن الوالي محمد علي باشا أمر بمنع «رقصة النحلة» في مقاهي القاهرة، وكان هذا أول قرار يصدر في موضوع الرقابة على الفنون في العصر الحديث.

رقصة النحلة فوق الوصف
«رقصة النحلة»، كان لها «مذاقٌ» مختلف حين أدّتها كوتشوك أمام فلوبير، أو هكذا توحي كتاباته عنها، وقد تخفّفت تقريباً من ملابسها كلّها. كما يصف رقصة أخرى أدّتها كوتشوك بأنها قاسية، إذ تعتصر بسترتها نهدَيها العاريَين، وتنهض على قدم واحدة وقد أطلقت الثانية في الهواء لتتحرّك في جميع الاتجاهات. ويصف فلوبير كوتشوك هانم في موضع آخر: «طويلة، مخلوقة رائعة، لون بشرتها أكثر بياضاً من أي عربية، بشرتها، خاصة جسمها، بلون القهوة قليلاً، حين تنحني يتموّج لحمها في سلسلة برونزية، عيناها سوداوان واسعتان، جبينها أسود، فتحتا أنفها مفتوحتان واسعتان، كتفان ثقيلتان مليئتان، ولها نهدان مثل التفّاح، كانت تعتمر طربوشاً كبيراً، مزيَّناً من أعلاه بقرص ذهبي محدب، في وسطه حجر أخضر صغير. سألتنا إن كنا نريد بعض الترفيه، ماكسي (مكسيم رفيقه) قال إنه يريد أن يسلّي نفسه معها أولاً وحده، هبطا إلى الطابق الأرضي. بعد أن ينتهي سأذهب وأقلّده». ووصف المستشرق الفرنسي بريس دافين في القرن التاسع عشر هذه الرقصة كما يلي: «تتقدّم أجمل الراقصات إلى الأمام، وترتعش كما لو أن نحلة قد عقصتها. فترقص رفيقاتها حواليها ويرحن يفتشن عن النحلة. ويشرعنّ بنزع ملابسها عن جسمها، قطعة قطعة، بينما تتّخذ هي أوضاعاً مثيرة. لكن التفتيش يضيع سدى، بالطبع، وتقف الراقصة عارية، وتروح في دورانات لا عدّ لها وهي تقاسي الألم الذي ابتلتها به النحلة المراوغة».
وعندما غزا نابليون بونابرت مصر كان من بين مرافقيه رحّالة فرنسي أعجب برقصة النحلة إعجاباً بالغاً، فكتب في الدراسة التي نشرها هو ورفاقه عن مصر: «إنه من المستحيل وصف هذا الضرب من الرقص بضبط ودقة في لغتنا»(...). وبعد ذلك بخمسين سنة، نسب فلوبير، الذي تركت علاقته مع كوتشوك هانم أثراً دائماً على روحه (وربما جسده)، هذا العجز إلى نفسه لا إلى اللغة الفرنسية. فكتب إلى صديق له بعد حفلة ليلية خاصة: «سأوفّر عليك مشقة قراءة وصف للرقصة - فلن أنجح في وصفها». لكن سواه من الرحّالة كانوا أقل إحجاماً عن الوصف، ومن بين هؤلاء رجل أميركي عاصرَ فلوبير، اسمه جورج وليم كيرتس. وقد كان هو وفلوبير، على بعد أسابيع واحدهما من الآخر، فقد زارا الراقصة ذاتها في صعيد مصر، بعيداً عن القاهرة، في شتاء ١٨٥٠. كان كيرتس ما يزال في العشرينيات من عمره، وكتب وصفاً لهزّ البطن في صحيفة «نيويورك تربيون» استثار كثيراً من قرائها. قال: «وقفت كوتشوك بلا حراك. واصطخبت أمواج الصوت الحادّة في أرجاء الغرفة، مندفعة في إيقاعات منتظمة وهي واقفة بلا حراك، إلى أن راح جسمها كلّه يختلج على حين غرّة متمّشياً مع الموسيقى. ورفعت يدَيها، تقعقع الساجات، ودارت ببطء حول ذاتها، جاعلة ساقها اليمنى القطب، وهي ترجرج جميع عضلات جسمها بشكل رائع عجيب. وعندما انتهت من الدوران في البقعة التي كانت واقفة فيها، تقدّمت إلى الأمام ببطء، وجميع عضلاتها تنتفض بحسب إيقاع الموسيقى وفي تشنّجات قوية هائلة... لقد كانت رياضة غريبة بديعة. لم يكن فيها رقص رشيق، مرّة واحدة فقط كانت فيها حركة رقص، عندما تقدّمت إلى الأمام، قاذفةً إحدى ساقَيها أمام رفيقتها، كما ترقص الغجريات. لكن في ما عدا ذلك كان كل شيء حركة شبقة. وظلّت الموسيقى تصدح، ضارية شرسة. وفجأة وقفت كوتشوك، وعضلاتها ما تزال تتحرّك، وسقطت على ركبتَيها، وأخذت تلوي جسدها وذراعَيها ورأسها على الأرض، كل هذا بموجب إيقاع الموسيقى، كل هذا وهي تقعقع الساجات، نهضت بالصورة ذاتها. لقد كان مشهداً دراماتياً حقاً. لقد كان قصيدة حب نائية، لا تستطيع الألفاظ أن تعبّر عنها. وظلّت تتراجع. وبعدما دارت حول ذاتها كما فعلت قبلاً، جاست على الأرض، وبعد هذا المجهود المرهق العنيف المسرف، أضحت باردة كالرخام».

الغيرة في باريس
لأمر ما يقول مؤرخو سيرة فلوبير «لا مندوحة لنا، إذا ما تكلفنا على حياة هذا الكاتب العاطفية، من أن نخص كوتشوك هانم بالذكر»، هذه المرأة اقترن اسمها باسم الروائي الفرنسي، وباتت عنواناً للغيرة في حياته، إلى حد أن صديقته المتشاعرة لويز كوليه غارت منها غيرةً شديدةً، حتى اضطر فلوبير إلى مخادعتها تنصّلاً وتبرئة لنفسه. صرّح فلوبير في رسالته إلى لويز كوليه في ٢٧ آذار/مارس ١٨٥٣ مستدركاً ومدافعاً عن نفسه: «أما عن كوتشوك هانم فليهدأ بالكِ ولتصوّبي آراءك عن الشرق. فإني واثق من أن العاطفة لم تجد سبيلها إلى قلبها، بل إني أشك في أنها كانت صادقة الحسّ بالمتعة الجنسية، (...) المرأة الشّرْقيّة خالية القلب لا فرق عندها بين رجل وآخر، ولا همّ لها إلا نارجيلة تدخّنها وحمّام تختلف إليه وكحل تكحّل به عينَيها وقهوة تحتسيها، أما عن إحساسها بالمتعة الجسدية فهذا أمر تافه بالنسبة إليها، وأكاد أعزو هذا إلى ختانها في سن مبكرة». وهو تبرير وقائع لقائه بكوتشوك هانم في منزلها في إسنا في مصر في ١٦ آذار/مارس ١٨٥٠، وما تخلّل اللقاء من أفعال ماجنة، بدءاً بقيام رفيقه مكسيم دوكان بمضاجعة كوتشوك في الطبقة السفلى من منزلها، وصعودها إلى الطبقة الأولى لتؤدي «رقصة النحلة» الخلاعية والتي أعقبتها مضاجعاته المتتابعة لها على سرير من القصب في مخدعها «طوال الليل»، على حد وصفه.
سعى فلوبير في رسالته إلى لويز كوليه أن يزيل من نفسها ما أثارته فيها من غيرة ونقمة عليه قصيدةٌ قرأتها للشاعر لوي بوييه وصف فيها كوتشوك هانم وصفاً مثيراً للغرام والحنين. وهي القصيدة التي استوحاها بوييه من رسالة كتبها فلوبير في ١٣ آذار /مارس ١٨٥٠ ووجهها إلى صديقه لوي بوييه روى فيها تفاصيل ما حدث مع كوتشوك، واصفاً رقصة التعري التي أدّتها. ولما رحلت لويز كوليه بدورها إلى الشرق، بعد ردح من الزمن الطويل، لم تتمالك من أن تقصد قرية إسنا، على شاطئ النيل، لعلها تعرف شيئاً عن أمر تلك الفتاة وسرّ فتنتها العجيبة، كان من المتوقع أن تتابع تلك المرأة، بعدما عادت إلى وطنها، استقصاءاتها عن تلك المرأة التي فشلت في العثور عليها في الشرق، على ما هي عليه من مكابرة في الرأي، وعنفوان في النفس، وجموح في المشاعر إلى حد التهوّر. حتى إنها لم تتردّد ذات يوم في الانقضاض بسكين على الكاتب ألفونس كار وغرزتها بين كتفيه، لمجرد أنه تجرأ على انتقاد نتاجها الشعري والطعن بشرعية منحها أربع جوائز على شعرها. وهي ظلّت، رغم تقدّمها في السن، في حنين إلى ذلك الزمان الذي كان فيه جسدها رحباً يحتضن عشق ذوي الكفاءات الجسدية، المغمورين والمشعورين، أمثال فيكتور هوغو وألفرد دو موسيه، وفلوبير الذي استمرت علاقتها الحميمة به ثماني سنوات رغم أنها كانت تكبره بأحد عشر عاماً.

سارتر يكتشف كوتشوك
شكّلت كوتشوك هانم قناعاً من أقنعة الشرق الجنسيّ المستهام، وكما لاحظ إدوارد سعيد في تعليقه حول علاقة فلوبير بكوتشوك، يوحي الشرق «بحرية الجنس الشبق» وبـ«تجربة جنسية لا يمكن الفوز بها في أوروبا». ولا يستثني سعيد، مبرراً، أي كاتب أو مرتحل غربي (رجلاً كان أو امرأة) من هذا الميل إلى «الجنسية الشّرْقيّة» التي صارت «بضاعة… فائدتها أن القرّاء والكتاب يمكنهم اقتناؤها دون الحاجة إلى الذهاب إلى الشرق بالضرورة». ولا يقلّ عن هذا الأمر أهمية، بل وأكثر منه بلورة للدلالات الاستعمارية لهذه المسألة، هو ذلك الربط الذي اعتبره الكاتب الأميركي إرك ميَر، بين رغبة نابليون بـ«امتلاك إمبراطورية في الشرق» وبين «حاجته إلى فرض الهيمنة على إناث المستعمرات»، ومع إشارة خاصّة إلى الشاعر اللورد بايرون في قصيدتيه «غيور» و«دون جوان». يقول مير: «لقد بطنت هذه النصوص ببنيّة قصصيّة تكون فيها محاولات الفاعل الذكر» لتحرير «المفعول به المؤنث من طغيان الحريم قد أعيقت أو أوقفت من قبل طاغية أبويّ نمطيّ يسدّ أو يلجم اندفاع القصة نحو امتلاك المرأة». فنابليون تمكن من أن يجعل في شخصية «فاطمة» الحقيقية محظيّته أثناء حملته على مصر، تعويضاً عن حبيبته جوزفين الكائنة بعيداً في باريس. لكن حتى فاطمة المسكينة قد ذبحها والدها حال مغادرة الفرنسيين مصر، وهو ما يعدّونه نموذجاً «للسلوك» الشّرْقيّ الذي يريد المستشرقون المبالغة في تشويهه. من هنا تظهر المرأة الشّرْقيّة في لوحات المستشرقين وهي حبيسة عالمها المظلم، محاطة بالوصيفات والخادمات (...).
والفانتازمات كانت حاضرة بقوة في سيرة كوتشوك هانم، فقد اجتهد الكاتب اللبناني الراحل فاروق سعد في تقديم شهادة «قانونية»، تحاول دحض وجود كوتشوك واعتبارها مبالغة استشراقية. وبصرف النظر عما تمثّله كوتشوك بالذات وما ترمز إليه من الناحية الأدبيّة والجماليّة عند عمر فاخوري، وما حلّله من الناحية الفلسفية عامة، والنفسية خصوصاً، الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، وعالجه من الناحية الأخلاقيّة والاجتماعيّة المفكر إدوارد سعيد، وعالجه الكاتب المصري ثروت عكاشة من الناحية التاريخية، وبحثته من الناحية الأدبية والسياسية ناقدة الاستشراق رنا قبّاني، فإن هؤلاء الخمسة يسلّمون من دون تحفّظ، بالوجود التاريخي لهذه المرأة، على قول فاروق سعد، فقد نبّهوا بشكل غير مباشر، إلى المدى البعيد الذي وصل إليه الوهم بغوستاف فلوبير، خصوصاً في وصفه كوتشوك هانم ورقصها، والليلة التي أمضاها في مخدعها، وصفاً مثيراً حوّلها ضباباً أسطورياً كثيفاً حجب الواقع عن البصر.
عندما عالج سارتر السيرة النفسيّة لفلوبير في كتابه «أبله (أو أحمق) العائلة»، توقّف عند كوتشوك هانم بعدما ألفى فلوبير مغرماً بالمرأة التي تنمّي إحساسه بوهم الواقع. ومن هنا كان تفضيله المومسات لطاعتهن وانقيادهن على مثيلات مغنّيات وممثّلات طالما أغوينّه كلما غشاهنّ الخيال، وإذ وصل سارتر إلى كوتشوك، قال: «والحال أنه، في سنة ١٨٥٠، بالطّريقة نفسها تماماً، سوف تُثير كوتشوك هانم رغبته، وهي، كما يفيدنا، مومس مشهورة جداً، تعتمر طربوشاً يصفه طويلاً، والذي ينمّي الانطباع باللاواقعية أخيراً أنها ترقص رافعةً نفسها تارة على رجل وطوراً على الرجل الأخرى، شيء مدهش، رأيت هذه الرقصة على أوانٍ إغريقية قديمة». ويصف فلوبير المرأة الشّرْقيّة، ممثَّلةً في كوتشوك هانم، بأوصاف من طبيعة مشينة، فالمرأة الشّرْقيّة عبارة عن «آلة، لا أقلّ ولا أكثر»، فهي «لا تفرّق بين رجل وآخر»، وأهم ما يميّزها جهلها الغريب وقدرتها الهائلة على توليد الأفكار: «إن المرأة الشّرْقيّة بالنسبة إلى فلوبير، موضوع وفرصة لاقتناص أحلام اليقظة، فهو منبهر بالطّريقة التي تتّخذها للاكتفاء بذاتها، وبعدم اهتمامها بالمشاكل العاطفية، وزيادة على ذلك، ما تولّد له من أفكار حينما تقاسمه الفراش».

ذكورية غرب على نساء شرق
إن ما كان يوجه أديباً بأهمية فلوبير في رحلاته الشّرْقيّة هو ذلك التصور النمطيّ عن شرق أنثويّ خاضع، اختزل إلى مجرد موضوع لاكتشاف وسيطرة الغرب كذات ذكوريّة مهيمنة ومتسيّدة. بهذه العقلية خاض فلوبير تجاربه الجنسيّة مع نساء «الشرق»، وإذا كان «الشرق» الواقعي يختلف كثيراً عن «الشرق» الذي ابتدعه الخيال الاستشراقي الأدبيّ، فإن فلوبير وجد ضالته أخيراً في عالم المواخير والمباغي، حيث عثر على نموذجه المبتغى عن المرأة الشّرْقيّة في شخصية كوتشوك هانم التي تحوّلت إلى النموذج الأوليّ الذي بنيت عليه كل الشخصيات الروائية النسائية التي حفلت بها أعمال فلوبير الأدبية ذات «الروح الشّرْقيّة»، فتلك المرأة بجنسانيتها المنطلقة، وخضوعها المطلق، ولامبالاتها تجاه الرجال الذين يتوجب عليها أن تتقبل سيطرتهم على جسدها، مثلت في مخيلة فلوبير المرأة والشرق كما يجب أن يكونا.
وفي رأي إدوارد سعيد، فإن علاقة فلوبير بكوتشوك هانم تعدّ نموذجاً للعلاقة بين الشرق والغرب، والتي هي بحسب صاحب «الاستشراق» علاقة القوي المسيطّر بالضعيف المغلوب على أمره وفقاً للمفهوم السائد بين الأوروبيين في القرن التاسع عشر، فقد أشاع فلوبير في أوروبا بعد لقائه بالغانية المصرية نموذجاً صارخاً لامرأة شرقية لم يُتح لها التعبير عن مشاعرها والإفصاح عن شخصيتها أو التحدّث عن ماضيها وحاضرها، بل إن فلوبير هو الذي تحدّث عنها من موقع السيطرة والهيمنة بوصفه رجلاً أوروبياً ميسور الحال، ولم يكن مركز القوّة الذي تمتّع به فلوبير إزاء كوتشوك هانم مجرّد لحظات عابرة، بل كان تعبيراً عن المفهوم الشائع في علاقة القوة النسبية بين الغرب والشرق، وعن الأسلوب الذي يتناول به كلّ غربي كلَّ ما هو شرقي. ويعتبر سعيد أن كتابات فلوبير عن الشرق، محاولات لتشكيل عالم خيالي بديل من عالم الواقع الغربي: «أما أكثر اللحظات احتفالية في أسفار فلوبير فترتبط بكوتشوك هانم، التي كانت النموذج البدئي لعدد من شخصيات رواياته النسائية، بشهوانيتها المتفقّهة، ولطافتها (وتبعاً لفلوبير) خشونتها اللامبالية. وقد أحب فلوبير بشكل خاص أنها بدت كأنها لا تطلب منه شيئاً أبداً، بينما امتزجت «رائحة البق المثيرة للغثيان في سريرها مع عطر جلدها، الذي تقطر منه رائحة خشب الصندل»».

العدد العاشر - شتاء ٢٠١٥
قصيدة حب نائية

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.