العدد العاشر - شتاء ٢٠١٥

فكّ الارتباط مقابل التوسّع الرأسمالي

النسخة الورقية

سمير أمين، الاقتصادي المصري الذي يعيش حالياً في السنغال، هو من أهم الباحثين الرواد في تحليل النظام العالمي وفي نظرية التبعية، التي ترى إلى اقتصاد العالم كنظام واحد متكامل لا يمكن التمييز فيه بين استغلال العمل وأنظمة الدول. بمعنى آخر، لا يمكن الفصل بين الدول الغنية والفقيرة على مستوى التحليل الاقتصادي بحيث لا يمكننا بكل أن نضع الأولى كنقيض للثانية. هذا يصحّ في المرحلة المعاصرة كما يصح في المراحل التاريخية. بالتالي ليس التخلف نقصاً في التنمية أو في التقدم بالنسبة إليه، بل التخلّف هو الوجه الآخر لنمو البلدان الغنية التي تعتمد على الاستغلال المكثّف للبلدان الأخرى، ما يجعل تلك البلدان «متخلفة» بهذا المعنى.

العولمة توسّع للإمبريالية الرأسمالية
إنّ النموذج العالمي احتكاري، يضمن للدول الأساسية احتكار التكنولوجيا، والسيطرة على التدفقات المالية، والقوة العسكرية، والإنتاج الإيديولوجي والإعلامي، كما الحصول على الموارد الطبيعية. في هذا النموذج يصبح التبادل غير المتكافئ الوسيلة الرئيسية التي تتيح للرأسمالية إنتاج عدم المساواة، حيث تخلق الدولُ الغنية تقسيماً دولياً للعمل تخضع له العديد من البلدان الأخرى (في الأصل، فعلت هذه الدول ذلك بطريقة مباشرة، عبر الاستعمار الكولونيالي). وتؤدّي الأنظمة الاحتكارية هذه إلى أرباح طائلة تفوق تلك التي يمكن تحصيلها في الأسواق التنافسية. يعني ذلك أنّه لا يمكن لأحد أن يخوض في الأسواق العالمية مع المستفيدين من هذه الإمبريالية فينافسهم في الربحية. هكذا لا يتغير الترتيب العالمي، بالرغم من عمليات «السوق الحرة».
تبدو التنمية في البلاد الفقيرة في هذه الحالة كـ«تنمية لامتكافئة»، حيث تخضع هذه البلاد لنمو اقتصادي يحول دون قيام تنمية مستدامة، فتستحوذ البلدان الغنية على الفائض التي تنتجه، بدلاً من أن تستعمله محلياً. من الوسائل الأساسية لاستخراج الفائض اليوم عمليات التكيّف الهيكلي وجدولة الديون.
بناءً على نظرية سمير أمين، ينقسم العالم بين دول المركز الغنية ودول الأطراف الفقيرة. دول المركز هي أقل تبعية هيكلياً، وتميل إلى إنتاج السلع الرأسمالية والاستهلاكية بشكل رئيسي. يزداد التراكم في دول المركز تدريجياً في حين أن التراكم في دول الأطراف راكد لا يتزايد. وهذا بسبب الاختلاف في آليات الأسعار بين أسعار المواد الخام وأسعار السلع المنتجة، حيث يميل سعر السلع إلى الازدياد مع الوقت بينما تبقى أسعار المواد الخام مستقرة نسبياً.
يعمل النظام العالمي من خلال تقسيم العمل بين الدول. حيث يكون دور دول الأطراف الفقيرة توفير المُدخَلات المنخفضة القيمة في المسارات العالمية، بأسعار أقل من قيمتها الفعلية، فيصبح الطرف متخصصاً في إنتاج السلع الأوليّة - مثل المحاصيل الزراعية والخامات الأولية - التي تصدّر بطريقة أساسية إلى المركز. خلافاً للمركز، تعتمد الأطراف في المقام الأول على الخارج.
خلال تطور الدول الغنية وظهورها عبر الرأسمالية، انبثقت سلسلة من التشوهات الاقتصادية تضمّنت ـ في ما تضمنت - الإسراف في الإنفاق البيروقراطي، التحضّر (ازدياد نسبة المقيمين في المدن) السريع والمفرط، الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد، الاعتماد على تدفقات المساعدات الخارجية، وإعادة توزيع الدخل المحلي لصالح الطبقة الكومبرادورية.
أما الرأسمالية في دول الأطراف، فقد اختلفت عن الرأسمالية المركزية بطرق متعددة. ترتبط الرأسمالية في دول الأطراف مثلاً، بشكل غير واضح، بالثقافة. وعندما تصبح الرأسمالية مهيمنة، تظهر بشكل أنماط اقتصادية تسبق الرأسمالية المركزية. يرى أمين أنّ الدول الجنوبية خاضعة جزئياً لنمط الإنتاج الخراجي الذي يحمل سمات ما قبل الرأسمالية.
إلى هذا، تموّل البلدان الفقيرة استغلالها بنفسها. على سبيل المثال، تموّل أرباحُ نفط الخليج، إذ تستثمر في المصارف الأميركية، الدينَ الحكومي الأميركي، أو إذ تستخرج تغذّي أرباح شركات النفط الأجنبية، وتموّل إعادة استعمار الخليج من قبل القوات الأميركية. وهكذا تعمل السيطرة على الموارد الطبيعية (في هذه الحالة، النفط) لصالح إنتاج القوة الاحتكارية العالمية. حقيقة الأمر أنّ العلاقة بين البلدان الغنية والفقيرة في فكر أمين تشبه إلى حد بعيد العلاقة بين أرباب العمل والعمال في الماركسية.
وقد أثّرت هذه الأحداث الاقتصادية على باقي الحياة الاجتماعية. في السياسة، فصلت النيوليبرالية المسار المعتاد للصراع الطبقي (العالمي الآن) عن المستوى الذي يبدأ منه الصراع والاحتجاج السياسي. أضحت السياسة في كل أنحاء العالم فارغة، تشغلها مواضيع إلهاء مثل الشعبوية والمحافظة الاجتماعية. يشير أمين في هذا السياق إلى«الديمقراطية المنخفضة الحدّة»، لأن الأنظمة المنتخبة لديها سلطة محدودة بالنسبة إلى قوى رأس المال العالمي، وبالتالي إلى ظروف الحياة. يعتقد أمين أننا في مرحلة «ارتدادية» أو «جوفاء»، حيث التسويات متوقّعة وشروط التفكك والانفصال غائبة حتى الآن. إلا أنه لا يزال يصرّ على ضرورة السباحة ضد التيار ورفض الاستسلام لشروط التنافس الدولي.

إفقار لا مجرّد فقر
يشبه أمين في أعماله النقدية بعض النواحي نظرية في ما بعد الاستعمار. في كتابه «المركزية الأوروبية»، يرى أنه من الخطأ النظر إلى أوروبا على أنها المركز التاريخي للعالم. هيمنت أوروبا على العالم خلال الفترة الرأسمالية فقط. أما في المراحل التاريخية السابقة التي اعتبرت «أوروبية» فهي ارتكزت في الواقع أكثر على منطقة البحر الأبيض المتوسط، نواة اقتصاد العالم القديمة. ليست المركزية الأوروبية بالنسبة إليه مجرّد رؤية لمشروع عالم يطرح الطريقة الأوروبية كنموذج وحيد بحجة «اللحاق بالركب». في الواقع، لا تهيمن الرأسمالية على العالم بل تقسمه إلى أقطاب. بالتالي تبدو المركزية الأوروبية كمثال أكثر منها كإمكانية حقيقية. كما أنها تخلق مشاكل عبر تعزيز العنصرية والإمبريالية. فتبقى الفاشية خطراً مستمراً داخلها، لأن العنصرية ليست سوى نسخة متطرفة من المركزية الأوروبية.
حلّلت أعمال أمين الأخيرة المرحلة النيوليبرالية الحالية للاقتصاد العالمي و«الحرب على الإرهاب». في كتابه «الفيروس الليبرالي» The Liberal Virus، إذ رأى أن المجتمع الشبكي هو مجرد فورة للإيديولوجيا، في حين أن الواقع هو تمييز عنصري فاقع على الصعيد العالمي. كما يحاجج أيضاً في أن مفهوم «الفقر» يطرح إشكالية في تأكيده على واقع خام. وفقاً لأمين، الفقراء ليسوا مجرد معوزين، لكنهم يخضعون لعمليات إفقار يُعاد إنتاجها باستمرار، وتزداد سوءاً. بالتالي، فإنه لا يشير إلى الفقر بذاته بل إلى عملية الإفقار. ويرى أنّ الطبقات الشعبية العالمية تخضع باستمرار إلى عمليات إفقار من خلال الاستيلاء على الموارد واستخراج الفائض.
في تحليله لـ«الحرب على الإرهاب»، يشير أمين إلى أن هذه الحرب هي نتيجة ظرف تاريخي خاص. إنّ النسخة الأميركية الفجّة للرأسمالية، التي تفتقر إلى المعاني الدقيقة ووجهات النظر المستدامة، تسعى إلى عولمة نفسها من خلال الاستيلاء على الموارد. هذا جزئياً للتعويض عن عدم تنافسيتها على خلاف الرأسماليات المركزية الأخرى. ويشير أيضاً إلى أن أميركا «لديها إيديولوجية متطرفة حيث إن وجود الآخرين مشروط بعدم عرقلة سعي العرق الأبيض الأميركي لأخذ كل ما يحتاج إليه». ويقول أيضاً إن هناك شرخاً برز بين اقتصاد أساسي متكامل ونظام سياسي تهيمن عليه دولة واحدة، فاتخذت أميركا دور الشرطي الحامي للاقتصاد العالمي من خلال قمع تمّرد دول الأطراف.

القومية والإسلامية
ينتقد أمين القومية باعتبارها إيديولوجية البرجوازية، التي يتم من خلالها دمج البروليتاريا في الوطن القومي. لكن القومية لم تسبق وجود الدولة الوطنية، بل هي نتاج للرأسمالية، أنشئت من خلال عنف الدولة ومن قبل الأسواق الرأسمالية. إنّ الدولة الوطنية غير مكتملة، تسقط على الوطن فيما انتمت سابقاً إلى الأرستقراطية، مما يؤدي إلى العنصرية والشوفينية. وقد تم تصدير القومية بشكل مصطنع إلى أوروبا الشرقية وإلى جزء كبير من الجنوب: فهي لا تنتشر في كل مكان نتيجة لانتشار الرأسمالية. الدولة هي التي تنتج أو تعيد إنتاج القومية، وأحياناً تفشل في ذلك. لا يعتقد أمين أن حركات التحرر في الجنوب هي حركات قومية. ومع ذلك، يرى احتمالاتٍ لانبثاق تيارات قومية شعبوية يمكن استخدامها في حركات «فك ارتباط».
يرفض أمين «الأصوليات» والقومية العرقية ويعتبرها رجعية سياسياً وغير منطقية. يستعملها الناس لملء الفراغ الناتج من عدم وجود سياسة طبقية سياسية.
على سبيل المثال، يحلل أمين الإسلام السياسي في المقام الأول كشكل من أشكال الانتماء الثقافي يفرض ممارسة طقوس معيّنة للتأكيد على انتماء الفرد للمجموعة. وهذا يحجب الانقسامات الفعلية للطبقات. في حين أنّ الإسلاميين السياسيين يقدّمون بعض الخدمات الفعالة، لكنها تبقى في النهاية مجرد صدقات لأنها لا توفر أي وسيلة لتغيير الظروف التي تخلق البؤس. وعلاوة على ذلك، يميل الإسلاميون السياسيون إلى الاصطفاف مع الرأسمالية ومصالح النخبة في دولهم في آخر المطاف. فهو ينفي أنّ لديهم نظرية خاصة بهم للاقتصاد السياسي، بل يرى أنهم يساهمون في انتشار ملامح نمط الإنتاج الخراجي.
في أعمال سابقة، رأى أمين في أوروبا الشرقية و«الاشتراكية» الصينية مرحلةَ انفصال عن الاقتصاد العالمي لتحقيق تنمية معتمدة على الذات. حققت بلدان أوروبا الشرقية اقتصاديات مناطقية مختلفة عن الرأسمالية، مع أنّ أمين يؤكد أنّ نظام أوروبا الشرقية الاقتصادي أكثر منه اشتراكياً. وقد أثبت عدم صوابية رأي أمين القائل بأنّ إعادة إدماج أوروبا الشرقية في الرأسمالية العالمية غير محتملة.

إعادة الكومبرادورية إلى الأطراف
يقسم أمين نظرياً الحقبات التاريخية المماثلة من تطور الرأسمالية إلى مراحل، عملاً بنظرية الموجات الاقتصادية للاقتصادي السوفياتي كوندراتييف، يرى أنّ التشكيل الحالي للنظام العالمي قد نشأ بعد الحرب العالمية الثانية بزعامة أميركا. امتدّت هذه المرحلة من العام ١٩٤٥ إلى العام ١٩٥٥ من خلال الحركات الاستقلالية للدول الفقيرة. خلال «حقبة باندونغ» (١٩٥٥-١٩٧٥) حاولت الدول الفقيرة اللحاق بالبلدان الغنية من خلال التصنيع ولكن في ظروف غير متكافئة. شهدت المرحلة الثالثة (١٩٧٦- ١٩٩١) على أزمة في الركائز الثلاث لهذا النظام العالمي ـ الفوردية بما هي نمط من التنظيم الرأسمالي الداخلي، النمو الاقتصادي من النمط السوفياتي ومشروع باندونغ التنموي. استجابت الرأسمالية لهذه الأزمة في المرحلة الحالية بواسطة النيوليبرالية - عبر الهجوم على الأجور وتقليص الخدمات الرعائية والحد من نمو الاقتصاد الذي استولت عليه النخب في الأطراف. وقد اثبت رأس المال أنه يفضّل احتلال المركز الثاني في السوق العالمية على أن يكون له المركز الأول في اقتصاد مستقل.
يطلق سمير أمين على واحد من آثار النيوليبرالية اسم «عملية إعادة الكومبرادورية» - استعادة طبيعة النخب الكومبرادورية المحلية في دول الاطراف من خلال تدمير استقلالها. ووفقا لأمين، أضحت دول الاطراف الآن صناعية، ولكن لا تزال تخضع لاحتكارات المركز. ويصرّ أمين على أهمية النضال أكثر من العديد من محللي أنظمة العالم. ينتقد المحللين الآخرين لفهمهم للرأسمالية على أنها أكثر عناداً وتكاملاً مما هي حقاً عليه في الواقع. ويرى أن التاريخ يصنع عبر سلسلة من الاشتباكات بين المنطق الرأسمالي وقوى اجتماعية «مناهضة للنظام». هذه الأخيرة تصنع التاريخ قدر ما تصنعه الرأسمالية. بالفعل، تتشكل الحركات التغييرية في معظمها من الخارج إلى الداخل، بدءاً من المقاومة في الأطراف.

فك الارتباط
ينشأ البديل للرأسمالية العالمية بالنسبة لأمين حول مفهوم «فك الارتباط». يدعو كل بلد إلى فصل نفسه عن الاقتصاد العالمي وإلى أن تخضع العلاقات العالمية إلى أولويات التنمية المحلية لخلق «تنمية معتمدة على الذات». هذا لا يعني بالضرورة رفض الاتصال الخارجي، ولكنه يشير الى السياسات المحلية العازلة لتأثيرات القوة الاقتصادية الخارجية (والتي تتطلب بالضرورة الاكتفاء الذاتي). ويهتم هذا البديل بإدراج «قانون للقيمة» وطني يكون «عقلانياً» وذا «قيمة شعبية» في الوقت ذاته، الذي يعرّف دون الرجوع إلى «قانون القيمة» العالمي للنظام الرأسمالي. بمعنى آخر، ينطوي هذا البديل على خلق اقتصاد وطني ذي قواعد مختلفة عن قواعد الاقتصاد العالمي. في هذه الحالة، يجب تحديد الأولويات الاقتصادية المحلية دون الرجوع إلى المطالب الرأسمالية العالمية.
إن الحجة الداعية إلى فك الارتباط مرتبطة بتحوّل الاستعمار الكلاسيكي إلى استعمار جديد. هناك دول مستقلة في الجنوب العالمي لديها حكم ذاتي منفصل نسبياً عن النظام العالمي. لكن نمط «التنمية» القديم المسبّب لـ«التخلف» قد استمر. إنّ مفهوم فك الارتباط يستعمل الحكم الذاتي الذي فازت به دول الأطراف كرافعة ضد سلطة النظام العالمي. ويرى أمين أن مبدأ فك الارتباط يمكن أن يدمّر النظام العالمي من الخارج، وهو السبيل الوحيد الممكن لنظام عالمي مختلف يخلف الرأسمالية العالمية. وهكذا تتمحور إمكانية التغيير العالمي ليس في قلب الرأسمالية، كما اعتقد ماركس، بل في دول الأطراف الهامشية. ويرى أمين أن الحاجة إلى وضع الرأسمالية موضع تساؤل موجودة في الاطراف أكثر منها في المركز. ذلك أن الانقسام المركزي - الطرفي هو التناقض الأول والأكثر انفجاراً في عالمنا الحالي.
كذلك يهدف مبدأ فك الارتباط إلى توسيع استقلالية الدول والشعوب والطبقات المستغَلة. وفقاً لأمين، إنّ تعفّن النظام العالمي القائم ضروري لخلق نظام عالمي جديد. فمن الوهم أن نسعى إلى إعادة بناء دون فك الارتباط، ما يشمل إلغاء الأشكال السائدة للملكية الخاصة، واعتبار الزراعة محورية في الاقتصاد، ورفض الاستيلاء على الأراضي من أجل التصنيع.
بدلاً من تحديد القيمة حسب الأسعار السائدة في العالم - والمبنيّة على شروط الإنتاجية في البلدان الغنية - يقترح أمين أن تعيّن القيمة في كل بلد بحيث يتم الدفع للعمال الزراعيين والصناعيين من خلال مساهمتهم في الناتج الصافي لمجتمعهم. النتيجة الأساسية لذلك ستكون رفع الأجور في الزراعة. يرى أمين أن دور الدول الوطنية هو العمل لإعادة توزيع الموارد بين القطاعات وتركيز الفائض والتحكّم بتوزيعه. يجب ضمان العمالة الكاملة وعدم التشجيع على الهجرة من المناطق الريفية إلى المدن.
هكذا يتقلّص مجال اللعب على «القيمة التفاضلية»، القوة الدافعة لاقتصاد العالم. بدلاً من ذلك، سوف تبذل محاولات لتجنب العجز في السلع الأساسية. على سبيل المثال، إن البلاد في أعقاب هذه الاستراتيجية هنا تعتمد عادة على استيراد المواد الغذائية. على عكس ما نرى في الواقع، وبسبب غياب البدائل، فقد فقدت العديد من البلاد العالمية «سيادتها الغذائية» وأصبحت تعتمد على استيراد المواد الغذائية.

فك الارتباط ليس الاكتفاء الذاتي
ثم إن مبدأ فك الارتباط قابل لأن يؤدّي إما الى الاشتراكية أو إلى رأسمالية أكثر مساواة. والمرجّح أن يحدث ذلك من خلال قوّة الطبقات الشعبية، بدلاً من البرجوازية. في نهاية المطاف، يمكن تجنيب البلاد الرجوع إلى نظام القيم الدولية إذا أدّى ذلك إلى الاشتراكية. يدعو أمين إلى فك ارتباط اشتراكي. ويأمل أن تطاح الرأسمالية بشكل شامل. ومع ذلك، هو يسعى إلى العودة في نهاية المطاف إلى نوع مختلف من الاقتصاد أو من النظام العالمي.
ما زال أمين يفترض وجود تطور تاريخي متمرحِل. وهو يسعى إلى الانتقال من مرحلة إلى أخرى، على غرار الانتقال من نمط الإنتاج الخراجي إلى الرأسمالية. على الرغم من أنه يسعى إلى احترام مسارات مختلفة في التنمية، إلا أنه ينكر «الحق في الاختلاف» مؤكداً على «الطموح الشمولي»، المتكامل بما فيه من الاستعارات الحداثية الأخرى مثل التقدم والعقل والقانون والعدالة. أما في ما يتعلق بالنقد الما بعد استعماري والبنيوي، فيبدو نهج أمين واضحاً في تماشيه مع الحداثة الرأسمالية.
وسوف تتولى فكَ الارتباط حركةُ تحرير شعبية، بما هي حركة اجتماعية جديدة. وسوف تناهض هذه الحركة كلاً من الطبقات التقليدية (التي هي وطنية أكثر من اللزوم كي تستعمل كحركات تحرر شعبية) ومن الدول (المنخرطة في النظام العالمي). وسوف ترتبط بديلاً من ذلك بالطبقات الشعبية (الفلاحين الفقراء، والعمال المهمشين، وفقراء المدينة) ضحايا عمليات الإفقار. من هنا إن فك الارتباط هو سياسة المستبعَدين، ولكن من نوع السياسات التي تتحقق عن طريق سلطة الدولة. وتشمل الشروط المسبقة لفك الارتباط تطوير إرادة سياسية للإصلاح المساواتي - وهذا هو السبب الرئيسي وراء عدم تحقق فك ارتباط في البرازيل والهند مثلاً. يتوقع أمين أن يأتي مبدأ فك الارتباط من مكوّن وطني شعبي وقوي موجود في عملية تكوين الدولة ذاتها. وسوف يكون الخاسر الأساسي في هذا الترتيب الجديد الطبقةُ الوسطى التي تحافظ على الاستهلاك المبني على التدفقات والنماذج العالمية.
كذلك يتطلب هذا المبدأ تقدماً في مجالات الديمقراطية والحقوق الجماعية، ووحدة العالم الثالث، والاعتماد على الذات من قبل كل دولة. إن تحقيق عالم متعدد الأقطاب هو أيضاً وسيلة لتحقيق فك الارتباط. وهو ينطوي أيضاً على شكل قوي من عدم الانحياز، مع السماح بمختلف أنواع المفاوضات التكتيكية.

الاشتراكية أو الهمجية
غير أن فك الارتباط ليس هو نفسه الاكتفاء الذاتي. والبلد الذي يفك ارتباطه ليس من الضروري أن يرفض التكنولوجيا الأجنبية، ولكن في الوقت ذاته، من المرجّح أن يسعى إلى تحقيق التوازن مع تطوير التكنولوجيا المحلية. وينبغي عليه أن يسعى إلى التصنيع في خدمة التنمية الزراعية.
يرفض أمين الانتقادات التي تقول إنّ نظرية فك الارتباط هي تكرار لنماذج القديمة، وهي نموذج إنتاج بدائل للمستوردات. لم ينتج الفشل الواضح لعملية فك الارتباط في أفريقيا وآسيا من فشل فكرة فك الارتباط. ذلك أن الأنظمة المستقلة الجديدة لم تكن قد وصلت الى مرحلة فك الارتباط أصلاً. بل زادت وارداتها من التكنولوجيا ورأس المال وراكمت ديون الدولة. ولقد توقفت عملية فك الارتباط الجديدة بطريقة عنيفة بسبب أزمة الديون.
ويرى أمين أن الخيار بات واضحاً بين مسار بديل يقوم على فك الارتباط، واستمرار وجود النظام العالمي الهمجي الذي يشكّل تهديداً مميتاً للفقراء في كل العالم. طالما لن يطاح بالنظام العالمي، فسيبقى يعيد إنتاج نفسه من خلال الإبادة وانتزاع الملكية. يرى أمين هذه القضية كخيار حادّ جداً بين قطبين: قطب الاشتراكية - عبر فك الارتباط - أو الهمجية، بما في ذلك تدمير الذات الإنسانية.

مناقشة نقدية
يتعرّض أمين للنقد أحياناً - من قبل مفكرين كشيلا سميث وإيرا جورنستين - لأنه يبالغ في التركيز على الاستغلال الناتج من التبادل غير المتكافئ، ويستبعد الاستغلال الكامن في الإنتاج نفسه وعلى المستوى الوطني أيضاً. وفي حين أنّ تحليل أمين لا يهمل الانقسامات الطبقية في المجتمع، ولعملية الإنتاج مكانها في نظريته بالتأكيد، إلا أنّه يركّز بطريقة مبالِغة على التبادل وعلى المستوى العالمي. إنّ نظرية مبدأ فك الارتباط تعالج مشاكل التبادل دون أن تعالج بالضرورة مشاكل الإنتاج. أضف إلى ذلك أن تصحيح هذه النظرية للاختلالات في موازين القوى داخل الأمم أمر مشكوك فيه.
وهناك أيضاً مشكلة أهم هي رفض أمين للعديد من مشاريع التنمية المنبثقة من النظرية النقدية خلال السنوات الخمسين الماضية. هنا نلقى أن أمين حداثي غير متردد. فعلى الرغم من معارضته الخطاب التنموي المهيمن، فهو في نهاية المطاف مع منطق التنموية. وهو يؤْمن إلى ذلك بالتقدم الحتمي نحو نظام عالمي شامل ونحو الاشتراكية. بعبارة أخرى، إنه لا يزال ضمن إطار السلطة المركزّة، حتى في الوقت الذي ينتقد فيه توزيعات السلطة الحالية.
ثمّ إن المستقبل الذي تسعى إليه الدول، حيث يفترض فكّ الارتباط، أن يجري مستقبلُ التنمية الاقتصادية على أسس مشابهة للشمال ولكنها أكثر عدالة. يرى النقاد الذين يمتلكون معرفة عميقة بمشاكل الرأسمالية - مثل جوهرها الأساسي والاغتراب في الحياة الاجتماعية وخضوعها للتشيّؤ ونزعتها المادية، وعدائها للمعرفة الذاتية والبيئية ـ إن كسر رابط الارتباط يتم بشكل جزئي فقط. هناك حاجة إلى إلغاء قانون القيمة بطريقة أعمق من التي يقترحها أمين.
على الرغم من نقده للقومية، لا يزال أمين يعتمد على القوى الوطنية كمصدر لفك الارتباط، الأمر الذي يثير تساؤلات بخصوص نظريته في الدولة. إذا كانت الدول قد تشكلت ككيان استعماري، وقد دمجت الأراضي فيها بالقوة بطرق غير متفاوتة، فمن المنطقي أن ترتبط هذه الدول خارجياً أيضاً بالنظام العالمي. في النموذج الذي يقترحه أمين، تظهر الدول حاسمة، على سبيل المثال، في قيمة النشاطات من خلال تحديد الأجور الوطنية. فتتم مكافأة الفلاحين للمساهمة في الإنتاج «وطني». لكننا لا نزال هنا في مجتمع رأسمالي في كثير من النواحي، غير أنه مجتمع تلعب فيه الدولة دوراً أكبر في الإنتاج.
على مستوى السلطة، تصبح المشكلة كيف نضمن أن تكون الدولة في صالح التنمية والمساواة، بدلاً من الوقوع في أنماط تجديد الإرثية التي هي شائعة جداً في كثير من الدول الإمبريالية والمعادية للإمبريالية على حد سواء. وبعبارة أخرى، كيف نمنع أصحاب السلطة في الدولة من الاستيلاء على الموارد اللازمة خدمة لمصالحهم الخاصة ولثرائهم. من أجل منع ذلك، يبدو أنه سوف يكون على الحركات الشعبية أن تمارس سلطة كبيرة على الدولة وضد الدولة. لتحقيق ذلك، لا بد من ألّا تكتفي الدولة بالإمساك بالسلطة الاقتصادية بل أن تكون هذه موزعة على عدد متنوع من الفاعلين المختلف عبر المجتمع.

العدد العاشر - شتاء ٢٠١٥

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.