العدد العاشر - شتاء ٢٠١٥

يوميات الحزن الحوثي

النسخة الورقية

٢ أيلول/ سبتمبر ٢٠١٤
أنهيت شغلي وقلت سأعود إلى البيت. أوقفت تاكسي وانطلقنا مع الريح. لحظات وانتبهت للسائق يبكي. كان ذلك السائق الشابّ يبكي دموعاً فعلية وتنزل على خدّيه. ليس وصفاً مجازياً هنا. وكان يبكي بصمت. قلت: يا الله. هذا ما كان ينقصني في نهاية هذا اليوم الحوثي المزدحم. وبعد محاولات حكى لي الشابّ قصته: خمسة أعوام تقريباً وهو مهاجر في مملكة العائلة السعودية. ذهبَ من أجل المال والعودة للزواج من قريبته التي ارتبط بها منذ طفولته. لقد وعدوه بذلك كما وخطبوها له منذ زمن. اشتغل في أرض الحرام السعودية مثل حمار ولم يترك شيئاً إلا واشتغل فيه حارماً نفسه من كل لذة أو شهوة. وعندما عاد قبل شهر وجد أنهم قد قاموا بتزويج خطيبته. هو الفقر ولا يرحم الناس ويدفعهم لفعل أيّ شيء. طبعاً القصة مؤثرة لكنّها الحياة الوسخة وماذا نفعل معها. طبعاً أنا استمعت صامتاً ولم أقاطعه بكلمة. لكنْ لم أجد من الجائز بقائي على سكوتي وعدم تفاعلي ولو بكلمة أو كلمات مواساة علّها تقوم بالتخفيف عنه. قلت له: «هي الحياة الوغدة وسوف تنسى حتماً، كل شيء قابل للنسيان». قال: «مستحيل فقد كانت تلك الفتاة كل حياتي». قلت له مازحاً: يا حمار، أنا كنت حماراً مثلك في سنة أولى جامعة وأعشق فتاة حلوة وكنت أقول بأني سوف أموت إذا لم أتزوجها. لكنّي اكتشفت بعد شهر بأنّي كنت الزبون رقم ١٧٥٤ في قائمة الأشخاص الذين تَعَرّفتْ عليهم. وطبعاً أنا مرضت وكنت سأموت فعلاً، لكنّ الغريب أنها كانت عاملة علاقة مع أعزّ أصدقائي الذي كانت تتعمّد أن تصفه بأنه أخوها. ذكّرتني بنجلاء فتحي ومحمود ياسين في فيلم «أختي». وبعدها حاولتُ أنا الانتحار وفشلت، ثم سافرت إلى السعودية وعملت علاقة مع زوجة صاحب المطعم اللي كنت أشتغل فيه واكتشفوني ونجحت في الهرب بمساعدة من خبير باكستاني في التهريب. وبعدها هاجرت الى سلطنة عمان واشتغلت في محل بخور ورجعت اليمن وفشلت في إكمال دراستي لكنْ نجحت في مهنة الصحافة واشتغلت صحافي مرتزق مع الزعيم السابق، وبعد سقوطه اشتغلت مع الزعيم الحالي، صحافي مرتزق كمان، والآن أبحث عن شغل كصحافي مرتزق مع الزعيم الحوثي على اعتبار أن المستقبل في اليمن سيكون للحوثي والقطيع اللي معاه.
طول فترة الحكي وذلك الشابّ الأنيق سائق التاكسي يستمع بإنصات للفيلم الذي أقوم بحكايته. وقد توقفت دموعه عن النزول، ابتسم وقال ليّ: «الله يعينك على هذه الحياة». وابتسمنا. نجحت في صنع ابتسامة على وجه الفتى. لعلّها تكون الابتسامة الأخيرة لنا في أيّامنا المقبلة، حيث تبدو سوداء ولن ترحم أحداً من عشّاق الحياة.

٤ أيلول/ سبتمبر
خرجت صباحاً لتغطية أخبار المظاهرة المسلّحة لجماعة الحوثي في صنعاء. شُغل صحافي يعني. توقفت في منتصف الطريق لأني شعرت بعطش شديد. ولجتُ سوبر ماركت (حلوة مفردة «ولجتُ») وابتعت قنينة ماء. شرِبت وارتويت ومشيت لكنّ المسيرة كانت قد قطعت مسافة طويلة. قلت: سوف أركب تاكسي كي ألحق الركب. وفعلت. صعدت وسرنا الهوينا، يعني سرنا ببطء بسبب الزحمة. دقائق وانطلق صوت هاني شاكر من سمّاعة الراديو الموجود في التاكسي مغنياً «غلطة وندمان عليها». فقلّب فيّ مواجع كثيرة. ذكّرني بالفتاة التي خانتني في سنة أولى جامعة واتزوجت دكتوراً حماراً كان يعمل في قسم اللغة الانجليزية. قلت لصاحب التاكسي: «لو سمحت أنا عايز أنزل». قال لي: «مش عايز تلحق المسيرة الحوثية!» فقلت: «لا». يكفيني الصراخ الذي في داخلي ويحدث بسبب من ألم الخيانة. رجعت إلى البيت وأنا مكسور القلب والخاطر مثل امرأة مُطلّقة، في حين كان جماعة الحوثي هناك يواصلون صرختهم بلا توقف: «الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل».

الأحد ٢١ أيلول/ سبتمبر
نمت قليلاً بعد سهر طويل مختلط بحالة اندهاش تخصّ التسارع الذي مرّت عليه أحداث هذا اليوم العجيب. صحيت قبل ساعة وخرجت السوق أشتري قاتاً وأكلاً. عناصر جماعة الحوثي في كل مكان وخصوصاً أمام مبنى النائب العام. عاملين نقطة تفتيش وجوارهم دبابتين ومدّرعة بعد أن نجحوا في اجتياح صنعاء. ألقيت السلام، من باب التأدب على شاب منهم. ردّ بكل أدب أيضاً. سألته مباشرة: من فين أنت؟ قال من همدان. ليس حوثياً لكنّه انضمّ إليهم منذ خمس سنوات. تدريب وخلافه. فهمت أن العملية كان مخططاً لها من وقت طويل. لكنّ الشابّ لايتجاوز عمره الـ ١٨ سنة، يعني لمّا انضم لجماعة الحوثي كان تقريباً في الـ١٣ سنة. نقطة ضد جماعة الحوثي التي تزجّ بالأطفال في جحيم عنف لا طاقة لهم به. سألته مجدداً هل كانوا يتوقعون أن تكون عملية سقوط وانهيار الطرف الثاني بمثل هذه السرعة؟ أجاب بالنفي، وقال أنا مش مصدّق حتى الآن اللي حصل، بس يبدو إنه نصر من عند الله. قال هذا وهو يشير إلى «الغنائم» ـ الدبابتين والمدرّعة ـ التي أمامنا وهما من مقر الفرقة أولى مدرّع المجاور لنا.
هو نصر من الله إذاً. هكذا قال الفتى. ابتسمت أنا وواصلتُ طريقي إلى البيت. حيث الطريق إلى البيت أقبح من البيت.

الاثنين ٢٢ أيلول/ سبتمبر
اجتاح السيّد عبد الملك الحوثي وعناصره المسلّحة صنعاء البارحة. سألتني صديقة: هل نزلتْ دمعة من إحدى عينيك يا جمال! نعم. أعترف. ونزلت دموع كثيرة. أنا شخص دامع من الأساس. أنا كائن كأنما خُلق كي يرفع صوته منادياً دموع العالم كي تأتي إلى عينيه ليعيد سكبها ثانية. أنا مصنع دموع. أنا أبكي في الشارع وفي المقهى وفي أي مكان تواتيني فيه رغبة البكاء ولا أكترث لوجود أحد. أتذكر عندما بكيت وأنا أشاهد ذلك المنديل الأحمر الذي كان في فيلم «حُب في زنزانة». ذلك المنديل الطائر في الهواء والمبعوث من سعاد حسني لعادل إمام وكل واحد منهما في زنزانته وهواء السجن يفصل بينهما. وبقدر ما بكيت من قصص العشق المستحيلة بينهما بقدر ما بكيت من موسيقى عمّار الشريعي التي كانت عماد الفيلم وسنده. وهي الموسيقى نفسها التي هبّت على قلبي وأنا أرى لسقوط صنعاء بمجانيّة بين يديّ ميليشيا الحوثيّ فبكيت. موسيقى مهزومة هزمتني ولم تبخل. كانت خلفية لمشهد دخولهم صنعاء في حين انسحب الجيش أو تلاشى. كأن أمراً صدر من خلف كرسي الحاكم والقائد الأعلى وفتح باباً للانسحاب فكان اجتياحاً أسرع من دموعي الهابطة على خدّي بلا خجل من العالم الذي يسير إلى جواري في مكان لم أعد أعرف أين كان أو أين كنت أنا.
سقطتْ صنعاء إذاً وصارت مدينة مفتوحة. لا أستطيع حمايتها ولا أقدر على إيقاف دموعي.

٢٥ أيلول/ سبتمبر
ألقى زعيم الحوثيين خطاباً سمّوه خطاب النصر. لا أدري أيّ نصر وعلى مَن! لكنْ كان لي ملاحظات بسيطة حول خطاب عبد الملك الحوثي رئيس جمهورية جماعة الحوثي الشقيقة: ما يزال السيّد الحوثي مصرّاً على تقليد السيد حسن نصر الله في كل شيء. حتى في طريقة رفع اليد اليمنى. على الأقل ومن باب التجديد لماذا لا يرفع الحوثي يده اليسرى! يحاول أن يقرأ شفاهياً وهذه ليس له قدرة عليها، هو ينفضح وهو يتلصص على الورقة المطروحة على الطاولة. صار الحوثي يتعمّد إلقاء الخطاب عبر شاشات على الرغم من كونه يقرأ بداخل كهف وفي داخل صعدة المحاصرة من قواته ومسلحيه، يعني لا خطر يهدد حياته. أطرف حاجة إن السيّد حسن نصر الله ظهر في خطابه الأخير مباشرة أمام جمهور الضاحية الجنوبية وكسر عادة الظهور عبر شاشة، ما أحدث إحراجاً كبيراً للسيّد الحوثي الذي ظهر عبر شاشة، لم يكن يعرف أن نصر الله سيظهر مباشرة أمام جمهوره. وكمان، الحوثي تنقصه كاريزما الظهور وعدم امتلاكه لأدوات خطيب ماهر مقتدر وقادر على ضبط حروف اللغة العربية. والله الموفق والمستعان.
أخوكم في الله/ السيّد جمال جبران.

٢٧ أيلول/ سبتمبر
لجماعة الحوثي ثأر كبير مع النظام السابق للدولة. شنّ هذا الأخير ضدّها ست حروب شاملة وشرّدها في جبال منطقة صعدة (شمال صنعاء) وقتل زعيمها ومؤسسها حسين بدر الدين الحوثي الذي أنشأها لهدف فكري تحت راية «الشباب المؤمن» وانتهى بها إلى حمل السلاح للدفاع عن نفسها.
واقع أجبر عائلة الحوثي على دفع واحد منها لحمل الراية نيابة عن المؤسس الذي قُتل أسيراً. وعليه وجد عبد الملك، نجل حسين الأصغر نفسه قائداً بالصدفة، وخدمتْه الثورة الشعبية التي كانت في ٢٠١١ فأسقطت علي عبد الله صالح ولم تُسقط نظامه. لا يزال هناك اللواء علي محسن الأحمر الذي كان رأس حربة في كل تلك الحروب الستّة ونجح في إنقاذ نفسه والبقاء ممسكاً بأطراف الدولة وقلب نظامها الحالي وصار الرقم واحد فيها. بقي الرئيس عبد ربه منصور هادي رئيساً شكلياً في حين سكنت جميع أدوات البلاد في جيب محسن الأحمر الذي أسكنه غروره على قمة جبل عال فلم يلاحظ المياه التي تجري بهدوء من تحته. ثلاث سنوات من بعد الثورة الشعبية كانت كافية لأن تنقلب الحياة في اليمن وتجري مثل فيلم. كل الأطراف في مواجهة علي الأحمر: الرئيس السابق ويريد ثأراً من أقرب الناس إليه وممن خان العيش والملح وساهم بانشقاقه في إسقاطه؛ رئيس حالي يرغب في أن يكون رئيساً حقيقياً؛ عبد الملك الحوثي ويريد ثأراً لدم المؤسس. وجاءت الفرصة بإعلان الحكومة رفعاً جديداً في الأسعار. استعادت الثورة الشعبية ذاتها بقائد جديد بمفرده هو الحوثي الصغير عبد الملك ومعه مجاميع من فقراء الناس الذين أوجعهم قرار الحكومة وأضاف وجعاً جديداً إلى أوجاعهم السابقة.
وعليه ارتفع صوت الحوثي، ومعه الفقراء، بطلب إسقاط الحكومة الفاسدة وإلغاء قرار رفع الأسعار. حاصروا العاصمة لأيام لتبدأ بعدها المواجهة. ظهر الجيش على الحياد في ما عدا القوّات التي يسيطر عليها علي محسن الأحمر ومجاميع تابعة للإخوان المسلمين. انطلقت الرصاصة الأولى أو القذيفة التي فتحت أسوار صنعاء. لكن كأن لا معركة كانت. فجأة دخل الحوثيون صنعاء وصاروا مسيطرين عليها. أعلن رئيس الحكومة استقالته وقدّمها لممثل عن الحوثيين. توالت الأحداث ولم يعد مفهوماً ما يجري فعلاً على الأرض. ساعات فقط وفُتحت صفحة جديدة في تاريخ المدينة. انهارت الدولة أو الشكل البسيط لتلك الدولة.
لم يكن الخبر العاجل بقادر على اللحاق بأنفاسه. ما أن يأتي خبر عاجل على الشاشات حتّى يأتي غيره. انهارت المدينة وقيل بأن أوامر صدرت بترك صنعاء لمصيرها فلم يجد الحوثيون من يواجهونه.
هرب علي محسن الأحمر وخرجت الدّبابات التي كانت معه، لا لتواجه بل لتنفّذ استدارة باتجاه معاقل الحوثي في مدينة صعدة. انتشر مسلّحو الحوثي في شوارع صنعاء وظهروا مندهشين لحالتهم كما لو أنها جاءت مصادفة بلا تخطيط مسبق. يقف فتى مسلّح منهم لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره ويقول لنا: نحن لم نخطط لهذا، هو نصر من عند الله وهذه الغنائم حصيلتنا، وهو يشير باتجاه دّبابة تقف أمام مبنى النائب العام قبل سفرها القريب إلى مدينة صعدة.
لا بد من معركة إذاً. لم يكن كل هذا الحصار من أجل لا شيء.
ظهرت صنعاء مكشوفة ومُسيطراً عليها من قبل عناصر مسلّحة بعضهم يرى مدينة للمرة الأولى في حياته ولم يتم إعدادهم للتعامل معها ومع مكوّناتها. في حين بقي في القلب شيء من انتقام. الدخول إلى غرف نوم بعض قادة الإخوان المسلمين. واحد منهم كان قد اعلن تصريحاً غير مسبوق في حياة اليمنيين عندما هدّد بالدخول إلى غرفة نوم علي عبد الله صالح إبان انتفاضة الربيع اليمنيّ.
هذا ما كشف الستر عن عناصر تابعة للرئيس السابق انضمّت لجموع الفقراء التي سارت خلف عبد الملك الحوثي في طريق إسقاط الحكومة. لكنْ تبقى هذه أقاويل في حين تبقى عملية اقتحام غرف النوم تلك والتقاط الصور التذكارية بداخلها حقيقة مؤكدة. منزل الناشطة الإخوانية توكل كرمان وصاحبة نوبل للسلام كان واحداً من تلك المنازل التي تم اقتحامها.
وبعد غرف النوم بدأت مرحلة أخرى: إسقاط الملابس الداخليّة من على واجهة المحال التجاريّة. كتب أحد الناشطين المدنيين التابعين للحوثي بأن هذه الملابس التي قد يرى البعض مسألة عرضها شيئاً عادياً وهي عند البعض غير ذلك. هو يبرّر الفعل بأنه يأتي إزالة لما يعمل على أذية مشاعر الحوثيين. كأنهم لا يقدرون على مقاومة أنفسهم في مواجهة ذلك الإغراء الظاهر على واجهة المحال.
وخطوة أخرى في طريق الحوثيين الطويل، إيقاف سيّارات تقودها فتيات. هذا أمر يؤذي مشاعرهم أيضاً. قالت إحدى الناشطات بأن عنصراً حوثياً أوقفها هاتفاً: «ما بش سواقة من غدوة» (ليس هناك من قيادة سيّارات من يوم غدٍ). وتكرر هذا في غير منطقة. في صنعاء مقاهٍ عديدة مختلطة بدأ زوّارها في التناقص خشية من طارئ آت. تسير في الشوارع فترى الخطوات عليها تسير مرتعشة وكأنما تخشى أن تخطو خطوة جديدة على طريق مجهول. صنعاء ليست باريس طبعاً أو حتّى بيروت، لكن أهلها كانوا قانعين بتلك المدنية القليلة التي كانت تتيحها الأشياء الصغيرة الحلوة والمفتوحة في الحياة وكانوا يفعلونها من دون ملاحقة من أحد أو جماعة. يراقبون اليوم بأسى وهم يرون كيف يفقدونها شيئاً فشيئاً وتتسرب من بين أيديهم.
كأنه فيلم. لكنّ الحياة ليست مثل السينما.

٢٩ أيلول/ سبتمبر
البارحة بلغت الأربعين. كان عيد ميلادي. لم أشعر بشيء أو كأني ظهرت محايداً مع هذا الحدث/المناسبة الفاصلة في حياتي. لقد بلغتُ الأربعين وهذا إنجاز غير عادي أو أحد في مثل حالتي دفع أثماناً باهظا كي يصبح على الهيئة التي وصل إليها. لم يكن هذا الوصول سهلاً تماماً. دائماً، ومع كل سنة تمر في رصيد عمري كنت أقول: ها أنا أيضاً على قيد الحياة، يا للمعجزة.
لم أحتفل بطبيعة الحال. لم أخرج من البيت. ما جدوى الاحتفال تحت تهديد حدوث أي طارئ قد يهبط فجأة وسط هذا المجال غير الآمن والمحاصر بجماعة الحوثي. البقاء في البيت كان قراراً نهائياً. لا رغبة في تناول القات. البارحة تناولت نبيذاً إثيوبياً وما تزال تبعاته النفسية تلاحقني. لم أعد راغباً في العودة لحالة الإدمان التي أثقلت على حياتي زمناً وأعاقتني. من نحو عامين قررت عدم تناول أي كحول في صنعاء وذهبت جيداً في قراري وتفوقت فيه. عندي ثقة بأنهم لا يسمحون بدخول سوى الكحول الرديء لليمن وهدفهم تدمير تفكير الناس. لكنّي تراجعت البارحة أمام النبيذ الإثيوبي. نوع من الشوق للبلاد الأصلية. كما كانت محاولة لصنع مقاومة روحية أمام الاجتياح الحوثي الذي صادر كل شيء.

٣٠ أيلول/ سبتمبر
خرجت الى الشارع أشتري أكل. قبل قليل، لم أجد حوثياً واحداً. شكلهم ذهبوا لاحتلال مدينة تعز.

٧ تشرين الأول/ أكتوبر
هناك نقطة كبيرة فاصلة بين الكتابة الساخرة المُتَرفِعة وبين كتابة تمتهن استخدام الشتائم والتقاط مفردات العنصرية وتوابعها الرّثة واحتقار الآخرين والانتقاص من كرامتهم البشرية.
لقد وقعت ثورة الشباب اليمنيّ في موجة «الربيع العربي» في أول سقوط أخلاقي لها عندما بدأت عناصر من جماعة الإخوان المسلمين استخدام لقب الرئيس السابق علي عبد الله صالح («عفّاش» وهو اللقب الذي كان يُخفيه عن الناس)، استخدامه من جهتهم كشتيمة واحتقار لأصله الاجتماعي البسيط. تبدو خسارة أي قضية عادلة سهلة أمراً سهلاً عندما يقوم أصحابها باستخدام أدوات قذرة ولغة سافلة وسلوكاً خطابياً منحطّاً في مهاجمة وانتقاد خصومهم.
انتشرت، بعد الأيّام التالية لاجتياح جماعة الحوثي مدينة صنعاء صورة على الفايسبوك لمقاتل من الجماعة وهو عجوز يبدو في حالة رّثة ويحمل بندقية قديمة، وتناوبت تعليقات لا حصر لها على النيل منه ومن هيئته وهو يقوم بتنظيم حركة المرور بعد أن اختفى أمن العاصمة.
تناست تلك التعليقات الوضع الذي صارت إليه صنعاء وتفرغت للنَّيل من هيئة العجوز والتحقير منه. وكأن أصحاب التعليقات قد قدموا من جامعات السويد والصربون وكولمبيا الأميركية ويتحدثون لغات العالم. تناسوا الاعتداءات الحوثية على الحياة المدنية القليلة التي كانوا يمتلكونها وصارت مهمتهم تبادل النكات حول ذلك الكائن الحوثي القادم من كوكب آخر. وعلى قدر ما تظهره هذه التعليقات من مؤشر على عدم إحساس هؤلاء بفداحة التبعات الناتجة من اجتياح الحوثي لحياتهم، بقدر ما أظهرت ممارستهم لذات المنطق الاستعلائي الظاهر في خطاب جماعة السيّد (رضوان الله عليه!).
إن استخدام طريقة المعتدي ولغته يجعلنا، دون أن ندري، ندخل في منطقة الاعتداء نفسها وربما نرتكب أقبح ما تمّ ارتكابه في حقّنا. ألا ينبغي التعامل مع ذلك العنصر باعتباره قادماً طارئاً جاء نتيجة للعبة سياسية ستنتهي طال الوقت أم قصر وسيعود إلى مقره الأول على المساحة اليمنيّة التي جاء منها. ألا يمكن فعل نظرة إلى سيرة التاريخ والتأمل في محاولات أجداد الحوثي السابقة مع صنعاء ومتتاليات الفشل التي كانت لهم معها! لماذا النزول إلى مساحة لا يمكن لشيء أن يحذفها من سيرة ذلك التاريخ نفسه عبر التورط في إهانة الآخرين والنيل من كرامتهم الإنسانيّة؟
عندما يسمع ذلك المقاتل الحوثي الإهانات التي تقال في حقه فلن يكون هذا بسيطاً. لقد عانت جماعة الحوثي من حروب كثيرة شنّتها الدولة السابقة عليها وهي اليوم كما لو أنها أتت لتحصيل حقها في الانتقام. إعادة إنتاج الإهانات ضد عناصرها لن يفعل سوى إطالة أمد الصراع وتعميقه ووضعه في حركة لا نهائية لا يمكن حصر مداها وإلى أين ستنتهي بالطرفين.
قد ينبغي هنا استعادة ما دّونه أمين معلوف في كتابه الهامّ «الهويات القاتلة» حيث أشار إلى «أن هذه الجروح هي التي تحدد في كل مرحلة من مراحل الحياة موقف البشر تجاه انتماءاتهم، وتجاه التراتبية بينها. عندما يُضطهد المرء بسبب ديانته وعندما يتعرض للإهانة أو السخرية بسبب بشرته أو لهجته أو ثيابه المرقعة فهو لن ينسى ذلك».
وينطبق الحال على الطرفين.

٨ تشرين الأول/ أكتوبر
مَن دخل مقرّ الحزب الاشتراكي اليمني فهو آمن. نصف أعضاء الحزب تقريباً صاروا مع جماعة الحوثي. تتحدّث وتختلف مع واحد منهم فيقول لك: صلّ على النبي وآله يا رفيق. تقول له: هيا نروح ناكل غداء! فيقول لك: الخيرة في ما اختاره سيّدي عبد الملك. تقول له: إيش رأيك في الوضع؟ فيقول لك: الرأي رأي سيّدي عبد الملك. إنها مرحلة «تحويث» الحزب الاشتراكي. كأنّ الزمان يعيد نفسه لنعيد رؤية المشهد نفسه عندما تمّت «أخونة» الحزب حين دخل في تحالف مع حزب التجمع اليمني للإصلاح.

الخميس ٩ تشرين الأول/ أكتوبر
إنه اليوم الثامن من إجازة عيد الأضحى وباقي ثلاثة أيام كي تنتهي هذه الإجازة الماراثونية. هي أطول إجازة عيد في العالم وفي بلد ليس له علاقة جيّدة مع الشغل أصلاً. وأنا أعيش في محنة حقيقية حيث انتهى اشتراكي في خط الإنترنت ولابد ليّ من إعادة تجديده. كل شغلي وارتباطي الصحافي متعلق به وهو من يسمح لي بالتواصل مع الجريدة في بيروت. كل فروع الشركة الوطنية للاتصالات التي أتعامل معها مغلقة بسبب الإجازة وليس هناك سوى فرع مفتوح واحد يتواجد في ميدان التحرير وسط صنعاء وعليّ الذهاب إليه. لكنّ الزعيم الحوثيّ أعلن اليوم مظاهرة حاشدة للاعتراض على قرار رئيس الجمهورية تعيين أحمد بن مبارك رئيساً للحكومة وسيكون التجمّع هناك في الميدان نفسه. بالتالي سيكون فرع الشركة مغلقاً. هكذا قلت لنفسي فلم أذهب. عندما نهضت من نومي ظهيرة اليوم وجدت خبراً على شاشة تلفزيون «المسيرة» التابع للحوثي يعرض مشاهد عملية انتحارية جرت في الميدان نفسه وحصدت عشرات القتلى وما تزال رائحة الدم طازجة على الشاشة. بقيت متأملاً كل جديد يأتي عليها ومتابعاً ارتفاع عدد الضحايا ليصل الرقم ٥٠. هاجمني تساؤل جارح: ماذا لو كنت قررت الذهاب إلى الميدان وقت قيام الانتحاري ضغط مفتاح حزامه الناسف الذي يحيط بخاصرته!
لقد صارت حياتي محكومة بعامل الصدفة.

السبت ١١ تشرين الأول/ أكتوبر
فتحت بريدي الإلكتروني فوجدت رسالة من جريدة «لوموند» تمنحني اشتراكاً لمدة شهر مجاناً وإمكانية لتصفح أقسام الدفع المسبق فيها. أسعدني الأمر فعلاً. في هذا الوقت الثقيل كُنت محتاجاً لقراءة طازجة تصلني بالعالم.
لكنّها فرحة لم تدم طويلاً. تصفحت وكنت معتقداً عثوري على متابعة تحليلية للكابوس الذي صار يخيّم على اليمن، فلم أجد. نحن خارج حسابات العالم.

٢٦ تشرين الأول/ أكتوبر
في واحد من الناس درس في أميركا، ولديه ولد يحمل الجنسية الأميركية، ويقيم هذا الولد هناك ويبعث له بين الحين والآخر دولارات أميركية إلى صنعاء. لا يتردد هذا الشخص في قبول أيّ دعوة تأتيه من السفارة الأميركية والذهاب في رحلات مدفوعة التكاليف إلى واشنطن وضواحيها. المشكلة أنه من تنظيم جماعة الحوثيّ وكل صباح يصحّيني من النوم وهو يهتف: الموت لإسرائيل، الموت لأميركا. وبصراحة، بصراحة أنا مش عارف لمين أروح أشتكي، مش عارف أنام!

٢٧ تشرين الأول/ أكتوبر
صارت الصورة واضحة. لقد دخلت البلاد حرباً طائفية. لم يعد الأمر قابلاً لأي التباس. وضحت الأهداف التي تسير خلفها جماعة الحوثي الزيدية بقرارها اجتياح مناطق تُعرف عنها سيادة الصبغة السنيّة. إنها حرب مذهبية هذه التي تم إطلاقها في بداية الأمر على أنها حرب ضد الفساد. أهالي تلك المناطق أطلقوا نداءاتهم نحو الرئيس عبد ربه منصور هادي أن يفعل شيئاً تجاه التمدد الحوثي لكنّه ساكن في صمته. قال الحوثيون بأن المهمّة تتلخص في مواجهة تنظيم القاعدة في تلك المناطق، لكنّ هذه مهمة الدولة وليست من شأن ميليشيات مسلّحة. هذا لأنه يثير الحساسية عند أهل تلك المناطق ويدفعهم للتعاون حتى مع الشيطان للدفاع عن أنفسهم. هو الأمر الذي حصل فعلاً عبر الأخبار التي سمعناها عن تعاون أولئك الأهالي مع عناصر القاعدة السلفيين من أجل إيقاف المدّ الحوثي تجاههم. لقد انتقلت البلاد إلى مرحلة يبدو أن العودة منها صارت أمراً مستحيلاً. الدماء التي سالت تبقى طويلاً في الذاكرة. ذاكرة الضحايا والمعتدى عليهم.

٢٨ تشرين الأول/ أكتوبر
مفارقة غريبة ظهرت في الحرب التي قال الحوثيون بأنها حرب على القاعدة. أمر يتطابق مع الأهداف الأميركية المُعلنة من وقت طويل. يظهر الحوثيون هنا كأنما يتفقون مع «الشيطان الأكبر» في أهدافه. كما أن الأخبار التي وصلتنا تؤكد مشاركة طيارات بدون طيّار في هجمات ضد مواقع تنظيم القاعدة في المناطق الوسطى وهي المواقع نفسها التي يقاتل الحوثيون فيها، وهذا أمر لا يمكن أن يحدث دون تنسيق مسبق. أين ذهب إذاً شعار: الموت لأمريكا!

٢٩ تشرين الأول/ أكتوبر
لليوم الثانيّ قطتي ترفض الأكل. هذه الحلوة ترفض الأكل ولا أعرف كيف أتصرف معها بعد أن فشلت كل المحاولات. شقيقاتها الأربع يأكلن بشكل طبيعي ومنتظم ما عداها. في موعد الأكل تقترب وتنظر متأملة لتبتعد بعد ذلك متخذة لنفسها زاوية ترى منها لما يحدث حولها بصمت. خفّ صوتها وقلّت حركاتها بعد أن كانت لا تملّ من الذهاب والقفز في حديقة البيت وفي الغرفة. حتى الحليب قاطعته وتكتفي من الماء الذي يتساقط بهدوء من خزّان صغير موضوع في ركن الساحة البسيطة التي أمام الباب الخارجي. تشرب قليلاً ثمّ تصعد إلى الشجرة المطلّة على الشارع وتراقب المارّين بنظراتها. لم تخرج يوماً من البيت حتّى أقول بأنها تأكل هنا أو هناك. لم تخرج قط فكيف استقامت حياتها خلال اليومين الماضيين بلا أكل! قلبي يوجعني بسببها وعجزت عن فعل شيء. أتراها تعرف ما يحدث في الخارج وتخاف موعد خروجها إليه! أتراها تعرف ما يفعله الحوثي بالناس وتخاف موعد مواجهته!
هيّا إلى الأكل يا صغيرتي، رجاءً!

٣٠ تشرين الأول/ أكتوبر
لا أكل ولا حليب في البيت. لا شيء سوى علبة سجائر. نهضت من نومي منتصف الليل والمحلّات مغلقة. وحدهم أبناء اللجان الشعبية المسلّحة يحتلّون المنطقة ويمارسون حماية حياة النائمين. بارك الله فيهم. لكنْ لا أكل في البيت ولا حليب. وخمس قطط تريد شرباً وأكلاً. والدنيا برد. صنعاء صارت باردة على الرغم من كثافة البارود والدم والقتل المحيط بها. يخرج صوت قارئ القرآن باكياً من إذاعة الـ«إف. إم.». لا ينقصني حزن جديد. أفتح موقع الجريدة وأجد مقالي الجديد منشوراً عن ألبوم المطربة شيرين الجديد. أقرأه بصوت عال لقططي الخمس. من كثرة تكراري تشغيل أغاني ألبوم شيرين صارت هناك علاقة حميمية بين قططي وبين صوتها. أعيد لهنّ قراءة المقال. لكنْ لا أكل ولا حليب في البيت وهذا أهمّ للقطط من غناء شيرين الآن.
أقف عاجزاً أمام البطون الجائعة الخمسة التي تشاركني غرفتي. والبرد رهيب في الخارج. أقرر الخروج ثانية لكن خطوتي التي أخطوها تتجمد في الطريق إلى الباب. كيف أخرج بدون خطوات؟ أعيد تشغيل أغنيات شيرين لكنّها أيضاً تتوقف في الهواء. صوتها يتجمّد في منتصف الغرفة ليتكوّن فاصل جديد بيني وبين الباب. باب الغرفة هذه المرّة. يبدو الحل في السجائر. أشعل سيجارة تلو أخرى. خمس سجائر. واحدة لكل قطة. بدأ التدخين والهدوء وارتفعت درجة حرارة الغرفة مجدداً. وأبناء اللجان الشعبيّة التابعة لجماعة الحوثي المسلّحة في الخارج. يحيط البرد بهم ويواصلون حماية حياة النائمين في بيوتهم. تلك البيوت التي ليس فيها لا أكل ولا حليب. وخمس قطط تواصل بكاءها والتدخين.

الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر
مع تطور الأحداث في اليمن السعيد واجتياح جماعة الحوثي الشيعية لمناطق واسعة فيه واقتحامهم لمقر الحزب الاشتراكي، صار الوقت مناسباً وضرورياً لكي نعلن عدم وجود أيّ علاقة تربطنا بالمدعو معاوية بن أبي سفيان ولم يحدث أيّ حوار أو لقاء بيننا. لكنْ ومن باب المصداقية؛ نعترف بأنه حاول أكثر مرة أن يكتب معنا في جريدة «الثوري» التابعة للحزب الاشتراكي اليمنيّ لكنّ هيئة التحرير قررت بالإجماع عدم التعامل معه نظراً لعدم معرفته بالمهنية الصحافية. وكمان لديه خط مش واضح خالص. إنه يكتب بلغة انتهت منذ ١٤٠٠ سنة. ولهذا أحبّ أن أؤكد للعناصر المسلّحة من جماعة الحوثي عدم وجود المدعو معاوية بن أبي سفيان بداخل مقر الجريدة كي لا يفعلوا مرّة أخرى اقتحامهم لمقر الحزب الاشتراكي وجريدته بحثاً عن المطلوب.
والله الموفق والمستعان.

٢ تشرين الثاني/ نوفمبر
قناة «المسيرة» الفضائية التابعة لجماعة الحوثي الشقيقة والتي تبث من بيروت بمساعدة من كوادر إيرانية لا يوجد فيها مذيعات بنات. لا تظهر على شاشتها صورة أي مذيعة! هل النساء رجس من عمل الشيطان لديهم!

٣ تشرين الثاني/ نوفمبر
يوم غدٍ إجازة. عاشوراء. لن تصدر الجريدة. سأكون ممتلكاً لوقت كثير. قبل قليل رأيت تقريراً مصوّراً في تلفزيون قناة «العالم» الإيرانية؛ تقريراً من صنعاء يقول بأن الحوثيين قد جهزوا مجالس للعزاء والبكاء ومكاناً خاصاً بالزينبيات. سأنزل معهم. سأرتدي ثياباً سوداء وأشارك معهم. وسأبكي كثيراً. لدي دموع كثيرة وفائضة تريد أن تطلع للهواء. جيد أمر البكاء الجماعي وأنا أحبّ البكاء. دائماً أبكي. في السينما أبكي وفي غرفتي وفي الباص وفي التاكسي أبكي. أبكي كل هزائمي وخساراتي المتتالية وتحصل من زمان. لكنّها دموع صامتة لا معنى لها. قيمة الدموع في صوتها المرتفع الواضح المشير باتجاهها. لا قيمة للدموع التي تأتي على مهل وخجولة. سأبكي غداً بصوت مرتفع وألطم. سأبكي بقوة وصبر واجتهاد وضمير وبصوت مرتفع وأرفعه عالياً علّه يصل السماء. سأبكي هذا الموت الذي صار يلاحقنا في كل مكان وزاوية. سأبكي هذه البلاد وأهلها. سأبكي هذا البلد الذي صار مقبرة متحركة وتسير بأقدام ضخمة وتسحق كل شيء حولها. سأبكي قلبي. سأبكي الأصدقاء الذين ماتوا. سأبكي كل تلك الدموع المؤجلة وقد صار وقتها أن تطلع للعلن. صار لدموعي حقها أن تكون دموعاً لها قيمة. قيمة الدموع في صوتها المرتفع وفي علنيّتها. الدموع الصامتة الخجولة لا يعوّل عليها. الدموع الصامتة عيب في حق صاحبها.

وسوم
العدد العاشر - شتاء ٢٠١٥

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.