العددان ٨-٩ - ربيع / صيف ٢٠١٤

شباب ما بعد الثورة

أسئلة كثيرة لا تزال تطرح حول الثورات العربية. إجابات متناقضة حولها تعكس حجم القلق والآمال المعلقة على هبّة الشعوب العربية التي انطلقت من تونس نهاية العام ٢٠١٠. لقد انقسمت المواقف منذ اللحظة الأولى حول ما حدث، وأخذت الشكل الحاد بعد وصول رياح الثورة إلى سورية. سارع بعض المثقفين والمحللين إلى اعتبار الثورات العربية مؤامرة خططت لها الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، وساقوا الأدلة لتأكيد صحة هذه الرؤية. وفي المقابل، هناك من اعتبر أن الشعب أراد الحياة أخيراً. وتبنّى هؤلاء تسمية «الربيع العربي» حتى بعد كل التدخلات الخارجية التي ركبت موجة الثورات وتحكمت بسيرها بما يخدم مصالحها.
يوجد طبعاً في كل من هذين الموقفين تيارات ورؤى تتفق على العنوان العام، ولكنها ذات متبنيات متناقضة. إذ على سبيل المثال، هناك من بين الذين هللوا للربيع العربي مَن طمح بدول ديمقراطية حديثة، أما آخرون فقد اعتبروه اللحظة التي طالما انتظروها لتحقيق حلم الدولة الدينية، وأعني بذلك الإخوان المسلمين والسلفيين والفرق الإسلامية الأخرى.
وبالفعل جاءت نتائج الانتخابات التي حصلت بعد الثورات العربية لصالح الإسلاميين. دفع ذلك الكثير من المثقفين إلى تفسير النتيجة بغياب ثقافة الديمقراطية عند الشعوب العربية. وقرأنا الكثير من الاحتجاجات التي تقول إن مخرجات صناديق الاقتراع ما هي إلا ثمرة للثقافة السائدة، وهكذا فإن الديمقراطية أنتجت وجهاً آخر للاستبداد.

المشكلة كانت لدى هؤلاء مشكلة ثقافية، ما يتطلب بناء وعي ديمقراطي شعبي فكرياً وثقافياً يحدث نقلة نوعية في العقلية القائمة وهي التي تفرز نتائج مختلفة، وبذلك نعيد للديمقراطية مفهومها الصحيح من دون أن تختزل كما رأينا ذلك في مصر، كآلية للوصول إلى الحكم، سرعان ما انقلب عليها الإخوان لتثبيت سلطتهم. الأمر الذي ولّد صراعات داخلية وانقسامات سياسية وشعبية بلغت الذروة حين دعم الشعب بأغلبيته وصول العسكر إلى السلطة. وبذلك عدنا إلى تلك الثنائية المؤلمة التي لا ثالث لها: إما الدولة الدينية الشمولية وإما العسكر.

حديث الربيع والخريف أصبح ممجوجاً لفرط استهلاكه جدياً وإنشائياً. ما الذي حصل؟ ما الذي أرادته الشعوب حقاً؟ هل أرادت الآخرة أم الدنيا؟ هل أرادت الديمقراطية أم الأستبداد؟ هل أرادت العيش الكريم والنهوض الاقتصادي أم استبدال فاسد بفاسد آخر بحجج وشعارات مغايرة وربما مدغدغة تتستر على فساده؟

اليوم حتى هذه الأسئلة تبدو مترفة عندما زاحمتها أسئلة أكثر جذرية في ظل التطورات الدراماتيكية الأخيرة. أنظمة تمعن بالإجرام. رؤوس تحز على وقع نداء «الله أكبر». إبادات جماعية. تهجير جماعي. تشتت. إقامة الخلافة الإسلامية. الإرهاب والحرب على الإرهاب. داعش! من هم هؤلاء؟ من أين أتوا؟ هل هم حقيقة أم مزحة سمجة؟ هل هم عمل استخباراتي؟ هل هم دخلاء أم أصيلون؟ هل لديهم بيئة حاضنة؟ لماذا اكتسبوا تأييداً شعبياً في بعض الأماكن؟ هل يمثلون الإسلام؟ ثم أين هي المواقف الصريحة من قبل التيارات الإسلامية المفترض كونها معتدلة مما يدعو إليه ويقوم به هؤلاء؟ طبعاً نحتاج اليوم إلى موقف صريح من الإسلاميين بعيداً عن لغة العموميات والخطابات السهلة الجاهزة التي ترفض الإرهاب وتدينه دون أن تفككه وتراجع استناداته. نحتاج إلى إجابات مفندة وجريئة، إذ إنّ داعش في ممارستها للعنف والإرهاب تجتمع حول دعاوى تنتسب إلى مقولات تجد أسسها في نصوص إسلامية رئيسية.

السؤال المطروح بقوة: كيف نتعامل مع الماضي (التراث)، فلا حاضر ولا مستقبل بدون ماضٍ، ولكن ألم يحن الوقت لنأخذ من الماضي ما يساعدنا للحاضر والمستقبل؟ طبعاً هذا كلام جميل، يردده المثقفون العرب، ولكن كيف يصبح واقعاً؟ ألا يجب أن تستوقفنا شروط قيام الديمقراطية في الغرب أو شروط حصول القطيعة مع العقلية الدينية الاستئصالية؟

لو أخذنا من التاريخ الفرنسي فقط مذبحة سان بارتيليمي ١٥٧٢ حين ذبح الكاثوليك في ليلة واحدة ٣٠ ألف بروتستانتي، هل كنا لنتصور أن نتحدث عن إمكانية تعايش سلمي بين البروتستانت والكاثوليك؟ ثمة جدل كبير بين المفكرين حول أسباب هذه التحولات الكبرى التي صنعت الغرب الراهن في كل قوته وتقدمه. فمنهم من يعيد ذلك إلى الإصلاح الديني الذي بدأ مع لوثر، وفتح الأبواب أمام قراءات مختلفة للنص الديني أسست لقيام مفهوم التسامح ونبذت فكرة احتكار مذهب بعينه للحقيقة الدينية، ومنهم من رد ذلك إلى الثورة الصناعية الكبرى وما أفضت إليه من نتائج كبرى، لاسيما على الصعيد الاجتماعي. أسست مختلف الشروط لولادة المجتمع الجديد على أنقاض المجتمع المتقاتل مذهبياً وطائفياً في سيرورة شهدت قفزات وارتدادات عديدة.

ليس ثمة شرط واحد للتحوّل، فالإصلاح الديني والثقافي أساس، التطوّر الاقتصادي وقيام المشاريع التنموية أساس، كما الالتفات لخصوصيات مجتمعاتنا وأوضاعنا أساس كل ذلك في سبيل تحقيق التحولات الجذرية.

سأتحدث عن رؤيتي كشابة عربية وليس بصفات أراها مهلهلة على الكثير من مدّعيها. في ذلك الحين عندما أسقط تحرك الشعوب بعض دول الاستبداد أعاد ذلك الأمل إليّ شخصياً، أنا التي مثل الكثيرين من أبناء جيلي نحمل الغضب والإحباط جراء أوضاعنا العربية المنهزمة تحت نير الاستبداد من جهة ونير إسرائيل ومن يقف أمامها وخلفها من جهة أخرى. جئنا إلى العالم ومنذ تفتق وعينا عشنا عار مجتمعاتنا وكأنه لا حيلة لنا أمامه سوى الندب والشعر، وفقدنا الأمل بتغيير الأوضاع. كنا نردد كالببغاء كلاما صدقناه عن أن العرب جبناء، لا يقدمون ولا يؤخرون. كل الذي حصل أدهشنا، أعاد لنا الثقة بأنفسنا ومنحنا الأمل، لا بل رفع من سقف المتوقع لدينا أننا سوف نصبح شعوباً ديمقراطية ومنتجة وسنستعيد فلسطين؛ جرحنا العربي. لكن التطوّرات أعادتنا من جديد إلى الواقع المؤلم.

اليوم الوضع خطير جداً؛ إرهاب عابر للحدود، حروب باسم الله، تفكك وتمزق عربي، حركات انفصالية، بات الناس يلعنون الثورة، العالم يتفرج ويتآمر، المال النفطي في أعلى مراحل توظيفه، إسرائيل تتوحش أكثر فأكثر ما شهدناه في غزة أكبر دليل.. وحده الحاكم اليوم هو القلق والخوف والنظر بسوداوية إلى المستقبل. أي عاقل لديه رؤية استشرافية للمستقبل كان ليتوقع أن هذا العفن التاريخي سيطفو على السطح وسيتفجر بهذا الشكل المريع الذي نشهده.

لقد أدركنا بعد وقت ليس بالطويل أن ما يحصل نتاج طبيعي، الاستبداد الذي حكم لعقود خلّف وراءه بنى عميقة. المعركة الآن في الكشف عن هذه البنى الراسخة ثقافياً وسياسياً ودينياً ووجدانياً، وهنا يكمن دور المثقف الكشّاف غير المرتهن للأنظمة والأحزاب العلمانية والدينية. والمؤلم أن هناك حاجة لتعريف المثقف، وهذا شجن آخر.

في أي اتجاه يذهب التاريخ؟ هذا الجواب رهن بمدى عملنا وتضافر جهودنا. فحتى لو استفتينا هيغل في أوضاعنا وهو المتفائل بحركة التاريخ سيقول لنا ليس لكم سوى أن تعملوا. اليوم ليختار كل منا الجبهة التي يستطيع أن يقدم فيها ويجتهد في ذلك، لاختصار أكثر ما يمكن من الألم حتى تستكمل الثورات التي أعادت الأمل. من نحن؟ نحن الذين نرفض الاستبداد أكان علمانياً أم دينياً، ونرفض الارتهان للخارج ونسعى إلى فك ارتباطاته التي تستغل مقدراتنا. نحن الذين نريد دولاً ديمقراطية حديثة عادلة لا تعادي الدين وتؤمن قولاً وفعلاً بحرية الضمير والمعتقد، دولاً تهتم بالعيش الكريم لمواطنيها وتشجع الابداع. دولاً توسع المجال العام وتفتح المجال أمامه لينمو. مجالاً عاماً يكون كما عرفه الفيلسوف الألماني هابرمارس. حيّز يجري في خلاله تبادل الأفكار العمومية والمعلومات والنقاش في المجتمع بحرية دون أن تتحكم به الأجهزة الاستخباراتية القمعية والطائفية أو العرقية وكل ما من شأنه تضييقه.

العددان ٨-٩ - ربيع / صيف ٢٠١٤

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.