العدد السادس - صيف ٢٠١٣

في رثاء صنعاء القديمة

النسخة الورقية

من يُصدّق؟

كان لنا في صنعاء مساءات حلوة وبرامج مقترحة للسهرة، على غرار: أين تذهب هذا المساء؟ كانت صنعاء ساعة ونحن نقوم بضبط جداول مواعيدنا الصغيرة تبعاً لها ولحركة مؤشرها الكبير، ولم تكن تخدعنا أبداً أو تتأخر عن موعدها ولو مرةً واحدة. ننتهي من واجباتنا المدرسية لنقرر بعدها أين نقضي ما بقي من وقت. السينما عادة كانت خيارنا الأول. كان لدينا دور سينما كمثل خلق الله في أرجاء المعمورة، وكانت صنعاء القديمة (لا أقصد هنا صنعاء القديمة المعروفة المحاطة بسورها)، مثلها كمثل عواصم الدنيا، فيها ما يجعل وقتنا الفائض قادراً على ذهابه نحو متعة وحلاوة لا يمكن قياسها أو تثمينها بشيء. أربع دور للسينما مفتوحة أمامنا على الدوام، ولنا فقط أن نختار واحدة منها؛ فهذه اليوم، وتلك غدا، فيما الثالثة والرابعة لأيام أخرى. ونحن نختار بهدوء وفي راحة بالنا التامة، فليس هناك من داع للعجلة. ولماذا العجلة أساساً ونحن نمسك بالأربعة من أطرافها، كما وهي مقيمة على طول ولن تغادر ولن يصيبها إغلاق أو سوء أو أذية. هكذا كنا نظن!

من يُصدّق؟

كان لنا في صنعاء المدينة، ما تقدمه أي مدينة لعشاقها من دلال وحب وتهتك خفيف محبّب ومرغوب، بل وواجب فعلها له كما تفعل أي عاشقة لمن يجلس بصبر ووله طوال ليلة باردة تحت شُبّاكِها، علّه ينال طلة منها أو تلويحة من بعيد. وكانت صنعاء تفعل دائماً ولا تبخل. لا تردّ عاشقاً ولا توبّخ مراهقاً أوقعته حماسته في زلة أو هنّة، بل تقيم عاثراً وتعيد ضالاً إلى عقله ورشده. لم تكن تعرف الأذية. نعم، لم تكن صنعاء تعرف الأذية، ولم تفعلها يوماً، بحسب علمنا. لم يصلنا أنها فعلت قسوة أو صفاقة. لم تنهر أحداً ولم نضبطها ذات مصادفة تتحدث بصوت مرتفع. كان كلامها همساً، أو ما يشبه لمس أصابع تسير على صفحة بيضاء، فلا تحدث فيها خدشاً أو حتى أثراً خفيفاً.

من يُصدّق؟

«لو لم تخرج هذي الليلة، سألغّم هذا السور بقلبي، وأبيح مدينة صنعاء لقبائل حبي». قالها الشاعر اليمني الباذخ عبد الكريم الرازحي ذات قصيدة بديعة كقلبه، وكنا صغاراً لا نعرف بعد ما قصده. حفظناها فقط عن ظهر قلب، وكأن هاتفاً ما يقول لنا: لكم أن تفعلوا حفظها فهي تستحق. لكم أن تضعوها بداخلكم كتميمة وحرز ووقاية وكقلب.

وكبرنا خطوة خطوة مع القصيدة ومع المدينة، وكان أن أدركنا السرّ وكشفنا الغطاء. فسرنا خلفها كمجاذيب لا يريدون ترفاً ولا متاعاً من متاع الدنيا سوى البقاء على سيرنا ولا يمسّنا تبديل. أن تبقى الصورة على ما هي عليه. لم نكن نريد زيادة أو كماليات، لم نكن نعطي لها بالاً، أو بالأصح لم نكن نعلم أنها موجودة أصلاً، فقد كان لنا في صنعاء ومنها كفايتنا، فلم ننظر لأبعد منها، أو طلبنا أكثر مما كانت تعطيه لنا.

من يُصدّق؟

في مثل هذه الأيام من العام الفائت، إن لم تخدعني ذاكرتي، طلبت من صديقي إيقاف سيارته والتريث قليلاً في المكان. كنا في مفترق الطريق المؤدي إلى شارع القصر (وسط صنعاء)، ووقفنا نرى من بعيد هدم مبنى ثانوية جمال عبد الناصر في صنعاء. من أين يأتي الكلام المناسب كي يقال عن لحظة أنت فيها تنظر بعينين مفتوحتين للمدرسة التي عشت فيها أجمل سني حياتك وهي تروح في هدمها وإلى زوال. المدرسة التي كانت تتجاوز تسميتها لتصير كلية وجامعة وإلى هذا تفاصيل الوقت الحلو الذي كان بينك وبين أصدقاء تلك المرحلة!

نكتشف فجأةً أن لا صور لدينا فيها ومعها. ولا صورة واحدة تدل على أننا كنا هناك يوماً ما ومررنا فيه. إنه يخصنا ولنا منه نصيب كبير. لم ننتبه وقتها إلى أنّ زمناً كهذا سيأتي، فلم نتخذ الاحتياطات اللازمة وتفرغنا لأخذ الكثير من الصور، في الساحة وفي الفصول وفي الملعب الفسيح حيث كنا نمارس رياضتنا المفضلة. أهملنا المسألة، ولم نترك لها مساحة شاغرة في بالنا. ونتمنى الآن لو كنا نحمل بعضاً من حنكة شباب هذه الأيام، من لا يتحركون خطوة في الأرض إلا وكاميراتهم الرقمية الشخصية في جيوبهم، لعل لقطة ما تستحق أن تكون مخزونة في ذاكرة أجهزتهم فيستعيدوها وقتما شاؤوا، أو ليتنافسوا في ما بينهم بشأن من هو الأكثر حظاً منهم واستطاع في يومه جمع حصيلة وافرة من الصور ويستطيع إدخالها في صفحته الخاصة على موقع الفيس بوك، حاصداً أكبر عدد من التعليقات وإشارات الإعجاب.

من يُصدّق؟

أو من سيُقنع القارئ الآن بأنّ ما أقوله من شهادة عن سينمات صنعاء ودور العرض التي كانت فيها، حقيقة ولا أخترع شيئاً من رأسي؟! من داخل قلبي؟!

حدث ذلك في مناسبتين. مرة مع طلبة السنة الرابعة في كلية الإعلام، ومرة أخرى في قاعة مؤسسة العفيف الثقافية في صنعاء أيضاً، والسبب في المرتين كان السينما.

لا تستغرب وأنت ترى علامات استفهام كبيرة تظهر خفيفة وببطء من بين مسامات القاعة، كما ومن بين همسات الطلبة والشباب الحاضرين. أنت تحكي لفئة من الناس لم ترَ سينما في حياتها، وبالتالي لم تدخلها. فئة خرجت للحياة أو بدأت ترى المكان هنا بشكل واضح، وقد صار خالياً من أية سينما. فئة تقلّ أعمارها عن خمسة وعشرين عاماً. عليك إذاً أن لا ترهق نفسك في كيفية إيجاد طريقة تقنعهم من خلالها بأنّ ما تتحدث عنه كان واقعاً ولم تجلبه من بيتكم مخترعاً إياه، أنّ ما تتحدث عنه كان حقيقة تامة وكنا نلمسها كل مساء عندما يأتي وقت الترفيه.

ليس لك غير أن تتحدث فقط وتكمل محاضرتك بأسرع ما يمكن، وهذا على الأقل كي تنقذ نفسك من هطل علامات استفهاماتهم الكثيرة على رأسك أو حتى قبل اتهامهم لك بأنك صرت عجوزاً مصاباً بخرف أفقده قدرة إلادراك والتمييز ولم يعد قادراً على فصل المعقول من غير المعقول في كلامه. وربما كان لهم عذرهم، فكيف يمكن إقناعهم بأنّ صنعاء كانت مساحة مفتوحة ومدينة بدور عرض سينمائية كثيرة: في مجمّع حدة السينمائي الذي صار أثراً بعد عين وأطلالاً، تقول إن شيئاً جميلاً وحلواً كان هناك وتحول إلى خراب ومسخ؛ فلا هو بقي على حاله، ولا هو صار شيئاً له منطق وعقل. دار السينما الأهلية، دار سينما بلقيس. وإلى كل هذا صالات صالحة للعرض وممكنة في قاعة جمال عبد الناصر بجامعة صنعاء والمركز الثقافي اليمني ومسرح وزارة الإعلام.

ماذا يُخيف في السينما!

وأقول:

هل كّنا محظوظين، نحن الذين شهدنا مجد المدينة وزهوها الأول، هل نحن هكذا وقد تمرغنا في ترابها الأبيض وقمنا بلمس مساءاتها الباهية اللذيذة، وهذا قبل أن يتحول التراب الأبيض إلى أسفلت متحرك لزج يعوق السائرين عن الحركة بطريقة سليمة وسهلة، وقبل أن تتحول تلك المساءات الباهية إلى ليل معتم طويل بلا بداية ولا نهاية، على الرغم من الأضواء الكثيرة التي صارت تزيّن كل شيء من طرف المدينة إلى طرفها! أم نعلن استياءنا رافعين رايات الرثاء فاتحين العين لذرف دموع كثيرة!

أن نقول إن كل هذا انتهى وصار أرشيفاً، وفي الماضي، وما علينا إلا أن نكفّ عن تمضية ما بقي من أيامنا ونحن ننظر إلى الوراء.

قد يقول أحدهم: لماذا كل هذا البكاء الطويل والكتابة السوداء؛ فقد صارت المدينة أجمل وأكثر حداثة، ولم تتوقف المسألة عند مجرد وجود سينما من عدمه؟!

نعم. قد يكون هذا القول صائباً كما وعلى حق ويلامس المنطق تماماً. لكن ولا بد من لكن.

نعم. صارت المدينة أنظف وبشوارع واسعة ومضاءة وتشي بحداثة ما. مقاهٍ ومطاعم كما و«مولات» و«بيتزا هت» ودجاج أميركي. محلات على درجة رفيعة من الأناقة والرفاهية وتلمع من بعيد حين رؤيتها شامخة في وسط التجمعات التجارية كأنها عروس المكان. نعم. هذا صحيح.

لكن كل هذا مزيف وغير حقيقي. مجرد قشرة مقلدة ولامعة، تبرق فقط ولا روح فيها ولا حياة. نسخة مأخوذة من الخارج وجرى تطبيقها هنا مع إضافة تشويهات من عندنا. أمكنة اصطناعية تماماً كالورود البلاستيكية المصنوعة كي تكون مجرد ديكور للمكان الذي ستوضع فيه ولا يكون مطلوباً منها أن تمنح الناظر إليها رائحة. أنت تصنع المكان فقط، وتقدر أن تمنحه تميزه وفرادته بين الأماكن، لكنك لن تستطيع منحه الروح التي لا يمكن اختراعها أو وهبها له. هي أشياء لا تُخترع ولا توهب بصك، هي تأتي من الوقت نفسه وتواكب حلاوة زمنها الطيب وتوافقه. كلما كانت أصيلة وغير مزورة ولا تسرق هوية غيرها، بدت حقيقية وملموسة. لا يمكن أن تستبدل بطريقة سحرية مثل حاوٍ ماهر، أن تستبدل الخبز الصنعاني المحلي محولاً إياه إلى فطيرة أو برغر! لا يمكن قطعة الخبز تلك أن تتحول إلى بيتزا في غمضة عين. لا يمكن أن يتحول كأس الحليب الساخن الرائع إلى كوب كابتشينو بضغطة زر واحدة.

وبناءً عليه، تدخل إلى تلك الأماكن فلا تجد نفسك. تحاول أن تتأقلم مع المناخ الموجود هناك، فلا تستطيع حتى ولو ضغطت على قلبك وجعلته يبدو أقل رغبة وإصراراً على البقاء في زمنه الماضي، ولو بأثر رجعي. تحاول أن تبدو شخصاً جديداً يعيش في العصر ومعه، ولا يبدو غريباً أو نشازاً عنه، يدخل «الكافي» ويلقي التحية على الحاضرات والحاضرين بلغة أجنبية (هذا من متطلبات المكان)، يرفع بعد ذلك لائحة الطعام الـ«مينيو» وينظر إليها ملياً قبل أن يختار ما يرغب في شربه أو أكله فيجده مكتوباً بالإنكليزية مع قليل من الفرنسية أو العكس، ولا مكان للكتابة بالعربية. (يحدث هذا في عاصمة قالت إحصاءات تعليمية رسمية إن ثمانين بالمئة من عدد الأساتذة في جامعة صنعاء لا يجيدون لغة ثانية غير العربية!). تسأل نفسك مباشرة: لكن ماذا يفعل أولئك الذين لم تمنحهم الحياة فرصة تعلم لغة ثانية غير العربية؟ كيف يمكنهم إن قرروا مرة الحضور هنا برفقة عائلاتهم لقضاء وقت لطيف؟ لا مكان لهم هنا. لا إجابة غير هذه. أي أن هذه أماكن عنصرية تميّز بين الناس ولو من غير أن تقصد.

لا نظرة انتقاصية هنا من حالة الحداثة التي تبدو عليها تلك الأماكن أو هو نيل من نقلة تحاول أن تفعلها لصالح المدينة. لا هذا ولا ذاك.

تبدو الأشياء طبيعية وسليمة عندما تكون ضمن سياقها العام ولا تكون متنافرة معه. أن تكون متطابقة مع السياق العام. أن لا يكون هذا الجزء منقولا من الخارج بحذافيره وتم زرعه في بيئة لا تلائمه بتاتا. سيبدو بلا شك هزليا وبشعا ونافرا. سيبدو كم يحضر حفلة عرس مرتديا بدلة عسكرية.

لكن من زاوية أخرى، قد لا يبدو هذا التنافر غريباً، وهو يسير مع ما حوله. وجود خدمة إنترنت وحواسيب محمولة وهواتف حديثة، في ظل انقطاع مستمر للكهرباء. المطالبة بوجود مهرجان للسينما في عاصمة ليس فيها سينما أصلا. الدعوة لإنشاء دار للأوبرا في عاصمة ليس فيها فرقة موسيقية واحدة متكاملة وحسب الأصول. ذلك ليس غريباً، فنحن لا نبحث في الأساس محاولين إيجاده وتأكيد ضرورة وجوده. على العكس من ذلك، لا ندخر فرصة لضرب أي بادرة لها أن تقوم بهذا الشيء. وسأذكر هنا حادثة في هذا الإطار.

من يتذكر منكم ما حدث لفيلم «يوم جديد في صنعاء القديمة»، للمخرج اليمني البريطاني بدر بن حرسي؟ هذا الفيلم الذي كان بالإمكان جعله أساساً لقيام صناعة سينمائية ممكنة في العاصمة، ولو في شكلها الأول والبدائي، كان بالإمكان وضعه كلبنة أولى في بناء ضخم يحتاج وقتاً وجهداً وصبراً كي يؤتي أُكله. لكن ماذا حصل؟ لحظات صعبة مرّ بها الفيلم وأصحابه وهم يرون فيلمهم معروضاً للنيل والتنكيل والتكفير والقيل والقال، وأنه يرغب ويريد وينوي وسوف يعمل وسوف يشوّه وسوف يسيء وسوف... إلخ. لحظات صعبة وغريبة عشناها ونحن نرى حالة فريدة لا تحدث إلا عندنا، والفيلم يتعرض لنهش وتنكيل ليس من السلطة (يا للغرابة)، بل من فئة بعينها من المعارضة. نحن فقط من يمتلك مثيلاً لها وأمامها بدت وزارة الثقافة يتيمة وتستحق الرثاء، وهي لا تستطيع تسيير أمور فيلم دعمته مادياً ولو بنحو جزئي. تركته بين يدي أناس جهلة بعضهم يصرّ على أن يبدو مزهواً بجهله وهو يشدّد على إدخال تعديلات جوهرية على الفيلم كي يستقيم أمره ويصبح صالحاً للعرض والمشاهدة. (أتذكر الجرائد الرسمية التي كنا نعمل فيها كيف فتحت لنا صفحاتها كي ندافع عن الفيلم وضد صحيفة معارضة يفترض بها أن تكون مكاننا ونأخذ نحن مكانها بحسب ديمقراطيات العالم الثالث، لكن هذا لم يحصل لتُسجل حالة فريدة نادراً ما تتكرر أو لا تتكرر أبداً).

لكن الفيلم، رغماً عن كل هذا، مضى وتقدم إلى آخره. خرج الفيلم مقدّماً صنعاء القديمة في أبهى صورها وكأجمل ما تكون، ناجحاً في حصوله على تكريم وتقدير عالميين. كل هذا وكان معروضاً ومشاركاً باسم اليمن. (الفيلم أخذ الجائزة الرسمية الأولى من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي).

يبدو أني ذهبت بعيداً عن العنوان الكبير والمدوَّن أعلاه. أردتها كتابة في مديح الزمن الفائت والمدينة الحلوة التي كانت وانتهيت إلى أبعد من ذلك.

يبدو أني فتحت صندوقاً مليئاً بالألم.

هل قلت شيئاً؟! اعذروني . أنا حزين.

العدد السادس - صيف ٢٠١٣

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.