العدد الثاني - صيف ٢٠١٢

الجنوب يتحدّى العولمة

النسخة الورقية

يكشف الوضع الحالي تراجُع المراكز القديمة المأزومة (الولايات المتحدة وأوروبا واليابان)، في مقابل الاندفاع الجارف للنمو في الدول الصاعدة (الصين ودول أخرى). هناك ثلاثة احتمالات:

+ أن تصل الأزمة إلى الدول الصاعدة، وأن يؤدي ذلك إلى إعاقة تطوُّر هذه الدول بنحو جدّي؛

+ ان تواصل هذه الدول نموّها، مما سيؤدي إلى إعادة إحياء الرأسمالية، بشكل متمحور حول آسيا وأميركا الجنوبية بنحو خاص؛

+ أن تؤدي التنمية في الدول الصاعدة إلى تفكيك العولمة بصورتها الحالية، وأن ينتج من ذلك ولادة عالم متعدِّد المراكز حقًّا، تجتمع هذه الدول في إطاره وتواجه وتتقدّم من أجل بدائل ديمقراطية وشعبية وعمليات ارتدادات عنفية.

تشدّد أكثر الأطروحات رواجًا على أنّ الانتصارات الماضية للنضالات المعادية للامبريالية، قد مهّدت الطريق ليس للاشتراكية، بل لصعود متجدِّد للرأسمالية. الحجّة الرئيسية لنقدي لهذه النظرة تنبع من اكتشاف أنّ النموذج الرأسمالي التاريخي، الذي يُعتَبَر حاليًا على أنّه النموذج الحصري، تم إرساؤه منذ البدء على أسس إنتاج وإعادة إنتاج الاستقطاب العالمي. تلك الميزة هي بنفسها ناتجة من الطرد المكثَّف للفلاحين من أرضهم التي قام عليها التوسُّع الرأسمالي. كان هذا النموذج مستدامًا فقط بفضل صمّام الأمان للهجرة المكثَّفة التي أتاحتها الأميركيّتان. إنّ إعادة إنتاج النموذج نفسه اليوم أمر مستحيل بشكل حازم بالنسبة إلى دول الأطراف، حيث يعيش نحو ٨٠ في المئة من سكان العالم، نصفهم في الأرياف. ثمة حاجة إلى خمس أو ست قارات بحجم أميركا «للحاق بالركب عن طريق التقليد». واللحاق وهمٌ، فالسير في هذا الاتجاه سيؤدي حصرًا إلى حائط مسدود. لهذا السبب أقول إنّ النضالات المعادية للامبريالية هي نضالات محتملة ضد الرأسمالية، فإن كنتَ عاجزًا عن «اللحاق»، عليكَ «القيام بشيء آخر». بالطبع، إنّ التحوُّل بمعنى الرؤى بعيدة المدى لـ«التنمية» لدى الدول الصاعدة، أمر «حتمي» في جميع الحالات. إنّه أمر ضروري وممكن. والنجاح الحالي للدول الصاعدة من حيث النمو المتصاعد داخل النظام الرأسمالي المعولَم، وبوسائل رأسمالية، يعزّز الوهم الذي يفيد بأنّ اللحاق أمر ممكن. هو الوهم نفسه الذي رافق تجارب الموجة الأولى لـ«صحوة الجنوب» في القرن العشرين، رغم أنّه تم التعاطي مع هذه التجارب على أنّها «لحاق بركب الطريق الاشتراكية».

الثالوث الامبريالي الجماعي

اليوم، يستنفر الثالوث الامبريالي الجماعي (الولايات المتحدة وأوروبا واليابان) أسلحته الاقتصادية والمالية والعسكرية لإدامة هيمنته على العالم. ولا بدّ للدول الصاعدة التي تضع استراتيجيات للقضاء على امتيازات هذا الثالوث (السيطرة على التكنولوجيا والوصول الحصري إلى الموارد الطبيعية العالمية، والسيطرة العسكرية على الكرة الأرضية) أن تصل إلى مرحلة خوض الصراع ضده. ومن شأن هذا الصراع أن يساعد على تبديد أي وهم حول قدرة تلك الدول على «التقدُّم ضمن النظام»، فيعطي القوى الشعبية الديمقراطية إمكانية التأثير على مسار الأحداث للتقدم في الطريق الطويل نحو الاشتراكية. حتى اللحظة، وجدت الدول الصاعدة أنّ نموّها تسارع في إطار العولمة الرأسمالية عن طريق إجراءات رأسمالية. ولو تمّ توجيه هذه الدول لمواصلة هذا المسار، بإعطاء الأولوية للصادرات، لأصابت الأزمة الاقتصادية التي ضربت المراكز القديمة هذه الدول الصاعدة بأضرار جدية.

إنّ الصراع بين دول المركز وبلدان الأطراف مُعطى من معطيات اول نظام في تاريخ الانتشار الرأسمالي. لهذا السبب، على نضال شعوب الجنوب من أجل تحرُّرها أن يسائل الرأسمالية نفسها. بالنسبة إلى الامبريالية، الريع، المرتبط بهدف توسع الرأسمالية والذي يهيمن عليه الثالوث الامبريالي تاريخيًا، لا يشكل مصدرًا رئيسًا لأرباح الاحتكار المطلق لرأس المال فحسب، بل إنّه يحدّد أيضًا إعادة إنتاج المجتمع ككلّ. لذلك، ليس صدفةً أنّ الجنوب لا يزال «منطقة العواصف» وموطن الانتفاضات المتكررة التي تحمل احتمالات الفاعلية. من الواضح أنّ الطبقات الحاكمة لما يُسمّى الجنوب «الناشئ» قد اختارت استراتيجيةً، ليست سلبية وخاضعة للقوى المهيمنة على النظام العالمي، ولا هي معارضة على نحو سافر، إنّها استراتيجيا تدخلات نشطة تبني عليها هذه الدول الآمال بتسريع تنميتها. أكثر من ذلك، باتت مجتمعات الجنوب مجهزة اليوم بوسائل تسمح لها بالقضاء على أدوات سيطرة المراكز الامبريالية. تلك المجتمعات قادرة على التطوُّر تلقائيًا، من دون الوقوع في التبعية. إنّ السكان يمتلكون مهارات تكنولوجية تسمح لهم باستخدام التكنولوجيا لفائدتهم. ومن خلال استعادة السيطرة على مواردهم الطبيعية، يمكنهم إرغام الشمال على اعتماد نمط أقلّ ضررًا من الاستهلاك. والى هذا، فبمستطاعهم الخروج من العولمة المالية. وهم أصلًا يخوضون تحديًا لاحتكار سلاح الدمار الشامل الذي تريد الولايات المتحدة أن تحصره بنفسها. ثم إنّه يمكنهم تنمية التجارة بين دول الجنوب على صعد السلع والخدمات ورأس المال والتكنولوجيا. أكثر من أي وقت مضى، بات فكّ الارتباط هو الأمر اليومي. وإنّه لأمر ممكن. هل ستقوم هذه المجتمعات بذلك؟ ومن سيقوم بذلك؟ الطبقات الحاكمة حاليًا أم الطبقات الشعبية التي تتسلم السلطة؟

على الأرجح، سيتحقق فك الارتباط في البداية عن طريق أنظمة انتقالية ذات طابع وطني/شعبي.

بين عامي ١٥٠٠ و١٩٠٠، كان «الغربيون» هم من وفّروا بمفردهم بُنى العالم الجديد للرأسمالية التاريخية. بالطبع، قاومت شعوب الأطراف التي تعرضت للغزو، لكنّها بقيت مهزومة كليًا، ومُرغمة على التكيّف مع وضعها كشعوت خاضعة. لقد فتح القرن العشرون ــ مع «صحوة شعوب الأطراف» ــ فصلًا جديدًا من التاريخ: الثورة الايرانية في ١٩٠٧، والثورة المكسيكية (١٩١٠ــ١٩٢٠) وثورة الصين (١٩١١)، والثورة الصينية الرائدة في ١٩٤٩؛ العام ١٩٠٥ في «نصف الطرف» للأمة الروسية، ثورتها الرائدة في ١٩١٧؛ النهضة العربية ــ الاسلامية؛ تأسيس «حركة تركيا الفتاة»؛ الثورة المصرية في ١٩١٩ وتأسيس «حزب المؤتمر الهندي»، الخ. جميعها كانت ترجمة لهذا التاريخ الجديد. لقد احتشدت شعوب الأطراف تحت راية الاشتراكية (روسيا والصين وفيتنام وكوبا)، أو تحت شعارات التحرر الوطني المترابط بدرجات متفاوتة عن طريق تنفيذ إصلاحات تقدمية اجتماعية.

أعلنت حكومات وشعوب آسيا وأفريقيا في باندونغ في ١٩٥٥ عزمها على إعادة بناء النظام العالمي على أساس الاعتراف بحقوقها كأمم كانت لا تزال مسحوقة حتى تلك اللحظة. هذا «الحق بالتنمية» كان أساس عولمة ذلك العصر، فُرضت خلاله على الامبريالية بنية متعدِّدة الأقطاب متفاوَض حولها، أرغمتها على التكيّف مع تلك المقتضيات الجديدة. والتطوّر الصناعي الذي تم إرساؤه خلال حقبة باندونغ لم يتبع المنطق الامبريالي، بل فرضته انتصارات شعوب الجنوب.

تلك الصحوة الأولى لشعوب الأطراف أُنهكَت لأسباب عديدة ومتشابكة تتعلّق بحدودها وتناقضاتها الذاتية، وبنجاح الامبريالية التي تمكنت من ابتداع طرق جديدة للسيطرة على النظام العالمي وتعزيز إحكامها على الاختراعات التكنولوجية والقدرة على الوصول إلى الموارد العالمية والسيطرة على النظام المالي العالمي والاتصالات والمعلومات وأسلحة الدمار الشامل. لكنّ لحظة انتصار الثالوث الامبريالي الجماعي للولايات المتحدة وأوروبا والصين كانت قصيرة، إذ فُتحت حقبة جديدة من الفوضى والحروب والثورات. في هذا السياق، كانت موجة ثانية من صحوات أمم الأطراف قد بدأت بالفعل، وهي تمنع اليوم الثالوث الامبريالي الجماعي من إبقاء وضعية سيطرتها، إلا من خلال وسائل السيطرة العسكرية على الكرة الأرضية.

التوسع الرأسمالي ومسألة الارض

إنّ تاريخ التوسع العالمي للرأسمالية التاريخية هو ذلك المرتبط بالتراكم المموّل أساسًا عبر انتزاع ممتلكات شعوب الأطراف لصالح شعوب المراكز. بدأ هذا التاريخ عبر غزو الأميركيتين، أعقبته تجارة العبيد والاستعمار. ولم يطل سلب للشعوبَ الريفية وانتزاع ملكياتها فحسب ــ وكانت تشكل غالبية السكان في الماضي ــ دمّر أيضًا القدرة على الانتاج الصناعي (الصناعات التحويلية والحرف اليدوية) للمناطق بأكملها، وهي التي كانت يومًا ما أكثر ازدهارًا من أوروبا نفسها، في الصين والهند وغيرهما.

الطريق الرأسمالي المسدود يعبّر عن نفسه بوضوح في مسألة الأرض

ترتكز أسس صيرورة التنمية الرأسمالية التاريخية على الملكية الخاصة للأرض الزراعية، وإخضاع الانتاج الزراعي لمتطلبات «السوق». وانطلاقًا من ذلك، تقوم هذه الأسس على الطرد التدريجي والمتسارِع للفلاحين لصالح عدد صغير من أصحاب المزارع الرأسماليين ممن لم يعودوا مزارعين، تتراوح نسبتهم الى السكان بين ٥ و١٠ في المئة، لكنّهم رغم ذلك كانوا قادرين على إنتاج ما يكفي لإطعام جميع شعوب الدول المعنية، بل استطاعوا تصدير جزء مهم من فائض إنتاجهم. كان سلوك طريق الرأسمالية ممكنًا فقط لأنّ الأوروبيين تمتعوا بصمّام أمان هائل يتجسّد في خيار الهجرة إلى الأميركيّتين. اليوم، لم يعد صمّام الأمان هذا موجودًا ببساطة بالنسبة إلى شعوب الأطراف. إضافة إلى ذلك، سيكون التصنيع الحديث قادرًا على امتصاص أقلية صغيرة فقط من السكان الريفيين المعنيين، لأنّه، بالمقارنة مع صناعات القرن التاسع عشر، يؤدي تطوّر الصناعات التكنولوجية إلى تضاؤل القوة العاملة التي توظّفها، وهو شرط ضروري لفاعليتها. لا يستطيع المسار الرأسمالي إنتاج شيء هنا سوى ما ينتجه «كوكب مدن الصفيح»، ويعيد إنتاجه بواسطة يد عاملة شديدة الرخص. في أوروبا وأميركا الشمالية واليابان، خلق طريق التطور الرأسمالي المترابط مع منفذ الهجرة ــ التي تصبّ في خدمة الامبريالية في نهاية المطاف ــ الظروف لقيام تسوية اجتماعية بين رأس المال والعمل (وهو ما يمكن ملاحظته تحديدًا مع نشوء دولة الرعاية في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية). لا يمكن العثور اليوم على شروط تسوية مماثلة في دول الأطراف. بإمكان هذا التطور الرأسمالي أن يلقى قاعدته الاجتماعية فقط بين أوساط الطبقات الوسطى الجديدة، التي أصبحت المستفيد الحصري من هذا النمو.

من دون شكّ، لا تسمح لنا الصورة المهيمِنة للواقع بتخيُّل القدرة على مساءلة النظام الرأسمالي العالمي فورًا. إنّ الطبقات الحاكمة في الجنوب وافقت بنحو كبير، وهي مهزومة، على لعب دورها كفئة كومبرادورية تابِعة. وقد انخرطت الشعوب الفاقدة لأي ملجأ في الصراع من أجل البقاء اليومي قيد الحياة، وهي غالبًا ما تبدو كأنّها راضية بمصيرها، والأسوأ أنّها تبدو قابلة بتغذية نفسها بالأوهام التي تغذيها بها الطبقات الحاكمة.

صعود الصين: هل يشكّل تحدّيًا للنظام الامبريالي؟

للصين مكانة مميزة جدًا في قلب ما يُسمّى «الدول الصاعدة»، ليس بسبب حجمها فحسب، إنما أيضًا بسبب نجاح عملية التصنيع العميقة فيها وأسلوبها المميز والفعال في الرد على المسألة الزراعية، وكلاهما تحقق بفضل الثورة الاشتراكية والنظرية الماوية. إنّ العلاقة القائمة بين سلطة جهاز الحزب (الذي لا يزال يدّعي «الشيوعية») والقطاع الخاص الذي يرتكز على «الطبقات الوسطى»، المستفيدة الرئيسية من التنمية، إضافة إلى الطبقات الرأسمالية، من جهة، وبين الطبقات الشعبية (عمال وفلاحون) من جهة ثانية، لهي علاقة فريدة من نوعها. إن تحوُّل تلك العلاقة، بمعناه السلبي (أي ذلك التي يتعلق بإعادة البناء الرأسمالي) أو بمعناه الايجابي (الذي يُعرّف كنوع من «التسوية الاجتماعية» المناسبة للطبقات الشعبية) لا يزال مادةً تجاذب بين اتجاهات متباينة محتملة. إنّ الخيار بين أشكال من الديمقراطية المترابطة مع التقدم الاجتماعي من جهة، أو بين الأشكال «التقليدية» للتحويل الديمقراطي، التي قد تأمل الطبقات الوسطى منها خيرًا (لكن حتى ذلك ليس أكيدًا)، يقع في قلب التحدّي الذي تواجهه القوى الاجتماعية اليمينية واليسارية معًا.

يدّعي الخطاب المهيمن أنّ إرث التخلف قد تفوّقت عليه قارة آسيوية تواصل «لحاقها» من خلال الانخراط في قلب النظام الرأسمالي، لا عبر القطع معه. وتعزز المظاهر تلك النظرة إلى المستقبل. قد نكون هنا بصدد رأسمالية تخسر بهذه الطريقة طابعها الامبريالي، على الأقل في شرق آسيا وأميركا الجنوبية. وقد تكون النتيجة المستقبلية لهذا التطور عالمًا متعدِّد الأقطاب، منظّمًا حول اربع مناطق على الأقل: الولايات المتحدة وأوروبا واليابان والصين، أو حول سبع مناطق إذا أضفنا روسيا والهند والبرازيل.

أجد أنّ التحليل الذي تستند اليه المحاججة ناقص. أولًا، لأنّ التوقعات لا تأخذ بعين الاعتبار السياسات التي تخطط واشنطن لاعتمادها من اجل إنزال الخسارة بالمشروع الصيني. في الحقيقة، إنّ الوجود العسكري الدائم للولايات المتحدة في غرب آسيا هو تهديد عسكري موجَّه أساسًا ضد الصين. بالاضافة إلى ذلك، لا تزال أوروبا تفشل في تصوُّر نفسها في وضع قطيعة مع الحلف الأطلسي، وهو الذي يضعها في مرتبة أدنى من الولايات المتحدة. وللسبب نفسه وأسباب خاصة أخرى، لا تزال اليابان في حالة مراعاة تجاه حاميها في الجهة المقابلة من المحيط الهادئ. إضافة إلى ذلك، لا تزال أمجاد الثالوث الامبريالي الجماعي بعيدة عن الانتهاء.

ثانيًا، إنّ قياس نسب النمو الاقتصادي على اعتبارها وحدها مقياسًا للنجاح الاقتصادي، واستخدام هذه النسب لتعميمها على سنوات مقبلة، أمر مغلوط ويحمل شكوكًا في صحّته. إنّ الاستمرار الممكن للنمو في آسيا يعتمد على عوامل داخلية وخارجية عديدة تتفاعل بطرق مختلفة وتعتمد من جهة على التحديث الاجتماعي للنماذج الاستراتيجية التي اختارتها الطبقات الحاكمة المحلية، وعلى ردود الفعل الخارجية من جهة ثانية. فما يتعدى السعي وراء النمو المتواصل من وجهة نظر التوازن البيئي للكرة الأرضية، يتبلور الصراع مع دول المثلث الامبريالي، التي لا تزال حتى الآن المستفيد الحصري من جميع موارد الكرة الأرضية، بسبب هذا الواقع حصرًا.

ينسب الخطاب المهيمن نجاح الصين في حقبة بعد الماوية، إلى فضائل السوق والانفتاح على العالم حصرًا. مع ذلك، فالصين اختبرت خلال العقود الثلاثة للماوية (١٩٥٠ ــ ١٩٨٠) نسب نموّ استثنائية بحجم ضعف ما عرفته الهند أو أي قوة رئيسية أخرى في العالم الثالث. وفي جميع الأحوال، كان الأداء خلال العقدَين الأخيرَين من القرن الماضي أروع من اي وقت مضى. ولم تكن تلك الانجازات لتتحقق من دون الأسس الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي أُرسيَت خلال الحقبة الماضية.

لكنّ أنّ الثالوث الامبريالي يتأسّس على طرق جديدة مذكورة أعلاه بدلًا من احتكار الصناعة كما كانت الحال سابقًا. وتُستخدَم الامتيازات الجديدة للمراكز الامبريالية لتعميق الاستقطاب في العالم، لا للتخفيف من حدّته. بهذا المعنى، فإنّ توصيف تلك الدول على أنّها «دول صاعدة» مهزلة ايديولوجية؛ إنّها دول، بعيدًا عن «اللحاق بالركب»، تبني الرأسمالية الطرفية المستقبلية. والصين ليست استثناءً؛ لقد أصبحت بالفعل مصنع مقاولات فرعية لمصلحة رأس مال المراكز الامبريالية واستهلاكها.

«السوق الاشتراكية»: خطوة نحو الانتقال الاشتراكي أم طريق مختصرة نحو الرأسمالية؟

اختارت الطبقة الصينية الحاكمة مسار الرأسمالية و«السوق الاشتراكية» كطريق مختصرة للإدخال التدريجي للبنى والمؤسسات الأساسية للرأسمالية، مع التقليل من آلام ومطبّات الانتقال نحو الرأسمالية. فأيّ احتمالات تقدّم هذه الوجهة لحاضر الصين؟ انها تقدّم التحالفات بين سلطات الدولة والطبقة الجديدة لرأسماليّي القطاع الخاص العريض، وتقدّم إثراء مزارعي الارياف من خلال الفرص التي توفرها لهم الأسواق الحضَرية وتقدّم التسوع المطرد الطبقات الوسطى. لكنّ هذه الكتلة المهيمنة تستثني الغالبية العظمى من العمال والفلاحين. أي أنّ مقارنة مع التحالفات التاريخية التي اقامتها بعض البرجوازيات الأوروبية مع الحركة الفلاحية (ضد الطبقة العاملة) مقارنة مصطنَعة هنا، والامر ذاته ينسحب على التسوية التاريخية بين رأس المال والعمل المرتبط بالحالة الديمقراطية الاجتماعية.

إنّ نموذج التطوُّر الرأسمالي الساري المفعول، مبنيّ على إعطاء الأولوية للصادرات التي يقوم عليها تطعيم نموّ الاستهلاك لدى الطبقات الوسطى. هذا هو بامتياز نموذج التراكم الطرفي. إنّ تتبُّع هذا المسار يعني ما نحن شهود عليه: استغلالًا بربريًا للعمال، يذكّر بأوضاع القرن التاسع عشر، وكارثة بيئية. وفي ما يشبه نقيض ذلك، فإنّ نموذجًا حقيقيًا من التنمية يقوم بالضرورة على إعطاء الأولوية لتوسيع السوق المحلية لمصلحة الطبقات العاملة، مدعَّمًا بتنمية إنتاج السلع الرأسمالية. يتواجه هذان المساران داخل الصراعات السياسية والاجتماعية في الصين. كما يسبّب ضعف الكتلة المهيمنة الموالية للرأسمالية في ذلك البلد مشكلة صعبة تتلخص بالإدارة السياسية للنظام.

حداثة صينية بلا عقدة هوية

«الصين دولة فقيرة حيث يمكن رؤية بعض الفقراء فحسب». تُطعِم الصين ٢٢ في المئة من سكان العالم، رغم أنّها تمتلك فقط ٦ في المئة من أراضي الكرة الأرضية الصالحة للزراعة. هنا تكمن الأعجوبة الحقيقية. إنّ عزو المصدر الأساسي لتلك الأعجوبة، إلى تاريخ الحضارة الصينية العريق أمر غير سليم، لأنّه رغم حقيقة امتلاك الصين تطورًا تكنولوجيًا أكثر تقدمًا من كل باقي البقاع الشاسعة للعالم الى حين قيام الثورة الصناعية في الصين، إلا أنّ وضعها تدهور لقرن ونصف القرن، وهو ما تجسّد بمشهد الفقر على النطاق الواسع مقارنةً مع نسبته في الدول الطرفية المدمَّرة بفعل التوسع الامبريالي، كالهند وغيرها. تدين الصين باسترداد عافيتها لثورتها. أودّ أن أضع البرازيل، وهي «دولة ثريّة حيث لا ترى إلا فقراء»، في خانة السلسلة الأخرى من الأوضاع التي يتسبب فيها التوسع الرأسمالي العالمي.

لقد أدخلت الثورة الصينية الحداثة إلى النظام الاجتماعي للبلاد. مجتمع الصين هو بالفعل وحقًا مجتمع حديث، وهو ما يمكن رؤيته في جميع أشكال سلوك مواطنيها. أقصد بمصطلح حداثة، ذلك الشرخ التاريخي والثقافي الذي يعتبر الشعب بموجبه مسؤولًا عن تاريخه. تشرح هذه الحداثة لماذا لا تجد في الصين حالة العصبيات شبه الثقافية التي ابتلي فيها الناس في أماكن أخرى، كالدول الاسلامية مثلًا، والهندوسية في الهند، وفي جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا. يعيش الصينيون حاضرهم، ولا يغذّون أنفسهم بمثل هذا النوع من الحنين لماضٍ أسطوري أُعيد تركيبه ليميّز روح العصر الخاص بهم. لا يعاني الصينيون من «عقدة هوية». إنّ الحداثة التي تعيش الصين فيها هي ثروة أساسية لمستقبلها. الثورة والغوص في الحداثة حولتا الشعب الصيني أكثر من أيّ شعب آخر من شعوب العالم الثالث اليوم. إنّ الطبقات الشعبية في الصين تتميّز بالثقة بالنفس؛ وهم يدركون كيف يقاتلون ويعرفون أنّ للنضالات نتيجة في النهاية. أصبحت المساواة قيمة مركزية للايديولوجيا المشتركة. قتال الشعب الصيني في النضالات الاجتماعية، مميّز، وهو ما يسري على قتاليّة العمال الصينيين في النضالات الاجتماعية. تدرك السلطات هذا الأمر، وهي تعمل بشكل متزامن على القمع وتفادي بلورة جبهات نضال تتخطى الأفق المحلية (من خلال منع التنظيم المستقل للطبقات العمالية) وتخفف من المخاطر من خلال فنّ «الحوار» والتحكُّم.

ولكن لا يزال مستقبل الصين غير مضمون. المعركة من أجل الاشتراكية في هذا الصدد لم تنتصر بعد، لكنّها لم تخسر أيضًا. برأيي، ومثلما حاولتُ أن أوضحه أعلاه، لن تنتهي هذه المعركة بخسارة حتى يأتي اليوم الذي يعلن فيه النظام الصيني رفضه حق ملكية الأرض لجميع الفلاحين. إلى ذلك الحين، يمكن للنضالات السياسية والاجتماعية أن تؤثّر على مسيرة التطوُّر. توجِّه الطبقة السياسية الحاكمة جهودها للسيطرة على هذه النضالات من خلال تثبيت ديكتاتوريتها البيروقراطية حصرًا. كما أنّ أجزاء من هذه الطبقة ترى ضرورة إنهاء صعود هذه البرجوازية بالطرق نفسها. لم تقرِّر البرجوازية والطبقات الوسطى ككلّ بعد أن تحارب من أجل ديمقراطية «على النمط الأميركي». باستثناء قلّة من الايديولوجيّين، توافق هذه الطبقات بسهولة على نمط تسلُّطي «على الطريقة الآسيوية»، على اعتبار أنّ ذلك يتيح انتشار شهواتهم الاستهلاكية. تحارب الطبقات الشعبية على أرضية الدفاع عن حقوقها الاقتصادية والاجتماعية. فهل ستتمكن من توحيد نضالاتها، وابتكار أشكال تنظيمية مناسبة، وإنتاج مقاربة بديلة ايجابية وتعريف مضامين ووسائل ديمقراطيةٍ قادرة على خدمة هذه المقاربة؟

الخيار البديل الوحيد القادر على ضمان استقرار تطور البلاد، يقوم حصرًا على إعطاء الأولوية لتوسيع السوق المحلية، على أسس العلاقات الاجتماعية المقررة بحيث تخفّف من انعدام المساواة على المستويَين الاجتماعي والاقليمي، وبالتالي العلاقات الخارجة عن تلك المنطقية منها، من أجل تحقيق هذه الأولوية المساواتية.

الهند... قوة عظمى؟

تُصنَّف الهند في خانة الدول الأسرع صعودًا في القرن الواحد والعشرين، وهي التي تجاوز عدد سكانها المليار نسمة، مع نمو اقتصادي أفضل من المعدل العالمي.

تنبع أسباب شكوكي حيال هذه الدولة من الأهمية الحاسمة لواقع أنّ استقلال الهند لم يتناول التحدّيات الرئيسية للتحويل الجذري للبنى الموروثة التي كوّنها الاستعمار الرأسمالي. لقد حوّل الاستعمار البريطاني بنحو أساسي الهند إلى بلد زراعي رأسمالي تابِع. لهذه الغاية، أنشأ البريطانيون، بشكل منهجي، أشكالًا من الملكية الخاصّة للأراضي الزراعية استبعدت غالبية الفلاحين. وجد غالبية الفلاحين أنه تمّ تحويلهم إلى فقراء محرومين عمليًا من أراضيهم. إنّ الثمن الذي دُفع مقابل السير في هذه «المقاربة الرأسمالية» في التنمية الزراعية، كان عبارة عن ظروف الإفقار المدقع مستبعدة التصديق التي تعيش فيها غالبية الشعب الهندي. كما أنّ الهند المستقلة خفضت وعودها المقطوعة للفلاحين، بحيث أصبحت هذه الأخيرة أشبه بإصلاح زراعي بلا تأثير حقيقي. لقد ترجم هذا الخيار نفسه بنحو كامل من خلال «الثورة الخضراء» التي عززت من وضعية الطبقات الحاكمة المهيمنة. ولكن في ولايتي البنغال الغربية وكيرالا، ذهب الشيوعيون أبعد قليلًا ــ بقدر ما كان الدستور الهندي يسمح ــ في تحقيق نتائج ايجابية على الصعد الاجتماعية والاقتصادية التي لم تكن هامشية، أضف أنّ الدعم الشعبي لأنصار الاصلاحات قد تعزّز.

في الهند، ازدادت العوائق الموروثة التي شكّلها الاستعمار أمام التطوُّر سوءًا بسبب ثبات نظام النبذ. تؤلّف «المراتب الدونية» (المعروفة اليوم بـ«الداليت») والسكان القبليون في الهند ربع سكان البلاد (نحو ٢٥٠ مليون شخص). هؤلاء محرومون من جميع الحقوق، خصوصًا من حق ملكية الأرض، وهم مجموعة من «أنصاف العبيد» وعبارة عن ملكية جماعية «للآخرين». يعزّز استمرار هذا الوضع الأفكار والتصرفات الرجعية لـ«الآخرين»، ويفيد في ممارسة السلطة من قبل الأقلية التي تتمتع بالامتيازات، ولفائدتها الحصرية، وهو ما يساهم في إبطال مفعول أي حركة احتجاجية من قبل الغالبية المستغَلّة، العالقة بين الأقلية المستغِلّة وشعوب «الداليت» المقموعة.

في الهند المستقلة، طبّقت الحكومات المتعاقبة لحزب المؤتمر برنامجًا وطنيًا كان نموذجيًا في حينه، بتأثير انتصارات حركات التحرر الوطنية في آسيا وأفريقيا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومنذ البداية، نفذت القوة الاستعمارية سياسة منهجية لإحباط تحويل الهند الى قوة صناعية ــ وكانت متقدمة فيه هذا المجال آنذاك ــ وذلك لمصلحة بريطانيا التي كانت في طور التصنيع. أَعطت الهند المستقلّة الأولوية القصوى لتصنيع البلاد. هذا المسار، المصمَّم بمنهجية عالية، على الأقل في الفترة الأولى لتنفيذ برامج نهرو، ربط العاصمة الهندية الصناعية الخاصة بشركات القطاع العام، بهدف سدّ الفجوة في النظام الانتاجي الموروث عن الاستعمار، من خلال تسريع النمو الاقتصادي وتعزيز الصناعات الرئيسية.

هذه الاختلافات بين النموذج الهندي الوطني، وذلك الذي اعتُمد في الصين الشيوعية، تظهر في الفوارق الواضحة من حيث النتائج بين البلدين. ظلّت نسب نمو الانتاج الصناعي والزراعي في الهند بعيدة جدًا عن تلك المسجَّلة في الصين. أكثر من ذلك، فيما كان النمو في الصين يترافق مع تطور لافت في مستويات معيشة الطبقات الشعبية، فإنّ ذلك لم يحصل في الهند حيث أفاد النمو الطبقات الوسطى حصرًا (التي كانت أقلية، ورغم ذلك فإنّ توسُّعها تسارع إلى درجة وصلت معه نسبتها الى مجموع السكان خلال ٣٠ عامًا الى ما بين ٥ و١٥ في المئة). ظلّ فقر الطبقات الشعبية هو المهيمن من دون تغيير، بل إنّه ازداد سوءًا قليلًا.

بخلاف الصين، الهند بلد متعدِّد القوميات، والاستعمار البريطاني سعى إلى فرض قوته تحديدًا من خلال اللعب على تنوُّع الشعوب (والولايات) في الهند. بالنسبة إلى أصول حركة التحرر الوطني نلقى نجاحًا لا نظير له في أي مكان آخر في العالم الاستعماري. تمكّنت هذه الحركة حاليًا من توحيد الأمم العشر الرئيسية جاعلةً البلد «أمةً» واحدة. كل ذلك بغض النظر عن صفات هذه الأمة (واسمها «بهارات» في اللغة الهندية، من هنا مفهوم الـ«بهاراتفا» الذي يمكن ترجمته «تهنيد»)، «القابلة للمساءلة» من وجهة نظر «علمية». كانت الهند حقًا أمة منذ ذلك الحين، وهو واقع ملزم لجميع مكوناتها. والى يومنا هذا، لا يزال الشعور بالانتماء معًا يسمو على الخصائص المحلية (كاللغة من بين خصائص أخرى). إنّ حركة التحرر الوطني ابتليت في هذا الشأن بفشل واحد فقط، هو رغبتها بجعل المسلمين ينخرطون في تأسيس الأمة الهندية الجديدة. هنا، تمكّن البريطانيون من هزيمة البرنامج الهندي الوطني وفرض خلق دولتين اصطناعيتين هما باكستان وبنغلادش. ولا يزال الواقع يذكّر بأنّ المسلمين الذين ظلّوا في الهند (١٥ في المئة من مجمل سكان البلاد) حتى ولو بدوا أحيانًا كأنّهم «يطرحون مشكلة» (مشكلة يستغلها الطرف الهندوسي القومي الثقافي، حتى عندما لا يثيرون الموضوع)، فإنّهم في الواقع مندمجون بشكل صحيح في جميع أشكال الحياة الاجتماعية والسياسية. إنّ الدولة الهندية العلمانية، التي فشلت حتى الموجة الهندوسية القومية الثقافية في وضعها موضع شك، هي مصدر هذا النجاح.

لا شك أنّه يمكن للمرء أن يصنّف هذا التقييم بأنّه ايجابي على نطاق واسع. إنّ قمع مطالب «السيخ» (التي أودت بحياة إنديرا غاندي) بالاضافة إلى مستنقع كشمير، يُظهران محدودية قدرة النظام في إدارة «المسألة الوطنية» بشكل صحيح (حتى وإن كانوا يصنفونها بشكل مختلف). لكن يبقى صحيحًا أنّه بالنظر إلى جميع الأمم العظيمة للشمال «الهندو ــ آري» والجنوب «الدرافيدي»، ظلت سلطات العاصمة نيودلهي قادرة على إيجاد صيغ ووصفات لإدارة الازمات على نحو صحيح، ومن ثمّ إبقاء الوحدة الفدرالية (التي هي في الواقع مركزية أكثر بكثير مما ينص عليه الدستور) واقعًا صلبًا.

تكشف تجربة الهند الحديث عن السموّ الخارج عن أي مساءلة للديمقراطية، وعن عبثية الحجج الداعمة للإدارة التسلطية التي غالبًا ما يدّعي البعض أنّها أكثر فاعلية. يبقى ذلك صحيحًا رغم المحدوديات الجلية والمحتوى الطبقي للديمقراطية البرجوازية بشكل عام، وواقعها في التجربة الهندية. ويُحتسَب للرصيد الايجابي لحركة التحرر الوطني (حزب المؤتمر والشيوعيين) أنّ هذا الخيار كان على الأرجح الطريقة الفعالة الوحيدة لإدارة المصالح الاجتماعية والاقليمية المتعدّدة (حتى وإن كانت محصورة بمصالح الطبقات التي تتمتع بالامتيازات) وللظفر بالدعم الشعبي لجعل برنامج الأقلية كتلة مهيمنة.

إنّ تآكُل البرنامج الوطني الشعبوي كان أمرًا حتميًا في الهند مثلما هو الوضع في أي مكان آخر بسبب قيوده والتناقضات الكامنة فيه. وقد أدّى هذا العامِل ونزع الشرعية عن السلطة المترافق معه، إلى إتاحة صعود هجمة القوى الظلامية التي تجسّدها حركة «الهندوتفا»، التي تعني إعطاء الأولوية للانتماء إلى الديانة الهندوسية التي يتم تعريفها بما هي «الهوية الحقيقية» لشعوب الهند، بشكل مناقض لمفهوم «الـبهارتفا» التي تحيل إلى الأمة. بالطبع، لا تطرح الحركة الهندوسية (بشكلها القومي المتطرف) التحدّي للشرعية الاستعمارية التي تتعلق بملكية الأرض أو لاحترام هرمية نظام النبذ والتراتب الطبقي بنحو خاص. في هذا الصدد، تخدم الأوهام الظلامية بنحو مثالي مصالح القوى الكومبرادورية والامبريالية. إنّ «الخصوصيات» التي يتم فيها تعبئة خطابها شبه القومي وحتى شبه المعادي للامبريالية، تافهة كليًا. إنّها تغذّي التجديد لممارسة النزعة العصبية الجمعية (وهي هنا موجهة ضد الاسلام والمسلمين)، وهي العصبية التي استخدمتها القوة الاستعمارية في عهدها لإحباط التطلعات التي كانت تعمل لبناء حركة تحرر وطني علمانية وديمقراطية وحديثة.

بجميع الأحوال، ترافق هذا التراجُع مع تجذير متجدِّد للنضالات الاجتماعية. ويمكن ملاحظة أدلّة على ذلك في هجمات المجموعات الشيوعية الهندية، وفي الدخول المفاجئ لفئة «الداليت» في الحياة السياسية والنضال الاجتماعي. كذلك يمكن العثور على أدلّة إضافية تتجسد بالالتزام المعلَن من جميع الطبقات الوسطى بالديمقراطية وحتى بالعلمانية. ويفسّر ذلك لماذا لم يكن انهيار الجزء الأكبر من الشرعية التي تكاد تكون حصرية لحزب «المؤتمر»، كافيًا لتقديم «نصر ناجز» لليمين. ويفرض بناء بديل تقدُّمي اجتماعي بالضرورة إعطاء أجوبة مناسبة لأربع مجموعات من التحديات.

التحدّي الأول: إيجاد حل جذري لمشكلة الفلاحين الهنود، يكون مبنيًا على الاعتراف بحق جميع الفلاحين بالوصول إلى أرضهم وامتلاكها في ظل أفضل شروط المساواة. وهذا بدوره يعني إلغاء النظام الطبقي ــ الطائفي والايديولوجيا التي تضفي الشرعية عليه. بعبارات أخرى، على الهند السير قدمًا نحو ثورة راديكاليتها شبيهة براديكالية الثورة الصينية.

التحدّي الثاني: خلق جبهة عمالية موحَّدة تضمّ فئات من الطبقات العمالية المستقرة نسبيًا وتلك غير المستقرة. هذا التحدّي مشترك لجميع بلدان العالم الحديث، وتحديدًا دول أطراف النظام التي تتميّز بالآثار المدمِّرة للإفقار الجديد (البطالة المكثفة وفقدان الأمان الوظيفي وارتفاع منسوب الظروف البائسة «غير الرسمية»).

التحدّي الثالث: الحفاظ على وحدة شبه القارة الهندية، وتجديد أشكال التعاون بين مختلف الشعوب بحيث يتمّ تأسيس الأمة الهندية على أسس ديمقراطية محصَّنة. كل ذلك بهدف هزم استراتيجيات الامبريالية التي تسعى، مثلما هي الحال دائمًا، وأبعد من خياراتها التكتيكية، إلى تحقيق هدفها بفرط عقد «الدول العظيمة» القادرة أكثر من الدول متناهية الصغر على الصمود في وجه الاعتداءات الامبريالية.

التحدّي الرابع: توجيه الخيارات السياسية الدولية إلى القضية المركزية التي تتجسد بإعادة بناء «جبهة شعوب الجنوب» (تضامن شعوب آسيا وأفريقيا أولًا وقبل أي شيء آخر)، في ظل ظروف لم تعد طبعًا مشابهة لتلك التي كانت سائدة عشية تأسيس حركة عدم الانحياز في «زمن باندونغ» (١٩٥٥ ــ ١٩٧٩)، وإعطاء الأولوية القصوى لهدف عرقلة البرنامج الأميركي بالسيطرة العسكرية على الكرة الأرضية، وإحباط المناورات السياسية التي تقوم بها واشنطن الهادفة إلى تفادي أي تقارُب جدّي بين الهند والصين وروسيا.

إنّ القوى السياسية والاجتماعية التي تمنع الهند من التحرُّك باتجاه تحقيق الأهداف المذكورة أعلاه، لا يمكن الاستهانة بها. تشكّل هذه القوى «كتلة مهيمنة» تمثّل خِمس السكان ــ تتعدى البرجوازيات الصناعية الكبرى والتجارية والمالية، وكبار ملّاكي الأرض، لتشمل السواد الأعظم من الفلاحين الميسورين والطبقات الوسطى، والمراتب العليا من البيروقراطية والفئات التكنوقراطية. هؤلاء الهنود البالغ عددهم ٢٠٠ مليون، هم المستفيدون الحصريون من البرنامج الوطني المطبَّق الى يومنا هذا. لا شكّ أنه في الزمن الحالي للانتصار النيوليبرالي، سوف تنهار هذه الكتلة تحت تأثير أسباب عديدة، منها نهاية الحراك الاجتماعي التصاعدي للطبقات الوسطى ــ الدنيا المهدَّدة بخسارة أمانها الوظيفي وبالإفقار حتى إن لم يكن بالفقر الصريح. تتيح هذه الوضعية لليسار فرصة تطوير تكتيكاته، لكي يضعف، إن استطاع، تماسُك هذه القوى الرجعية عمومًا، ومقاربتها الكومبرادورية تحديدًا، وهي محرِّك الهيمنة الامبريالية المعولَمة. ورغم ذلك، توفّر هذه الوضعية أيضًا الفرص لليمين الهندوسي في حال فشل اليسار في تحقيق المهمة.

بالتالي، فإنّ الأقلية التي تؤلّف هذه الكتلة، باتت في وضع يستبعد إعادة استنساخ الهند على قاعدة التسوية التاريخية القائمة على رأس المال/العمل، وهي التسوية التي نشأت على أساسها الاشتراكية الديمقراطية للدول الغربية المتطوّرة. إنّ إدارة التماسُك ما بين الكتلة المهيمنة من خلال الديمقراطية السياسية، مثلما هو حاصل في الهند، لا يقلّل من شأن بُعدها الطبقي الرجعي. على العكس من ذلك، فذلك هو الطريق الأكثر فاعلية من أجل إرساء الديمقراطية السياسية. هذه الكتلة المهيمنة «مندمجة» بشكل فعلي وحقيقي في منطق العولمة الرأسمالية المسيطرة، وحتى الآن، لم تحاول أي من القوى السياسية العديدة أن تتحدّاها. من هنا، فإنّ أسباب ذلك واضحة بما أن «المشروع الوطني الهندي» لا يزال ضعيفًا وسريع العطب وعاجزًا عن إيصال هدفه الخاص المعلَن: تحويل الهند إلى «قوة رأسمالية حديثة وكبيرة».

تؤدّي مكامن الضعف تلك إلى السلوك الانتهازي المتكرّر للطبقة السياسية الهندية، يتم تبريره غالبًا بشكل مختصر بحجج «الواقعية السياسية». وتظهر الطبقة السياسية الهندية حتى الآن عاجزة عن مقاربة وتطبيق الهجوم المضاد الضروري، وذلك بفعل مواجهتها من قبل المشروع الأميركي للسيطرة (العسكرية) الكلية على الكرة الأرضية، وبسبب تماسُك المثلث الامبريالي الجماعي (الولايات المتحدة وأوروبا واليابان)، رغم غضب بعض شركائه. ويترتب على ذلك إنشاء جبهة تضم الهند وروسيا والصين، وجميع هذه الدول مهدَّدة بدرجات متساوية بمخاطر الكومبرادور الناتج من توسع الامبريالية الجماعية الجديدة. ولا يقدّر حكام الهند هذه المقاربة بالشكل الصحيح، ويسري هذا الأمر حتى على هؤلاء المرتبطين بالبرامج الحكومية الأكثر إصرارًا على تقويض اليمين الهندوسي الكومبرادوري. يواصل هؤلاء إعطاء الأولوية لـ«نزاعاتهم» مع الصين، التي يُنظَر إليها على أنّها خصم عسكري محتمَل ومنافس مالي خطير في أسواق الرأسمالية المعولَمة. حتى أنّ هؤلاء يؤمنون بأنّهم قد يكونون قادرين على «استخدام» تقارُب ممكن مع الولايات المتحدة من أجل التحوُّل إلى حليفها الأساسي في آسيا.

البديل: نحو موجة جديدة من مبادرات الجنوب المستقلّة

على المصطلحات التي يجب أن يُحلَّل التحدّي على أساسها، أن تأخذ بعين الاعتبار ثلاث وجهات للواقع: الشعوب والأمم والدول.

يمكن بناء جبهة قيادية مكوَّنة من طبقات متعددة مهيمَن عليها ومستغَلّة، هي جبهة بديلة لتلك التي تسمح بإعادة إنتاج نظام الهيمنة الامبريالية الرأسمالية، الذي يطبَّق عن طريق الجبهة الكومبرادورية المهيمنة والدولة المكرَّسة لخدمتها.

نشير بمصطلح «الأمم» إلى واقع أنّ الهيمنة الامبريالية تلغي كرامة «الأمم» التي شكّلها تاريخ مجتمعات الأطراف. إنها تدمّر بنحو منهجي المكوّنات التي تعطي الأمم أصالتها، لصالح «تغريب» مبتذَل. هكذا يصبح تحرير الشعوب مرتبطًا بالأمم التي يكوّنونها. يجب أن يُفهَم شعار «الأمم تريد التحرير» بمعنى متمِّم لنضال الشعوب وليس بمعنى مواجِه له. التحرير المطروح لا يتعلّق بإعادة ترميم الماضي ــ اي وهْم العودة إلى الجذور القومية الثقافية ــ بل باختراع المستقبل انطلاقًا من التحوُّل الجذري للإرث التاريخي بدلا من استيراد مصطنَع لـ«حداثة» مزوَّرة.

تقوم مرجعية الدولة على أسس الحاجة إلى الاعتراف باستقلالية قوّتها في علاقاتها مع الجبهة المهيمنة التي تؤسس عليها شرعيتها، حتى ولو كانت هذه الجبهة شعبية ووطنية. ليس لأنّه يجب حماية التقدم الشعبي والوطني من الاعتداء الدائم للامبريالية التي لا تزال مهيمنة على العالم فحسب، لكن ايضًا ــ وربما تحديدًا ــ لأنّ «إنجاز التقدم في إطار المرحلة الانتقالية الطويلة» يفرض «تطوير القوى المنتجة»، للاضطلاع بما تُحرَم دول الأطراف من فعله على يد الامبريالية: ان تشكل محورًا لإرث الاستقطاب العالمي غير المنفصل عن التوسع الكوني للرأسمالية التاريخية. ليس المشروع مرادفًا لـ«اللحاق» عبر تقليد نماذج المراكز الرأسمالية. اللحاق بركب الرأسمالية مستحيل، إضافة إلى أنّه غير مرغوب به. يحتاج هذا المشروع إلى مقاربة مختلفة لثنائي «التحديث ــ التصنيع» على أساس المشاركة الفعالة للطبقات الشعبية كشرط للتمكُّن من تطبيقه، ولتحقيق الفائدة الفورية لهذه الطبقات في كل مرحلة من مراحل التقدُّم.

«الدول تريد الاستقلال». يجب فهم هذا الشعار على أنّه يحمل هدفين: الاستقلال (الشكل الأقصى للحكم الذاتي) مع احترام الطبقات العاملة والاستقلال عن ضغوط النظام الرأسمالي العالمي. البرجوازية (أو على نطاق أوسع الطبقة الحاكمة في المناصب القيادية للدولة، التي يأخذها طموحها دائمًا الى طريق التطور البرجوازي) دائمًا ما تكون قومية وكومبرادورية. إن سمحت لها الظروف بتوسيع درجة استقلالها إزاء الامبريالية المهيمنة، فهي تختار طريق «المصالح القومية». لكن إن لم تسمح لها الظروف بذلك، فإنها تختار طريق الخضوع «الكومبرادوري» لما تمليه الامبريالية. لا تزال «الطبقة الجديدة الحاكمة» (أو «المجموعة القيادية») في وضع طموح في هذا المشروع، حتى حين تكون مدعومة من كتلة شعبية، وذلك بسبب الميل «البرجوازي» الذي يحرّكها على الأقل جزئيًا.

إنّ الربط الصحيح لهذه الحالات الثلاث للواقع، يحدِّد نجاح التطور على الطريق الطويل للتحرير. من الممكن تعزيز تطوُّر الشعب أكثر، وتحرير الأمة وإنجاز قوة الدولة. وإذا، بعكس هذا السيناريو، سُمح للتناقض الموجود بين الارادة الشعبية والدولة بالنمو، فقد تُحبَط الانجازات المطروحة. ذلك أنّ لا الشعب ولا الأمة ولا دول الأطراف يملك مكانةً مريحة داخل النظام الامبريالي، بما أن «الجنوب» هو «منطقة العواصف» للانتفاضات والثورات الدائمة. كما أنّ التاريخ الحديث هو أساسًا ذلك الذي صنعته الثورات والمبادرات المستقلة لشعوب الجنوب وأممه ودوله (بمعنى استقلالها عن الاتجاهات المهيمنة من خلال النظام الرأسمالي الامبريالي القائم). تلك المبادرات ــ رغم محدودياتها وتناقضاتها ــ هي التي صاغت التحوُّلات الأكثر جذرية في العالم المعاصِر، أكثر بكثير من تقدم القوى المنتجة والتصحيحات الاجتماعية السهلة نسبيًا التي رافقت مراكز النظام.

إنّ الانحدار الطويل للرأسمالية/الامبريالية البالية، والانتقال الطويل نحو الاشتراكية، يشكّلان قطبين متناقضين للتحدّي. الانحدار نفسه لا ينتج تقدُّمًا على الطريق نحو الاشتراكية؛ على العكس من ذلك، فإنّ منطق الأجوبة التي يقدّمها رأس المال لهذا التحدّي، يؤدي إلى الانزلاق في منحدر البربرية، أي نحو «نظام تمييز عنصري على صعيد عالمي». رغم ذلك، يخلق هذا الانحدار بنحو متزامن شروط الالتزام بسلوك الطريق نحو الانتقال الطويل إلى الاشتراكية.

كيف يتشابك هذان التاريخان المحتملان؟ «العالم الآخر» الجاري بناؤه ذو حدّين دائمًا؛ هو يحمل في داخله الأسوأ والأفضل، وكلاهما ممكنان (ليس هناك قوانين للتاريخ قبل أن تقع الأحداث). لقد وُضعَت موضع التنفيذ موجة أولى من مبادرات شعوب وأمم ودول الأطراف في القرن العشرين حتى عام ١٩٨٠. ونحن نشهد حاليًا موجة ثانية من هذه المبادرات. بعض البلدان «الصاعدة» وغيرها، شأنها شأن شعوبها، تحارب ضد التكتيكات التي يستخدمها الثالوث الامبريالي الجماعي لتأبيد حكمه. لقد أُحبط التدخل العسكري لواشنطن وحلفائها التابعين في حلف شمالي الأطلسي. النظام المالي المعولَم ينهار، والنظم الاقليمية المستقلة ذاتيًا تأخذ مكان النظام المالي المعولَم. كما أنّ الاحتكارات التكنولوجية لأقطاب الاحتكار تعرَّضت للانتكاس. واستعادة السيطرة على الموارد الطبيعية موضوعة على جدول الأعمال. التنظيمات الشعبية القاعدية وأحزاب اليسار الجذري انتصرت بالفعل في بعض الحالات على المشاريع النيوليبرالية، أو أنّها على الطريق المؤدية إلى هذا الانتصار. هذه المبادرات، المعادية للامبريالية أساسًا وجوهريًا، تحمل طاقةً تسمح لها بالانطلاق في الطريق الطويل نحو الانتقال إلى الاشتراكية.

العدد الثاني - صيف ٢٠١٢

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.