العدد الأول - شتاء / ربيع ٢٠١٢

أسامة بن لادن لا يقيم هنا

النسخة الورقية

قد تكون الصورة اشد وطأة عندما لا نراها وانما نتخيلها وهي تنعكس على الذين يشاهدونها.

لنتوقف لأخذ مثال زاخم لواحدة من الصور الاكثر ايقونية لما صار يسمّى «صورة غرفة العمليات» في «البيت الابيض» حيث الرئيس أوباما وكبار مساعديه المدنيين والعسكريين، الذين يشكلون فريق الامن الوطني تبعه، تجمعوا لمشاهدة «عملية جيرونيمو» وهي تتوالى فصولا في بث حيّ من «أبوت آباد» (باكستان) حيث قوة خاصة من فرقة SEALS «سيلز» التابعة للبحرية الاميركية تهاجم المجمّع الذي جرى تعيينه على انه موقع اسامة بن لادن وحيث سوف تتغلّب، في اربعين دقيقة تقريبا، على الرجل فتغتاله/تنفذ فيه حكم الاعدام وتسرق جثمانه الذي قيل انه غُسل على الطريق الاسلامية والقي به في بحر مجهول.1

لم يمض وقت طويل على توزيع تلك الصورة بواسطة «البيت الابيض» حتى كانت محطة «سي. إن. إن» تعرض مشهدا لـ«صورة غرفة العمليات» أدى الى تكريسها، ليس فقط بسبب اتساع عدد مشاهديها على شبكات الاتصال الاجتماعية وانما ايضا لأن المؤرخين والبحاثة الآخرين قرأوا الصورة على انها دلالة على تغيّرات استثنائية في «البيت الابيض» وبالتالي في المجتمع الاميركي من حيث العِرق والجندر ومسائل اخرى متعلقة بهذا وذاك.

«للتوّ، ارتقت الصورة الى مصاف الصور الكلاسيكية. ضربت الارقامَ القياسية لعدد المشاهدين على «فليكر». هي صورة فتّانة توحي قدر ما تكشف... وقد ركّز معظم المعلقين على طابعها التاريخي. أوباما يحدّق بالشاشة متجهم الوجه، وزيرة الخارجية هيلاري كلنتون تكمّ فمها لكبت ردة فعلها. اننا في البؤرة المركزية لجبروت الولايات المتحدة العسكرية وهي تطارد ألدّ اعدائها وتقضي عليه. ولكن إذ نلقي نظرة أعمق على الصورة، تصير صورة تاريخية بطريقة اكثر دقة. انها لقطة تصوّر مدى التغيّر الذي طرأ على مواقف هذه الامة تجاه العِرق والنساء والزهو الرئاسي، بشهادة العديد من البحاثة والمؤرخين... فخلال الفترة الاطول من التاريخ الاميركي، كان ينظَر الى الرجل الاسود على انه خطر يتهدد سلامة اميركا، فهو الغاضب وقاطع الطريق، اي الرجل الذي عليك ان تعبر الى الرصيف الآخر من الطريق لتتجنّبه... ولكن في صورة «غرفة العمليات»... تلقى الرجل الاسود بما هو حامي اميركا». (المرجع ذاته)

في هذه القراءة، يقودنا تعليق السي. إن. إن للنظر الى ما ينظر اليه الجالسون في غرفة عمليات «البيت الابيض»، ويحفزنا للنظر الى الناظرين، الى عِرقهم وجِنسهم وتنوعهم، بما هي علامات على سياسات تقدمية تجري في اطار التاريخ الاميركي، وتنم عن درجة التقدم التي حققها الرجل الاسود والنساء البيض في ارتقائهم الى تلك الغرفة وبالتالي عن مستوى التسامح التي بلغه المجتمع الاميركي. فما يقوم به هؤلاء الرجال والنساء هناك (مشاهدة بث حي لتنفيذ عملية اغتيال، بحضور القائد العام للقوات المسلحة الاميركية ليعطي التعليمات اللحظة بلحظتها اذا ما دعت الحاجة) أقل اهمية بكثير من حقيقة وجودهم هناك. سيّان عند معلّق سي. ان. ان. اكانوا يشاهدون مباراة كرة قدم او مسلسلا تلفزيونيا. فذلك لن يغيّر في الامر شيئا. المهم هو ما نشاهده نحن، لا ما يشاهدونه هم. وإذ نساق لمشاهدة المشاهِدين، يجري حرف تركيزنا ليس فقط عن مشاهدة ما يشاهدون، وانما نُمنَع استباقا ايضا مِن تخيّل ما يشاهدونه وما يجذب تحديقهم. وهكذا تلتقي «صورة غرفة العمليات» مع تعليق السي. إن. إن. لاداء وظيفة الشِرك والطُعم لصرف نظرتنا عن نظرتهم، فتنحرف أعيننا بحيث تنظر الى صورة مسطحة بدلا من النظر الى التجويف المقعّر للذين تصورّهم الصورة. فما من واحد من الحاضرين في الصورة يتطلع الى آلة التصوير، وهو ما يقوم به الناس عادة عندما يأخذ أحدهم لهم لقطة. هكذا كانت عدسة مصوّر «البيت الابيض» حجابا، وستارا، وتمويها يؤدي العكس تماما لما يفترض بآلة التصوير ان تؤديه: أن تُظهِر وتكشف وتعرُض. بالعكس، فآلة التصوير هنا تعصب أعيننا. ان نظامها البصري هو نظام اغتصاب.

 

غير ان لهذه الصورة «كعب أخيل،» إذا نظر اليها المرء بعناية، دون ان تحرف نظره نيةُ المصوّر، وانما ظل منجذبا الى نيّة الصورة. ومن البديهي ان امرأ كهذا لن تلهيه سياسات العِرق والجندر في الولايات المتحدة الاميركية. في مقالة مختصرة للمدوّنه والصحفية الايرانية، فرح ناز امرالله، نلقى مثل هذه القراءة بالتحديد، قراءة تسمح بها مقارنة «صورة غرفة العمليات» بفيلم «شيرين» لعباس كياروستامي (٢٠٠٨) حيث لا نشاهد فيلما وانما نشاهد مجموعة من الناس تشاهد فيلما. هذا ما تقوله فرح ناز امرالله:

«تذكّرني هذه الصورة [«صورة غرفة العمليات»] بفيلم «شيرين» لعباس كياروستامي. فالمخرج إما انه لم يرد لنا ان نشاهد فيلما او ان الفيلم لم يكن ذا بال بالنسبة اليه. الهام والجدير بالتحليل وبالتذكّر هي ردود فعل الجمهور... البديهي في هذه الصورة اننا لن نشاهد فيلما عن العملية. فلعله جرى تأجيل الحدث الفعلي الى وقت لاحق، لسبب او لآخر. فبسبب القيود التي فرضها «البيت الابيض»، علينا ان نشاهد الحدث لا بأعيننا وانما بأعين اولئك المتجمعين في تلك الصورة في «البيت الابيض» وبناء على حركات أجسادهم. التفاصيل ليست مهمة. يجب ان نؤمن بأن العملية «العسكرية» قد حصلت لمجرد وجود تلك الصورة. فتلك الصورة قد حلّت محل الفيلم، والوثيقة، او محل صورة فوتغرافية للعملية العسكرية او لجثمان بن لادن. يتوجب عليّ ان اؤمن ان بن لادن قد قتل بمقتضى تلك الصورة والبيان الرسمي الصادر عن الحكومة الاميركية، وبناءً على انعكاس عين بن لادن المدمّاة على بؤبو عينَي الموظف الكبير في «البيت لابيض».2

ان قراءة فرح ناز أمرالله عدسة تصحيحية، تقلب قراءة السي. إن. إن رأسا على عقب وتوجّه انتباهنا نحو تحديقة المشاهدين في ما يشهدون على إعدام اسامة بن لادن، فتقودنا الى مشاهدة ما يشاهدون، لا الى ما يريد لنا مصوّر «البيت الابيض» ومعلّق السي. إن. إن. ان نشاهد. تستخدم فرح ناز أمرالله اللمحة المسموحة لتقودنا الى اللمحة المحجوبة في الشريط الفعلي الذي يصوّر عملية الاغتيال. وتنقل امرالله الواقع البديهي لما تسمح الصورة برؤيته مرفقا بتمثّله الباطني لما تكشفه تلك الصورة لكي يتجليا امام الذين صوّرتهم [الصورة]. بعبارة اخرى، يصرّح «البيت الابيض» بشبهةً لواقع، لما هو مشاهَد، فتحوله أمرالله الى شبهة لتمثّلٍ اللامرئي/للمحجوب، لما تمنع الصورة مشاهدته، ولكنها تكشفه بفضل وظيفة سيميائية ارقى.

فيما يتعدى تفاذ نظرة فرح ناز أمرالله السميائية، اعتقد انه احرى بنا ان نقارن «صورة غرفة العمليات» بصورة أيقونية لبن لادن وشركائه في كهف (حوالى العام ٢٠٠١ والارجج في باكستان). 3

ينقل فيلم «شيرين» السجل السميائي الى نمط كياروستامي المميز من الواقعية السينمائية الذي سميته «الواقع التخييلي».4

فاذا توسطنا فيلم «شيرين» نستطيع ان ننقل «صورة غرفة العمليات» الى نقيضها السياسي عندما نقارنها بصورة أسامة بن لادن قابعا مع شركاءه في كهف بافغانستان. ففي تلك الصورة الايقونية نشاهد ايضا اسامة بن لادن وشركائه المقربين (كأنهم صورة المرآة لشركاء الرئيس اوباما) وأنظارهم شائحة عن آلة التصوير. ولكن مع ان اسامة وشركاءه ينظرون هم ايضا الى شيء يقع خارج اطار الصورة، الا انهم ليسوا يشاهدون شيئا بعينه، بقدر ما يلقون تحديقة ضَجِرة وتأملية على شيء بعيد، ناءٍٍ، لعله موضوع تأمل ميتافيزيقي في أبدية ما، او نقطة لا عودة منها، يتوجهون اليها. ان اوباما وشركاؤه يشاهدون عملية اغتيال قيد التنفيذ؛ اما اسامة وشركاءه فيلقون نظرة على الأبدية، على ما قد يسمّيه جيزك «المعاني المطلقة». ليس يملك أسامة المقدرة التكنولوجية ليشاهد الاعمال الارهابية، المتهم بأنه أمر بها، وهي قيد التنفيذ. يستطيع ان يتخيّلها فقط. اما أوباما فإنه يتباهى بالآلة العسكرية الغرائبية الموضوعة بإمرته، بحيث لا يحتاج لأن يتخيل اي شيء. انه يعاين عملية الاغتيال التي أمر بها وهي قيد التنفيذ. «الحقيقي» هنا، كما في «الزمن الحقيقي»، لا يمكن تخيّله في لا حقيقيته. «كيف يحققون ذلك؟» هو السؤال المروِّع. والحل: يقين أسامة الميتافيزيقي في مقابل ألعاب اوباما التكنولوجية. الواقع هو ما يعبر عن نفسه بواسطة التحديقة المواربة في عيون أوباما؛ والتمثيل هو ما تلقاه في عيني أسامة الخفيضتين.

وإذا كان لنا ان نقارن بين الصورتين في السجلّ الرمزي، نرى ان أوباما، بما هو رئيس الولايات المتحدة الاميركية، يموّه نفسه بحيث لم يعد يحتل مركز القوة والجاه، لكي يعدّ نفسه أفضل الإعداد لخوض الحرب السرية والغِوارية. انه يشبه مدرّب كرة قدم اكثر مما يشبه كابتن الفريق. بعبارة اخرى، لكي يقتل أوباما أسامة، كان عليه ان يصير هو أسامة. هكذا فإن تجميع كبار مستشاريه في «غرفة العمليات» يصيّرها شَبه الكهف، انها الكهف حيث الامبراطور يقلّد المتمرّد. وهكذا فإن الخلط المعتاد لمذيعي الاخبار الاميركيين بين الاسمين [أسامة وأوباما] يكتسب هنا معادلا بصريا: لقد اصبح أوباما هو أسامة.5

وتأكيدا على ذلك، يقلّدُ أوباما أسامة على نحو موارِب، تماما مثلما تفعل آلة التصوير لمصوّر «البيت الابيض» التي تقع على زاوية انحراف ٣٥ درجة من الشاشة التي يشاهدها الحضور، ولعلها تبعد ٢٥ درجة عن كاميرا كياروستامي وهي تصوّر لقطات مقرّبة من فيلمه «شيرين».

انقلاب زاوية النظر

إذ يتحول «الامر والتحكم» للامبراطورية على نحو صميمي الى نموذج لتنظيم «القاعدة»، نصير شهودا لانقلاب كامل لاحداث الحادي عشر من ايلول حيث تنفَّذ عملية اغتيال خارجة عن القانون لشخصية أيقونية في حرب غير متكافئة اسمها المشفّر «إرهاب». يصح الافتراض بأن اسامة بن لادن لم يشاهد احداث الحادي عشر من ايلول من خلال كاميرا مركزة على خوذة يعتمرها محمد عطا. شاهدها، إن هو شاهد، في التحديقة البعيدة التي نشاهده يلقيها في صورة الكهف تلك، كأنما يشاهد العملية في عين فكره. ولكن كما في نشاط مخيلة أسامة، كذلك في المشاركة المستكينة لأوباما في التكنولوجيا الطاغية، يتشارك الاثنان في تجاوزهما الحدود الافتراضية للامم وللدولة ــ الامة. ان تجاوز أوباما السيادة الوطنية لباكستان، او تغافله عنها، ليس مؤشرا بالتأكيد على نهاية الدولة ــ الامة. انه انتهاك لها، مثلما انتهكها محمد عطا ومجموعته، وقد تم الربط بينه ومجموعته وبين اسم اسامة بن لادن لاحقا في السردية الاميركية الرسمية (التي يشكك فيها بعنف أصحاب نظريات المؤامرة الاميركيون). ثم جاء الانتهاك عن طريق فريق «سيلز» التابع للبحرية الاميركية بقيادة أوباما، بصفته القائد العام للقوات المسلحة، مستنسخا في الواقع ما قد جرى سابقا على نطاق اوسع في العدوان بقيادة اميركية على افغانستان وعلى العراق وفي القاء القبض على صدام حسين واعدامه. ان انقلاب المجاز هذا، حيث «تصير» أنت عدوَّك لكي تهزمه، يؤدي، في معانيه العسكرية، المعنى ذاته الذي تؤديه السيميائية عندما نضع «صورة غرفة العمليات» الى جانب صورة أسامة بن لادن وشركائه في الكهف الشهير، فنسمح بإدخال لقطة متقاطعة تجمع الطرفين المتحاربين في البعد الثالث للشبه بينهما.

في «صورة غرفة العمليات» تلقى ان صمدة أوباما وعينيه المصممتين الهادفتين تعكس تحديقة اوباما البعيدة وتسطحها، فتقضي على الافتراض بوجود مركز وأطراف في امبراطوريته. هكذا يتحول رئيس الولايات المتحدة صوريا الى «الارهابي» الذي يريد إسداء الهزيمة له. ان الحرب غير المتكافئة التي تنتج من تلك الصورتين وتظهر من خلالهما، قد اصبحت حالة سيميائية ايقونية تتغذى من ذاتها. لذلك، نعم، إذا، ثمة ما يجيز المقارنة بين «صورة غرفة العمليات» وبين فيلم «شيرين» لعباس كياروستامي، مثلما تقترح فرح ناز امرالله. ولكن يحصل ذلك من خلال تحديقتين منحرفتين ومتبادلتين: واحدة (الصورة) عن طريق انتهاك الدولة ــ الامة، حيث أوباما يصير هو أسامة، ويختلط فيها المركز والاطراف، مع التحكيم القانوني، ومعاهدة جينيف، التي يلقى بها كلها من النافذة. اما الصورة الاخرى (فيلم «شيرين») فينطبق عليها ما قاله جان لوك غودار ذات مرة عن عباس كياروستامي من انه قضى على السينما بواسطة كاميرا تلتقط صور المشاهدين بدلا من ان تصوّر قصة ما. في الحالين، انحلّ الواقع التخييلي الى ازدواج بين واقع وتخييل وبالتالي الى صميم السياسة بين امبراطورية واطرافها، بين الامبريالية والارهاب، وبين أسامة وأوباما.

فلنعد الآن الى «الربيع العربي» لنزيد في تعقيد «صورة غرفة العمليات» وصورة أسامة وشركائه المقابلة لها فنقرأ الصورتين ليس من خلال فيلم «شيرين» لعباس كياروستامي وانما بالمقارنة بحالة ارقى واكثر تقعيدا هي لوحة دييغو فيلاسكيز «لاس مينيناس» (الوصيفات).

«الربيع العربي» في عين فيلاسكيز وبيكاسو

منذ ظهورها عام ١٦٥٦ كانت هذه اللوحة موضع جمهرة واسعة مدهشة من القراءات الثاقبة للعلاقات الطباقية المتعددة التي تتيحها بين الفنان واللوحة وموضوع تحديق الفنان وتحديقنا نحن المشاهدين وتحديق شخوص اللوحة.6

ثمة توازٍ متقاطع لعدة سجلات على كافة تلك المستويات. «من هو الذي يشاهد المشاهِد؟» هو السؤال الذي تحوّل الى حدث ثوري في تاريخ الفن الاسباني.

ان احدث قراءة لـ«لاس مينيناس» ــ وهي لاغراضنا هنا الاشهر والاكثر دلالة ــ هي قراءة ميشال فوكو الذي يفتتح كتابه «الكلمات والاشياء» (١٩٦٦) بتفسير مفصل لهذه اللوحة ينم عن تفكيك مبكر لمنظومة التمثّل البصرية بما هي اداء مميّز للمنظومة المعرفية حيث التطابق المألوف بين الواقع والتمثل يتحول جذريا ويتعقدّ على مستويات متعددة. في منظومات من هذا النوع، تنبني على معرفة مسبقة (او ما يسميه طوماس كيون «بارادايم») تتمظهر الحقيقة لا لكونها بديهية بذاتها وانما لكونها منبثّة في منظومة معرفية، او دورة تأويلية. في قراءتهم الواقع عبر هذه المنظومة، يصير القراء كائنات تجهل انفسها تقريبا، يعلمون اشياء فتغيب عنهم ذواتهم، او بدقة اكبر ينصبون حدود معرفتهم بأنفسهم. يختم فوكو قراءته لـ«لا مينيناس» بأن يقترح الآتي:

«لعله يوجد في لوحة بلاسكيز تقديم التمثّل الكلاسيكي، اذا جاز التعبير، وتعريف المدى الذي يفتحه لنا. وبالتأكيد يتولى التمثّل تقديم نفسه هنا بكل عناصره، بصوره، وبالعيون التي ينعرض عليها، وبالوجوه التي يستظهرها، والحركات التي يستدعيها. ولكن وسط هذه البعثرة، التي هي لملمة وبعثرة تجري امامنا في الآن ذاته، يوجد فراغ جوهري يجري التشديد عليه حكما من كل صوب: انه الاختفاء الضروري لما يشكل اساسه ــ للشخص الذي يشبهه والشخص الذي هو مجرد شَبَه في عينه. وما يجري تجاهله هو هذه الذات عينها، هي هي لا تتغير. فإذا التمثُّل، وقد تحرر اخيرا من العلاقة التي كانت تحجر عليه، صار بمكنته أن يقدّم نفسه بما هو تمثّل في شكله الصافي».7

ان هذا الإغفال للذات العالمة هو حيث الوجه الثوري لـ«لاس مينيناس» ينبئ باكتشاف الخيانة المتبادلة التي يرتكبها كل نظام معرفي (وهو اكتشاف طوّره ادوارد سعيد لاحقا في كتابه «الاستشراق» عندما طرح ان مذهب «الاستشراق» هو الذي يصيّرك «شرقيا»). ان شاغل فوكو في «الكلمات والاشياء» هو كيف يمكن لثلاث سرديات علمية ــ علم الطبيعة (البيولوجيا) والاقتصاد والالسنيات ــ بما هي ثلاثة انماط من نظام معرفي، تفترض بالضرورة وجود ذاتٍٍ تسمى «انسانا» معطاة سلفا. وقد إنجذب فوكو لـ«لاس مينيناس» لانها نظام بصري دمرّ سائر الأنظمة البصرية إذ حجبت نفسها وحالت دون مشاهدتها على انها نظام بصري. وهكذا صار مذهب فوكو بعدالبنيوي المعادل لـ«الاس مينيناس» في العلوم الاجتماعية. ويمكننا ان نحاجج ايضا بالقول ان فيلاسكيز حقق في العام ١٦٥٦ ما حققه بريشت في القرن العشرين بطرح فكرته المسرحية عن «الُبعاد».8

بطريقة مشابهة، تدمّر «لاس مينيناس» المنظومة البصرية المسيطرة لكن بيت القصيد هنا انها تفعل ذلك من خلال طرح امكانية مفتوحة على وجود عدة منظومات بصرية اخرى مختلفة ومتصارعة.

ان نسخة بيكاسو عن «لاس مينيناس» (١٩٥٧)9 تزيد من تعقيد اللعب البصري مع التمثّل. ذلك ان «لاس مينيناس» بيكاسو ترينا مجابهة وجاهية اكثر جذرية واكتمالا مع المشاهِد في العالم الخارجي، اي في العالم الواقع خارج النظام البصري للصورة ذاتها، ومع العالم الفيزيائي في مستوياته المتقاطعة المتعددة التي يزيدها بيكاسو تعقيدا اكثر مما فعل ڤلاسكيز. ثم، انطلاقا من هذه المجابهة الوجاهية، تعرض لنا اللوحة جغرافيا جديدة، وتوبوغرافيا جديدة للمشهدية حيث تتزعزع ثقة فعل التماهي بنفسه، ناهيك بقدرته على تطمين سواه. في صيغتها الاصلية وفي تحية بيكاسو التكريمية لها، وبفضل استبطانها الواقع نحو الداخل، تتحرك «لاس مينيناس» هي ذاتها نحو الخارج، وهكذا يتبادل الواقع والتمثّل المواقع، فيشكل الواقع والوهم سجلا واقعيا تخييليا واحدا.

اننا اليوم ورثة سيميائية الطيش، الاكثر تلاعبا باية صورة تعرض امام ناظرينا لغرض اقناعنا بهذا الشيء او ذاك. ومثلما الامبراطورية الهلامية التي يسعى أوباما لقيادتها والعنف الايقوني الذي مثله اسامة يستنسخ واحدهما الآخر، كذلك فالانتفاضات الثورية المفتوحة التي نشهدها من المغرب الى ايران ومن سورية الى اليمن، تتحدى روتينية النظام المعرفي وتطرح جغرافية جديدة لانتاج المعرفة، تتجاوز قراءتين متناقضتين لنظرتين مشتبكتين في سياسة يأس متماثلة ــ هي ذلك الخليط الكارثي بين «الارهاب» و«الحرب على الارهاب». فإذا كان معمر القذافي اعطى روتينية سياسة اليأس موطيء قدم في أفريقيا الشمالية، فإن نبأ اغتيال/إعدام اسامة بن لادن محاولة اخرى لجرّ الاحداث المتوالية الى الخلف الى نظام معرفي مألوف، ومثلها المحاولة السخيفة التي قامت بها الجمهورية الاسلامية الايرانية لتسمية ما يجري في العالم العربي بأنه مجرد صدى للثورة التي حدثت في ايران لثلاثين سنة خلت. فاذا اضطرت الجمهورية الاسلامية ان تتجاهل سورية لكي تشطح بتلك الملاحظات، كان على اوباما ان يتجاهل البحرين واليمن، مثلما كان على أسامة بن لادن ان يصرف كل شيء على انه مؤامرة دبّرتها السي. اي. اي والعربية السعودية، وهي تماما التهمة التي اطلقها بعض المثقفين الاميركيين والعرب على «الحركة الخضراء» الايرانية عندما انطلقت في حزيران ٢٠٠٩، وهو ما يفعلونه الآن بالنسبة لـ«الربيع العربي».

ان أوباما في «كهفه» يقلّد أسامة في كهفه: تحولت الامبريالية الاستيطانية الى امبراطورية لا استيطانية، والقوة الفكرية الهلامية صنعت كائنات آلية (روبوتات) من البشر من خلال التحكم السياسي، في الوقت ذاته تقريبا عندما صارت فيه كل القواعد العسكرية عديمة الصلاحية، وتحديدا بفضل انتفاضات ديموقراطية تضطر الامبراطورية الى التبشير بها داخل بلدانها ولا تطبقها في «غربها المتوحش». وهكذا تعثر «عملية جيرونيمو» على تسميتها المنطقية وتشاء نزوة من نزوات سخرية التاريخ ان تحمل «عملية خيرونيمو» في آبوت أباد الامبريالية الاميركية الهلامية الى closure حيث غادرته الكولونيالية البريطانية.10

ان استهتار أسامة وأوباما بالسيادة الوطنية في افغانستان وباكستان والعراق ثم في ليبيا ــ ولجوءهما الى الاغتيالات المستهدفة، اكان اغتيال بن لادن في ابوت اباد ام ابن القذافي وأحفاده في طرابلس، هو تحديدا اللحظة التي القت بها الامبريالية بصورتها العنصرية، صورة «الغرب المتوحش»، على الكرة الارضية، في لحظة تعيد فيها جغرافية التحرر رسم خرائطها من جديد. ان العالم كله، في عين المخيلة العسكرية للولايات المتحدة، يستمر في التشبه بـ «الغرب المتوحش» من خلال عملية جيرونيمو وهمية انفلتت من عقالها واخذت تتحدى سلطانها. الا ان أسامة بن لادن كان خدعة، حيلة. فـ«الغرب المتوحش» يبقى متوحشا ذلك ان كرامة متحدية قد رسمت خريطته وهي تباشر الآن المطالبة به.

على عكس سير هاتين النظرتين المتشابكتين، نظرة اوباما المنتصر، ونظرة اسامة الزائغة، تشكل الانتفاضات الثورية نضالا مفتوح الاحتمالات، غير محسوم النتائج، يتكشف على انه اشبه بنظرية باختين عن تعدد الاصوات في الرواية منه بيقينية السردية الملحمية على طريقة الخميني او جمال عبد الناصر. تستند هذه الانتفاضات الثورية الى واقع ــ تخييلي سميائي حيث الوقائع التاريخية والاوهام التحررية تلتقي وتتزاوج لتؤلف قواعد لغة جديدة. ولكن ها نحن قد دخلنا صورة لاس مينيناس سيرا على الاقدام او ندعو ڤيلاسكيز وبيكاسو وجوقة شخصياتهما للانضمام الينا والخروج من المتاحف. فلا في السخرية غير المتكافئة ولا في التماهي المزيف لأوباما مع أسامة، ولا في النظرة المعكوسة التي يلقيها عباس كياروستامي، تكمن جغرافية التحرير بل هي كامنة تحديدا في المنظومات البصرية المفككة في لوحة «لاس مينيناس». ان أسامة وأوباما سجينا النظرة القاتلة التي يتبادلانها، وهما غافلان كليا عن العدسات التي يتسلل منها الواقع بلا رحمة، كما تبيّن لاس مينيناس، فيما عباس كياروستامي يغلق ببساطة باب التماهي السينمائي إغلاقا محكما بأن يوصله الى خاتمة مواربة، حيث نصير نشاهد المشاهِد، وحيث السينما بما هي سيميائية مفتوحة تنقلب الى دورة مقفلة من الانغماس في الذات، منطوية على نفسها ومنحطّة في آن معا. إن المهمة التي يواجهها امثالُنا من المبحرين في جغرافية التحرير الجديدة هذه تتعدى تفكيك النظام البصري الى التمكّن من فن قراءة توبغرافيا الهوية والاخروية المستجدة. قد تبدو المهمة متحذلقة او مشوشة للوهلة الاولى، ولكن ثمة منهجية حتى في الجنون كما يرينا رؤيويون كبار أمثال فيلاسكيز وبيكاسو.

كيف يمكن اكتشاف جُزُر المقاومة الجديدة ضد بحر من المياه المتلاطمة؟ بأن نعيّن مواقع المقاومة العينية لنظام المعرفة المسيطر والمستمر، وان ننتقي من لحظات تقلقل ذلك النظام مساحات تمكّن الجغرافية الجديدة من ان ترسم خرائطها وتنداح عليها. فلنقلب زاوية النظر رأسا على عقب، ولنسحب النظام البصري المخرّب والتخرببي الى العلن، حيث نقف نحن، نحن الانسانية الهشة جمعاء، فنجتاز الخط غير المرئي ــ وهو الممحوّ اصلا ــ ونصير جزءا من الصورة ــ فنتجمع جميعا فنسمح بإرتسام الصورة الكاملة وندعوها الى ان تصير واقعا.

مغادرة المشهد

لم يعد أسامة موجودا. وكما بيّن غي ديبور في «مجتمع المشهد» (١٩٦٧)، تطرح الانظمة البصرية حالة من اللاواقعية الزامية تصير منبتا لعالمها الشعوري. هنا المنبت هو في لامكان وفي كل مكان ــ من شاشات الكمبيوتر ولوحات الاعلانات وصولا الى وسائل الاعلام المكتوبة والبصرية ــ كلها تحلم الواقع في احلام يقظة، فنصير نحن أدوات مصيرنا في صالة المرايا هذه. تصير الصور السجل الاول والاخير لواقع نظن اننا موجودون فيه. وتنتقل صنمية السلعة هنا الى الطور الثاني حيث نتسلّع، وتتصنم عملية إخضاعنا. ليست السلعة هي المهمة، ان صورة السلعة هي ما يهمّ الآن، ما يهمّ هو وَهم الواقع، وشبهة الخضوع. لم يكن ديبور يسعى وراء اي تحليل بصري للمرئي. فالمرئي بالنسبة اليه ــ المشهد ــ صار هو الواقع ذاته. «ليس المشهد مجموعة من الصور، الاحرى انه العلاقة المجتمعية بين الناس التي تتوسطها الصور.»11 وإذ تتوسط الصورُ العلاقَة المجتمعية بين البشر، يصير البشر أنفسهم صورا. وهكذا «لا يمكن للمشهد ان يوضع في مواجهة مجردة مع النشاط الاجتماعي المحدد، ذلك ان الفصام بين الواقع والصورة سوف يبقى موجودا على جانبي مثل هذا التمييز. هكذا فالمشهد هو نتاج النشاط الحقيقي مع انه يقلب الواقع رأسا على عقب.»12

تبدو كل زوايا النظر هذه وظيفية وبنيوية. كان اسامة آخر صورة قُدّر لها ان تقضّ مضاجع العرب والمسلمين والشرقيين، صورة وجب على كل عربي ومسلم وشرقي ان ينتهكها لكي يصير آدميا. لقد فرض علينا جميعا ان نشبه أسامة بن لادن، الا اذا أثبتنا اننا لا نشبهه: اي اننا لا نحن عرب ولا مسلمون ولا شرقيون (اي ان نكون بيضا). كان اسامة بن لادن نظاما بصريا فُصّل على مقاسنا. وعندما تشاهدون الناس في شوارع تونس ومصر وسورية وليبيا او ايران يمزقون صور بن علي ومبارك وبشار الاسد والقذافي او علي خامنئي، فاعلموا انهم يمزقون ايضا صور أسامة بن لادن. لاحِظوا تسارع الاحداث، والسرعة التي يتغيّر بها العالم: حَكَم بن علي تونس لاربع وعشرين سنة، وحكم مبارك مصر لثلاثين سنة، وحكم القذافي ليبيا لاثنين واربعين سنة. ولكن قبل ان ينتهي صيف العام ٢٠١١ كان هؤلاء الطغاة الثلاثة في السجن او فارين من وجه العدالة او قتلى في مدة لا تتعدى ثمانية اشهر. طغاة آخرون ــ بشار الاسد في سورية، علي عبدالله صالح في اليمن، حمد بن عيسى آل خليفة في البحرين، وكل العشيرة السعودية في العربية السعودية، وعلي خامئني في ايران، الخ. ــ متشبثون بالسلطة بواسطة العنف الوحشي الشاذ، ولكن ايامهم معدودة هم ايضا. لقد أطلقت قماشة لاس مينينا سراحنا فانطلقنا راكضين من المتاحف الى الطريق ننشد «الشعب يريد إسقاط النظام»!

  • 1. لمشاهدة «صورة غرفة العمليات» وقراءة تعليق «سي.إن.إن» عليها، راجع: What ‹Situation Room Photo› Reveals About Us (CNN, 5 May 2011) المتوافر على الموقع: http://articles.cnn.com/2011-05--5/us/iconic.photo_i_black-men-photo-nat....
  • 2. راجع: «Aksi az Jenazeh Ben Laden/A Picture of Ben Laden's Corpse." على الموقع: http:/neshanesign.blogspot.com.
  • 3. لمشاهدة هذه الصورة في نشرة لمحطة «الجزيرة» القطرية، راجع هذا الرابط: http://stevenwarran.blogspot.com/2009/06/osama-bin-laden-in-cave-with-ho....
  • 4. راجع الفصل عن كياروستامي في Hamid Dabashi, Masters and Masterpieces of Iranian Cinema، 2007.
  • 5. هذا هو «كليب» على «يوتيوب» يحوي بعض التخليطات بين أسامة وأوباما من قبل مذيعي الأخبار الأميركيين: http:www.youtube.com/watch? v=RWPIPZ70-is.
  • 6. من أجل عرض لتلك القراءات، راجع: Jonathan Brown, Velasquez: Painter and Courtier (New Haven, CT: Yale University Press, 1988: 249).
  • 7. Michel Foucault, The Order of Things:An Archeology of the Human Sciences (New York: Vintage, 1994): 16.
  • 8. وقد حاججتُ ان هذه الستراتيجية، بما هي مسرحة تحول دون التماهي التماثلي المباشر، هي مكوّن حاسم من مكونات «التعزية» الشيعية. راجع الفصل عن كياروستامي في Hamid Dabashi, Masters and Materpieces of Iranian Cinema, op.cit.
  • 9. «الغرب المتوحش» المقصود هنا هو «الغرب الاميركي» المأهول بالسكان الاصليين. وجيرونيمو اسم قائد اباتشي من الهنود الحمر. وأبوت اباد مسمّاة على اسم آخر ضابط بريطاني غادر الهند.
  • 10. انظر صورة لاس مينيناس لبيكاسو (١٩٥٧) في http://www.guardian.co.uk/artanddesign/2006/jun/06/art.shopping.
  • 11. المصدر ذاته، ص 14.
  • 12. Guy Debord, The Society of Spectacle, New York: Zone, (1995: 12).
العدد الأول - شتاء / ربيع ٢٠١٢

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.