العددان ٣-٤ خريف ٢٠١٢ / شتاء ٢٠١٣

هاينر موللر: المسرحي الذي يخشى جمال العالم

النسخة الورقية

يعتبر هاينر موللر ( ١٩٢٩ -١٩٩٥) أهم كتاب المسرح الألمان بعد برتولت بريشت. انجازاته الأسلوبية و رؤيته السياسية – الشعرية للعالم ما زالت مؤثرة وحاضرة و تبدو الأيام كما لو أنها لم تزد ضراوته و تبصره الا وقعا وسلطة.

هذا الشاعر المسرحي الذي عبر النازية والشيوعية و الانهيار وأوروبا الليبرالية الجديدة يبدو ان الايام أثبتت أنه كان على حق. خلال عملي عليه في عرض لم يكتمل وجدت جملة لهونيكر يصفه فيها بـ «بيكيت الشرق المستاء».

أرغب على سبيل التقديم السريع لهذه الترجمة الصغيرة أن أتحدث عن صورتين احتفظ بهما من عالمه في نهاية القرن الماضي و بداية القرن الحالي :

الصليب المعكوف على الشاشة

الصورة الأولى سنة ١٩٩٧ في عرض فرنسي من اخراج مارتينيلي لمسرحيته الأخيرة المنشورة سنة ١٩٩٦ «جرمانيا: ٣ أشباح الموت-الانسان». أذكر يومها أنني جلست على حافة الخشبة الكبيرة لمسرح الكولين الوطني الباريسي. كان هناك صليب نازي معقوف رفعه عمال المسرح الكبير ببطء. بضعة ممثلين يتدربون على «الميزانسين» الحركي بسخف وهم يتضاحكون . جلست أنا عامل التقنيات المتدرب الصغير محدقا بصمت في ذلك الصليب المعقوف دونما فهم. بدا شيئا كبيرا وخشبيا و شديد البعد. كانت سنتي الدراسية الأولى في فرنسا ولم أكن أعرف عن هذا الكاتب سوى اخراجه لمسرحية «بريشت» عن هتلر صعود آرتورو أوي غير المحتوم الذي شاهدته على قناة آرتيه الفرنسية – الألمانية باعجاب كبير ودونما فهم.

فجأة دخل ممثل طويل ونحيل بشكل لا يصدق ممسكاً بجريدة في يده وقال شيئا عن مقال نقدي حول المسرحية وهو مستاء.

تأملته وبدأت أضحك. كان الممثل الطويل النحيل الذي لا تنساه اذا رأيته مرة : ذاك الذي يؤدي (بين عدة أدوار أخرى) دور الضابط النازي المحتل في فيلم ايتوري سكولا «الحفلة» ومسرح الكامبانيول الشهير.

ضحكت كثيرا فنظر الممثل الي بانزعاج فإلتزمت الصمت. كنت سعيدا لأني رأيت شيئا أعرفه في ذلك المسرح الكبير.

في المساء شاهدت العرض. لم أفهم الكثير من المشاهد المترعة بالارجاعات التاريخية والثقافية الدقيقة، من فاغنر الى ثورة السبارتاكيين الى ستالينغراد الى .. الى... (وكم يبدو عمل عصام محفوظ و سعدالله و نوس رفيقا بالجمهور في معالجتهما للتاريخ اذا ما قورن بشبكة الكتابة والتناص الشعرية الكثيفة لهذا الشاعر الذي اشتهى مرة نبش قبر زوجته (ليرى ماذا كان وجهها فعلا خلف الأقنعة التي ارتدتها...)

لكن في نهاية المسرحية وقف ذات الممثل الطويل عند طرف الخشبة نصف ملتحفا بالستارة و جعل يستمني أمام جثة زوجة ضابط روسي وأطفالها :

«تعرفيني الآن. أنا المارد الزهري، موت براندنبورغ.

هكذا تلقّبني الصحيفة. ولا أحد يعرف من أنا. و ذلك لأنني لا أتحدث مع أحد الا اذا كان ميتا.

آه يا للحظ الرائع...لا أحد يعرف...خطيبتي تسخر مني وأنا في القميص الداخلي النسائي أمام المرآة وأبي يقول انني منحل. لو كنت أمتلكك لرغبتك. في الجيش سخروا مني عندما لم أستطع تسلق الجدار. أشتم رائحة اللحم البشري يقول المارد و غدا سأذهب لأحضر طفل الملكة. والقميص الداخلي النسائي الزهري آت من أمي. أمي تفعل هذا مع الديدان. في ال ٤٥ اغتصبها الروس، اثنا عشر رجلا، أبي كان حاضرا. الآن تعرفين مع من تتعاملين، هايل ستالين. كم بكيتِ عندما مات، كوفية «الطلائع» خاصتك. الآن حان دوركم. يقول الكرش للمقانق. السترة من الجيش، الجيش كان أمي الثانية.

روكولو هناك دم في الخف المسائي.

ما من آدمي يسخر من المارد الزهري».

(يجر الجثث الى الأجمات).

جون هارتفيلد - فوتو مونتاج

كابوس التاريخ

وينهي موللر مسرحيته بهذه الجملة المعلقة، ليست كلمات ممثل ولا ملاحظة اخراجية :

«أسود، يا رفاق، هو الكون أسود!»

بدأت علاقتي بهذا الكاتب منذ تلك اللحظة.

منذ ذلك المشهد الكابوس الذي فهمت لاحقا أن التاريخ لقنّه لكاتبه.

موللر الذي رفض كما يبين نصه الأب أن يغادر الى ألمانيا الغربية مع أهله في بداية الخمسينيات لأنه أراد المشاركة في بناء الاشتراكية الحقيقية، ستضطهده ألمانيا الشرقية مع زوجته الأولى مما سيقودها الى الانتحار في نهاية الستينيات. سيعرف صعودا كبيرا بفضل البريشتيين المجددين كبار السن (بونو بوسون) و الشباب (وقتها) ماتياس لانغوف ومانفرد كارغه. و صولا الى تكريس معقد واشكالي عبر السبعينيات و الثمانينيات مع مخرجين مثل لانغوف غوتشيف جوردوي و من ثم المابعدحداثي الأنيق روبرت ويلسون في اخراجه منتصف الثمانينيات لـ«هاملت ماشين» نصه الأشهر.

سيغدو موللر مدير «البرلينر انسامبل» في بداية التسعينيات بعد الانهيار ووحدة الألمانيتين. ويموت في منتصف التسعينيات بعد أن أنتج مجموعة كبيرة من المسرحيات والقصائد والمقابلات التي رسمت، بأبلغ تعبير أدبي ومسرحي، مأساة الشيوعية باعتبارها حلم البشرية الكبير طوال القرن الماضي.

جون هارتفيلد «عدالة» - فوتو مونتاج

جون هارتفيلد «دمّ وحديد» - فوتو مونتاج

 

لماذا غياب موللر عن اللغة العربية؟

أظن أن غياب مرللر عن اللغة العربية (ما عدا الاسهامات الهامة والطليعية والجدية للمخرج والمترجم العراقي صالح كاظم بشكل أساسي وللأكاديمي المصري عطية العقاد لاحقا) هو غياب ذو دلالة كبيرة بالعلاقة مع فهمنا للمسرح العالمي ولعلاقة الأدب بالايديولوجيا والمسرح بالتاريخ المعاصر. احدى أهم مسرحيات موللر وعنوانها «المهمة» ١٩٧٩ لم تجد مكانها في سلسلة المسرح العالمي في الكويت بل على صفحات مجلة «الكرمل» وبهمة و اصرار الاستاذ صالح كاظم.

الصورة الثانية هي من آخر عرض مسرحي شاهدته لاحد نصوص موللر بعد سبع سنوات دراسية في باريس. كان ذلك اخراج الروسي أناتولي فاسيلييف لـ«ميديا ماتريال» مع الممثلة الفرنسية الرائعة فاليري دريفيل.

عرض فاسيلييف النص كاملا على شاشة قبل أن تؤديه دريفيل في لعبة ستربتيز وجودية تمزق فيها كل الانتماءات و الهويات مرددة كلمات موللر الذي يتحدث في قصيدة عن «جريمة الحب التي تجعلنا نعيش أزواجا».

تتعرى الممثلة مع تتالي فصول انهيار عالم بطلة المأساة الاغريقية مخاطبة ابنيها قبل أن تقتلهما :

«هل يمكن أن تضحكا الآن؟ الموت هدية

ستستقبلانها من يدي

تركت خلفي ما يدعى وطنا

وسأترك وراءنا ما يدعى الغربة

كي لا تصبح الغربة وطنا لكما إستخفافا بي»

(ترجمة صالح كاظم)

وبين فخذيها يتدلى عضو ذكري بلاستيكي شفاف مملوء بالماء قبل أن تمزقه :

«سأمزق البشرية الى قطعتين وأسكن في الوسط أنا

لست رجلا و لا إمراة».

وبعدها بقيت الممثلة عارية. مشرعة الفخذين. بوجه تغطيه طبقة كريم كثيفة. قناع موت أبيض. تحدق في الجمهور الصامت بعمق أمام صدق العري وعنفه. على الأرض الماء الذي سال و قطع ثوبها ومسدس-قداحة بلاستيكي وكلمات الشاعر.

عند انتهاء العرض لم تقم الممثلة بالتحية. احتار البعض. هل يبقون؟ هل يواصلون التصفيق؟ همس لنا أحد العاملين الشباب في مسرح «الأماندييه»:

«-قال لها المخرج أن تعاود الأداء اذا بقي متفرج واحد في الصالة... وأنه ذات يوم بقي أحدهم وواصلت الأداء...»

خرج البعض وهم يضحكون، خرج البعض مختنقا. وتذكرتُ كلمات استاذي باتريس بافيس الساخرة عندما قلت له انني سأشاهد هذا العرض باعتباره العرض الأخير في سنوات الدراسة تلك: «سيكون وداعا مجلجلا لأوروبا...»

بين هاتين الصورتين في مسرحيتين لموللر ترتسم المساحة اللامعة والكئيبة لهذا العالم الشعري والمسرحي الذي مازال يجب أن يكتشف في لغتنا. بين البحث المتطرف لمعلم اخراج روسي في بداية القرن الواحدوالعشرين والعمل المسرحي الحائر لمخرجي الـ ٦٨ الفرنسيين في سنوات شيراك الأخيرة وساركوزي الأولى، بدا موللر بالنسبة لي الناطق الحقيقي باسم تجربة الصورة الجماعية والحس الفردي في آن.

انه المسرحي الذي يلمس فعلا لحم الكلمات. والانسان الخائف أمام سطوح التاريخ الحادة والمقطعة للأوصال : ذلك الذي يخشى جمال العالم كما يقول دوبويسون، بطل مسرحيته «المهمة». وهو الشاعر الذي يجرؤ. الشيوعي المصاب بالسرطان أمام ديناصورات سبيلبيرغ وواجهة الدويتشه بانك يتذكر روزا [لوكسمبرغ] وكارل [ليبنخت] وينزف روحه مع سيجاره الشهير.

او تراه الصوت المصرّ على مواصلة «جريمة الحب» رغم «سواد الكون»، يا رفاق؟

جون هارتفيلد «في تفسير التحية الهتلرية» - فوتو مونتاج

العددان ٣-٤ خريف ٢٠١٢ / شتاء ٢٠١٣

التعليقات

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.