العددان ٣-٤ خريف ٢٠١٢ / شتاء ٢٠١٣

«الاغتصاب الحربي» و«النكاح الحلال»: «هذه ليست قضية استغلال. هذه مسألة عرض وطلب»

النسخة الورقية
ملف

«تناوب رجال الأمن والشبيحة عليهما أمام أخويهما وأمهما، وأشبعوهما ضرباً وإهانات في أثناء الاغتصاب. وبعدما ذهبوا، أراد الشقيقان قتل أختيهما لغسل العار، لكن والدتهم تمكّنت من جلب الجيران وإنقاذ الفتاتين، ومن ثم الهرب إلى الأردن، والاختباء هناك».

الحلقة الاجتماعية التي تحيط بجسم المرأة، تجعل لانتهاكه معاني «أبعد» من جسم انسانٍ ينتهك، كما تتيح الانتقام منه بعد انتهاكه كونه أظهر أنه قابلٌ للانتهاك. وهي منظومة تبقيه أداةً في الحرب، كما هو أداةٌ في السلم: لا ملكية لصاحبته عليه، ولا غاية لنفسه فيه. ويأتي النقاش المدافع عن جسم المرأة، في مثال الثورة السورية وليس حصراً بها، ليحكم استدارة هذه الحلقة. إذ ينطلق من وصف النساء بكلمة «حرائر»، علماً أنها صيغة جمع مستخدمة لكلمتين: «حرّة»، و«حرير». وإذا كانت الجمع الوحيد لكلمة «حرير»، فإن كلمة «حرّة» تمتلك صيغة جمع أخرى هي «حرّات»، وهي تبدو أشدّ وضوحاً من «حرائر» على مستوى مطلب الحرية الجامع. لكن المجتمع لم يختر «حرّات». كما أن رجال الدين يفضّلون «حرائر»، وهي صفة تُمنح في تفسير النص للمرأة غير الآمة (وردت في معرض تحديد شروط تحليل نكاحها، وتحريمه). وبهذا المعنى، تكون حرّة. فتسكن الجماعة إلى معنى «حرائر» بتقبّل وراحة كملمس الحرير، لن تجدهما في حال واجهت معاني حرية المرأة، وهي معانٍ شائكة.

في كل بقعة ثورية في العالم العربي، لا يعلن أيّ من الأطراف المتحاربة مطلب الانقلاب على المنظومة الاجتماعية الحاكمة، وإنما على النظام السياسي الحاكم. ففي الواقع، لم تُغتصب الفتاتان، وإنما فرض النظام سلطته على «العائلة». لم تُغتصب الفتاتان، وإنما ذُلّ الشقيقان. ولم يُسمع للفتاتين صوت حتى في سرد القصة أعلاه، فقد اقتيدتا إلى المخبأ. وأين تختبئان؟ حيث سيتركّز الهمّ على تحويل الواحدة منهما من صرحٍ شاهدٍ على الهزيمة والذلّ، إلى عروس. عروس صبية لخليجي مسنّ. تنتقل ملكيتها إليه، بما يضمن «حقوق» الشقيقين، و«كرامتهما»، وبما لا يمس بأسس المجتمع، ودينه. أكان النظام علمانياً أم عسكرياً، أكانت الثورة إسلامية أم يسارية أم «شعبية»، يبقى الاتفاق سارياً. لا مساس بأسس المجتمع «الأخلاقية» القائمة. والاغتصاب هو أحد أعمدتها الراسخة. هو أداة في تعريف القوة، والسلطة، وموقعهما.

وجه المعركة

الاغتصاب هو وجه من وجوه المعارك العسكرية منذ روما العتيقة، مروراً بالحروب الدينية، وصولاً إلى تلك العالمية. هو أداة إذلال وإخضاع منهجية للعدو، من معارك ألمانيا إلى اليابان، ومن الاتحاد السوفياتي إلى الجزائر، ومن الحروب النظامية إلى الثورات التحرّرية. حتى أن فرنسا سامحت عمليات الاغتصاب التي أخضع «جنودها» لها أكثر من ١٢ ألف امرأة إيطالية خلال «الحرب لتحرير إيطاليا» في العام ١٩٤٤، معتبرة أنها «تبعات غير محمودة للعادات الحربية التي يقدم عليها العناصر غير النظاميين».

وأضاف القرن العشرون إلى تاريخ الاغتصاب كرقعة حرب، «ألفةً» بين الأعداء، كون المعارك لم تعد تخاض في ساحات تنأى بنفسها عن القرى والمدن، وإنما باتت داخلها، فتعرّفت نساء كثر إلى مغتصبيهن في أثناء اغتصابهن، بما يضمن تفتت النسيج الاجتماعي الذي تدور حوله الحياة العامة التي تعرضت للغزو.

في معظم شهادات الاغتصاب الذي تشهدها ساحة المعركة السورية، يتفق السرد على محطات شبه منهجية في الاغتصاب، الذي كثيراً ما يُرد في الحالات السلمية إلى فقدان الرجل لرباطة جأشه، أكان بسبب ملابسها هي، أم بسبب مُعاشه هو، فقره، وضعه النفسي، مخدرات، ... لكن، في الحالة الحربية، يضحي الاغتصاب حرّاً، ويضحي أيضاً آلية واعية في إدارة الصراع على السلطة، وهو ما يخفيه عادةً، وعن سبق الإصرار والترصد، في سياقاته اليومية «العادية»، في أيام السلم.

في الحرب، الاغتصاب هو سلاح. هو وجه المعركة. ليست معركة بين متكافئين يعيدان توزيع الحصص، وإنما هي معركة بين طرفين لا يكون واحدهما إلا بإلغاء الآخر، هزمه، إذلاله تماماً. هو الاغتصاب الواعي، المنهجي، المكرّس لخدمة «أهداف عليا»، وليس الاستثناء المرضي في سياقٍ صحّي سائد، مثلما يجري الترويج للاغتصاب «العادي»، لكي يسهل التعامل معه، ويتم تفادي التشكيك بقواعد المجتمع الراسخة والآمنة لأقويائه، واضعيها. وهنا، تأتي مقتطفات من شهادات الاغتصاب، لتوضّح صورة يجب النظر إليها بعيون فاغرة لفهمها، وليس الهرب منها بتمتمات مستنكرة تذكّر بآلية مقاربة مرض السرطان في مجتمعاتنا كـ«هيداك المرض». تلك المقتطفات ليست «هيداك مرض» هابط علينا من حيث لا ندري، فنخشى ذكره لأننا نعجز عن صدّه. تلك المقتطفات المقتطعة من أكثر من رواية اغتصاب في سورية اليوم، تخبر القصة الكامنة خلف الأجساد، والمحرّكة لها. وهي بمعظمها قد تمت في «فرع فلسطين». وفلسطين، هي القصة التي سمّاها أوائل مهزوميها «اغتصاباً».

تقول المقتطفات:

«يتناوبون عليها (...). بوجود والدها ووالدتها، ومن ثم اغتصبوا الفتاة أمامهم وبعد ذلك اختطفوها (...). يتناوبون. (...). قبل أن يقوموا بالاغتصاب، تحقن الفتيات بمادة ما في الفخذ تبقيهن صاحيات ولكن دون القدرة على الحركة (...). احضروا مكواة كهربائية، سخنوها، وقاموا بكي داخل عضوها التناسلي من الداخل والخارج، وغابت عن الوعي، لتصحو في اليوم الثاني وتجد نفسها عاريةً على سرير في «فرع فلسطين» (...). تم اغتصابها لمدة عشرة أيام (...). قاموا بإحضار فئران ودسّ رؤوسهن داخل عضوها التناسلي من الداخل ومن الخارج، وجعلهم يقومون بعضّها ولتنتشر السموم في جسدها ونقلوها لـ«فرع فلسطين» (...). جميع النساء المعتقلات في الفرع كن بالملابس الداخلية فقط رغم البرد (...). بات الاغتصاب لي ولجميع المعتقلات شيئاً اعتيادياً، حيث يتم ضربنا بإبر تجعل أجسادنا مثل النار، ثم بإبر في الركب تشل أي مقاومة من قبلنا قبل أن يبدأ الاغتصاب (...). اغتصبوها بجانب جثة زوجها (...). كانوا ينفذون الاغتصاب باعتباره أمراً عسكرياً».

أولاً، يبدو واضحاً أن خروج شهادات الاغتصاب إلى العلن لا يضرّ بممارسه، فهو تقريباً يستجدي العيون لتراه. بينما الفعل يتم، يُحرص على وجود «أولياء أمرها» من الرجال. حتى ولو كان الزوج جثة هامدة، يجب على كيانه الذي يتخطى الموت أن يشهد، فهو المعني، هو المغتصَب رمزياً. عليه، ستتفوق ذكورة المغتصِب. ولذلك، لا غرابة في أن يرغب الشقيقان في قتل شقيقتيهما، تماماً كما ترغب المغتصبة عادةً في قتل مغتصبها، إذ «دمّرهما» الاغتصاب. وهنا، يتدخل الموروث الخاص بكل حضارة، الذي يحمي معتنقيه من الدمار النهائي، ويفسح لهما مدخلاً إلى البعث من الرماد. هنا، تتدخل الثقافة العربية –ـ الإسلامية السائدة لتنقذ أتباعها.

ما ينقلنا إلى الملمح الثاني الواضح في سياق الشهادات: تجريد جسم المرأة من صفاته الإنسانية، مثل شلّه ليضحي جماداً يرى ويشهد على استباحته كجماد، أو كيّه وإتاحته للقوارض، ... فالثقافة التي تتيح للشقيق أن يجد درباً إلى انبعاثه من اغتصابه عبر قتل امرأة (أخته هنا)، هي نفسها التي لا تتوجه إلى المرأة كإنسان شريك، وإنما كملحقٍ ناقص لا ضرر في إضافة المزيد من النقص إليه. تلك الثقافة لا تتوجه إلى المرأة مباشرة، وإنما هي مستودع رسائل بين مالك وسارق. وإحدى إجابات هذه المسألة تكمن في الدين، الذي يصنع خصوصية هذه المنطقة في التعامل مع الاغتصاب الحربي.

ذات الثقافة

الأديان السماوية الثلاثة هي أديانٌ تتوجّه إلى مؤمن واحد، وهو ليس المرأة. تخبره عنها، ولا يلتقي اللسانان، لسان الإله ولسان المرأة. ويكاد يُحصر حضورها في مقدسات أهل هذه المنطقة ببند «النكاح»، إن مورس كمتعة وحق، أو دُعي إلى حصره بغرض التكاثر، أو احتُفي بالمتعففات عنه. فكيف تخرج عن وظيفتها الأولى في الإنسانية، وكيف لا تدور في فلكها حتى تموت؟

هي أرض مفتوحة في زمن الحرب، يرفعها فاتحها على أعلى الرمح ليثبت الفتح على الملأ، فيُذلّ خاسرها ويمحيه عاره من الوجود. ولذلك، يقتل الشقيق شقيقته المغتصبة، أما المغتصِب فلا يقتل المرأة التي اغتصبها في زمن الحرب منهجياً كمحطات الاغتصاب الواضحة، وإنما عرضياً وظرفياً. وقد عاشت معظم صاحبات شهادات الاغتصاب ليخبرن.

إن المغتصب يُبقي النساء المغتصبات أحياء ليكنّ التماثيل، معالم تدلّ على الموت الذي حلّ حيث هنّ. قتلهن الرمزي أشد ضراوة ودلالة من القتل المادي. فالموت البيولوجي يحيل الميت إلى قصة، بينما الاغتصاب يحيل «الجماعة» التي تعرضت له إلى أصنامٍ تجاور موتها، تشهد يومياً عليه. ولذلك، ربما، أرادا قتلهما. يريدان إلغاء المعادلة التي أحلّها الغازي، تماماً كما تحرق المدن نفسها أحياناً كي لا تخضع لمحتل. لكن المرأة لا تمتلك قراراً بذلك. هي لا تحرق نفسها ولا تنتحر. هي تُقتل كانتحار بديلٍ يُقدم عليه شقيقها. ولمَ لا يقتل نفسه؟ لأن سلّم قيمه أبلغه بأنه الإنسان، وانتحار الإنسان حرام... أما مقامها هي فيتبدل تبعاً لحاجته منها، وإذا احتاج إليها ميتة، احالها ميتة.

الزواج الحربي

تُهرّب النساء السوريات إلى مخيمات اللجوء في الأردن. وهناك أيضاً، حيث انعدام الراحة، يترعرع شبحٌ جنسي آخر، يحوم حول جسم المرأة، مهما نعمت أظافرها. مناسبةٌ للنكاح، هي الحروب. فجّة، نيئة، متطرفة، تبيح الخروج عن الأطر القليلة التي تحتم العقيدة على الذكر المسلم احترامها. الحروب تطيحها. فانتقلت الفتيات إلى المخيم، ليجدن رجالاً معظمهم من كبار السن، يعرضون المال مقابل الحصول عليهن، عبر وسطاء، وبموافقة القيمين عليهن، حسبما نشرت «ذا ناشيونال» الإمارتية في تحقيق حول مختلف مراحل هذا الزواج.

تلك تجارة تحترم طرفيها. وعندما تُسأل الأمهات عن أسباب قبولهن بهذه الصفقات، يحكين عن وضع اقتصادي واجتماعي ومعيشي صعب سيرفعه الزواج عن بناتهن. أما طاعة زوج مسنّ وهي قاصر، طاعته في المطبخ كما في السرير، فهي لا تحتمل صعوبة استثنائية. المرأة معتادة على هذه الصعوبة، تختارها حتى لابنتها، وتفضلها لها على أن تواجه حياة صلفة مثلما يواجهها البشر، في ظروف ضاغطة شبيهة.

وفي نهاية الحوار مع الأمهات، يلوح الطيف الأول مجدداً: لا يردن لبناتهن أن يُغتصبن فيُقتلن، لا يردن لهن أن يبقين عرضة للانتهاك، فلنحميهن من جنسانيتهن، ومن أجسادهن. فلنرتح جميعاً، ونجعلهن عرض سوانا، فلنزوجهن، ولو صغيرات...

أما الأموال فهي «المهر». وتأتي الآية الكريمة هنا لتقول بوضوح لا يحتاج إلى تفسير:

«وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ»

(النساء – ٢٥).

وقد قالها الرجل الأردني الذي خاض في نقاش أخلاقي على الإنترنت حول المسألة، بلغة واضحة وبسيطة: «هذه ليست قضية استغلال. هي مسألة عرض وطلب». وهي فعلاً كذلك. فالاستغلال يطال متساوياً، تسرق حقوقه وتمتّع نفسك بها. أما التجارة فهي عرضٌ وطلب، محورهما بضاعة.

يقولون إن سعر الفتاة السورية اللاجئة في مخيمات الأردن يراوح ما بين خمسمئة وألف ريال سعودي، وتسعّر بالريال كون السعودية هي الوجهة الأشد تكرراً في مسار الفتيات السوريات القاصرات. ولكن، تم الإعلان عن عقود نكاح شبيهة تقود الفتيات السوريات إلى بلدان أخرى، كالعراق وتركيا.

وعندما ذاع خبر هذه الزيجات، انتشرت صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، ترفض المساس المقنّع بالعرض، على طريقة «الحرائر»، وتطالب بالحرية للمرأة السورية، لكن ضمن سياق «المروءة والأخلاق»، وليس ككيان حرّ في اختيار صفاته، لا يجوز «بيعها» او اغتصابها حتى ولو لم تكن هي تطمح إلى «المروءة» كأسلوب حياة. فتقول إحدى صفحات «لاجئات لا سبايا»: «(...) المرأة السورية نعتبرها كنز الإرث السوري المعرفي الذي يحمل كل قيم الشجاعة والمروءة والكرم والأخلاق والحرية». وتقول أخرى: «نحن السوريين لا يمكن أن نسمح لأي شخص بأن يمس كرامة المرأة السورية سواء كان عربياً أو أجنبياً (...) يا حيف على النخوة العربية يا حيف، نعم لحرية المرأة السورية».

في المقابل، حضرت صفحات على الإنترنت ترفض عنوان الحملة، على اعتبار أن وصف «سبايا» يتضمن إهانة للشاري، التاجر الذي اعترف بـ«حقنا» في البضاعة. فتقول صفحة «ضد حملة لاجئات لا سبايا»: «اسم الحملة اختيارٌ غير موفق، فهل من تتزوج وهي راضية ومعززة مكرمة، تكون سبيّة؟!». وصدر «بيان رد اعتبار للاجئات السوريات» ضد الحملة الرافضة للسبي، يقول: «بعض الأطراف بات همها الوحيد هو إفراغ الثورة السورية من مضمونها وسلخها عن حاضنتها العربية لتمزيق قدرتها وفاعليتها، وذلك عبر حملات التشويه والتضليل وزرع التخوين وبث الفرقة بين الأشقاء العرب».

هنا، يتضح العنوان الأشدّ أهمية ربما من «عرض» الرجل العربي، وهو الترابط ما بين الذكور. فما دام الزواج بعقد شرعي، يكون النكاح حلالاً، وتكون الحقوق محفوظة. ويتدخل هذا الترابط ليسمو فوق «العرض»، كلما كانت الضرورة القبلية الذكورية تقتضي ذلك. ومن هذا السياق، يلوح طيف الخريطة السياسية في توزيع القوى والانتماءات التي يختارها ذكور الحرب، أي الملكية السياسية الاجتماعية لسياق الثورة السورية. ويأتي امتلاك النساء، كتصدير الأسلحة، حمّال سيادة رمزية ــ حسية في آن، يحفظ لـ«أشقائنا» في دول الخليج موقعهم الداعم والشريك في التغيير، ويمكن اعتبار «النكاح الحلال» أحد أوجهه أيضاً. لمَ لا، ما دام هو التغيير الذي لا يهدد قواعد اجتماعية سائدة، بل يجذّرها.

احتمالات أخرى؟

يرسي «النكاح الحلال» أمام الأجيال الآتية والثورات اللاحقة، آلية استجابة للخروج من مأزق اغتصاب النساء: تزويجهن كيفما اتفق، بدلاً من مساءلة جوهر الفعل ودلالاته السياسية والاجتماعية، وبدلاً من منح دورٍ ولو صغيراً، وصوتٍ ولو خافتاً، لضحايا الاغتصاب أنفسهن، ليحدّدن مصائرهن، أو على الأقل ليعبّرن عن حاجاتهن مهما بلغت من البساطة، كالرغبة بالانتظار لسنة أو اثنتين قبل الالتحام مجدداً بجسد ذكري.

لكن، الثقافة التي تجعل الاغتصاب مشكلة يعانيها ذكر العائلة، هي نفسها التي تبتدع حلّين لها لا ثالث لهما، وهما القتل أو الزواج (أو وجهه الآخر، الانخراط في سلك الرهبنة). فهل يتيح الحراك السياسي العربي الراهن إمكانية لمساءلة تشخيص المشكلة وحلولها؟ بالطبع لا. ففي زمن العواصف التي يتطاير منها الدم، كتلك التي نشهدها اليوم، يصبّ الهوس على التمسّك بأي مرجعٍ ثابت. فيكون شديد الاحترام محفوظاً للثقافات السائدة، وتُقاد الثورات لتضحي تعبيراً عن رغبات بتجذير هذه الثقافات وتفعيلها، على طريقة: «الأخوان المسلمون ليسوا الإسلام، فلنحكّم بنا الإسلام الرشيد».

غير أنه عندما تخرج امرأة عن هذا الإجماع، في بلد عاصف لكن يبقى أقل دموية من الراهن السوري، وهو السودان، وتجد الاغتصاب أيضاً رداً عليها، في معرض عقابها هي، هذه المرة، فتراها تختار أن تتحدث عن اغتصابها. وعندما تتحدث، يكون لحديثها اتجاه آخر، ومغزى آخر، غير «فضح» جرائم النظام أو «هزم» ذكورة الأخ. عندما يكون الاغتصاب عقاباً للمرأة وليس لعائلتها أو مجتمعها الرمزي، تجدها تطالب بعدم إبقاء أفعال الإغتصاب سراً، وبعدم الانكسار تحت وطأة الاغتصاب، والاستمرار في النضال على الطريق الذي اختارته المرأة لنفسها وأتى عليها بالاغتصاب عقاباً.

عندما تقوى المرأة على الخروج عن الإجماع، وعندما تمتلك الوسائل اللازمة لحماية نفسها في حال الخروج عن هذا الإجماع، وعندما تمتلك الوعي الكافي لتفكيك ما تم تلقينها إياه على مر العقود والأجيال والأديان، تجد لنفسها سبلاً كثيرة للتعامل مع المشكلة.

الناشطة السودانية صفية اسحق، التي اغتصبها رجال الأمن السوداني عقاباً لها على نشاطها المناهض للنظام، ضمن مجموعة العمل اللاعنفي المباشر «قرفنا»، ليست صلبة كالأسمنت، ولا هي استثناء. وهي تبكي عندما تتذكر، فالاغتصاب ليس نزهةً صيفية. لكنها ترى نفسها في القصة، تعرف من هي، لا تعرّف بنفسها كقطعة لحم سرقت من ثلاجة أبيها. تعي أسباب اغتصابها، وتعي أنها هي التي ستتمرّد ضدها، رغم الصعوبات، ستواجهها بالكلفة المطلوبة، وها هي تبدأ بأن تخرجها إلى العلن، بصوتها. وبذلك، هي تحمي نفسها من الأسرار وذنوبها، وتحيلها قضية مجتمع، لا قضية شرف رجل أو أزمة عائلة.

لقد قيل لها بوضوح إنها تُغتصب لكونها شذّت عن صيغة «حرائر»، ولأنّها «شيوعية»، فـ»الشعر المقصوص هو علامة البنات الشيوعيات». لقد قيل لها بوضوح إن خروجها عن الثقافة السائدة، وليس ضد النظام فحسب، هو سبب يستجلب لها الاغتصاب عقاباً، لتعرف من هو «سيّدها»، أي الرجل، أيّ رجل، وليس فقط ذاك الذي فشل بتربيتها.

ومع ذلك، بقيت الكلمة الأخيرة في قصة اغتصابها، لها. وهي اختارتها دعوةً للمواجهة لا للهرب، والاختباء، والتزويج، والقتل. ونساء أخريات سيخترن ربما سبلاً مغايرة للتعامل مع التجربة التي تعرّضن هن لها، لا أشقاؤهن أو آباؤهن وأزواجهن أو أوطانهن. هو يصيبهن في أجسادهن وأرواحهن، هن.

العددان ٣-٤ خريف ٢٠١٢ / شتاء ٢٠١٣

التعليقات

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.