العددان ٣-٤ خريف ٢٠١٢ / شتاء ٢٠١٣

الثورة السورية ومقاومة الجولان المحتل

النسخة الورقية
ملف

«إذا كانت رجولتك مشروطة بغشاء بكارتي فهي حتما معدومة بزواله. (الجولان المباع/المحتل ٢٤-٨- ٢٠١٢)»

هكذا رفعت النشاطات يافطة في تجمع اسبوعي تضامني في مجدل شمس لنصرة الثورة السورية. انتشرت الصورة على الفيسبوك وفي مواقع انترنت محلية وأثارت موجة كبيرة من «القلقلة» في البلدة. وعلى احدى صفحات الفيسبوك علق مجهول: «...الصورة جعلتني اشعر بأن عصر الانحطاط قد جاء وأن هؤلاء الأشخاص عندما تتمعن وتفكر من هم تلاحظ انهم من نفس الطينة. ها قد وصلنا الى مرحلة تسمح الرجال للنساء برفع لافتات وقحة فإذا باعوا وطنهم هانت عليهم بناتهم. لقد طفح الكيل لانهم يعكسون صورة غير جيدة عن بلدنا واعتقد ان مرض العرعور وصل إلينا». وبالطبع هناك من شوّه الصورة وبخّ عليها بمساعدة فرشاة برنامج «الباينتر» على «ويندوز»: «جماعة غشاء البكارة يستنكرون تفجير جرمانا»، ونشرها على صفحات الفيسبوك المحلية، وهناك من رد هذه الاعتداءات بالنقد اللاذع والنافي في آن معا.

هل ان سورية تتفكك؟

على هامش رسالة الكترونية مهنية، تساءل زميل من أميركا—وهو باحث متخصص بتاريخ سورية العثمانية من أصل عربي— «كيف الأمور في مجدل شمس وسورية تنهار/تتفكك». وفي الحقيقة، وعلى الرغم من الدمار والتفكك والحرب الطاحنة التي يشنّها النظام ضد قوى الثورة وحاضناتها الأهلية، صدمتني الجملة التقريرية في السؤال، أن سورية تنهار! وكأنّي لا أصدق أنّ سورية تنهار، فأكّدت له أنّ الناس هنا لا يعتقدون بأنّ سورية تنهار وأنّ كل طرف متيقّن من أنّه سينتصر وسيكون انتصاره حفظا لسورية من الانهيار، فواساني بابداء تفهّمه، والقول بأنه سعيد أن الناس ترى أملا في نهاية الطريق.

فالفاجعة، بنظر زميلي المذكور، هي أنّ سورية-المخيلة قوية ومنيعة لدى الطرفين، وأنّ كلّ طرف على يقين مطلق من أنه سيحفظ سورية من براثين الطرف الآخر، لكن هذا التمسك بالمثال المطلق ونفي الآخر، لا يفشل في منع المأساة فحسب، بل يدفع نحوها حتمًا، على نمط التراجيديا اليونانية الكلاسيكية!

لا أقول هذا بالطبع لأساوي بين الأطراف المتنازعة، فالتراجيدية موقف وأداة تستعمل أو لا بحسب السياق، وليست حقيقة مطلقة بذاتها. ولا أقول هذا لأحدد ماهية أحداث الثورة وأُقيّمها أو ما شابه، رغم أنّ موقفي منها سيكون واضحا للقارئ. بل بكلّ بساطة أستخدم الثورة منهجيّاً كعدسة، لها ميزات خاصة ودقة خاصة، لتبيان جوانب من الحياة السياسية-الاجتماعية في الجولان المحتل. وأرى أساسًا أنّ الثورة يجب أن تُفهم كفكرة ذات أبعاد وآثار متعددة في السياق المحلي الذي تتفاعل معه. وحال الجولان المحتل ممتاز لتبيان هذه النقطة. الجولانيون ككل السوريين اليوم مضطلعون في انقسام عميق وخطير، لكنّهم بخلاف باقي السوريين لا يقعون مباشرة تحت سطوة العنف ولا يتعرضون للموت أو خطر الموت أو التواطؤ المباشر في القتل، رغم توتر الاجواء بينهم إلى درجة غير مسبوقة في تاريخهم المحلي. إنهم على بعد من الثورة، بعد جسدي فيزيائي، لكنهم في صلبها وحيثياتها على صعيد الوجدان والتأثر السياسي، مما يؤكد الطبيعة «المثالية» للثورة – الثورة كفكرة، كمفهوم اصطلاحي. يبقى أن نرى كيف تكتسب الفكرة-المصطلح ابعادا واستعمالات ودلالات مختلفة في السياقات المختلفة.

جمعة جولانية للنساء

إن المادة الاثنوغرافية المعروضة أعلاه تكشف هذا الأمر. المادة من نشاط أسبوعي يعقده مناصرو الثورة في الجولان المحتل مساء كل يوم جمعة، يرفعون فيه أسم الجمعة كما تختاره التنسيقيات المحلية في الوطن، معتمدين مبدأ صاغوه منذ الأيام الأولى للثورة، وهو أنّ الحراك في الجولان هو صدى للحراك في الوطن (أنظر الملحق ١). لكنّ الجمعة المذكورة أعلاه خرجت عن هذا التقليد، فقد قررت مجموعة من الناشطات الشابات اعادة ما اعتبرته جوهرا للثورة/الحرية الحقيقية – من وجهة نظر نسوية – فرفعوا يافطات «اغتصبوك لأن الثورة أنثى»، ويافطات أخرى تهاجم السيطرة الاجتماعية للرجل على المرأة ومفاهيم الشرف التقليدية المحافظة، باعتبار أن الحرية لا تتجزأ. والملفت في الأمر هو أنّ التعليقات المعادية لهذا الخطاب النسوي والمعادية للثورة في آن معا، رأت أنّ هذا الخطاب النسوي فاسد كفساد «الثورة» تماما وأنّه من ذات الطبيعة. إذن لم ير المعادون في الخروج على تقليد الجُمَع هذا (ومثل هذه الشعارت النسوية لم نرها مطلقا في الحراك في سورية حتى الآن) أي شيء ذي دلالة خاصة، بل إن احد الناقدين رأى في تلك اليافطات جزء طبيعيا من «مرض العرعور» دون تمييز بين حدث وآخر، أو موقف وآخر في الثورة! هذه الأمور تدلّ على أن الثورة هي فكرة تتفاعل بدلالات مختلفة في النسيج والعلاقات والشبكات الاجتماعية المختلفة (والتي تشكل شبكات التواصل الاجتماعي على الإنترنت بعدًا مندمجاً فيها)، من خلال أنماط جديدة-قديمة من الحراك السياسي والأفعال، يجب أن تُدرس وتحلل لا أن تفترض سلفًا.

وقد يفسّر هذا الأمر مفارقة عميقة في الواقع الجولاني لا بدّ من التطرق إليها في هذا السياق، وهي أنّه على الرغم من أنّ كلا الطرفين يرجعان جذر المأساة إلى إسرائيل (كجزء من المؤامرة العالمية مع أو ضد النظام، بحسب موقف المرء)، إلا أن أحدا منهما لا يصطدم معها مباشرة على الأقل الآن (سوى في حالة نادرة، وهي حدث محاولة عبور المتظاهرين الفلسطينيين إلى مجدل شمس اختراقا للأسلاك الشائكة وقوة الاحتلال، في يوم النكسة عام ٢٠١١، اذ رشق الشباب الجولانيون قوات الاحتلال بالحجارة واعتقل منهم مجموعة من النشطاء منهم المعارضين ومنهم الموالين معا؛ ولكن للاطلاع على تاريخ المواجهة مع الاحتلال، أرفق مع هذا المقال اضاءة على تاريخ الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال الإسرائيلي). إنّ تفسير انحسار المواجهة المباشرة مع الاحتلال يحتاج إلى مقال منفرد، لكن في جميع الأحوال يمكن استخلاص عبرة محددة من هذا الأمر، وهي أنّ الصدام بين القوى الوطنية اليوم والصدام في سورية حدثٌ داخليّ في العمق، يخصّ شبكات العلاقات القائمة داخل المجتمع الجولاني والسوري عموما، وهذا لا يمكن فهمه من منظور نظرية المؤامرة الخارجية. إن الثورة كفكرة تؤثر في هذه العلاقات/النسيج الاجتماعي بشكل استثنائي، والنتائج التي تخرج لا تكون من طبيعة أحداث الثورة وحدها، بل من طبيعة تلك العلاقات أيضًا. وهذا هو مقصدي بالتحديد من استخدام الثورة كعدسة لرؤية ديناميات المجتمع، كمنظور، أي أنّه يمكن أن نرى في سياق معيّن تفاعلت معه الثورة كفكرة، نتائج تدلّ على ذلك السياق وتوضّحه.

محافظة اجتماعية ومحافظة سياسية

في العام ١٩٨٢ أغلقت إسرائيل معبر القنيطرة أمام الطلاب الجامعيين الجولانيين الذي التحقوا بجامعة دمشق، تطبيقًا منها لقانون الضم ومحاولة في سلخ الجولانيين عن وطنهم الأم ومعاقبتهم على رفض مشروعها. لكن الجولانيين ردّوا بطريقة خلاّقة بمساعدة الحزب الشيوعي الإسرائيلي ولاحقا من خلال العلاقات السورية-الروسية في ترتيب منح تعليمية بديلة على نطاق أوسع في الاتحاد السوفييتي (سابقا). من بين عشرات الطلاب الذين التحقوا بالجامعات السوفياتية التحقت مجموعة صغيرة من الطالبات. في حينه فرض رجال الدين الحرم الديني والقطيعة الاجتماعية على أهاليهن وحاربوا المسألة بكل ما أوتوا من قوة معنوية في المجتمع. لكن هذا لم يمنع الشّابات من الاستمرار في عملية التحرر والالتحاق بالجامعات، والإسرائيلية منها، وبعد عام ١٩٩١، وعلى نطاق واسع بجامعة دمشق بمختلف معاهدها وكلياتها. التعليم العالي، من جهة، واستيعاب سوق العمل لمهن عديدة من جهة اخرى، ساهما في إحداث ثورة حقيقة في واقع المرأة الجولانية الشابة—الأمر الذي أثار وما يزال أعمق مشاعر القلق والامتعاض لدى المجتمع المحافظ، كما المشاعر المزدوجة عند قطاعات واسعة من المجتمع. لا شك أنّ حدث يوم الجمعة ٢٤ آب ٢٠١٢ من أشد التعبيرات المباشرة عن هذا التحول، بل يمكن اعتباره أول حدث في البلدة يتم فيه التعبير عن موقف نسوي جذري من المواطنة وقضايا الأمة الأوسع. فهل من رابط بين المحافظة الاجتماعية والمحافظة السياسية؟ أو بين الثورة الاجتماعية والثورة السياسية؟

لا أعتقد أنّه بامكاننا الإجابة عن هذا السؤال ببساطة، كما فعل أخيرًا صحافي هاو زار المنطقة؛ إذ وصف رجال الدين بالموالين والعلمانيين بالمعارضين. فهناك قطاعات واسعة «حداثية» وغير محافظة اجتماعيا لكن المسألة السياسية لا تعنيها. وعلى كل حال لا يمكن التقدم هنا بدون تحديد معنى واضح ومنهجي لكلمة «محافظة». اذا كانت المحافظة الاجتماعية سهلة التعريف نوعا ما، كما في نقاش علاقات النوع الاجتماعي أعلاه، فما هي المحافظة السياسية؟ هل دعم النظام محافظة سياسية؟ وهل المحافظة معناها فقط الالتزام بما هو قائم وموروث وعدم السعي إلى التغيير باعتباره — أي الالتزام بالقائم — قيمة بحد ذاته؟ هل يمكن أن يفسّر هذا لماذا تصبح المحافظة السياسية رديفا للمحافظة الاجتماعية، والثورة السياسية رديفا للثورة الاجتماعية؟ سأقبل مؤقتا هذا التعريف، لكن مرة أخرى يجب أخذ الحيطة من ارجاع المواقف السياسية إلى التجربة أو الموقف الاجتماعي ارجاعا ميكانيكيا. ادعائي هو أنّ الثورة كفكرة تدمير للقديم وبناء للجديد، تستطيع أن تتولد على نطاق نسبي وجزئي وانتقائي وليس بالضرورة كليّ. أي أنهّا تستطيع أن تتولد وتفعل في بعض المواقف والملفات دون أخرى. وهذا يصحّ كذلك على المحافظة. لكن الحيطة لا تعني تدمير العلاقة برمّتها، أي أنّها لا تعني عدم وجود إمكانية للربط القوي بين الموقف السياسي والموقف الاجتماعي.

في هوية الجولان

أعود مرة أخرى إلى بداية الثمانينات، لقراءة وثيقة مؤسِّسة في التاريخ السياسي للجولان. هي سياسية بامتياز، تتعلق بهوية الجولان، الأرض والانسان، والموقف من الاستعمار والموقف من الأفراد الذين ضعفوا أمام اغراءات أو ضغوطات الاحتلال وقبلوا الهوية الإسرائيلية (المواطنة). اقصد «الوثيقة الوطنية» من آذار ١٩٨١ (انظر الملحق ٢). لقد قرأ المحللون هذه الوثيقة إلى الآن من منظور محدّد، وهو دورها في مواجهة سياسة الأسرلة وفرض الحرم الديني والاجتماعي على من يقبل بالمواطنة الإسرائيلية ويعترف بالاحتلال كواقع «شرعي» أو يحاول تشويه الموقف الوطني للجولانيين. لكن الوثيقة تبدأ من تعريف ماهية للوطن والانتماء. وفي هذا التعريف أجد مادة «اجتماعية-ثقافية» هامة قد تمّ اهمالها في التحليل السياسي رغم أنها كانت مولّدة — في وعي الفاعلين التاريخيين أنفسهم — للموقف السياسي. الوثيقة تتحدث عن «قدوم» من أصلاب أجداد وامتزاج الدّم بالأرض. وفي ذات الوقت تتحدث عن مواطنة سورية أصيلة. المخيلة باعتقادي واضحة هنا ولا تناقض جوهري فيها. فهي مخيلة سورية اليوم كسلالة تجمع كل السلالات الأصيلة المتخيلة – عائلات-أعراق كلها تعود إلى ذات الأصل الواحد وترتبط بهذه الأرض بعينها. إنها أقرب إلى نسخة شعبوية عن مخيلة انطون سعادة والحزب القومي السوري، عن وحدة الشعب/العرق والأرض، منها إلى مخيلة ساطع الحصري للأمة كوحدة اللغة والتاريخ. الفارق البيّن مع مخيلة انطون العلمانية هي مكانة الدين الصميمية هنا، في كونه مصدر الأخلاق العليا التي تقضي بصون الأصل والوطن. الأجداد-الدين-الوطن، ثلاثة مركبات مختلفة تماما، لا علاقة أولانية أو منطقية بديهية بينها، إنما فقط علاقة تركيب وجداني مفاهيمي. فقط من خلال التربية على الحب الصادق، وتهذيب المشاعر والأحاسيس والسلوك يمكن أن تفعل كمركب بديهي بسيط، يحدث في قلب وعقل المرء معا، أشبه بمفهوم وجداني. لكن مرة أخرى، تبقى المفارقة قائمة: الفكرة لا تفعل في الواقع على نطاق شمولي، بل دوما هناك غياب لها وبالتالي نقاط لتفكيكها.

تغيب الفكرة في البعد الزمني، وكذلك في الحيّز، وتنافسها أفكار أخرى. فلو عدنا إلى الوراء في الزمن لاكتشفنا حداثة المركب المذكور (أجداد-دين-وطن)، أي أنّ أجداد الأمس القريب لم يكن لديهم مخيال المواطنة أو الشعب السوري لأجداد اليوم. مخيلة الوطن السلالية اذن ليست «التقاليد»، بل تقاليد مولدة حديثا تماما كالوعي الحداثي بالأمة. ولو نظرنا في الحيّز لرأينا فارقًا بين ما يُقال في البيت وبين ما يُقال في المكان العامّ المقدّس وبين ما يقال في المكان العام الدنيوي. وكذلك تغيب فكرة الوطن-السلالة اجتماعيًا، على صعيد الحياة اليومية والخيارات الثقافية والسياسية المتوفرة للناس، فلا يمكن فهم الثقافة والمجتمع وأنماط السلوك أو اشتقاقها جميعا انطلاقا من تلك المخيلة بالذات. وهناك بالطبع مشروع إسرائيلي مستمر وعنيد، يروّج إلى فصل الدين واعتباره وحده منظم الأصول والسلالات المتخيلة للدروز (العرق هو في هذه المخيلة: أجداد-دين للمستعمَر، مقابل أجداد-دين-أرض للمستعمِر)، فيتحدث عن الدروز كأقلية «قومية» (لكن من نوع القوميات التي لم تتمكن من السيادة السياسية)، منفصلة عن العرب ويمكن أن تتحالف مع الجماعة العرقية\القومية اليهودية. لكن الفكرة/الأفكار المنافسة والمتحدّية، الأكثر وعيًا بمعايير الحداثة والمدنيّة، وبمنزلقات تحالفات الشعبوية والاستعمار، من جهة، وتحالفات الشعبوية والاستبداد والنظام الشمولي، من جهة أخرى، هي فكرة الانتماء الحزبي، والانتماء القومي، والوعي بتاريخية المجتمع والإيمان بالتقدم والحرية. فهذه كلها تنافس مفهوم الأصل والجماعة السلالية المتخيلة، وقد ظهرت في الجولان المحتل منذ بداية المواجهة مع الاستعمار الإسرائيلي ولا تزال. ولكن هذه الأفكار – العلمانية الكونية – أيضا تكتسب طابعا وطنيا بشكل تركيبي وتحتاج إلى عمق شعوري. فالحرية لا تعني بالضرورة انتماء قوميا أو وطنيا، إلا بأثر قرار شعوري وجداني يقوم على المحبة والالتزام بفكرة الارتقاء بالأحاسيس وتهذيبها في اتجاه معين، والتواصل مع الآخرين واكتساب هوية مشتركة وطابع جمعي تشتق منه احساس الفرد بهويته.

الهويات والديمقراطية

لعل هذا الفهم للهوية والموقف السياسي يساعدنا في بدء بلورة موقف مختلف من مأزق الانقسام الأهلي والوطني في سورية دون أن نتخلى عن الثورة، بل مع الدفع نحوها. ربما علينا أن نعترف بأنّ الصدام ليس بين شرٍّ مطلق وخيرٍ مطلق، بل بين مفاهيم وجدانية مختلفة لماهية الانتماء. لا بد من القبول بوجود اختلاف عميق في الطابع الثقافي للمجتمع ووجود أبعاد سياسية جوهرية له. إنّ ما يميّز العالم الجنوبي عامة هو أنّ الطابع الثقافي والصراعات التي تدور حوله تؤثر في النظام السياسي للبلدان بشكل اكثر تقلبا من الدول الصناعية الليبرالية المتقدمة، التي تبدو فيها هذه القضايا وكأنها حسمت تاريخيا واستقرت إلى حد كبير (على الأقل في المنظور القريب من حياة النظام الرأسمالي، ولا شيء ثابت في منطق التاريخ الجدلي). وهذا واقع الحال لدينا. فالمشاريع الثقافية للأصوليات الدينية والشعبوية تكاد تتعارض جوهريا مع النظام الديمقراطي، وهي بلا شك سوف تؤثر بشكل وآليات عمل أي نظام مستقبلي سوف ينشأ. وهذا بلا شك مؤلم للمشاريع الثقافية التحررية، لكن هذا الألم جوهري ويجب القبول به، فهو برأيي مرافق لفعل ولادة—وان كانت مضجرة بالدماء، الفعلية والرمزية—لفكرة التحرر. الصراع القادم للحفاظ على المولود سيكون خطيرا، لكنّنا بتنا على أرض أكثر صلابة تحت القشرة المتصدعة. هذا هو على الأقلّ حال أول فعل نسويّ سياسيّ جذريّ في الجولان المحتل، وسيكتب له التقدم حتمًا طالما أنّه موجود كمفهوم وجداني لدى قوة اجتماعية صاعدة. وكذلك هو حال الثورة ضد الطغيان والقمع البوليسي المتوحش للأنظمة الشمولية وحال مقاومة الاستعمار.

من تاريخ المقاومة الجولانية

في العام الماضي ألقيت محاضرة عن الجولان المحتل بدعوة من رابطة المرأة العربية في فيينا، وهي منظمة تحتضنها الجالية السورية هناك. وفي نهاية المحاضرة واجهني أحد الطلبة السوريين معاتبا: «أننا في الجولان المحتل لا نقاوم الاحتلال عسكريا، وأنّ أبطال الجيش السوري ما برحوا ينتظرون منا الطلقة الأولى على العدو ليرد العدو ويعطي بذلك الذريعة للبواسل لأن يهاجموه ويحرروا الأرض السليبة». سمعت هذا الكلام وضحكت. في البدء، ظننت أنّ الشّاب لديه روح نكتة عالية، لكنه سرعان ما أكمل الكلام بجدية: «والله والله الجندي السوري ليروح يقتل مئة إسرائيلي... وانت عارف انو سورية تحت الضغط الغربي وما فيها تباشر هي بالهجوم على إسرائيل». حينها أدركت أني أمام ببغاء لدعاية النظام سقيمة المنطق.

كان يقف بجانبي أحد أقارب الشهيد هايل أبو زيد أحد أعضاء حركة المقاومة السرية الذين بادروا في مطلع الثمانينات، وهم في مقتبل العمر، بتنظيم أعمال مقاومة مسلحة تمثلت بتفجير مخزن أسلحة لجيش الاحتلال. أسرت المجموعة في العام ١٩٨٥ وحكمت عليهم محكمة عسكرية للاحتلال في العام ١٩٨٦ بأحكام تتراوح بين ٤ و ٢٧ عاما. ولم يسأل عنهم النظام إلا من باب الدعاية التي تفيده في الاستمرار في الحياة. ولكن اشتهر أمرهم في الجولان المحتل وفلسطين، ودافع عنهم ١٣ محاميا فلسطينيا آنذاك اعترضوا على الاحكام الجائرة نظرا إلى أعمارهم اليافعة. وسبب تلك الأحكام، انهم أثاروا غضب المحكمة بسبب رفضهم الوقوف للقضاة وإنشادهم النشيد الوطني السوري في قاعة المحكمة، رافعين شعار عدم الاعتراف بشرعية القضاء الاسرائيلي وعدم قبول الاحتكام إلا للقانون السوري، على مرأى أهاليهم وممثلي الصليب الأحمر ووسائل الاعلام العالمية الذين حضروا إلى مبنى المحكمة.

وفاء نذكر اصحاب الاحكام الطويلة الجائرة منهم:

  • هايل حسين أبو زيد، حكم عليه بـ٢٧ سنة حبس، وأطلق سراحه اشتراطيًا نظرًا لمرضه الشديد، بعد عشرين عامًا في الأسر في العام ٢٠٠٥، وتوفي في العام نفسه.
  • سيطان نمر الولي، حكم عليه بـ٢٧ سنة حبس، وأطلق سراحه اشتراطيًا بسبب مرضه الشديد في العام ٢٠٠٨. تزوج في العام ٢٠١٠، وتوفي في العام ٢٠١١ بعد معاناة طويلة مع المرض.
  • بشر سليمان المقت، حكم عليه بالمدة اياها مثل زميليه، وأطلق سراحه في العام ٢٠٠٩ ضمن اتفاق توصلت إليه حركة «حماس» مع قوات الاحتلال فيما عرف بـ«صفقة شريط الفيديو» المتعلق بالجندي شاليط.
  • عاصم محمود الولي، حكم عليه بـ٢٧ سنة حبس وأطلق سراحه في العام ٢٠٠٩ ضمن «صفقة شريط الفيديو» اياها
  • صدقي سليمان المقت، حكم عليه بـ٢٧ سنة حبس، وتحرر أخيرًا بعد انقضاء فترة حكم كاملة.

دخل هؤلاء الأسر وهم فتية يدافعون ببطولة نادرة عن الحق السيادي السوري في الجولان المحتل، وهذه المثالية أقوى من مجرد طلقة رصاص أو تفجير مخزن أسلحة. إلاّ أن أحدا من قبل النظام السوري لم يحرّك ساكنًا للدفاع عنهم أو تحريرهم. فقبعوا في الأسر واحتضنتهم الحركة الأسيرة الفلسطينية.

وانضم إلى الحركة الأسيرة الجولانية عشرات الشبان والشيوخ منذ اليوم الأول للاحتلال. وكانت خلايا العمل السري في مطلع السبعينات هي المثال الأول لحركة المقاومة التي اطلقها هايل أبو زيد ورفاقه. في حالة الرعيل الأقدم من الأسرى، كانوا قد اضطلعوا بأعمال استخباراتية وساهموا، كما تفيد الذاكرة الشعبية، في نقل معلومات للمخابرات السورية والمصرية كان لها دور في حرب تشرين عام ١٩٧٣. وهناك عشرات المعتقلين السياسيين الذي دخلوا فرادا المعتقلات الإسرائيلية قبل وبعد هذه الحركات المنظّمة، لكن في جميع هذه الحالات على الإطلاق لم يتم تحرير أسير أو معتقل واحد بأي جهد مباشر من قبل النظام السوري. لقد تحرر الرعيل الأول بعملية تبادل أسرى حققتها منظمة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة في العام ١٩٨٥ (فيما عرف بـ«صفقة جبريل»)، وتحرر عدد من أسرى حركة المقاومة السرية وغيرهم في عمليات تبادل أسرى حققتها حركة حماس (كالأسير المحرر وئام عماشة، في «صفقة شاليط»). بالفعل، لقد تذكّرت حركات المقاومة الفلسطينية أسرى الجولان واحتضنتهم وحررتهم كما لم يفعل النظام. وقد كان لذلك تعبير رمزي بأن منح أسرى الجولان وأسرى عرب آخرين منسيين من أنظمتهم «العميلة» و«الممانعة» سواء بسواء، على الجنسية الفلسطينية وعوملوا معاملة الأسرى الفلسطينيين من قبل وزارة الأسرى في السلطة الفلسطينية، من حيث تقاضي مخصصات معيشية اثناء الأسر وبعد التحرر.

قد يقول قائل إن النظام كان حليفا لهذه المنظمات وهو الذي يقف وراءها سرًّا. أن سورية القوية الشرسة تقع تحت مراقبة الغرب ولذا لا يمكنها أن تقاوم إلا من خلال أطراف ضعيفة. لكن يؤخذ بشدة على حليفها الأهم، والأكثر مباشرة بلا مواربة، حزب الله، أنه استثنى أسرى الجولان من صفقة التبادل الشهيرة عام ٢٠٠٤. لا بل أن امين عام الحزب طعن في سوريتهم مبرّرًا استثناءهم من التبادل بأنهم حملة هوية إسرائيلية!

هناك بلا شك محطات غامضة في تعامل النظام مع هذا الملف، اوقع الأسرى في الحيرة، وفضلوا الصمت فترة طويلة إلى أن طفح الكيل لدى جزء منهم فبدأوا يحذرون في تصريحاتهم وكتاباتهم من الوقوع في مصيدة خطاب الولاء للنظام، وأدركوا أنه يريد منهم شيئا واحد فقط لكي يعترف بوجودهم على الأقل (لا أن يحررهم)، وهو أن يكيلوا المديح الكاذب للنظام المستأبد. وذهب منهم فريق إلى اعلان النقد الصريح وسحب الشرعية عن النظام الشمولي القمعي.

كان أول من كسر هذا الصمت وآليات خطاب النظام في ملف الأسرى، هو هايل أبو زيد نفسه. لقد كان لظروف خروجه من السجن وحالته الصحية الخطيرة وقع شديد على نفوس الجولانيين. فهو أوّل من رأى سماء الحرية من مجموعة المقاومة السرية بعد عشرين عاما في الأسر. وخرج في حالة طوارئ والموت يتهدّد حياته. حاول النظام استغلال القضية اعلاميا، واستقبلت أسماء الأسد أخته التي تقيم مع زوجها في دمشق (وهو أسير جولاني فرّ من السجون الاسرائيلية إلى ما وراء خط اطلاق النار وأصبح عضوا في مجلس الشعب بالتعيين من قبل النظام)، واستقبلها كذلك بشار الأسد، ونشرت صحيفة «تشرين » مقابلة مع هايل أجراها علي الأعور (بتاريخ ٢٨\٠٢\٢٠٠٥). وقصة هذه المقابلة تقول الكثير.

لقد قوَّل الأعور أبو زيد فيها ما لم يقله الأخير، فجعله يمتدح جريدة «تشرين» على عشرات المقالات التي نشرتها عن الجولان وعن أبو زيد نفسه، وينتهي بمديح السلطان: «في النهاية اسمحوا لي أيضًا ان أوجه التحيات لأسرة جريدة تشرين الغراء انطلاقًا من التزاماتها الوطنية والقومية... بدءًا برئيس تحريرها د. خلف الجراد ومرورًا بمديري وأمناء التحرير الأعزاء ومحرريها الأخوة الأوفياء ومعهم وسائل اعلامنا المحلية والتلفزيون السوري. ‏وكل الوفاء والولاء والاعتزاز والتقدير أحمله لقيادتنا السياسية الحكيمة وعلى رأسها قائد الوطن السيد الرئيس بشار الأسد.» (انظر رابط:

http://tishreen.news.sy/tishreen/public/read/28332)

وهذا الكلام لم يقله هايل أبو زيد، بل نشر على الفور، في أحد مواقع الانترنت المحلية، النص الكامل للأسئلة التي طرحها الأعور ولإجابته الكاملة عليها، ليبين التحريف الحاصل، وقد غاب من كلامه بشكل مدروس «قيادتنا السياسية الحكيمة» و«قائد الوطن» و«الولاء» و«التقدير» وحتى أنه لم يذكر السادة في هيئة «التحرير» في الجريدة. (أنظر رابط:

www.jawlan.org/prisoners/hailabuzeid/hailabuzeid.htm)

وللحقيقة نقول، ليس كل الأسرى على الإطلاق أخذوا موقف هايل أبو زيد وسيطان الولي وياسر خنجر ووئام عماشة وعشرات الأسرى المحررين القدامى، الذين لبّى معظمهم نداء القوى التحررية من الشعب السوري واعلنوا دعمهم للثورة. هناك فريق مازال مقتنعًا بأنّ النّظام هو نظام ممانعة ضدّ إسرائيل وأمريكا، وهو مستعدّ لأن يذهب أكثر إلى انكار جرائم النظام تمامًا والدّعوة إلى صبّ مزيد من النار والدمار على «الأعداء المندسّين».

لا شكّ لدي في أنّ هؤلاء ضحّوا من أجل فكرة الوطن والحرية والكرامة، وعانوا من الأسر الظالم، لكن المأساة أنّهم يرفضون الاعتراف بأن النظام الذي يدافعون عنه لا يمكن له أن يدرك حقيقة معاناتهم وتضحياتهم. فهو ببساطة يقف على طرف الجلاد في ظاهرة العامة للاعتقال السياسي والقمع، ولأنّ في ذمته عشرات آلاف الشهداء السوريين، منهم الآلاف الذين عذبوا بوحشية وقتلوا أو اختفوا في المعتقلات والأسر.

الملحق ١
بيان لسوريين من الجولان المحتل

“أنتم الصوت ونحن صداه”

يا شعبنا السوري العظيم،

كثيرة هي المحن التي ابتُليَت بها شعوب مشرقنا العربي، الذي عرف شتى أصناف الاحتلال والتفتيت والقهر على أيدي الدخلاء والأغراب، لكن البلاء الأعظم الذي ميّز نصف القرن المنصرم، ممثلًا بأنظمة الجَور والاستعباد كان، مِن غير ريب، الأكثر وطأة ووبالا على أوطاننا وشعوبنا.

إنّ استعراض خطايا الديكتاتوريات العربية وموبقاتها لهو ضرب مِن ضروب العَبث لا أكثر؛ كونها، مِن الأساس، قامت على الفساد والإفساد المنظّمين ضمانا لديمومة سيطرتها على رقاب العباد والبلاد، وما الإجراءات الترقيعية التي تلجأ إليها بين الفينة والأخرى إلا ذرّ للرماد في العيون، فهي أكثر العارفين أن أي مسعى جدّي لإحداث تغيير فعلي في الواقع المعاش لا يعني إلا أمرا واحدا ووحيدا، هو إعدام نفسها لنفسها!

بَغيُ الأنظمة العربية وفجورها وبلطجتها وعنفها الفائض عن كل حدّ، جعل الكثيرين منا يخال أنّ تجرّع الذل صار عند العرب عادة؛ لتأتي ثورة البوعزيزي في تونس وبعدها مصر وما أعقبهما مِن ثورات وانتفاضات في ليبيا واليمن وغير بلد عربي فتقلب الموازين رأسا على عقب، بعد تسلّم الشباب دفة القيادة، مستفيدين مِن توقهم العتيق لحرية لم يعرفوها، ومما وفّرته لهم وسائل الاتصال من قدرة على الانتشار وسرعة الوصول.

وأمام ما تشهده الميادين العربية، مِن ثورات على أنظمة البؤس، التي تمادت في استهتارها بشعوبها، متخطّية كل عُرف ومنطق؛ مع تسجيلها عجزا فاضحا في توفير حدّ أدنى مِن شروط النهوض بشعوبها والعيش الكريم، إن لم نقل إنّ همّها، مِن الأساس، كان إقصاء المواطنين عن حقهم في تقرير مصيرهم والمشاركة في صنع حاضرهم ومستقبلهم؛ وأمام ما نشهده مِن إجرام وإرهاب وحقد تمارسه هذه الأنظمة بحق شعوبها، نعلن على رؤوس الأشهاد، انحيازنا الكامل لحق الشعوب في الحرية والعيش الكريم، ورفضنا كافة أشكال الظلم والقهر والإرهاب، كائنا ما كان مصدره.

ولأننا جزء لا يتجزأ مِن وطننا السوري ونسيجه الاجتماعي، لنا ما له وعلينا ما عليه، نعتقد جازمين أن الوضع السوري لا يشكل استثناء عن مثيله العربي، وأنه الأجدر بالحرية ونفض غبار الذل والإرهاب الذي يُمارس بحقه، معلنين أن كل مَن يعتدي على شعبنا السوري، قتلا أو بطشا أو اعتقالا أو تعذيبا أو تشريدا أو نهبا هو بمثابة عدوّ، لا يختلف عن الاحتلال الإسرائيلي قيد أنمله، كائنا مَن كان هذا الأحد!

وجودنا تحت الاحتلال الإسرائيلي ليس معناه بأي حال وقوفنا على الحياد. إننا في مطلق الأحوال امتداد طبيعي وحتمي لشعبنا السوري، ولشرائح واسعة منه، تعتبر أنّ استمرار الوضع الراهن وتكريسه أمرا واقعا، كان له كل الأثر في الوصول إلى الحضيض الذي نحن فيه، وأنّ إسرائيل كانت المستفيد الأكبر من كل ذلك.

إن واجبنا الوطني والإنساني والأخلاقي يحتم علينا الانحياز الكامل لشعبنا ضد جلاديه، وأن نكون صدىً صدّاحا لصوته، مع وضع أنفسنا بتصرّفه وتقديم كل ما عزّ في سبيل حريته وكرامته وعيشه الكريم. فلم يعد مقبولا، بأي بشكل، التصرف بالوطن ومقدراته على أنهما مشاع ومزارع خاصة، يعيث بهما الفاسدون، ويتوارثها الأبناء عن الآباء.

وإذ نتخذ هذا الموقف، فإنه ليس إلا تعبيرا صادقا عن التصاقنا بهموم شعبنا السوري وتطلعاته المشروعة نحو استعادة حريته ومكانته التي تليق به بين الأمم، وما هو إلا التزام بروح “وثيقتنا الوطنية” وما تمليه علينا ضمائرنا وأخلاقنا وارتباطنا العميق بوطننا السوري، غير مدّعين أي صفة تمثيلية لأيّ كان، إلا لأنفسنا.

نعلم يقينا ما قد تشكّل هذه المبادرة لسكان يعيشون في أرض محتلة مِن حساسية؛ لكن ثقتنا مطلقة بحصانتنا الوطنية وموقفنا الواضح الرافض للاحتلال الإسرائيلي وأبعاد المشروع الصهيوني على أرضنا. فالنظام ليس هو الوطن بأي حال؛ حتى لو حاول تصوير نفسه على هذا النحو. إن منبع تحركنا ينطلق مِن مسؤولية تاريخية وقناعة أكيدة أنّ “العيب على مِن يصنع العيب” وليس على مَن ينتقده أو ينفض الغبار عنه! نحن صمدنا في أرضنا وقاومنا محتلنا بصدورنا العارية، دافعين الغالي والنفيس للمحافظة عليها سوريّة كما ورثناها عن آبائنا وأجدادنا، لكن إبقاءنا تحت الاحتلال ليس معناه أن نكون شياطين خُرس على ما يمارسه النظام السوري بحقّ شعبنا مِن انتهاكات. فالاحتلال والقهر هنا صنو للذل والبطش والقمع هناك، وازدواجية الأحكام والمعايير ليست مِن شيمنا وأخلاقنا بشيء.

إن التلطّي خلف أنظمة الطوارئ وتأبيدها بحجة المقاومة والممانعة والصراع مع العدو، أثبتت زيفها وعجزها عن استرجاع حبة واحدة مِن تراب الجولان، مبيحة سماء الوطن وبحره وبرّه للعدو يجوبه في أربع جهاته، ومشرعة أبوابه لشتى أنواع الفساد والإفساد والنهب المنظم! ويقيننا، أنّ تحرير الجولان لن يكون ممكنا إلا بتحرير الوطن مِن قيده. فشعب محتل، مقموع ومقهور داخل وطنه لن يقوى على تحرير أرضه مِن أعدائه!

مِن هنا، فإننا نضم صوتنا إلى صوت شعبنا في الداخل السوري، متوجهين للنظام بأوضح العبارات، أن يبادر اليوم قبل الغد إلى إعادة الحق إلى أصحابه، والمباشرة برفع قانون الطوارئ وإطلاق الحرّيات العامة وسراح جميع معتلقي الرأي ورفع القيود عن الإعلام، وإلغاء المحاكم الاستثنائية ونتائج الاستطلاع الاستثنائي الجائر لعام ١٩٦٢، تمهيدا لانتقال سلمي وهادئ للسلطة، يجنّب الوطن ما لا تُحمد عقباه.

سياسات مدّ الأيدي مِن قبل الشعب وفصائل المعارضة الوطنية في الداخل التي قابلها النظام بالاعتقال والبطش والترهيب وبث بذور الفرقة بين مكوّنات المجتمع السوري، تقطع كل الشك بكل اليقين أن النظام غير معني إلا بإبقاء إحكامه على السلطة وتسلطه على رقاب العباد. فحكم الشعب عبر أجهزة الأمن تارة والالتفاف على مطالبه بمرسوم هنا أو رشوة هناك تارة أخرى، لن يوقفا سيرورة التغيير وحركة التاريخ.

وبما أنّ ردّ النظام على احتجاجات شعبنا السلمية ومطالبه المشروعة جاء دمويا على نحو ما شهدناه، محوّلا صدور السوريين أهدافا لرصاص اقتُطِع ثمنه مِن جيوبهم ومِن أمام أفواه أطفالهم بحجة محاربة إسرائيل؛ فإننا نعلنها على الملأ، وليسمعها القاصي والداني، أنّ «كل مَن يقتل شعبه خائن»، وأنّ كل نقطة دم سورية تُراق، سوف تكون حجّة على مهرقيها، ولعنة تطاردهم ولو بعد حين.

إنّ قدرنا هو العيش بحرية وكرامة، ومنطق الحياة يؤكد أن الشعب أبقى مِن حكّامه. فوطن حرّ، ديموقراطي وعلماني، يتساوى تحت سقفه الجميع، وليس فيه مكان لجَور ولا ظلم ولا طائفية بغضاء هو ديننا وديدننا، وهو جوابنا الأخير.

عاشت سورية حرة كريمة لجميع أبنائها.

سوريون مِن الجولان المحتل
آذار ٢٠١١

 

الملحق ٢
الوثيقة الوطنية للمواطنين السوريين

في مرتفعات الجولان السورية المحتلة

نحن المواطنين السوريين في المرتفعات السورية المحتلة، نرى لزامًا علينا أن نعلن لكل الجهات الرسمية والشعبية في العالم أجمع، ولمنظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها، وللرأي العام العالمي وكذلك الإسرائيلي، ومن أجل الحقيقة والتاريخ، بصراحة ووضوح تامين، عن حقيقة موقفنا من الاحتلال الإسرائيلي ودأبه المستمر على ابتلاع شخصيتنا الوطنية، ومحاولته ضم الهضبة السورية المحتلة حينا، وتطبيق القانوني علينا حيناً آخر، وجرّنا بطرق مختلفة للاندماج بالكيان الإسرائيلي والانصهار في بوتقته، ولتجريدنا من جنسيتنا العربية السورية التي نعتز ونتشرف بالانتساب إليها ولا نريد عنها بديلاً، والتي ورثناها عن أجدادنا الكرام الذين تحدّرنا من أصلابهم وأخذنا عنهم لغتنا العربية التي نتكلمها بكل فخر واعتزاز وليس لنا لغة قومية سواها. وأخذنا عنهم أراضينا العزيزة على قلوبنا وورثناها أباً عن جد منذ وجد الإنسان العربي في هذه البلاد قبل آلاف السنين-أراضينا المجبولة بعرقنا وبدماء أهلنا وأسلافنا. حيث لم يقصّروا يوماً في الذود عنها وتحريرها من كل الغزاة والغاصبين على مر التاريخ. والتي نقطع العهد على أنفسنا أن نبقى ما حيينا أوفياء ومخلصين لما خلفوه لنا منها وأن لا نفرّط منها بشيء منه مهما طال زمن الاحتلال الإسرائيلي، ومهما قويت الضغوط علينا من السلطة المحتلة لإكراهنا أو إغرائنا لسلب جنسيتنا ولو كلفنا ذلك أغلى التضحيات.

وهذا موقف من البديهي والطبيعي جداً أن نقفه. وهو موقف كل شعب يتعرض كله أو جزء منه للاحتلال. وانطلاقاً من شعورنا بالمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقنا تجاه أنفسنا وأبنائنا وأجيالنا القادمة أصدرنا هذه الوثيقة:

هضبة الجولان المحتلة هي جزء لا يتجزأ من سورية العربية.

الجنسية العربية السورية صفة حقيقية ملازمة لنا لا تزول. وهي تنتقل من الآباء إلى الأبناء.

أراضينا هي ملكية مقدسة لأبناء مجتمعنا السوريين المحتلين. وكل مواطن تسوّل له نفسه أن يبيع أو يتنازل أو يتخلّى عن شبر منها للمحتلين الإسرائيليين يقترف جريمة كبرى بحق مجتمعنا، وخيانة وطنية لا تغتفر.

لا نعترف بأي قرار تصدره إسرائيل من أجل ضمّنا للكيان الاسرائيلي ونرفض رفضاً قاطعاً قرارات الحكومة الإسرائيلية الهادفة إلى سلبنا شخصيتنا العربية السورية.

لا نعترف بشرعية المجالس المحلية والمذهبية، لكونها عُيّنت من قبل الحكم العسكري الإسرائيلي وتتلقى تعليماتها منه، ورؤساء وأعضاء هذه المجالس لا يمثلوننا بأي حال من الأحوال.

إن الأشخاص الرافضين للاحتلال من خلال مواقفهم الملموسة، والذين هم من كافة قطاعاتنا الاجتماعية، هم الجديرون والمؤهلون للإفصاح عما يختلج في ضمائر ونفوس أبناء مجتمعهم.

كل مواطن من هضبة الجولان السورية المحتلة تسول له نفسه استبدال جنسيته بالجنسية الإسرائيلية، يسيء إلى كرامتنا العامة وإلى شرفنا الوطني وإلى انتمائنا القومي وديننا وتقاليدنا، ويعتبر خائناً لبلادنا.

قررنا قراراً لا رجعة فيه وهو: كل من يتجنس بالجنسية الإسرائيلية، أو يخرج عن مضمون هذه الوثيقة، يكون منبوذاً ومطروداً من ديننا ومن نسيجنا الاجتماعي ويحرَّم التعامل معه، أو مشاركته أفراحه وأتراحه أو التزاوج معه- إلى أن يقرّ بذنبه ويرجع عن خطئه، ويطلب السماح من مجتمعه، ويستعيد اعتباره وجنسيته الحقيقية.

لقد اعتمدنا هذه الوثيقة، مستمدين العزم من تراثنا الروحي والقومي والإنساني الأصيل الذي يحضنا على حفظ الإخوان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوفاء العميق للوطن.

جماهير الجولان
السوري المحتل
آذار ١٩٨١

العددان ٣-٤ خريف ٢٠١٢ / شتاء ٢٠١٣

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.