العدد الأول - شتاء / ربيع ٢٠١٢

مِن الثأر إلى طلب التغيير

النسخة الورقية

شاب من قبيلة يمنية جاء الى «ساحة التغيير» في صنعاء للاخذ بثأر ابن عمّ له سقط شهيدا في الساحة. هل يغيّر ثورة التغيير ام تغيّره؟ هذه قصته.

«لقد أخذنا جائزة نوبل للسلام»، قالها حمود، الشاب القبيلي الثائر المقيم في خيمة اعتصامه في «ساحة التغيير» أمام جامعة صنعاء منذ نحو تسعة أشهر. لم يغادر خيمته إلا للخروج في مسيرة احتجاجية أو للدفاع عن الساحة عندما كانت قوات نظام علي عبد الله صالح تقوم بتنفيذ عملية هجوم جديدة.

لم تكن السياسة أو الثورة في بال أو تفكير الشاب حمود ولم تكن يوما ضمن برنامجه اليومي قبل أن يسقط ابن عمه الوحيد والطالب في جامعة صنعاء شهيدا في الأيام الأولى من الثورة فقدم إلى صنعاء من أجل الأخذ بثأر ابن عمه تلبية لنداء الواجب القبلي الذي لا يتسامح أبدا مع دماء الأقارب المُعتدى عليهم أو يتركها تذهب هدرا. قدم الى العاصمة صنعاء حاملا عزيمته وسلاحه، صنعاء التي صارت منطقة مفتوحة للسلاح بعد أن كانت مساحة «مُحرّمة» في العرف القبلي ولا يجوز أخذ الثأر على جغرافيتها. لكن علي عبد الله صالح استطاع تخريب كل شيء حتى تلك الأعراف القبلية التي كانت تحمل ــ بشكل من الأشكال ــ في مضمونها مدنية من طراز رفيع ومتقدم يحمي حرمة الأنفس في ظروف معينة. لقد سمح علي عبد الله صالح بكل شيء ولم تعد لأي حركة حصانة من أي نوع.

قال له: «سلمية، سلمية»

لكن حمود الذي توجه الى المكان الذي سقط فيه ابن عمه شهيدا في «ساحة التغيير» وجد عندما وصل الى هناك صعوبة في دخلوها بسلاحه فهذه منطقة منزوعة السلاح ، بحسب ما أخبره أحد الشباب الواقفين في أحد مداخل الساحة لحمايتها من أي اختراق وقال له «سلمية، سلمية».

كان هؤلاء الشباب يعرفون أن إصلاح ما قام علي عبد الله صالح بتخريبه وتدميره طوال سنوات حكمه لن يكون سهلا فهي مهمة تحتاج لوقت وجهد كبيرين. لكن لتكن البداية من المفردات. لا تصح الاستهانة بقوة المفردات وقدرتها على التغيير. استهانة موازية لما كان يقال عن «الساحة» عند بدايتها بعدد قليل من الشباب. أخبروا صالح أنهم «شوية عيال» سرعان ما سوف يزهقون سريعا من اللعبة ومن ثم يعودون الى قاعاتهم الدراسية. لكن «شوية العيال» هؤلاء نجحوا في زلزلة الأرض تحت اقدام النظام.

«سلمية سلمية»، لم يفهم حمود هذه المفردة للمرة الأولى ولم يكن مستعدا لإلقاء سلاحه ، لكن كان لابد له من الدخول الى الساحة فهناك يقيم ثأره المنُتظر. ركن سلاحه في جهة ما ودخل. اعتقد أن مسألة الرجوع إليه وإدخاله لن يكون غير مسألة وقت فلا شيء يستحيل فعله على الناس هنا في ظل وضع منفلت. لكنه لم يكن يعرف أنه لن يعود الى قطعة سلاحه مرة أخرى.

ولما صار في الساحة، أصبح حمود في المكان الذي اعتقد انه سيكون ارض المعركة المرتقبة والتي يفترض أن يخوضها من اجل استعادة شرف القبيلة وبالتالي رفع راية كرامتها عاليا مرة أخرى.

لكن أين القاتل! أو الهدف! سيعرف لاحقا ان الرصاصة التي اختارت رأس ابن عمه كي تستقر فيه جاءت من بندقية قناصة ملثم اتخذ لنفسه إحدى البنايات المطلة على الساحة كي يقوم بممارسة هوايته في القتل من جهة وبتنفيذ أوامر سادته الكبار من جهة أخرى.

كيف أُمسك بثأري! قال حمود لنفسه وهو يخبرنا عن أيامه الأولى في الساحة.

نظر الى الأمر من كل ناحية وجهة وفكر مليا فوجد استحالة المهمة، استحالة توازي مسألة عودته الى القرية من غير تحقيق نجاح مهمته. فمن غير الإمساك بثأره لن تكون هناك من عودة وهذا أمر مفروغ منه، فكيف يعود ويقابل أهل القبيلة وهو لم يأخذ بثأر ابن عمه بعد.

هو البقاء إذا، والبقاء سيتطلب أياما قد تطول ولا احد يعرف كم ستطول، الأمر مفتوح على مصراعيه.

لكن كانت هناك مشكلة أخرى، فكيف سيقدر هذا القبيلي الشاب على التأقلم مع كل هؤلاء الغرباء المتواجدين في الساحة وكيف سيقدر على التأقلم مع عاداتهم ونمط حياتهم وهو القادم من ريف بسيط ــ هذا قبل أن تنضم القبائل الى الثورة ــ لايعرف كل هذه التفاصيل المعقدة.

لم يكن يعرف أنه لن يقيم هناك فقط بل سيتحول مع الوقت الى مواطن فاعل في هذه الدائرة التي ستتمدد مع الوقت لتصبح مدينة داخل مدينة.

كما لم يكن يعرف أنه سوف يدخل في «مختبر إنساني» سيعمل على تغيير نظرته للحياة والأشياء والمفاهيم الصغيرة التي كانت راسخة في أعماقه وهو يرى الجميع في القبيلة يسيرون عليها كدستور حياة ومنهجا لا يقبل القفز عليه أو تجاوزه أو اختراقه بأي حال من الأحوال.

«سلمية، سلمية»، إنها كلمة السر التي بواسطتها سيتم اختراق وعيه القبلي الراسخ وتحويل دفته باتجاه مغاير تماما.

مختبر جامعة صنعاء

بداية كانت صعوبة التعامل مع مجتمع شبابي جامعي مدني يرتدي اغلبهم ملابس «إفرنجية» وملابس رياضية وقت لعب الكرة في الساحة ويمارسون طوال اليوم عادات غريبة عليه لم يألفها أبدا في محيطه القروي البسيط. لم يكن هذا سهلا عليه أبدا. لكنه ومع الوقت ومع الفعل الثوري وجد انه كل هذه عبارة عن تفاصيل صغيرة لا أهمية لها وهو يتابع الشباب بشكل يومي ما أدخله في عمق البيئة الاجتماعية الجديدة التي تشكلت في «ساحة التغيير»، ومن بعده هذا الخليط الاجتماعي الكبير الذي وجده في مكون واحد بلا فوارق أو طبقات؛ شباب جامعة قدموا الى جامعة صنعاء من كل محافظات اليمن، جماعة من الحراك الجنوبي، شباب جامعة الحوثي، شباب حزب التجمع اليمني للإصلاح، شباب من قبائل كانت الى ما قبل الثورة لا تلتقي في مكان واحد إلا والرصاص ناطق رسمي بإسمها من اجل تصفية ثارات قديمة. كل هؤلاء تجمعوا في ساحة واحدة وفي رأسهم هَمّ واحد هو التخلص من نظام علي عبد الله صالح والتفرغ بعد ذلك لبناء حياتهم من جديد، حياة اليمن القائمة على مواطنة متساوية ودولة نظام وقانون على عكس تلك اليمن التي نجح نظام صالح في تدمير بنيتها الاجتماعية والثقافية كما القبلية من خلال تعامله مع اليمن كخصم يريد النيل منه بأي شكل من الأشكال.

لكن اللحظات التي حفرت عميقا في بال الشاب حمود وعملت على تحريك فكرة الأخذ بالثأر عن طريق استخدام السلاح من تفكيره هي تلك اللحظات التي كانت القوات المسلحة التابعة لنظام علي عبد الله صالح تهجم فيها على الساحة باستخدام الذخيرة الحية والغازات السامّة المحرمة دوليا بهدف إنهاء الاعتصام وتفكيك «ساحة التغيير». في تلك اللحظات التي تكررت كثيرا وسقط فيها عشرات الشهداء من الشباب، كان حمود يجد نفسه في وضعية تشبه حالة مريض بالإدمان وصار عليه أن يتناول جرعته اللازمة كي تخفف من الآلام الرهيبة التي يعاني منها جسده جرّاء انتهاء مفعول الجرعة الفائتة.كان حمود وقتها، بحاجة الى سلاح، ينظر الى كل ذلك الرصاص المنهمر على الساحة وعلى الرفاق وينظر الى يديه فيجدهما خاليتَين من سلاح، سلاحه الذي ركنه في مكان آمن على مقربة من الساحة وتركه هناك بعد أن رفض الشباب القائمون على مداخل الساحة إدخاله. ينظر الى يديه بلا حول أو قوة والشباب يتساقطون ما بين شهيد وجريح في أرجاء واسعة من المكان. «ما كل هذا العجز» يقول لنفسه، «ماذا يقول عني الأهل في القرية لو علموا الحالة التي أنا عليها الآن. يا لعاري الكبير!». يتحدث حمود مستذكرا تلك اللحظات وعلى وجهه ابتسامة خفيفة كأنه يسخر من نفسه أنه قالها في يوم ما.

بالصدور العارية

«كنت أرى شباب القبائل، أمثالي، شباب قبائل بينهم ثارات قديمة جدا وهم يتقدمون معا خطوة خطوة وبصدور عارية صوب الزوايا التي ينهمر منها الرصاص وهم يهتفون «سلمية، سلمية». وهم شباب خبروا السلاح مثلي ونشأوا معه وكبروا، تعلموا القنص وإطلاق الرصاص قبل أن يتعلموا القراءة والكتابة في مدارس تحفيظ القران، تمكنوا من السلاح بالتوازي مع تمكنهم من السير على الأرض، فما الفارق بيني وبينهم وكيف أتراجع أنا لاسترداد قطعة سلاحي وهم هنا ثابتون أمام رصاصات لا تفرق بين قبلي ومدني وطالب جامعة وعامل بالأجرة اليومية؟».

ويستطرد حمود متذكرا «في مرة واحدة سقط منا نحو ٥٣ شابا معظمهم طلبة جامعة، حصل هذا في مدة لم تتجاوز النصف ساعة وكان الرصاص يسقط علينا من بنايات عالية تمركز عليها قناصة، لكن المدهش والإعجائزي أن الشباب لم يكونوا خائفين أبدا وهم ينظرون لرفاقهم يتساقطون واحدا تلو الأخر بل كانوا يتقدمون الى الأماكن التي كانت تخرج منها الطلقات واستطاعوا التقدم نحوها ونجحوا في القبض على عدد من القناصة في حين فرّ البقية، وهذه حادثة ماكنت لأصدقها لولا أني رأيتها بعيني وكنت شاهدا عليها».

الحق لا الثأر

من هذه اللحظة عرف حمود معنى تلك الكلمة التي كان يسمعها تتردد مع كل هجوم: «سلمية». عرف معنى ان السلاح قد لا يكون حلا في كل الأحوال وان رد العنف بعنف مقابل لن يؤدي إلا الى مزيد من العنف والقتل وضياع الحقوق واستمرار علي عبد الله صالح في الحكم. ماكان يبحث عنه هو أن يجذب القبائل لساحة استخدام السلاح وتحويل الثورة الى مجرد تمرّد شعبي مسلح ضد النظام يعطيه الحق في قمعها باستخدام السلاح: «هذا ماكان يبحث عنه لكنه فشل تماما في ذلك».

ولا ينكر حمود هنا فضل رفاقه الشباب المتواجدين في الساحة منذ أيام الثورة الأولى وهم متعلمون أكثر منه وعلى مستويات ثقافية جيدة. ولولا النقاشات اليومية والمحاضرات والندوات التي كانت تتم في الساحة، إضافة الى تلك الهجمات المسلحة التي كان شاهدا عليها، لم يكن ليصل لهذه القناعات الجديدة التي صار يمتلكها.

اليوم،

لا يزال حمود في الساحة، لا يعترف بالتسويات السياسية التي حصلت وإعلان تنحي صالح عن الحكم في مقابل منحه ومعاونيه حصانة تحميه من أي ملاحقات قضائية على جرائمه التي اقترفها في حق الشباب إضافة لجرائمه السابقة.

ونسأله الى متى يمكن أن تبقى في الساحة معتصما؟ فيجيب مباشرة: «إلى أن نأخذ حق رفاقنا الذين سقطوا برصاص علي عبد الله صالح ولم يطلقوا ضده رصاصة واحدة».

العدد الأول - شتاء / ربيع ٢٠١٢

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.