العدد الأول - شتاء / ربيع ٢٠١٢

«عثمانية جديدة» في بلاد العرب

النسخة الورقية

«اهلا بكم في مطار رفيق الحريري الدولي. يسرّنا ويشرّفنا...»

يقطع الاعلان ضحكٌ مجلجل من الذين يدخنون دائما قرب تنكة الزبالة عند البوابة رقم ١١ للمغادرين الى اسطنبول. يدخنون لأنهم يستطيعون ذلك خلافا لحالهم في المطارات الاوروبية. وهم يستمرون بالتدخين لأنهم...كيف اعبّر؟... لانهم «العثمانيون الجدد»!

اعرف هؤلاء القوم. اعرفهم من الرحلات الى روما والى باريس او لندن. ولكن امرهم هناك مختلف بل غريب. اتذكر بسهولة توترهم عندما يتحدثون الى مضيفي طيران بريطانيين او فرنسيين لا لسبب الا لامكانية ارتكاب خطاء قاتل في النطق هذه اللغة او تلك. او بسبب انتباههم الشديد الى اختيار نوع النبيذ. حاشا الله! ما الذي يحدث لو اختاروا نوع النبيذ الغلط فيطردون من الحضارة! الحضارة الغربية، طبعا. البديهي انهم خارج الخريطة في مطار رفيق الحريري الدولي. هي خريطة دونية متخيّلة عانوا منها لاجيال وها هم الآن مستعدون لاكتشاف اراض بكر: ارض مخيلتهم الشاسعة البيضاء المائلة الى الصفرة التي عادة ما تسمّى «الشرق الاوسط».

خريطتنا للارض العربية

مرّ جميع هؤلاء القوم، ابناء جيلي والجيلين السابقين، بالتعليم ذاته تقريبا في المدرسة الابتدائية. صفوفنا متماثلة. مثلما نحن متماثلون. تعلوها صورة اتاتورك، طبعا. ابتداء بصفّ الروضة تشاهد وجهه الايقوني الى درجة انه يتحول الى شيء مختلف عن وجه رجل ليصير وجه كائن سماوي، مثل يسوع او مريم، بلا جنس، ومجرد من اي ملمح انساني. وتحت اتاتورك او الى جانبه ستلقى دوما خريطة لتركيا. هذه الخريطة التي شاهدناها على امتداد تعليمنا الثانوي تصوّر علاقة تركيا الايديولوجية والنفسانية بسائر العالم. في نظرة استرجاعية، يستطيع المرء ان يلاحظ ان مخيلتنا ومقاربتنا للامور قد تبلورت بفعل تلك الخريطة. تركيا تتوسط الخريطة طبعا بما هي اكبر كيان يمكنك ان تتخيله، وحيدة في «موقعها الجيو ستراتيجي» و«محاطة بالاعداء»، طبعا، كما كانوا يعلّموننا. وكانت اوروبا فوقنا، والاحرى جزء صغير منها. ولكن حتى هذا الجزء الصغير كان ملوّنا وجذابا، ومفصّلا على نحو حيويvivid بواسطة الانهر واسماء المدن. الى اليمين، تحت، اراض شاسعة رمادية على صفراء. بالكاد تشاهد عليها اسم مدينة، او لعلك تشاهد اسماء العواصم فقط: طهران، بغداد، دمشق، وخلاص! لا شيء اكثر من ذلك. تعلّمنا الخريطة باعلى صوت ممكن ان نتطلع الى اوروبا ونغض النظر عن الطرف الآخر حيث لا شيء الا الغبار، اي الصحراء اساسا، والجِمال والعرب المتخلفون بأزياهم البيضاء الباعثة على الضحك. واذا اولئك الذين يرون انفسهم جزءا من اوروبا وبذلوا جهدا كبيرا ليكونوا عضوا فيها هم الآن في مطار رفيق الحريري. يدخنون. ذات مرة كانوا مستغرقين بالدونية المتخيلة في رحلاتهم الاوروبية وها هم الآن يستمتعون باستعلائهم المتخيل وهم يدخنون سجائرهم. والارجح انهم يستعدون لعرض تجاربهم على الفايسبوك معلنين «ان بيروت ليست كالعرب!», «العرب المعاصرون», «هؤلاء القوم ليسوا كالعرب!».

كانت هذه العبارة الاولى لصديقتي عائشة عندما دعوتها لتشاهد البيئة التي عشت فيها وانا اكتب روايتي «أصوات الموز» في بيروت خلال العام ٢٠٠٩. وكانت عائشة في الحقيقة الصديقة الوحيدة التي قبلت دعوتي. كان الآخرون من الكلبية بمكان بحيث لم يفكروا حتى في ان «يغامروا» في ارض مخيلتهم الرمادية الصفراء. اتذكر سماع عبارات من نوع:

ــ «انك تتعلمين العربية، اذا: «سبحانك وبحمدك»، اه؟ ها ها ها !»

او

ــ «إذا، بيروت تبعد ساعة ونصف عن اسطنبول؟ اقرب من باريس، يعني؟ والله؟»

او

ــ «تستطيعين المشي وحيدة في الشارع هناك؟ الا تخافين؟»

وثمة ملاحظات اخرى اتحرج من استذكارها. حتى ان أمي انشغل بالها كثيرا عليّ لاني كنت في ارض عربية. واتذكر اني قلت لها ان بيروت شديدة الشبه بازمير حيث تسكن ومعاصرة فعلا عندما تدخّل والدي بقول شاع بين اصدقائي العرب لاحقا: «لاله (وهو اسم أمي) يوجد عرب معاصرون ايضا!».

ولكن لا أمي الفنانة واليسارية السابقة ولا اصدقائي الحاصلون على شهادات عليا هم اسوأ النماذج في الشعب التركي. بل يمكن حسبانهم من الكوزموبوليتيين الاكثر انفتاحا ذهنيا. لن يتحرج الاتراك العاديون في تسمية كلابهم «عربي». ولدينا تعابير شائعة من مثل «يمسخني الله عربيا إن انا فهمت ما تقول!» وهو يشير الى ان العربي هو اسوأ ما يمكنك ان تكونه. والصبيان الذين يطالبون بشرب قهوة تركية لا زال اهلهم يخيفونهم بهذه العبارة:

«الصبيان يتحولون الى عرب اذا شربوا القهوة!»

فكيف صارت تلك الارض المتخيلة التي يسكنها عرب «وسخون» هي المكان الاثير فجأة؟ والاهم، لماذا الشباب في مطار رفيق الحريري الدولي يستمتعون بوقتهم الى هذا الحد؟ الى حد يجعل من البديهي انه توجد قطبة مخفية في الامر... الظاهر ان ثمة مسألة «عثمانيين جدد» يتعيّن تفحصها بعناية. ولعلها لذة محرمة.

اغراء الامبريالية الذي لا يقاوم

«اسطنبول؟ أهلين! أهلين!»

بأعرض ما لديهم من ابتسامات ينحني اكثر الحانوتيين المصريين قساوة بتواضع جمّ امام «العثمانية الجديدة »، انا! في تونس، صارت جنسيتي اهم موضوع تدور حوله الاحاديث. حتى ان سائقي سيارات الاجرة الاكثر تحايلا في بيروت يغيّرون «ما دام، التوصيلة من الحمرا للجميزة بعشر دولارات» الى «أهلا وسهلا! عشرة الاف لبناني!» بعد ان يسمعوا اني من اسطنبول. ولا بد لي من ان اقول، وقد عشت في ارض عربية لثلاث سنوات، ان هذا السلوك جديد، وهو مغرٍ. بدأ مع وصول الرئيس الوزراء اردوغان «لدقيقة واحدة» في دافوس وتضخم بعد قضية اسطول الحرية، ما جعلنا، نحن الاتراك، المخلّصين الجدد للعالم العربي وابطال القضية الفلسطينية. والاهم من ذلك هو مسلسل «مهنّد ونور». فإذا اسطنبول، ارض الميعاد للمسلمين، تدخل كل بيت في المنطقة العربية. فكانت كل حلقة من حلقات مسلسلات الثقافة الشعبية التركية تقتحم العالم العربي اقتحاما. حتى ان الاسرائيليين لم يستطيعوا ان يبزّوا هذا «الاحتلال». (عرض المسلسل في اسرائيل ايضا). وهكذا قبل ان يصل العثمانيون الجدد، كانت ثقافتهم قد سبقتهم، وقد لقيت الكثير من الاعجاب والاحتضان. الاعجاب والاحتضان؟ هما كلمتا السر اللتان فتحتا ابواب الشرق الاوسط المنسية امام الشعب التركي.

الجائع الى الحب.

«انهم يحبوننا، هناك!»

كل «مغامر» ممن تجشم رحلة الساعة والنصف «الجريئة» الى بيروت بدلا من باريس او لندن كان يعود الى الوطن وهو يردد العبارة الآسرة اياها:

«انهم معجبون بنا! انهم مغرمون بتركيا هناك!»

كانوا يستمتعون بشعور جديد كليا تجاه الاتراك: ان يعجب بهم شرقيون بدلا من ان يمتحنهم غربيون للتحقق من اهليتهم لعضوية الاتحاد الاوروبي، باكثر الطرائق إذلالا. انهم يستقبلون بالتصفيق في ملاعب كرة قدم في الشرق بدلا من ان يحدّجهم الغربيون بنظراتهم الساخرة. ويتلقون العناق العفوي من الشرق بدلا من ان يتكبدوا ذبذبات السياسة من الغرب. لم يقو الاتراك على مقاومة كل هذا، وفوق ذلك كان «فراغهم الوجودي» قد أنهكهم.

فراغ تركيا الوجودي

منذ تأسيس الجمهورية التركية، عانت اجيال من الاتراك علاقة فصامية مع الغرب. كنا بقايا امبراطورية رائعة لكن تركيا كانت، في نهاية المطاف، بلدا يناضل من اجل عضوية نادٍ لم يرحِّب به قط. وكانت مراوغة التاريخ تلك بمثابة المأساة، على الرغم من انه يجري تصويرها بما هي حقبة بطولية في التاريخ الرسمي. ان انتصار تحررنا كان هزيمة في النطاق الاوسع. فقد علق البلد نفسانيا بين هذين الوصفين للحدث ذاته. وهذا ما خلّف «فراغا وجوديا» في الهوية الجمعية للشعب التركي، في اعتقادي، أورثهم رؤية لانفسهم مضخمة او مصغرة. حتى ان دبلوماسيينا الاكثر برودة اصيب بذلك الوعي الازدواجي المتضارب خصوصا في العلاقة مع اليونان وارمينيا. فخلال تاريخ تركيا الحديث، حاولت الجمهورية الشابة ان تخلق لنفسها احتفالاتها وطقوسها واساطيرها وهويتها الجمعية الخاصة. غير ان شبح ٦٠٠ سنة من امبراطورية قديمة ظل مخيما فوق البلد. لاسداء هزيمة للشبح، اعتبر العام ١٩٢٣، عام تأسيس الجمهورية، العام صفر. وهذا ما صعّب تصالحنا مع انفسنا حول الكيفية التي بها نتعاطى مع الهوية العثمانية. انتج غياب التوافق هذا انعداما للشعور التاريخي في حياة الفرد التركي. ان ابناء جيلي خصوصا سوف يروون الحكاية ذاتها:

اخبرنا اجدادنا قصة خرافية حدثت ذات مرة ثم تبخرت مع قيام الجمهورية، وسمع معظمنا عن إجلاء اليونانيين من أزمير وعن ذبح الارمن بما هو جزء من تلك القصة الخرافية الواقعة بالضبط بين الحقيقي واللاحقيقي. ولم تكن علاقة الهوية الجمعية بالماضي في وضع اسلم. كنا نحتفل دوما بفتح اسطنبول بواسطة العثمانيين الذين تكرههم كتب التاريخ. وكنا نقيم التماثيل للسلاطين العثمانيين الذين ترميهم كتب التاريخ بالاهانات بسبب حياتهم المتهتكة. وكانت الكتب التسعون الاكثر مبيعا تحكي في معظمها عن حياة الحريم في القصر العثماني او في القصص العثماني الشعبية، ولكن كان يفترض بنا ان نتخيل ذلك التاريخ على انه تاريخ قديم لمجرد انه حصل قبل اعلان الجمهورية. ولم يكن للارتباك ان يعمّر اكثر من ثمانين سنة فصعد الى المسرح «الآ. كا. با» (حزب العدالة والتنمية) الحزب الحاكم حاليا ليغيّر هذا التاريخ ويشفينا الى الابد من ذلك الفراغ الوجودي وقد طال واستطال. ومع انهم يرفضون الحجج على المستوى الرسمي، فإن الحزب ادار مقود سياسة تركيا الرسمية من غرب الى شرق. ومع ان ذلك احدث حالة ذعر في أوساط الحرس القديم للنظام، كان المدّ قويا ومدعوما دوليا الى حد كبير. الى هذا، لما كان للحركة الاسلامية علاقات اقتصادية وثقافية سابقة مع العالم العربي كان من اليسير تطبيق التجربة في المضمار السياسي. كان جهاز تركيا العصبي مرهقا لطول ما اهين من قبل الاوروبيين فحان اوان الالتفات الى اخوتنا الذين كنا نمقتهم لسنين. ففي ذلك بلسم لصورتنا عن انفسنا في عيوننا ذاتها، والاهم انه يجلي الارتباك حول الهوية التاريخية والجمعية. وما ان اعطيت اشارة الانطلاق، حتى تسارع المسار السوسيولوجي لتعديل المقاربة الجمعية للعرب على نحو مدهش. بسبب الموقف السياسي للجمهورية، لم يكن الجمهور العلماني يعرف شيئا عن العالم العربي. ولكن الجميع، خارج تلك الدائرة، بمن فيهم اشد نقاد الحكومة قساوة، اكتشفوا «الطاق»! فالحدود المفتوحة مع سورية ولبنان مشرّعة لوكالات السفريات. ثم سلكت شبكة التجارب الفردية طريقها عبر الانترنت. وها هم، على البوابة رقم ١١ في مطار رفيق الحريري الدولي، يدخنون ويتضاحكون بطريقة لم يألفوها في المطارات الاوروبية.

فيما تركيا تعيد ابتكار علاقاتها التاريخية مع العثمانيين، كان العالم العربي يساهم بحماسة في تلك العملية بطريقة ما وفي الوقت ذاته. بدا كأن العالم العربي نسي ان بيرقراطياته المعطلة انما هي من بقايا التركة العثمانية. وبدا أنهم يترددون في تذكر ان افندية مصر او بايات تونس كانوا يستغلون ارضهم. فجأة صار العثمانيون ذكرى عذبة، حلاوة طحينية لا يمكن للعالم العربي ان ينساها. يصعب الاجابة على سؤال لماذا تم ذلك وكيف. افترض ان هذا الجزء من قصة الغرام يجب ان يترك لكاتب عربي.

«التمشي في شارع الحمرا!»

«تناول موخيتو في الجمّيزة!»

باستشراقية مغالية جدا، يكتشف «الاتراك البيض» ــ وهو الاسم الذي نطلقه على الطبقة الوسطى العلمانية العليا في تركيا ــ روعتهم ويشاركونها على «تويتر» في هذه الايام. واولئك الذين كانوا يواجهونني بنظرات فارغة عندما كنت اتحدث عن حياتي في بيروت يشاركوني الآن مغامراتهم شديدة «الاثارة» في لبنان. اتساءل ما الذي سوف يحصل عندما يكتشفون ان بيروت ليست الجميزة او وسط المدينة فقط. حتى تلك التجارب المحدودة والصغيرة جدا تشكّل دعاية كافية للبنان لكي تبدو الرحلات الجوية الى بيروت مثل الرحلات الداخلية في تركيا. في زمن كنت ازور بيروت لأنقطع عن اسطنبول واستطيع الكتابة. اما الان، يستحيل ان اصعد الى رحلة جوية متجهة الى بيروت دون ان اجد احدهم يقول لي «ايجي خانم! مرحبا!» وكان هذا كافيا لكي ابدأ البحث عن مأوى اكثر امانا لممارسة الكتابة. قلت لنفسي: هي تونس. ولكني وانا اتجول في تونس القديمة سمعني احد الحانوتيين اتحدث بالتركية على الهاتف فهتف «خوش غلدينيز!» اي «اهلا وسهلا» بالتركية. قلت في نفسي «هذه نهاية قصتي هنا». ومع اني واحدة من اقسى نقاد حكومة «حزب العدالة والتنمية» فانا جزء من الكيان الامبريالي لأني فرد تركي ولا مهرب لي من «مهند»! فإذا ادعائي باني فرنسية، بلكنتي الفرنسية المضحكة جدا، اقل احراجا من ان اكون ممثِّلة لامبريالية البسكوت التي تتكئ على فراغ.

النفاق باختصار

الجزء الاكثر احراجا من هذه القصة ليس الامبريالية ذاتها وانما تطبيقها البدائي على أيد تركية:

ان حزب العدالة والتنمية بل رئيس الوزراء طيب اردوغان شخصيا يبدو وكأنه المخلّص الجديد للعالم العربي والرائد الجديد للقضية الفلسطينية، لكن الحكومة التركية في الوقت ذاته تبني دروعا صاروخية بالتعاون مع اسرائيل ضد «الخطر» الايراني.

وثمة ترويج كثيف لـ«النموذج التركي» بما هو افضل نموذج يصلح للعالم الاسلامي لكن ٥٠٠ طالب و٨٠ صحفي يقبعون في السجون، فضلا عن الظلم الاجتماعي والرقابة المشددة.

تنوجد كل هذه المشاعر العنصرية المتأصلة ضد العرب ويُطلب معانقتهم في الآن ذاته.

ويسود جهل عميم بكل ما يتعلق بالعالم العربي والاسوأ ان ينعدم لديك اي فضول بشأنه فيما بلدي يتهيأ لـ«زعامة المنطقة».

لعل العثمانيين الجدد عند البوابة رقم ١١ ليسوا منزعجين من هذا المسلسل التركي الجديد، ولكني في حرج شديد لأن اكون جزءا من هذه المسخرة.

العدد الأول - شتاء / ربيع ٢٠١٢

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.