العدد الأول - شتاء / ربيع ٢٠١٢

اليسار في الزمن الثوري

النسخة الورقية

تحمل الثورات العربية الى اليسار مزيجا من التحدي الوجودي والفرصة التاريخية. والفيصل بين الاثنين هو قدرته على التعلّم من الدروس البليغة التي تحملها العملية الثورية وبلورة مشروعه ودوره فيها وتدبّر كيفية الرد على تحدياتها. فلعل في ذلك ما يدفع اليسار الى مغادرة مندبة النقد الذاتي، كفارة ذنوبه التي لا تنتهي، والاستعاضة عنها بمراجعة للماضي تسهم في فهم افضل للموقع والدور في الحاضر وتخدم خصوصا للاطلالة على المستقبل. هذا اذا كان بين اليساريين من يريد تجاوز تيارين في أوساطهم: يسار دعم الاستبداد بحجة المسألة الوطنية ويسار الرهان على التدخل الخارجي سبيلا الى تحقيق الديمقراطية.

أسهم اليسار وشبابه خصوصا اسهاما متواضعا وإن يكن ذا أثر في الانتفاضات. في تونس ومصر واليمن، كان الشباب اليساري في طليعة المبادرين للنزول الى الشوارع واحتلال الساحات والميادين واطلاق شعار اسقاط الحاكم ونظامه، وكسروا حاجز الخوف، وتقدموا الصفوف عندما تعلّق الامر بمواجهة القمع والرصاص. في المغرب، تميزت حركة .٢ فبراير التي أطلقت الموجة الشعبية الضاغطة من أجل الاصلاحات. وقد شذّت الحالة السورية بعض الشيء بسبب دور الاحزاب الشيوعية المتحالفة مع النظام، فبرز اليساريون بما هم بالدرجة الاولى المنشقون عن تلك الاحزاب والناشطون بالصفات الفردية او في مجموعات وتنظيمات صغيرة.

ومع ان اليساريين فازوا بعدد متواضع من الاصوات ومن المقاعد في الانتخابات النيابية في تونس ومصر، بقي الوجه الابرز لنضالهم في مواقع الضغط الشعبي لتفكيك انظمة الاستبداد ومؤسساته وتشريعاته واستكمال تحقيق اهداف الثورة.

انتفاضات ضد النيوليبرالية

ان شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، الذي حرّك عشرات الملايين من العرب من المحيط الى الخليج خلال العام ٢٠١١ ولا يزال يحركهم ويدفعهم لانواع التضحيات وصولا الى بذل الدم بسخاء، هو العلامة الفارقة على الطابع الديمقراطي والشعبي للانتفاضات وهدفها الجذري الابرز. يعلن الشعار الشعب مصدرا للسلطات ويعلى السيادة الشعبية على كل سيادة اخرى، فردية او سلالية او حزبية او عسكرية او حاكمة بإسم الاجتهاد الديني. ويحسم بعجز الانظمة العربية القائمة عن ان تصلح نفسها بنفسها مؤكدا ان السبيل الوحيد لتحقيق إرادة الشعب هو تغييرها بالقوة، قوة الشعب.

الى جانب شعار «الشعب يريد» إرتفع شعار مكمّل له، لم يقلّ عنه شيوعا، هو «عمل، حرية، خبز» الذي وضع حق العمل والعدالة الاجتماعية في صلب العملية الديمقراطية. الجديد في هذا الشعار هو المطالبة بالـ«العمل». ذلك انه يشير الى البطالة بما هي احد الدوافع الرئيسة للانتفاضات والمحفّز الحاسم لدور الشباب فيها. ومعلوم ان العالم العربي يحمل الارقام القياسية العالمية من حيث نسبة الشباب (١٥ ــ ٢٤ سنة) بين السكان ونسبة البطالة الى السكان (لا اقل من ٣٠٪ ) ونسبة البطالة بين الشباب (٤٤٪ من اجمالي العاطلين عن العمل). وتحيل بطالة الشباب، بدورها الى الطابع الريعي المتزايد للاقتصاديات العربية في ظل العولمة الرأسمالية والاملاءات النيوليبرالية. وليس أدل على فضيحة تلك الاملاءات من ان يسارع مديرا صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ــ تحت وطأة الثورتين التونسية والمصرية ــ الى الاعتراف بأن نمو الناتج المحلي لا يجيب على مشكلة البطالة، علما انه المقياس الذي فرضته المؤسستان على مدى ربع قرن عل انه المقياس الابرز لقياس الجدوى الاقتصادية! وتزداد الفضيحة ضخامة اذا علمنا امرين: الاول، ان المؤسستين اللتين تتحكمان بحياة البشر المالية والاقتصادية، كانتا تقدمان تونس ومصر تحديدا كنموذج يقتدى به من حيث النجاح الاقتصادي في ظل «الاصلاحات الهيكلية ». والثاني ان المطلوب توفير ٥١ مليون فرصة عمل في العالم العربي بحلول العام ٢٠٢٠، حسب تقديرات لـ«وكالة التنمية» التابعة للامم المتحدة للعام ٢٠٠٩.

فأي اقتصاديات قادرة على انتاج فرص عمل بهذه الكثرة؟ وأي تحدّ اكبر من هذا التحدي لثورات يراد لها، ولمن سوف يحكمون بإسمها، ان تبقى محصورة في الحيّز السياسي وحده؟

حقيقة الامر ان الانتفاضات تشكل موجة من المقاومات الشعبية المشتركة لمفاعيل النيوليبرالية بعد اكثر من ربع قرن على مباشرة تطبيقها في المنطقة. وهذا ما يفسّر، الى جانب عوامل اخرى، شمولها هذا العدد من البلدان العربية في وقت واحد.

ولا فصل هنا بين دوافع اجتماعية ودوافع سياسية. ترافقت وتيرة تطبيق الاجراءات النيوليبرالية مع تركّز متزايد للسلطة والثروة في ايدي العائلات والمجمعّات المافيوية ــ الامنية المرتبطة بالقطاع المالي ــ العقاري ــ المقاولاتي، سواء في الانظمة الدكتاتورية العسكرية المتحدرة من حركات التحرر الوطني او في الانظمة الريعية السلالية المسيطرة على الاقتصاديات النفطية. ولم يكن صدفة ابدا ان يؤدي هذا التزاوج بين الاستبداد والنيوليبرالية الى تغليب الدور القمعي للدولة على اي دور آخر كوسيلة رئيسة للضبط الاجتماعي والسياسي. فهو سمة مشتركة بين انظمة البلدان التي طبّقت فيها املاءات البنك الدولي وصندوق النقد. وترافق تركّز الثروة، والتخلي عمليا عن اي جهد تنموي، في ظل نمو الحرمان والتهميش والفقر، مع تنامي الهدر ونهب المال العام ومع اعادة تصدير عائدات النفط والغاز الى المراكز الرأسمالية حيث توظّف في تمويل المديونية الاوروبية والاميركية او في إسناد عملاتها او الاستمثار في القطاعات المختلفة، هذا عندما لا تجري استعادة البترودولارات عن طريق تمويل الحروب الخليجية ومبيعات السلاح بارقامها المليارية والمواد الاستهلاكية الفاخرة الفاحشة.

ولقد كشفت فضائح الحكام العرب المخلوعين، والعشرات والمئات من مليارات الدولارات التي راكمها كل منهم، همجية تسخير السلطة السياسية في سبيل الاثراء عن طريق نهب المال العام وفرض العمولات على المشاريع الاقتصادية واقتطاع حصص مباشرة من عائدات النفط، والسيطرة على الصناديق السيادية ناهيك عن التهريب وتبييض الاموال. وكل هذا في الوقت الذي حادت فيه الحملة ضد «الفساد» عن فضائح وهموم تلك المنهبة. إذ جنحت للترويج للخصخصة بحجة ترهّل البيرقراطيات الحكومية، ووظفت نظريات «الموازنات المتوازنة» كمبررات للاعفاءات الضرائبية على رجال الاعمال والاغنياء والقاء المزيد منها على الجمهور بواسطة الضرائب غير المباشرة، فيما قضت سياسات «التقشف» على دعم الدولة للسلع والمواد الاساسية وقلّصت دورها في التوزيع والرعاية الاجتماعيين الى حدوده الدنيا.

الديمقراطية هي الطريق الى الاشتراكية

في عالم عربي هذه بعض تداعيات وقع العولمة النيوليبرالية عليه، وتلك تحديات ثوراته الشعبية، لا بد لليسار ان يستعيد مشروعه المجتمعي كاملا وان يعيد به انتاج استقلاله الفكري سبيلا الى استقلاله السياسي والتنظيمي والسلوكي. هذا إن هو اراد البقاء على قيد الحياة والمنافسة في كسب الرأي العام والجماهير الشعبية التي يفترض به تمثيل مصالحها الاكثر جذرية.

وحتى لا نتجاهل السؤال التقليدي «ماذا يعني ان تكون يساريا الان؟» يمكن القول ان اليساري هو من يحاول الربط بين قيمتي الحرية والمساواة. وهو الذي يعي، في ظروف بلادنا المخصوصة، ان تحقيق الديقمراطية السياسية مهمة تاريخية متكاملة تتطلب تفكيك أنظمة الاستبداد واستبدالها بانظمة ومؤسسات وتشريعات جمهورية ديمقراطية مدنية. واليساري هو من يدرك، بناء على الدروس الاليمة للتجربة اليسارية ذاتها، ان تجاوز سلبيات الديمقراطية السياسية لا يتم بدكتاتورية تقمع الحرية دون ان تحقق المساواة، وانما بتعزيز الحرية بالمساواة، اي بتحرير الديمقراطية من سطوة رأس المال وتطويرها نحو الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية. 
بهذا المعنى، فمبرر وجود متجدد لليسار في العالم العربي هو دفع الثورات الديمقراطية الى نهاياتها المتساوقة وتطعيم الديمقراطية السياسية بالديمقراطية الاجتماعية عن طريق المساهمة في حلّ التناقض بين المساواة السياسية للمواطنين في الدولة واللامساواة بينهم في المجتمع، وهي اللامساواة الناجمة عن الفوراق والامتيازات الطبقية بينهم.

ان الديمقراطية هي الطريق الى الاشتراكية.

والحد الادنى المشترك بين الاشتراكيين لمدلول المفردة هو الاقتناع بأن هذا النظام الرأسمالي ليس نهاية التاريخ ولا هو خاتمة الطموح الانساني. بل إن التاريخ نفسه، بما فيه انجازات الرأسمالية ذاتها، بات يسمح بتجاوز الرأسمالية. فقد بلغت البشرية درجة من التطور وفرت من الموارد والثروات والمعارف ما يسمح بسدّ الحاجات الاساسية لجميع سكان المعمورة من عمل ومعاش وسكن وعلم وصحة وبيئة نظيفة وآمنة. وان العقبة الاساسية امام تحقيق تلك المهمة التاريخية هي الملكية الفردية ومبدأ الربح، الركيزتان الاساسيتان للنظام الرأسمالي. وليس ادلّ على هذه الحقيقة من الارقام التي تتداولها وكالات الامم المتحدة للتنمية من ان عشرة بالمئة فقط من ثروات اول مئة من اغنياء العالم كفيلة بسد تلك الحاجات.

على ان هذه الحقيقة ليست تعفي الاشتراكية والاشتراكيين من التحدي الاكبر الذي تكشفت عنه تجارب «الاشتراكية المتحققة». نقصد كيفية حلّ المعادلة التاريخية الصعبة، معادلة زيادة انتاج الثروة من اجل تأمين المزيد من العدالة والمساواة في توزيعها. لا توجد وصفات جاهزة. توجد محاولات حل تستحق الدرس منها تجربة حزب العمال البرازيلي في الحكم خلال العقدين الاخيرين.

مشروع لعصر العولمة

ان استعادة اليسار لمشروعه المجتمعي كاملا، يضعه امام امتحان ادواته النظرية لانتاج المعارف عن عصر العولمة بآليات تشغيله واتجاهاته الرئيسية وخصوصا عن وقعه المميز على المنطقة. والمفارقة الفاغرة هنا هي ضعف الجهد الفكري والاقتصادي حول موقع المنطقة العربية من العولمة بمختلف جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. ولعل اولى نقاط الاستدلال على هذا الطريق هي الآتية.

اولا، تعيين الاطار العام لخصوصية صلة المنطقة بالعولمة من خلال وجود ركيزتين للامبريالية المعاصرة فيها ١) آليات الاستحواذ على الموارد والثروات الطبيعية ــ النفط والغاز خصوصا ــ وإعادة تصدير عائداتها الى المراكز الاوروبية والاميركية؛ ٢) انفراد المنطقة دون سائر مناطق العالم، بوجود مشكلة من بقايا العهد الكولونيالي هي الاستعمار الاستيطاني العنصري لفلسطين، المستمر في قضم الاراضي والاستيطان على مدى فلسطين التاريخية الى يومنا هذا، عدا عن توسعيته واحتلاله اراضي الجوار.<fn value="١">سوف نتناول موضوع العلاقة بين قضية فلسطين والصراع العربي الاسرائيلي من جهة وبين الانتفاضات الديمقراطية العربية في نص لاحق لضيق المجال عن تناول مفصّل لهذا الموضوع الحساس.</fn>
ثانيا، استكشاف الطبيعة المتناقضة للعولمة بظواهرها الجديدة من مَنْهَبة الفقاعة المالية واخطارها التدميرية، الى نقل الصناعات الى بلدان الجنوب للقرب من المواد الاولية والايدي العاملة الرخيصة، وهي ظاهرة لم تسهم في الحد من البطالة والفقر في بلدان الجنوب التي إستقبلت الصناعات المنقولة، بل اطلقت موجات غير مسبوقة من الهجرة في تلك البلدان نحو بلدان الشمال. ومن تناقضات العولمة المثيرة للجدل توحيدها العالم، في الزمان والمكان، عبر ثورة الاتصالات والمعلوماتية المذهلة من جهة، وتذريره في الآن ذاته الى كيانات وولاءات ما دون الدولة من جهة ثانية. 
ثالثا، استجلاء الوجه الجديد لاممية تَعِد بأنماط جديدة من التضامن والترابط بين بلدان الجنوب. نعني عولمة بديلة، تقوم على التقاء المصالح بين المتضررين من الامبريالية المعاصرة ومن احتكار الشركات العابرة للجنسيات ومن آليات التبادل والتطور غير المتكافئين بين اجزاء العالم، عولمة بديلة تطمح لبناء عالم يتسع لما فيه من عوالم، متحررا من العنصرية والمجاعات والفقر والحروب وخطر الفناء النووي، عالم يوفر الحد الادنى اللائق من الحياة لجميع ابنائه، بدلا من ضمان الثراء الفاحش الهادر للواحد بالمئة على حساب التسعة والتسعين الباقين.

ديمقراطية علمانية ذات همّ اجتماعي

لا جديد في القول ان الثورات الراهنة محط نزاع على مستويين.

المستوى الاول هو النزاع الناجم عن التدخّل الخارجي، متعدد الاشكال والاطراف، الساعي للحفاظ على الانظمة القائمة ولو بالقوة عندما يتعلّق الامر بدائرة امن النفط. ولكنه يتكيّف مع الانتفاضات الجارية في اقطار اخرى، من اجل استيعابها وانتزاع نصلها الحاد عن طريق التضحية برموز الحكم، والارتضاء بمقادير من التعددية السياسية والاعلامية، مع الحفاظ على الركائر العسكرية للسلطة، وعلى اولوية الجهاز التنفيذي ومع العمل على إخراج الجماهير من دائرة الفعل والضغط. ولا تمانع قوى التدخل الخارجي هذه في تجديد الاطقم الحاكمة طالما تضمن المصالح الامنية والجيو استراتيجية للامبريالية المعاصرة وتنفذ السياسات الاقتصادية سارية المفعول.

اما مستوى النزاع الآخر فهو مع قوى سياسية اسلامية ترى الى الانتفاضات، والى حيازة اكثريات برلمانية، الفرصة الذهبية للارتداد على ما تبقى من تشريعات مدنية وعلمانية في الدول العربية المعنية. هذا عدا عن استعدادها التنازل عن موجبات الحد الادنى من التضامن مع قضية الشعب الفلسطيني من اجل كسب الشرعية الخارجية، الاوروبية والاميركية، ناهيك عن انحيازها النيوليبرالي ومحافظتها الاجتماعية وسعيها لإحلال المعارك الرمزية محل الحل الفعلي للقضايا الاجتماعية والاقتصادية المستفحلة.

في المقابل، حري باليسار التمسك بابرز رسالة تبثها الانتقاضات من ان التحويل الديمقراطي يجب ان يتم بواسطة الشعب بقوى الشعب الذاتية ومن اجل الشعب. وترجمة ذلك هو ارساء المشروع الديمقراطي لليسار على الاسس الاتية:

١. تشريع المساواة السياسية والقانونية للمواطنين ورفض التمييز بينهم على اساس الجنس والدين والمذهب والاثنية .
٢. انبثاق السلطة التنفيذية عن السلطة التشريعية وخضوعها لها ومسؤوليتها تجاهها، وسيادة مبدأ فصل السلطات.
٣. اعتبار الحقوق الاجتماعية ــ العمل، المعاش، السكن، العلم، الصحة، البيئة النظيفة الآمنة ــ حقوقا طبيعية من حقوق الانسان. ذلك ان الديمقراطية التي لا توفر عملا ولا تطعِم خبزا تدعو اول غاصب للسلطة الى وأدها
٤. الحياد الديني للدولة بما هو تديبر سياسي يحقق عدم تدخل المؤسسات الدينية في شؤون الدولة وعدم تدخل الدولة في شؤون المؤسسات الدينية. ويترجم هذا الحياد في رفض زجّ المقدس ــ القائم على معادلتي التحريم والتحليل؛ وحقوق الله مقابل واجبات الانسان ــ في السياسة التي تقوم تعريفا على الاجتهادات والخلافات وتعدد الخيارات. وتؤكد هذه النظرة ان العلمانية ملحق من ملحقات الديمقرطية، لا العكس، تعتمد المرجعية الزمنية والمدنية للتشريع، اي صدروه عن مؤسسات السيادة الشعبية، اكانت المجالس التمثيلية او الاستفتاءات الشعبية. ويقتضي الالتزام العلماني، في هذه المرحلة الانتقالية بالذات، إقران اي تنازل يقدّم للتشريع الديني في الاحوال الشخصية بتشريع مدني اختياري مقابل.

منظور جديد للوحدة العربية

انه لذو دلالة كبيرة ان يؤدي سقوط الحكم الفردي في ليبيا وتونس الى اعادة تفعيل سريعة لمشروع الوحدة المغاربية بين بلدان المغرب العربي. توجّت الوحدات العربية المسخّرة للسيطرة الداخلية تاريخا من الفشل لصيغ «القطر القائد» و«الوحدات الاندماجية» والتوحيد القسري ولو بالحرب، كما في حالة اليمن، او تشريع الانفصال في صفقة تحافظ على سلطة الحاكم فيما تبقى من البلاد، كما في حالة السودان، عداك عن الفشل في الحفاظ على المشاريع الوحدوية او حتى العجز عن تحقيق وحدة سورية والعراق عندما كان حزب قومي واحد يحكم البلدين.

لا بد من منظور جديد للوحدة العربية يحررها من اشكالية الهويات ومن الاستبدادية. ذلك انه لا يزال المدى العربي المدى الوحيد لتحرر المنطقة والسيطرة المشتركة على مواردها وثرواتها ومقدراتها ومصائرها وتحقيق التنمية الفعلية لصالح جميع ابنائها وانتزاع مكانة تليق بهم وبها بين الامم. وهذه اهداف تتزايد الحاجة اليها والعوامل المساعدة على تحقيقها في آن معا نظرا لما يفرضه عصر العولمة من تحديات تدفع باتجاه بناء التكتلات الاقليمية. في سبيل تحقيق ذلك، تملك البلدان العربية ــ الى اللغة والتراث والتاريخ المشترك ــ من الثروات الطبيعية العظيمة الاهمية ــ من نفط وغاز ومعادن ومياه ــ ما يكفي لتحقيق تنمية إنسانية قائمة على قيمة العمل والانتاج تهدف لتوفير الحد الادنى من الحياة اللائقة لكل مواطنيها، بأقل كلفة على القوى البشرية.

ويرى هذا المنظور في الوحدة العربية مشروعا طوعيا قيد البناء، يتحقق عبر مسار زمني من التعاون والتكامل ويعيد الاعتبار للمصالح والتطلعات المشتركة للشعوب. فيبدأ من تنمية التبادل التجاري بين الدول العربية، وهو من اخفض المعدلات في العالم، ويمرّ عبر خطوات على طريق التكامل الاقتصادي وبناء السوق المشتركة قبل ان يتوّج المسار في اشكال مختلفة من التكامل السياسي والمؤسساتي.

والعالم العربي قابل بالمقدار ذاته لأن يتسع لكل مكوناته البشرية بغض النظر عن الانتماءات والفوارق الاثنية والاقوامية والدينية والمذهبية. فقد إنتهي ايضا التصوّر الذي يقرن الوحدة الوطنية بالمركزية السلطوية. وما ادى اليه من ممارسات عمقت عوامل التفتيت الداخلي واستدرجت النزعات الاهلية والدعوات الانفصالية وما تمخض عنها من حروب واقتتال.

في سبيل تعاقد جديد بين مكوّنات الشعوب العربية، يحمل اليسار مساهمة من نقطتين: تقول الاولى إن تكريس المواطنة المتساوية يشكل حلا ضروريا ولكنه ليس هو دائما الحل الكافي للتعاطي مع جدل الاكثرية/الاقلية. فكيفما تقلبّت ادوار التمييز والغلبة بينهما، فقد لا تستقيم في بعض الاحيان دون تصحيح المظالم التاريخية بإقتران المواطنة بالاعتراف بحقوق الجماعات في تقرير المصير.

ويقترح اليسار في النقطة الثانية ان ارتداد الناس الى الانتماءات الاولية (عائلية، مذهبية، دينية، مناطقية، اثنية، الخ) كخط دفاع أخير عن النفس، غالبا ما يتم للاحتجاج على تمييز ضدهم من حيث الموقع من السلطة والسيطرة على الموارد الطبيعية وتوازع الثروة وخدمات الدولة. ويتم هذا الارتداد، وربما بشراسة اكبر، عندما يتعلق الامر بالدفاع عن امتيازات ومواقع استئثار وإمتياز مكتسبة في السلطة والثروة من خلال تلك الانتماءات الاولية. من هنا ان تأمين الحقوق الاجتماعية الاساسية وتحقيق التنمية المناطقية المتوازنة والتوزيع العادل للثروة ولخدمات الدولة عناصر مكمّلة للحلول القائمة على المواطنة المتساوية والحق في تقرير المصير.

التنظيم والوسائل

كشفت الانتفاضات الشعبية مدى قصور نمطين من التمثيل الاجتماعي-السياسي: الاحزاب السياسية ومنظمات المجتمع الاهلي. لقد اهترأ دور الحزب الطليعي الانقلابي، القائم على التراتب الاوامري الداخلي، وعلى العلاقة الاستعلائية التربوية تجاه الشعب قبل ان تجهز عليه الانتفاضات. لكن خصائصه هذه تجلّت على نحو همجي غير مسبوق في الممارسات الدموية خلال الانتفاضات.

لقد آن اوان الاحزاب الجماهيرية، الممثلة لكتل من المصالح والمعبّرة عن التطلعات الشعبية عبر البرامج والسياسات، احزاب هي وسائل وليس اهدافا بذاتها. ولكن يبقى على الاحزاب الجديدة الكثير من التخيل والابتكار في مجال الديمقراطية الداخلية واستنباط الوسائل النضالية المتلائمة مع المعارك والمنافسات في ظل الانظمة الانتخابية والديمقراطية. 
ولقد وضعت الانتفاضات المنظمات غير الحكومية امام امتحان ربع قرن من ممارسات لم تخضع لمراجعة جادة. ففي حين برزت معظم منظمات حقوق الانسان في ادوار جد ايجابية، بدت الانتفاضات كأنها «تصحيح بواسطة الممارسة» في موضوع التحويل الديمقراطي خصوصا. فوضعت صيغة «الشعب/النظام» في مواجهة صيغة «الدولة/المجتمع المدني» التي غلب عليها التفسير النيوليبرالي. واعادت الانتفاضات تجميع قضايا المجتمع واقامة الصلات فيما بينها، في مقابل تذريرها الى دزينة من القطاعات المتفرقة في فكر وممارسة المنظمات غير الحكومية. اضف الى هذا ان عمل العدد الاكبر من هذه الاخيرة إقتصر على التبشير بالديمقراطية والتدريب والتربية عليها في تجاهل لشروط تحقيقها عبر الفعل السياسي او استبعاد دور الضغط الشعبي في ذلك.

عبّرت الثورات عن مشاركة فئات اجتماعية لا تتسع لها الاطر الحزبية والنقابية، القائمة على الاساس المهني او السياسي، ولا منظمات حقوق الانسان للتعبير عنها وتمثيلها: الطبقات الوسطى، الشباب، النساء، العاطلون عن العمل، الفقراء ومهمشو الارياف وسكان العشوائيات، وغيرهم. تتجه هذه الشرائح نحو اشكال جديدة من الحركات الاجتماعية تستحق الدراسة. والاهم ان الانتفاضات قدمت مساهمات ثمينة للعمل الشعبي في ابتكارها اشكالا من التنظيم والتحرّك القاعدية من تنسيقيات الاحياء وائتلافات شبابية ولجان شعبية للعمل البلدي وهيئات للعاطلين عن العمل وسواها. والملفت جدا ان هذه الاشكال الحداثية ترافقت مع اعادة استنباط كافة اشكال وهيئات تقليدية التضامن والتكافل الاهليين، الريفي منه والمديني.

واخيرا، زخرت الانتفاضات بابداعات العبقرية الشعبية. من حيث اشكال النضال استخدمت من الموارد والادوات ووسائل الاعلام والاتصال والإيصال أرقاها، وأحيت في الآن ذاته من عناصر ثقافتها الشعبية الابدع والاكثر تأثيرا وتعبئة للناس وتأجيجا للمشاعر من حِداء وغِناء وإنشاد ورقص جمعي.

على ان العبقرية الشعبية ليست الختام بل هي الإلهام الدائم.

العدد الأول - شتاء / ربيع ٢٠١٢

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.